الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الدِّيَاتِ
لما فرغ من الموجب الأول وهو القصاص شرع في الموجب الثاني وهو الدية، والديات بتخفيف الياء جمع دية، وجمعها لتعددها.
عياض: أصلها من الودى وهو الهلاك، ومنه أودى فلان إذا هلك، فلما كانت تلزم من الهلاك سميت بذلك لكونها بسببه، وقد تكون أيضاً من التودية وهو شد أطباء الناقة لئلا يرضعها الفصيل ومنعه من ذلك، فكأن الدية تمنع من يطلب بها من فعل ما يوجبها كما يمنع ذلك القصاص والحدود، ويحتمل أن يكون من قولهم: ودأت الشيء - مهموز- أي أصلحته، ثم سهل همزها.
وَدِيَةُ الذِّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي الْخَطَأِ إِنْ كَانَ الْجَانِي مِنَ الْبَادِيَةِ مِائَةٌ مِنَ الإِبلِ مُخَمَّسَةٌ: بِنْتُ مَخَاضٍ، وَبنْتُ لَبُونٍ، وَحِقَّةٌ، وَجَذَعَةٌ. وَمِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ كَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَمِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ كَالْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَخُرَاسَانَ اثْنَا عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ
…
احترز بالذكورية والحرية والإسلام والخطأ مما قابلها وسيأتي ذلك.
وقوله: (مِائَةٌ) مرفوع خبر دية، و (مُخَمَّسَةٌ) صفة لـ (مِائَةٌ)، و (بِنْتُ مَخَاضٍ) خبر ابتداء محذوف [709/أ]؛ أي: خمسها بنت مخاض.
وجعل أصبغ وابن حبيب أهل المدينة ومكة أهل ذهب.
وقال أشهب: أهل الحجاز أهل إبل وأهل مكة منهم، وأهل المدينة أهل ذهب.
وما ذكره المصنف أن أهل المغرب من أهل ذهب نحوه في الجلاب.
وقال ابن حبيب: أهل الأندلس أهل ورق.
الباجي: وهو يحتمل أن يكون خلافاً لما في الجلاب، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن مراد ابن الجلاب: ما عدا الأندلس.
الباجي: وعندي ينظر إلى غالب أحوال النسا في البلاد فأي بلد غلب على أهله شيء كانوا من أهله، وإن انتقلت الأحوال وجب أن تنتقل الأموال، وقد أشار أصبغ إلى ذلك بقوله: فمكة والمدينة هم اليوم أهل ذهب، ولا يؤخذ عندنا في الدية غير هذا لا بقر ولا غنم ولا عرض.
وَفِي الْعَمْدِ مُرَبَّعَةٌ بِإسْقَاطِ ابْنِ اللَّبُونِ
فتكون خمساً وعشرين بنت مخاض، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين جذعة.
قال في الجواهر: ولوجوب دية العمد سببان: العفو على دية مبهمة، وعفو بعض الأولياء، فرجع الآخر إلى الدية فهي كدية الخطأ إلا أن العاقلة لا تحمل منها شيئاً، وتنجم على الجاني ثلاث سنين، وإنما تفتقر من دية الخطأ فإن العاقلة لا تحملها.
وَفِي أَهْلِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَالْخَطَأِ، وَقَالَ أَشْهَبُ؛ يُزَادُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَ التَّرْبيعِ وَالتَّخْمِيسِ، وَقِيلَ: قِيمَةُ الإِبلِ المُغَلِّظَةُ مَا لَمْ تَنْقُصْ
…
يعني: اختلف إذا وجبت على أهل الذهب والورق دية عمد على ثلاثة أقوال لابن القاسم، ورواه عن مالك أنها كالخطأ وأن التغليظ خاص بالإبل؛ لأن التغليظ في الإبل لا يخرج عن القدر الواجب بخلاف التغليظ في الذهب والورق، وتصور القول الثاني من كلامه ظاهر.
وقوله في القول الثالث: (الإِبلِ المُغَلِّظَةُ) أي: في دية العمد، ولا يقال: المغلظة في شبه العمد؛ لأن مالك لم يقدم لها ذكر.
وَدِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَجَّمَةٌ ثَلاثَ سِنِينَ
نقل الترمذي في كتابه الإجماع على هذا، قال صاحب الاستذكار: ولا خلاف بين العلماء أنها في ثلاث سنين شذوذ، والأظهر في (مُنَجَّمَةٌ) الرفع على الخبر، ويحتمل النصب على الأول، ويكون (ثَلاثَ سِنِينَ) الخبر.
وَالْعَمْدُ فِي مَالِ الْجَانِي كَذَلِكَ، وَقِيلَ: حَالَّةٌ
هذا الثاني هو المشهور، وقول المصنف (قِيلَ) ليس بظاهر، والقول بأنها كذلك؛ أي منجمة في الموازية.
وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي الْعَمْدِ الَّذِي لا يُقْتَلُ بهِ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ بحَدِيدَةٍ وَشِبْههَا وَهُوَ عَمْدٌ، وَلِذَلِكَ لا يَرِثُ مِنْ مَالِهِ، وَيُقْتَلُ غَيْرُهُمْ في شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْقَوْلِ بهِ كَفِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِابْنِهِ
…
جمع (الآبَاء وَالأُمَّهَات) ليدخل الأجداد والجدات كما تقدم دون غيرهم من الأعمام ونحوهم.
وقوله: (كَمَا لَوْ جَرَحَهُ) مثال، وقوله:(وَهُوَ عَمْدٌ) إنما أعاد ذلك لدفع أن يكون المراد بقوله: (فِي الْعَمْدِ) المجاز لوصفه بأنه لا يقتل به، (وَلِذَلِكَ) أي: أنه عمد وهو ظاهر.
وأشار بصفة (الْمُدْلِجِيِّ) إلى ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب: أن رجلاً من بني مدلج- يقال له: قتادة- حذف ابنه بالسيف فأصاب ساقه فنزِيَ فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر له ذلك، فقال عمر: اعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عمر أخذ من تلك الأبل ثلاثين حِقَّةَ وثلاثين جَذَعَةٌ وأربعين خَلِفَةٌ، ثم قال: أين أخو المقتول؟ قال: هأنذا، قال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ".
وَتَغْلِيظُهَا بالتَّثْلِيثِ حِقَّةٌ وَجَذَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ خَلِيفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا
زاد ابن الجلاب بعد قوله (فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا): غير محدودة أسنانها، وهذا هو المشهور.
قال أشهب وعبد العزيز بن أبي سلمة: بين ست إلى بازل علمها.
وقوله: (بالتَّثْلِيثِ) متعلق بـ (تَغْلِيظُهَا) وسقط (تَغْلِيظُهَا) في بعض النسخ، فيتعلق (بالتَّثْلِيثِ) بقوله أولاً:(وَتُغَلَّظُ).
وَبِحُلُولِهَا
معطوف على التثليث؛ أي: وتغلظ بحلولها.
وَفِي كَوْنِهَا مِنْ مَالِهَ حَالَّةٌ لا عَلَى الْعَاقِلَةِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ لَهْ مَالٌ فَعَلَيْهِ
يعني: أنه اختلف في الدية المغلظة على ثلاثة أقوال:
المشهور: أنها حالة في ماله.
والقول الثاني: أنها على العاقلة، ولم يبين هل حالة أو منجمة، والظاهر أنه أراد التنجيم، وهو قول ابن القاسم في الموازية، وحكى سحنون قولاً أنها على العاقلة حالة، فقال في كتاب ابنه: أجمع أصحابنا أنها حالة، واختلفوا في أخذها من العاقلة أو الأب.
والقول الثالث من كلام المصنف: إن كان للأب مال فعليه وإلا فعلى العاقلة حالة، هكذا نقله ابن حبيب عن مطرف، وإذا أوجبناها على الجاني فحكى الاتفاق على الحلول، ويمكن أن يخرج فيها قول بتنجيمها من الشاذ في دية العمد.
وَتُغَلَّظُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ عَلَى الَْمَشْهُورِ فَتُقَوِّمُ الدِّيَتَانِ وَتُزَادُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَهُمَا
أي: وتغلظ في الدراهم والدنانير على المشهور، والمشهور [709/ب] مذهب المدونة، وهو أيضاً في الموازية، ثم رجع مالك في الموازية إلى التغليظ، وحكى في البيان في تغليظ المربعة وتغليظ المثلثة وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك وقول ابن نافع وهو أولى الأقوال؛ إذ قيل في دية العمد: إذا قبلت أنها مخمسة مؤجلة، قال: واختلف في صفة التغليظ على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه الأولى أنه ينظر إلى قيمة الدية المخمسة وإلى قيمة أسنان دية المربعة والمثلثة إن كان بالإبل، أصبغ: وإن كان غير بلد إبل ففي أقرب بلدان الإبل إليهم.
فإن كان خمس أو رب أو ثلث أو أقل أو أكثر فذلك الجزء من الألف أو الاثنا عشر ألف درهم تزاد عليه أنه يزاد على الألف مثقال أو الاثني عشر ألف درهم ما بين القيمتين من العددين غر نسبة، وهذا القول في المعنى أظهر، والأول أشهر.
والثالث: تقدم الدية المثلثة أو المربعة فتكون الدية ما كانت إلا أن ينقص من الألف دينار أو الاثني عشر ألف درهم فلا ينقص شيء، والقول بالنسبة هو المشهور، ولذلك اقتصر المصنف هنا عليه.
ونقل في الكافي رابعاً: أنه يؤخذ منه ما بين القيمتين إلى أن يبلغ دية وثلثاً، فلا يزاد على ذلكن وإذا قومنا دية الخطأ والدية المثلثة والمربعة فتقوم المغلظة حالة، واختلف في دية الخطأ فعن بعض القرويين تقويمها أيضاً حالة، وقال ابن يونس: بل تقوم على تأجيلها حسبما جعلت.
وَتُغَلَّظُ أَيْضاً فِي الْجِرَاحِ عَلَى الأَصَحِّ
فتكون في المأمومة والجائفة ثلث الدية المغلظة، والأصح لمالك في المدونة والمبسوط وصححه، والله أعلم لعدم الغرور، وغير الأصح لمالك في المختصر؛ لأن التغليظ مُدْرَكُه التوقيف، والنفس أعظم فغلظ فيها دون غيرها.
وفي المسألة قول ثالث لعبد الملك وسحنون: الفرق بين ما يقتص فيه من الأجنبي فيغلظ فيه، وبين ما لا يقتص فيه من الأجنبي كالجائفة فلا يغلظ، قال غير واحد: وهو الأصح في النظر.
وعن ابن القاسم قول رابع: أن التغليظ إنما هو ما بلغ ثلث الدية فأكثر.
وَالتَّغْلِيظُ فِي الْمَجُوسِيِّ يَقْتُلُ ابْنَهُ عَلَى الأَصَحِّ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ
القول بعدم التغليظ لعبد الملك، وأنكره سحنون، وقال أصحابنا: إنها تغلظ عليه إذا حكم بينهم؛ لأن علة التغليظ سقوط القود، قال: ولم أر قوله ي شيء من السماعات، ولهذا صحح المصنف القول بالتغليظ، ونقل في النوادر عن مالك والمغيرة كقول عبد الملك.
وَدِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ
لما تكلم على دية المسلم شرع في منتقضاتها في أربعة: كفر، وأنوثة، ورق، وكونه جنيناً، ودليل ما ذكره المصنف ما رواه الترمذي وحسنه عنه عليه الصلاة والسلام:"عقل الكافر نصف عقل المؤمن".
وفي النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عقل الذمة نصف عقل المسلمين" وهم اليهود والنصارى.
وحذف المصنف من الأول صفة؛ أي دية اليهودي والنصراني غير المعاهد؛ أي الذميين لدلالة قسيمه على ذلك، وإلا فقد يكون المعاهد أيضاً نصرانيّاً أو يهوديّاً.
وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ
هكذا رواه في الموطأ عن سليمان بن يسار، قال مالك: وهو الأمر عندنا.
وَفِي الْمُرْتَدِّ ثَلاثَةٌ: دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ، وَدِيَةُ مَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ، وَالسُّقُوطُ
أي: ثلاثة أقوال: والقول بأن ديته كالمجوسي لابن القاسم وأشهب وأصبغ؛ لأنه كان لا يُقَرُّ، وتجب استتابته كأن قاتله قد قتل كافراً محرم القتل فوجب على قاتله أقل ديات القاتل وهو المجوسي؛ لأن ما زاد عليه مشكوك فيه.
وثانيها: دية الذين ارتد إليهم وهو لأشهب أيضاً؛ لأنه لما كان يستتاب فإذا قتل وهو نصراني فقد قتل نصرانيّاً محرم الدم.
والسقوط لسحنون وهو استحسان مراعاة لمن لا يرى؛ أي: استنابته.
وَدِيَةُ نِسَاءِ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ رِجَالِهِمْ، نُقِلَ الإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَدِيَةُ جِرَاحِهِمْ كَجُرْحِ الْمُسْلِمِ مِنْ دِيَتِه
…
فتكون مأمومة كل منهم وجائفته ثلث ديته نص وعشر ديته، وهو واضح.
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَقِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ
لأنه مال فكان كسائر السلع ولا خلاف فيه عندنا.
وَأَمَّا الْجَنِينُ فَغُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ
سيأتي هذا إن شاء الله.
وَفِي الْجِرَاحِ كُلِّهَا الْحُكُومَةُ إِلا أَرْبَعَةُ: الْمُوضِحَةُ؛ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالْمُنَقَّلَةُ؛ عُشْرٌ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ. وَالْمَامُومَةُ: ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالْجَائِفَةُ مِثْلُهَا وَهِيَ: مَا أَفْضَى إِلَى الْجَوْفِ وَلَوْ مَدْخَلَ إِبْرَةٍ
…
سيأتي تفسير (الْحُكُومَةُ)، وقوله:(إِلا أَرْبَعَةً) لما في كتابه عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم: "وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها، وفي الموضحة خمس".
وفي رواية مالك: وفي المنقلة خمس عشرة فريضة.
قال في المقدمات: واتفق على ذلك العلماء، وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما قضيا في الملطاة بنصف دية الموضحة، وهو مذهب ابن كنانة.
وقوله: (وَهِيَ) تفسير الجائفة، وهو واضح.
وَتَخْتَصُّ بالْبَطْنِ [710/أ] وَالظَّهْرِ كَمَا تَخْتَصُّ الْمُوضِحَةُ وَأَخَوَاتُهَا بعَظْمِ الرَّاسِ وَالْوَجْهِ دُونَ الأَنْفِ وَاللًّحْيِ الأَسْفَلِ
…
لا خلاف في اختصاص الجائفة بالظهر، وأراد بـ (أَخَوَاتُهَا) المأمومة والمنقلة، ووقع في بعض النسخ:(وَأُخْتَاهَا) وهي أحسن، وتصور كلامه ظاهر، ونحوه في المدونة وغيرها.
وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ: فَلَمْ يَذْكُرْهَا مَالِكٌ فَقِيلَ: مِثْلُ الْمُنَقَّلَةِ، وَقِيلَ: مِثْلُ الْمُوضِحَةِ وَحُكُومَةٌ، وَقِيلَ: مَا فِي الْمُوضِحَةِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ مُنَقَّلَةٍ أَوْ مَامُومَةٍ
…
القول الأول هو الذي يأتي على كلام ابن القاسم؛ لأنه قال: ما من هاشمة إلا وتعود منقلة، وعليه كان يناظر الأبهري.
والقول بأن فيها ما في الموضحة وحكومة لابن القصار.
والقول الثالث نسبه ابن شاس للباجي فقال: وقال القاضي أبو الوليد ما في الموضحة فإن صارت منقلة فخمسة عشر، وإن صارت مأمومة فثلث الدية، وذكر ابن عبد البر أن فيها عشراً عند الجمهور، ونحوه في المقدمات؛ لأن فيها: ودية الهاشمة عند من عرفها-وهم الجمهور- عشر من الإبل وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وروي ذلك عن زيد بن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة رضي الله عنهم.
وَأَمَّا هَاشِمَةُ الْبَدَنِ وَمُنَقَّلَتُهُ وَغَيْرُهُمَا فَالاجْتِهَادُ
يعني: أن التقدير في المنقلة والهاشمة إنما هو إذا كانا في الرأس، وأما إذا كانا في البدن فليس فيهما إلا الاجتهاد كغيرهما من سائر الجراحات.
وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الْمُوضِحَاتُ وَالْمُنَقَّلاتُ وَالْمَامُومَاتُ بحَيْثُ يَكُونُ مَا بَيْنَها لَمْ يَبْلُغِ الْعَظْمَ تَعَدَّدَتِ الدِّيَاتُ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ ضَرْبَةٍ، بخِلافِ مَا لَوْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَرْنِهِ مِنْ ضَرْبَةٍ أَوْ ضَرَبَاتٍ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ
…
إذا تعددت المواضح والمنقلات والمأمومات تعدد الواجب فيها بشرط أن يكون ما بين المواضح لم يبلغ العظم، وما بين المنقلات لم يبلغ العظم، وما بين المأمومات لم يبلغ الدماغ، وقول المصنف:(بحَيْثُ يَكُونُ مَا بَيْنَها لَمْ يَبْلُغِ الْعَظْمَ) خاص بالمواضح، واكتفى بذلك عن ذكر المأمومات والمنقلات اختصاراً، أما لو اتسعت المواضح أو غيرها بضربة واحدة أو بضربات في فور، فليس فيها إلا دية واحدة.
وَإِذَا نَفَذَتِ الْجَائِفَةُ فَدِيَةُ الْجَائِفَتَيْنِ عَلَى الأَصَحِّ
إذا ضربه من بطنه فخرجت من ظهره أو بالعكس فقولان- وهما في المدونة- والأصح هنا اختيار ابن القاسم وبه أخذ أشهب وابن عبد الحكم ومحمد ودليله ما رواه أشهب عن الصديق رضي الله عنه أنه قال في جائفة نافذة من الجانب الأيسر: فدية جائفتين.
واختار اللخمي الأول، قال: لأنها إذا جعل فيها ثلث الدية لغررها؛ إذ قد تصادف مقتلاً إما القلب أو الكبد أو غير ذلك إنما يخشى في حين الضربة من خارج، وهي إذا تمادت حتى بلغت الجانب الآخر لم يكن فيها إلا ثلث واحد لعودها إذا نفذت من داخل إلى خارج لا غرر فيه.
وَمْعَنَى الْحُكُومَةِ: أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْداً سَالِماً بعَشَرَةٍ مَثَلاً ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعَ الْجِنَايَةِ بتِسْعَةٍ فَالتَّفَاوُتُ عُشْرٌ فَيَجِبُ عَشْرُ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْنٌ فَلا شَيْءَ
…
تصوره ظاهر، والتقويم هنا كالتقويم في تقويم عين السلعة المبيعة.
وقوله: (عَبْداً) منصوب على الحال، و (مَثَلاً) إما منصوب على المصدر؛ أي: مثل مثلاً، أو بفعل مقدر أي يقدر مثلاً، وما ذكره المصنف هو المعروف، وفي تفسير ابن مزين: أن الحكومة هو اجتهاد الإمام ومن حضره.
عياض: وظاهره عند بعضهم خلاف الأول، وإلى الخلاف في ذلك أشار أبو عمران، وقال: هو الذي كنا نقول قبل أن نرى القول الآخر.
وقوله: (وَذَلِكَ) أي: التقويم، وقد تقدم هذا.
فَلَوْ كَانَ أَرْشُ الْجِرَاحِ مُقَدَّراً انْدَرَجَ الشَّيْنُ، وَفِي شَيْنِ الْمُوضِحَةِ قَوْلانِ
لأن الشارع جعل فيها أرشاً مقدراً ولم يفرق مع أن الجراح قد تشين، وذكر (فِي شَيْنِ الْمُوضِحَةِ) قولين:
الأول: قال ابن زرقون: يزاد فيها لأجل الشين قليلاً كان أو كثيراً؛ لأن الشين لا يلزمها غالباً فليست كالمأمومة والجائفة والمنقلة.
والثاني: قول أشهب: أنه لا يزاد فيها مطلقاً، وروى ابن نافع عن مالك ثالثاً بالتفصيل يزاد فيها إلا أن يكون شيئاً يسيراً.
قَالَ مَالِكٌ: مَا عَلِمْتُ أَجْرَ الطَّبِيبِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ
يعني: لم يمض عمل بإلزام الجاني أجر الطبيب المداوي للجرح.
ابن عبد السلام: ونقل بعض الشيوخ أن الفقهاء السبعة يرون القضاء بأجر الطبيب فيما دون الموضحة، وهذا إن صح يوجب أن يكون هو المذهب؛ لأن مالكاً إنما أسقطه لأنه لم يعلمه من أمر الناس، وإذا ثبت أنه من أمر هؤلاء العلماء الذين عادته الرجوع إلى بعضهم فضلاً عن جميعهم، ولا يلزم من هذا أن مالكاً مقلد؛ لأن كلامه يشعر بأن موجب الرجوع عنده بأجرة الطبيب قائم، وإنما منعه من اعتباره مخالفة الماضين، وقد تبين أنهم لا
يخالفون في هذا انتهى. وقد تقدم من كلام اللخمي في الغصب اختلاف عندنا في أجر الطبيب هل يلزم الجاني أم لا؟
وَالْمُقَدَّرُ مِنَ الأَعْضَاءِ اثْنَا عَشَرَ: الأُذُنَانِ عَلَى الأَصَحِّ
لما فرغ من النفس شرع في الأعضاء المقدرة، و (الأُذْنَانِ) إما مبتدأ والخبر محذوف؛ أي: منها الأذنان، أو خبر مبتدأ [710/ب] محذوف؛ أي: أولها الأذنان، والقولان لمالك، ومذهب المدونة وظاهر الموطأ: أنها لا تجب فيهما الدية إلا مع السمع، ونص المدونة: ليس في الأذنين إذا اصطُلِمتا أو ضربتا فشُدِخت إلا الاجتهاد، ولعل المصنف صحح القول بوجوب الدية فيها لما في كتاب عمرو بن حزم في الأذن.
وحقيقة الكلمة في العضو المخصوص لا في المنقلة، ولو أزيلت الأذن فردت وعادت لهيئتها ففي سماع عيسى: الدية فيها، وخرج اللخمي ذلك على أن الواجب في إشراف الأذنين هل هو دية أو حكومة؟ قال: فعلى الحكومة لا يكون له شيء، وعلى الدية يكون له كالسن.
وَالْعَيْنَانِ: وَفِي عَيْنِ الأَعْوَرِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ بخِلافِ كُلِّ زَوْجٍ مِنَ الإِنْسَانِ لِمَا جَاءَ مِنَ السُّنَّةِ
…
أي: ومنها العينان لما في الموطأ وغيره أن في كتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "وفي العين خمسون" بخلاف كل زوج فإن في كل واحد نصف الدية إذا كان فيها منفعة وجمال، وأما إن كان فيها جمال فقط كالحاجبين ففيها حكومة.
وقوله: (السُّنَّةِ) استدلال على تكميل الدية ي عين الأعور، وأراد بالسنة ما قاله ابن شهاب- لأنه قال- هي السنة، وقضى به عمر وعثمان وعلي وابن عباس، وقاله سليمان بن يسار وابن المسيب وعروة بن الزبير رضي الله عنهم.
ولو ضرب ضربة أذهبت بصر إحدى عينيه ثم ضرب ضربة أذهبت الصحيحة، فقال أشهب: له ثلثا الدية لأن الذي أتلف عليه ثلثا ما بقي من بصره، وقال ابن القاسم وعبد الملك: إن بقي من الأولى شيء فليس له في الصحيحة إلا نصف الدية.
وَالضَّعِيفَةُ بسَمَاوِيِّ كَالْقَوِيَّةِ
يعني: أن من كان إبصاره ضعيفاً بسماوي إن كانت مخلوقة كذلك أو بمرض فهي كالقوية في تكميل ديتها، وقيده صاحب البيان بألا يكون النقصان أتى على أكثرها، وأما لو أتى على ذلك فليس له إلا بحساب ما بقي من عقلها.
وحكى الباجي خلافاً في الناقصة بمرض فقال: قال في الموازية وليس استرخاء اللسان والذكر من الكبر وضعف العين من كبر أو رمد أو الرجل من الكبر بمنزلة الجناية عليها لا بمنزلة ما يتنزل بها من الله سبحانه، فما كان من الكبر ثم أصيب العضو ففيه الدية كاملة.
وروى ابن المواز عن مالك في عين الكبير قد ضعفت أو يصيبها الشيء فينقص بصرها ولم يأخذ لها عقلاً فعلى من أصابها الدية كاملة، فساوى بين ما ينقص من الجارحة بمرض أو كبر.
وقال أشهب في الموازية: من أصابه ف رجله أمر من عرق بضرب، أو رمدت عينه فنقص بصرها ثم يصاب فله ما بقي بحساب ما يبقى منها، كما لو أصابها بمثل ذلك أحد، ومن ساوى بين ما يصيبها من الله وما يصيبها من الكبر فقد غلط؛ لأن كل جارحة لابد أن تضعف، وأما المرض فقد سلم منه كثير من الناس. انتهى.
وَبجِنَايَةٍ قَالَ مَالِكٌ أَوَّلاً: لَيْسَ لَهُ إِلا بحِسَابِ مَا بَقِيَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ أَخَذَ لهَا عَقْلاً، وَإِلا فَالْعَقْلُ تَامُّ
…
القولان في المدونة، وحاصلها: إن لم يأخذ للنقص عقلاً فقولان، فإن أخذ له فليس له إلا بحساب ما بقي، وفي البيان ثالث: أن فيها العقل كاملاً مطلقاً، وهو قول ابن نافع،
وهو قياس قولهم في السن إذ اسودت أن فيها العقل كاملاً، فإن طرحت بعد ذلك ففيها العقل أيضاً كاملاً.
وَفِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الاجْتِهَادُ
يعني: فقثت بعد ذهاب بصرها فليس فيها إلا الاجتهاد، وكذلك اليد الشلاء، والاجتهاد هو الحكومة.
وَالأَنْفُ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مَارِنِهِ عَلَى الأَصَحِّ فَفِي بَعْضِ الْمَارِنِ بحِسَابِهِ مِنَ الْمَارِن لا مِنْ أَصْلِهِ كَبَعْضِ الحَشَفَةِ ....
أي: ومنها (الأَنْفُ) ففيه الدية كاملة إذا قطع (مِنْ أَصْلِهِ)، والمشهور أن في المارن وحده- وهو ما لان منه- الدية، ويقال للمارن أيضاً: الأرنبة والروثة، وهذا الأصح منقول عن الفقهاء السبعة، قال في المجموعة: وروى ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف يقطع مارنه بالدية كاملة.
ومقابل الأصح رواه ابن نافع عن مالك أن الدية إنما تكون فيه إذا قطع من أصله؛ لما في الموطأ وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتاب عمرو بن حزم: "وفي الأنف إذا أوعب جدعاً مائة من الإبل"، وظاهره إذا استوعب قطعه، وقد يحتمل أن يكون المراد إذا استوعب القطع ما يسمى جدعاً ليكون موافقاً لما رواه ابن شهاب، والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى.
وقوله: (فَفِي بَعْضِ الْمَارِنِ) هو تفريع على الأصح. وقوله: (كَبَعْضِ الْحَشَفَةِ) أي: فإنما ينسب ذلك البعض إليها.
الشَّفَتَانِ
أي: ومنها (الشَّفَتَانِ)، ونص في كتاب ابن حزم على أن فيهما الدية، وقد تقدم أنه لا فضل لإحداهما على الأخرى.
وَلِسَانُ النَّاطِقِ فَإِنْ قُطِعَ مِنْهُ مَا لا يَمْنَعُ مِنَ النُّطْقِ شَيْئاً فَحُكُومَةٌ فِيهَا؛ لأَنَّ الدِّيَةَ فِيهِ لِلنُّطْقِ لا لَهُ، وَفِي لِسَانِ الأَخْرَسِ حُكُومَةٌ
…
لما في الترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسالم قال في كتاب عمرو بن حزم: "وفي اللسان الدية".
وذكر المصنف أنه إذا قطع منه ما لم يمنعه من الكلام فيه حكومة، واستشهد لذلك بما في المدونة أن الدية إنما هي للنطق، وعلى هذا فلا ينبغي أن يعد اللسان في هذا الفصل؛ إذ الدية إنما على المنفعة [711/أ] لا عن العضو، (وَفِي لِسَانِ الأَخْرَسِ حُكُومَةٌ) كاليد الشلاء والعين القائمة.
وَالأَسْنَانُ فِي كُلِّ سِنٍّ مُطْلَقاً خَمْسٌ مِنَ الإِبلِ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ مِنْ لَحْمِهَا بقَلْعِهَا أَوْ باسْوِدَادِهَا أَوْ بهِمَا
…
أي: ومنها الأسنان.
وقوله: (مُطْلَقاً) أي: ثنية كانت أو رباعية أو ضرساً، ونبه بذلك على خلاف من فصل في ذلك خارج المذهب، وفي الموطأ من كتاب عمرو بن حزم:"وفي السن خمس" فعم.
وروى أبو داود عن شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الأصابع سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء".
ولا فرق بين أن تقلع من لحمها أو من أصلها، وكذلك تجب الخمس باسودادها لذهاب الجمال منها.
وقوله: (أَوْ بهِمَا) ابن عبد السلام: يريد إذا قلع بعضها واسود الباقي.
خليل: والظاهر أن مراده إذا اسودت جميعاً ثم انقلعت؛ لأن ما ذكره ابن عبد السلام يؤخذ من قوله: (وَفِي بَعْضَهَا بحِسَابهِ) فإن قلت: يرد على الثاني أيضاً عدم الفائدة أنه إذا وجب العقل بأحدهما، وأحرى إذا اجتمعا، قيل: لعله نص على ذلك لينبه على عدم تعدد الدية، ألا ترى أنها لو اسودت ثم قلعت بعد حين أن فيها دية أخرى كما سيأتي.
وَفِي بَعْضِهَا مِنْهَا بحِسَابِه مِنْ لَحْمِهَا لا من أَصْلِهَا
أي: من السواد والقلع، شمل ثلاث صور: إذا انقطع بعضها، وإذا اسود بعضها، وإذا انقطع بعضها واسود البعض الآخر.
وَفِيهَا: إِنْ كَانِ احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا وَاخْضِرَارُهَا كَالسَّوَادِ فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا، وَالْمَشْهُورُ خِلافُهُ
…
إن قلت: هو لم يحكم في المدونة بشيء، بل قال:(إِنْ كَانَ) فكيف يقول المصنف: (وَالْمَشْهُورُ خِلافُهُ)؟ قيل: المعنى: فالمشهور أنه ولو قيل: إن الاحمرار والاصفرار كالسواد لا يتم عقلها، وفي كلام المصنف نظر، أما أولاً فلأن المشهور عندهم مذهب المدونة، وأما ثانياً فلأن المذهب يحكم بالعرف، ولعل المصنف اعتمد في تفسيره على اقتصار ابن شاس عليه؛ فإنه قال: إن اخضرت أو اصفرت ففيهاعقلها بنسبة ما بعدها من البياض وقربها من السواد.
وما حكاه المصنف عن المدونة هو ظاهر نص الأم؛ فإن فيها: قلت: فإن ضربه رجل فاسودت منه أو احمرت أو اصفرت أو اخضرت، ما قول مالك في ذلك؟ قال: ما سمعت من مالك إلا إذا اسودت فإن عقلها قد تم، ولا أدري ما الخضرة والصفرة والحمرة، إن كان ذلك مثل السواد فقد تم العقل، وإلا فعلى حساب ما نقصن فظاهره أن الإشارة بذلك على الثلاثة، وفهم البراذعي أن الإشارة عائدة إلى الخضرة فقط، وفيه بعد.
ولأشهب وابن القاسم أن الحمرة أقرب إلى السواد من الصفرة، قال: وفي ذلك كله بقدر ما ذهب من بياضها إلى ما بقي منه إلى اسودادها، هكذا في ابن يونس، وفي النوادر والباجي في كلام أشهب: الخضرة إلى السواد أقرب ثم الحمرة ثم الصفرة ثم الكلام على ما قاله ابن يونس. ابن عبد السلام: وأظنه أصوب.
وَاشْتِدَادُ اضْطِرَابِهَا فِيمَنْ لا يُرْجَى كَقَلْعِهَا
أي: لا يرجى نباتها، ابن القاسم: وليُستأنى به سنة، وقال أشهب: إن ضربها فتحركت انتظر بها سنة، فإن انتشر اضطرابها بعد السنة فهي كالمنقلة، وإن كان اضطرابها خفيفاً عقل بقدره، واحترز ممن لا يرجى من الصغير فإنه يستأنى كما سيأتي.
وَالسَّوْدَاءُ كَغَيْرِهَا
أي: وقلع السوداء موجب لخمس من الإبل كغيرها، واشتداد اضطرابها كذلك لبقاء منفعتها، وإنما وجبت الدية فيها بالاسوداد لذهاب الجمال.
وَسِنُّ الصَّبِيِّ لَمْ يُتْغِرْ يُوقَفُ عَقْلُهَا إِلَى الإِيَاسِ كَالْقَوَدِ وَإِلا انْتُظِرَ بِهَا سَنَةً
يعني: أن سن الصغير إذا قلعت قبل الإثغار خطأ أو عمداً لم يعجل فيها بالدية ولا بالقود حتى يُيأس من نباتها، فقوله:(كَالْقَوَدِ) تشبيه لإفادة الحكم، وقيد اللخمي وقف العقل بأن الجاني غير مأمون، وأما المأمون فلا يوقف، وظاهر قوله:(عَقْلُهَا) إيقاف جميع العقل وهو كذلك، وخالف سحنون في ذلك فقال: لا أرى أن يوقف عقل السن كلها؛ لأن السن قد يكون فيها نقص، ولا يمنع ذلك من القصاص مثل الأصبع من اليد، ولكن يوقف من عقل السن ما إذا انتقصت السن إليه لم يقتص له، قيل: كم ذلك، قال: معروف كالعين الضعيفة بصرها، واليد يدخلها النقص اليسير.
وقوله: (وَإِلا انْتُظِرَ بهَا سَنَةً) ابن عبد السلام: يعني إذا جاوز السن الذي لا ينبت فيه ولم تنقضِ سنة انتظرت بقية السنة، ووجبت الدية في الخطأ والقصاص في العمد.
وقوله: (يُثْغِرْ) -هو بضم الياء وسكون الثاء المثلثة- لم تسقط أسنانه المراضع، قال في المحكم: وثغر الغلام ثغراً سقطت أسنانه الرواضع، وأثغر وأدغر على البدل نبت أسنانه، قال: وقيل: أثغر نبت ثغره، وقال الجوهري: الثغر ما تقدم من الأسنان، يقال: ثغره إذا كسرت ثغره، وإذا سقطت رواضع الصبي، قيل: ثغر فهو مثغور، فإذا نبتت قيل: أثَّغر، وأصله اثتغر فقلبت الثاء تاءٌ ثم أدغمت، وإن شئت قلت: اثَّغر بجعل الحرف الأصلي هو الظاهر. انتهى.
فَإِنْ نَبَتَتْ سَقَطَا
أي: نبتت سن الصبي سقط القود والعقل، [711/ب] وفي بعض النسخ:(سَقَطَ) يعود على أحدهما لا بعينه، واستشكل سقوط القود في سن الصغير بنباتها؛ لأن العمد إنما يقصد فيه إيلام الجاني بمثل ما فعله، ألا ترى أنه يقتص من الجراح غر الخطرة وإن برئت على غير شين، وأجيب بأن سن الصبي لا تماثل سن الكبير فوجب القصاص.
وَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ وُرِثَ الْقَوَدُ وَالْعَقْلُ
أي: وإن مات الصغير قبل نباتها ورث ورثته القود في العمد والعقل في الخطأ.
فَإِنْ عَادَتْ أَصْغَرَ فَبحِسَابهِ فِيهِمَا
أي: عادت سن الصغير أصغر منها حين قلعت أخذ الجاني بحساب ما نقص فيهما؛ أي: في العمد والخطأ، وهو مقيد في العمد بأن يعود ما ينتفع به، وأما إن عاد ما لا ينتفع به فإنه يقتص، أشار إلى ذلك اللخمي، وصرح به غيره.
فَلَوْ أَخَذَ الْمَثْغُورُ الأَرْشَ فِي الْخَطَأِ فَنَبَتَتْ فَلا يَرُدُّ شَيْئاً
المثغور مقابله من لم يثغر، ومراده بالمثغور من نبتت أسنانه بعد أن سقطت، لكن إنما يقال فيه ثغراً أو مثغراً أو مدغراً، ومدغر على القول الآخر، وإنما يقال للصبي مثغور إذا سقطت أسنانه لتنبت، إلا أن صاحب المحكم ذكر عن ابن العربي أنه يقال: ثغره إذا كسر أسنانه، فيصح على هذا أن يقال:(فَلَوْ أَخَذَ الْمَثْغُورُ) أي: الذي كُسر سنُّه، لكن لا يبقى على ذلك مقابلة بين هذا وبين قوله أولاً:(لَمْ يُثْغِرْ).
وقوله: (أَخَذَ) يريد: أو حكم له به، ففي البيان: وأما الكبير تصاب سنه فيضي له بعقلها ثم يردها صاحبها فثبتت فلا اختلاف بينهم أنه لا يرد العقل؛ إذ لا ترجع على قوتها، قال: والأذن كالسن في ذلك.
فَإِنْ ثَبَتَتْ قَبْلَ الأَخْذِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَاخُذُ كَالْجِرَاحَاتِ الأَرْبَعِ الْمُقَدَّرَةِ بخِلافِ الأُذُنِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا شَيْءَ لَهُ كَغَيْرِهَا مِنَ الْجِرَاحِ
…
أي: فإن نبتت سن الكبير، واستمسك قبل الحكم له بالأرش فقال ابن القاسم في المدونة: له أرشها، وقوّاه المصنف بالقياس على الجراحات الأربع؛ أعني الموضحة وأخواتها، فإنه اتفق فيها على أنه يأخذ عقلها وإن عادت لهيئتها، صرح بالاتفاق اللخمي وغيره، والجامع التقدير فيها.
وقوله: (بخِلافِ الأُذُنِ) أي: فلا عقل لها وإن عادت لهيئتها، ولهذا فرق ابن القاسم في رواية يحيى، قال في الرواية المذكورة: وإن كان في ثبوت الأذن ضعف فله بحساب ما نقص من قوتها، قيل: الأذن إذا ردت واستمسكت وعادت لهيئتها وجرى فيها الدم، والسن لا يجري فيها الدم، وقال أشهب: لا شيء له إذا ثبت سنه كغير الجراحات الأربع، وزاد في البيان ثالثاً بالقضاء له بالعقل في الأذن والسن، قال: وهو مذهب المدونة، وهذب
صاحب النكت إلى أن مذهب المدونة التفصيل كما في قول ابن القاسم في رواية يحيى لا كما قاله في البيان، قال: لا أعلم أن الأذن إذا ردت في الخطأ فثبتت لا دية فيها، وإنما شبهها في الكتاب بالسن إذا ردت في وجوب القصاص فهو واجب على كل حال، والذي ذكرنا إنما هو في الموطأ، ولا ذكر للخطأ في الكتاب إذا ردت الأذن فثبتت وهو مذكور في غير المدونة في رواية يحيى ثم ذكرها، فظاهره أنه حمل رواية يحيى على التفسير من المدونة.
وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَالْقِصَاصُ
أي: سواء ثبت قبل القصاص أم لا، وكذلك الأذن، وحكى في البيان الاتفاق على ذلك.
وَلَوْ عَادَ الْبَصَرُ اسْتَرَدَّ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ بخِلافِ السِّنِّ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَرُدُّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ بحُكْمِ بَعْدَ الاسْتِيناءِ لَمْ يَرُدَّ
…
قوله: (اسْتَرَدَّ) يدل على أن أخذ الدية ليس بشرط بل الحكم كالأخذ، قال في البيان: لا خلاف في أنه لو عاد البصر أو العقل، قيل: الحكم لا يقضي له بشيء، وذكر المصنف في عود البصر بعد الحكم ثلاثة أقوال: الأول لابن القاسم في المدونة؛ أنه يرد الدية بخلاف السن؛ لأن البصر إذا عاد اعتقد أنه لم يذهب حقيقة، وإنما كان ستره ساتر فانكشف.
الثاني لأشهب: لا يرد شيئاً، الثالث لمحمد: إن كان بقضاء الاستيناء لم يرد وإلا ردها، وهكذا حكى في البيان الأقوال الثلاثة، قال في البيان: وحكم اسمع يذهب ثم يعود قبل الحكم أو بعده حكم البصر على ما ذكره، نص أشهب أنه لا يرد إذا رد عقله، واختلف في مذهب ابن القاسم فيه، فقيل: الذي يأتي على مذهبه فيه من مسألة البصر أنه يرد، وقيل: بل كقول أشهب، والفرق بين البصر والعقل أن العقل يذهب حقيقة ثم يعود بخلاف البصر؛ فإنه إذا عاد يعلم أنه لم يزل حقيقة، قال: فتحصل في عود البصر والعقل ثلاثة أقوال: ثالثها: يرد في جميع البصر دون العقل، هذا معنى كلامه في البيان.
وَإِنْ قَلَعَ جَمِيعَ الأَسْنَانِ فَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ بضَرْبَةٍ أَوْ بضَرَبَاتٍ كَانَتِ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ
…
هذا فيه بعض التكرار مع ما قدمه، وهو قوله:(الأَسْنَانُ فِي كُلِّ مُطْلَقاً خَمْسٌ). ابن شعبان: وللألْحَى اثنتان وثلاثون وللكوسج ثمانٍ وعشرون.
وَفِي الْمُضْطَرِبَةِ جِدَّاً الاجْتِهَادُ
أي: في قطع المضطربة جداً الحكومة، وليس هذا تكرار مع قوله:(وَاشْتِدَادُ اضْطِرَابُهَا فِيمَنْ لا يُرْجَى كَقَلْعِهَا) كما زعم ابن عبد السلام؛ لأن الكلام الأول فيما إذا ضربها وهي قوية فاشتد اضطرابها [712/أ] وهذا الكلام في قلع المضطربة جدَّاً.
وَفِي الْمَكْسُورَةِ بتَآكُلٍ أَوْ غَيْرِهِ بحِسَابِهَا
نحوه في المدونة، وقيده أشهب فقال: إلا أن يتآكل منها ما لا بال له، ففيها ديتها كاملة كاليد تنقص أنملة.
وَالْيَدَانِ مِنَ الْعَضُدِ إِلَى الأَصَابِعِ قَطْعَاً أَوْ شَلَاّ فَيَنْدَرِجُ مَا زَادَ عَلَى الأَصَابعِ
ومنها اليدان، ولو قطع الأصابع وجبت دية اليد، وكذلك لو قطعها من العضد، ويندرج ما زاد على الأصابع كما يندرج ما زاد على الحشفة في قطع الذكر، ولا فرق بين إبانة اليد وإبطال منفعتها بالشلل.
وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرلإ وَفِي كُلِّ أَنْمُلَةٍ ثُلُثُ الْعُشْرِ إِلا الإِبْهَامَ فَنِصْفُهُ، وَفِي أَقَلَّ بحِسَابِه
…
نبّه بقوله: (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ) على أنه لا فرق في الأصابع لما رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام قال: "هذه وهذه سواء" الخنصر والإبهام. ويصح أن يقال: عُشر بضم
العين؛ أي: عشر الدية، وبفتحها أي عشرة من الإبل؛ لأن العشرة هي عشرها إلا أن للإبهام ثلاثة أنامل، وفي كل أنملة ثلث دية الأصابع، وإليه رجع مالك، وأخذ أصحابه بقوله الأول، قيل: والأظهر مذهب المدونة، ولو كان في الإبهام ثلاثة لكان في غيره أربعة، واتفق على أن إبهام الرجل ليس فيها إلا أنملتان.
(وَفِي أَقَلَّ) أي: من أنملة بحساب ذلك وإن قطعت بدلها أربع أصابع، ورأى أشهب له دية أربع أصابع، وإن نقصت أنملة فقال ابن القاسم وأشهب؛ إن كان أخذ لها عقلاً حوسب بها إلا أن تتلف بمرض وشبهه.
ابن المواز: وأنملة الإبهام كغيره في المحاسبة فيهما، أشهب: وأما الأنملتان من سائر الأصابع فيحاسب بهما في الخطأ.
واختلف في الأصبع الزائدة، فقال ابن القاسم: إن كانت قوية ففيها عشر، قطعت خطأ أو عمداً؛ إذ لا قصاص فيها، وإن قطع جميع اليد كان فيها ستون، وإن كانت ضعيفة كانت فيها حكومة إن قطعت بانفرادها، وإن قطع اليد لم يزد لها شيء، قال سحنون: إذا قطعت اليد فيها ست أصابع خطأ كان له خمسمائة، قال: وقد قيل: له خمسمائة، وفي الزائد حكومة، ولم يفرق بين كونها قوية ولا ضعيفة، اللخمي: وإن قطعت عمداً كان له أن يقتص من القاطع ويأخذ دية السادسة إن كانت قوية.
وَالثَدْيَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَحَلَمَتُها مِثْلُهُمَا إِنْ بَطَلَ اللَّبَنُ
أي: ومنها الثديان، والحلمة: بفتح الحاء واللام.
الجوهري: وهو رأس الثدي مثلهما؛ أي في وجوب الدية، أي فإذا قطعهما من أصلهما اندرج ما زاد على الحلمتين.
وقوله: (إِنْ بَطَلَ اللَّبَنُ) نحوه في المدونة، وإن قطع حلمتيهما فإن كان قد أبطل مخرج اللبن وأفسدهما ففيها الدية، وقال ابن الماجشون: حد ما تجب فيه الدية ذهاب الحلمتين، وقال أشهب: إن أذهب منها سداداً لصدرها ففيهما الدية، وإلا ففيهما بقدر شينهما.
مالك: وتجب الدية ببطلان اللبن وإن لم يقطع منها شيء، وكذلك إذا فسد.
فرع:
ولو أُفسدت ثم عادت ردَّت ما أخذت.
وَفِي الصَّغِيرَةِ إِنْ تَبَيَّنَ إِبْطَالُهَا عَقْلٌ وَإِلا اسْتُؤْنِيَ بهَا كَسِنِّ الذِّكَرِ
الضمير في (إِبْطَالُهَا) عائد على منفعة اللبن المفهومة من السياق، (عَقْلٌ) أي: عقل ثديّي المرأة الكبير، وفي بعض النسخ:(عقلت) فيعود أيضاً على المنفعة.
قوله: (وَإِلا) يعني: وإن لم يتبين الإبطال فالحكم وقف العقل، وميراثه كما في سن الصبي.
وَالذَّكَرُ وَالأُنْثَيَانِ وَمَهْمَا قُطِعَ أَحَدُهُمَا فَدِيَةٌ، وَفِي الثَّانِي مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ بضَرْبَةٍ دِيَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: حُكُومَةً كَالْكَفِّ بَعْدَ الأَصَابعِ
…
ابن الجلاب: وإذا قطع الذكر والأنثيان في دفعة واحدة ففيها ديتان، وسواء قطع الذكر قبل الأنثيين أو الأنثيين قبله، وقال عبد الملك: في الأول منهما دية، وفي الثاني حكومة. انتهى. ووجه عبد الملك أن الثاني لا منفعة فيه؛ لأن الذكر إذا قطع أولاً لم يبق تمكن أن يولد له، وكذلك العكس؛ لأن النسل إنما هو بالبيضة اليسرى، وينبغي على هذا إذا قطعهما بالقرض أن يتفق على وجوب ديتين، وكلام المصنف لا يشمل هذه الصورة؛ لأنه قال:(وَفِي الثَّانِي) ن وفي هذه الصورة لا يوصف القطع بكونه ثانياً، وفي الثاني معه أو بعده دية أو حكومة وهي معنى الأولى، لكن الأولى أظهر، ولابن حبيب قول ثالث: في الذكر دية تقدم أو تأخر، وفي الأنثيين إن تقدمتا الدية، وإن تأخرتا فلا دية، يريد: وفيهما حكومة،
ونقل عبد الوهّاب أنهما إذا قطعهما معاً أن فيهما دية واحدة، والمشهور أظهر لما في النسائي أن في كتاب عمرو بن حزم:"وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية"، وفي مراسيل أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام قال:"وفي الذكر إذا قطعت الحشفة".
وَفِي ذَكَرِ الْعِنِّين وَالْخَصِيِّ قَوْلانِ
أحدهما دية، والآخر حكومة، وقد تقدم في النكاح أن العنين حقيقة من له ذكر صغير لا يتأتى به الجماع، وقد يطلق على المعترض، والخلاف فيهما، ففي اللخمي: قال ابن حبيب: وفي ذَكَر الذي لا يأتي النساء الدية كاملة، قال: وكذلك الشيخ الكبير، وفي مختصر الوَقَار: في ذكر العنين حكومة، وعلى أحد قولي مالك فيه الدية كاملة، وكذلك الخصي الذي لم يخلق له ما يصيب به النساء الدية كاملة، وكذلك ذكر الشيخ الكبير الذي [712/ب] ضعف عن النساء، ذكره ابن حبيب عن مالك، وأما الخصي فإن أراد به المقطوع أحدهما وهو حقيقة الخصي كما قدمه المصنف في باب النكاح فهو تكرار مع قوله:(وَفِي الثَّانِي بَعْدَهُ أَوْ مَعَهُ دِيَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ)، بل نقص هنا تعيين المشهور، ولا يقال: أراد به مقطوع الحشفة؛ لأنه سيتكلم عليه؛ لأنه لا يفهم من لفظه على أنه لا يعلم في ذلك خلاف، والذي في الموازية والمجموعة عن مالك أن الأمر المجتمع عليه أنه ليس في المقطوع الحشفة إلا الاجتهاد، وإلى ذلك أشار بقوله:
وَالْحَشَفَةُ كَالذَّكَرِ فَلَوْ قُطِعَ عَسِيبُهُ بَعْدَهَا فَحُكُومَةٌ كَالْكَفِّ بَعْدَ الأَصَابِعِ
أي: الحشفة في الدية كالذكر، وقوله:(فَلَوْ قُطِعَ عَسِيبُهُ) تقدم من كلام مالك أنه الأمر المجتمع عليه.
خليل: وقد يقال: فيه نظر، بل الظاهر أن تكون دية أخرى لأنه يجامع به، وتحصل له به اللذة، وبهذا يفارق الكف بعد الأصابع.
فإن قيل: فالعضو الواحد لا تكون فيه ديتان، قيل: هذا ممنوع؛ لأنا نوجب في السن إذا اسودت دية كذلك إذا قلعت، وخرج اللخمي قولاً بأن يكون فيه بحساب ما بقي من قول مالك في الأنف: هل الدية للمارن أو له من أصله؟ قال: إلا أن يكون في مسألة الذكر إجماع.
وَالأَلْيَتَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حُكُومَةٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: الدِّيَةُ
وجه قول ابن القاسم أنه لم يرد فيه نص، وبالقياس على الرجل، وقال أشهب: هما أعظم عليها ضرراً من ثديها، والأليتان بفتح الهمزة.
الشُّفْرَانِ إِذَا بَدَا الْعَظْمُ فَالدَّيَةُ
الشفران: بضم الشين وسكون الفاء، الجوهري: وشفر الرحم وشافرها حروفها، وروى ابن حبيب: أن ابن وهب روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في شفري المرأة بالدية إذا سلقا حتى يبدو العظم.
وَالرِّجْلانِ كَالْيَدَيْنِ، وَالْعَرَجُ الْخَفِيفُ مُغْتَفَرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ لَهُ أَرْشاً
أي: فيه الدية من الأصابع أو من الورك، ويندرج ما فوق الأصابع قطعاً أو شلاًّ، واحترز بالعرج الخفيف من العرج الشديد، فليس له إلا بحساب ما بقي، وإن لم يبق العرج فيها منفعة فالاجتهاد.
وقوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ لَهُ أَرْشاً)، وأما إن أخذ له فبحساب ما بقي.
ابن عبد السلام: وقد وقع في المدونة في ذلك اضطراب في هذه المسألة وأشباهها من العين الناقصة ضوءها واليد الضعيفة، وظاهر ما في المدونة أنه إن أخذ للعرج أرشاً فليس له إلا بحساب ما بقي، وإن لم يأخذ له أرشاً فقولان، وفي الموازية الخلاف وإن أخذ للنقص عقلاً، والنظر يقتضي ألا يكون له إلا بحساب ما أتلف.
وَالْمُقَدَّرُ مِنَ الْمَنَافِعِ عَشَرَةٌ: الْعَقْلُ: وَلَوْ زَالَ بِمَا فِيهِ دِيَةٌ تَعَدَّدَتْ
لما فرغ من ديات الأعضاء شرع في المنافع، وبدأ بالعقل لشرفه، وإذا وجبت الدية في اسمع ونحوه فهو أولى، وقد ورد في الحديث أن فيه الدية كاملة، اللخمي: وإن جن من الشهر يوماً وليلة كان له جزء من ثلاثين جزءاً من الدية، وإن جن الليل دون النهار أو بالعكس كان له جزء من ستين.
قوله: (وَلَوْ زَالَ بمَا فِيهِ دِيَةٌ تَعَدَّدَتْ) كما لو قطع يده فجن، فإن عليه ديتين، والتعدد مقيد بأن يكون حال العقل بسببه في غير محل العقل، أما إن كان في محله كما لو أَمَّه أو جدع أنفه، وقلنا: إن محله الدماغ فليس له إلا دية العقل، قال في المقدمات: وإن أصيب بمأمومة فذهب منها عقله فله على مذهب مالك دية العقل ودية المأمومة لا يدخل بعض ذلك في بعض؛ إذ ليس الرأس عنده بمحل للعقل، كمن أذهب سمع رجل وفقأ عينه في ضربة، وعلى مذهب ابن الماجشون إنما له دية العقل ولا شيء له في المأمومة، كمن أذهب بصر رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة، ومذهب مالك أن محله القلب، وهو قول أكثر أهل الشرع، وهو مذهب عبد الملك وأبي حنيفة أن محله الرأس، وهو مذهب أهل الفلاسفة.
السَّمْعُ: وَفِي إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَا نَقَصَ فبحِسَابِه، وَيُعْرَفُ بِأَنْ يُصَاحَ مِنْ مَوَاضِعَ عِدَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، مَعَ سَدِّ الصَّحِيحَةِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ حُلِّفَ، وَنُسِبَ إِلَى سَمْعِهِ الآخَرِ، وَإِلا فَسَمْعٌ وَسَطٌ، فَإِنِ اخْتُلِفَتْ فَقِيلَ: لا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: لَهُ الأَقَلُّ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ صَحَّ أَنّْ أَحَدَ السَّمْعَيْنِ يَسْمَعُ كَالسَّمْعَيْنِ فَهُوَ عِنْدِي كَالْبَصَرِ
…
لا أعلم خلافاً أن في السمع الدية وفي أحدهما نصفه، فإن نقص منهما أو من أحدهما فبحسابه، ومعرفة ما نقص من ذلك بأن يصاح من مواضع مفترقة بعد سد الصحيحة، فإذا لم يختلف قوله سدت الناقصةويصاح به، ثم ينظر ما بين الصحيحة والمصابة، وينسب ذلك إلى الدية وأخذ ما بقى بنسبته.
قوله: (وَإِلا فَسَمْعٌ وَسَطٌ) أي: وإن لم ينك له سمع آخر وأصيب في أذنيه نسب سمعه إلى سمع وسط ثم لابد من يمينه، نَص عليه مالك وابن القاسم وأشهب، وظاهر رواية ابن وهب سقوط اليمين، ويجري فيها الخلاف من يمين التهمة.
وقوله: (فَإِنْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ) أي: اختلافاً متبايناً، وأما التقارب فيصدق كالمتساوية، وقوله:(لا شَيْءَ لَهُ) أي: للمجني عليه، وفي بعض النسخ:(فَلا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي)، وهذا قول مالك في الموازية، ونقله أصبغ عن مالك وأصحابه؛ لأن اختلاف قوله يدل على كذبه، وقال عيسى بن دينار: له الأقل مع [713/أ] يمينه، وإذا وجبت اليمين مع عدم الاختلاف فهنا أولى.
وقوله: (قَالَ أَشْهَبُ) هو دليل على أن أشهب إنما قال بوجوب الدية في عين الأعور؛ لأن نظر الأخرى قد انتقل فلذلك قال: (إِنْ صَحَّ
…
إلخ)، وأشار ابن القاسم في المدونة إلى أن حكم عين الأعور مقصور عليها للسنة، وذلك على خلاف القياس لقصر الحكم على محله.
الْبَصَرُ: وَهُوَ كَالسَّمْعِ، وَيُخْتَبَرُ بِإغْلاقِ الصَّحِيحَةِ، وَتُجْعَلُ البَيْضَةُ ونَحْوُهَا فِي أَمْكِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَيْنُ الأَعْوَرِ ....
أي: البصر كالسمع في تكميل الدية بذهاب جميعه، وفي أحدهما نصفها، فإن ادعى نقص بصره اختبر بيضةونحوها، وصفةذلك كما تقدم في السمع، وقد تقدم حكم عين الأعور كما تقدم أن فيها الدية.
وَإِذَا ادَّعَى الْمَضْرُوبُ ذَهَابَ جَمِيعٍ سَمْعِهِ وَبَصَرِه صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ، وَيُخْتَبَرُ إِنْ قُدِرَ عَلَى ذِلِكَ بمَا وَصَفْنَاه، وَالظالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ ....
الاختبار في الأذن أن يصاح على غفلة صياحاً شديداً.
أشهب: ويشار إلى عينيه جميعاً، أو العين التي يقول ذهبت، فإن لم يستدل على كذبه صدق مع يمينه، ولما كان قبول قول المدعي من غير بينة على خلاف مقتضى الأحوال استشعر
المصنف ذلك سؤالاً فأجاب بقوله: (وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ)، وهكذا قال في المدونة، وهو جواب لا يقيم جميع صور المسألة؛ إذ الظلم من لوازم العمد، والمسألة مفروضة في العمد والخطأ، ولو قال المصنف: يختبر، كما ذكرنا لكان أحسن.
الشَّمُّ: وَيَنْدَرِجُ فِي الأَنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ مَعَ الأُذُنِ
أي: في الشم الدية، فإن قطع أنفه فأذهب شمه فدية واحدة، ويندرج الشم في الأنف كما يندرج البصر مع العين والسمع في الأذن، وهذا قول ابن القاسم. وقال ابن الجلاب: القياس عندي أن يكون في الشم والأنف ديتان، وكذلك في الأذنين إذا أذهبا مع السمع، والقياس أن يكون فيها دية وحكومة على اختلاف الروايتين في ذلك.
النُّطْقُ: فِيهِ الدِّيَةُ إِنْ بَقِيَ الذَّوْقُ، وَمَا نَقَصَ فَبحِسَابهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: تُجَزَّأُ الدِّيَةُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً؛ عَدَدَ الْحُرُوفِ
…
لا خلاف أعلمه أن في النطق الدية، وما نقص فبحسابه واختلف في ذلك، ففي المدونة وغيرها يقدر أهل المعرفة ولا ينظر إلى عدد الحروف فإن منها الرخو والشديد، فن قال: يقع في نفوسنا أنه ذهب من كلامه نصفه أو ثلثه أعطي بقدر ذلك. قال في العتبية وغيرها: وإن شك أهل المعرفة الثلث أو الربع أعطي الثلث، والظالم أحق أن يحمل عليه. قال في البيان: والأولى في الخطأ ألا يكون له إلا الأقل.
أصبغ: تجزأ الدية على ثمانية وعشرين جزءاً عدد الحروف، ثم يقال له انطق بالحروف، فما عجز عن النطق به أعطي بحسابه، وبعضها إن كان أثقل إلا أن ذلك لا ينبغي أن يراعي كالأصابع، فإن بعضها أنفع منبعض وعقلها متساوٍ. واختاره اللخمي، وردّه ابن المواز وغيره بأن بعض اللسان لا حظ للسان فيه كالباء والميم اولحاء، وأيضاً فإن الحروف لا تنحصر في ثمانية وعشرين في لغة غير العرب، ولا تبقى بإسقاط حظ الزائد؛ لأن الدية عوض عن الكلام الذي هو أعمّ من لغة العرب.
وَفِي الصَّوْتِ الدِّيَةُ
النطق أخصر من الصوت، وقد نص أبو بكر في الوقار على ما ذكره المصنف، أما لو ذهب دفعة واحدة النطق والصوت فدية واحدة. وفي اللخمي: إن ذهب بعض كلامه وذهب صوته أخذ جميع العقل دية كاملة، وإن ذهب نصف كلامه ونصف صوته أخذ ثلاثة أرباع الدية؛ لأنه يستحق نصف الدية عن ذهاب نصف الكلام، ويسقط ما يقابله من الصوت وهو النصف؛ لأنه لو ذهب جميع الكلام وجميع الصوت لم يزد للصوت شيئاً، وبقي نصف الكلام ذهب منها الصوت فليأخذ لما ذهب من صوته ربع الدية.
وَفِي الذَّوْقِ الدِّيَةُ
ابن عبد السلام: هذا هو المشهور. وعلى ما يظهر نم كلام غير واحد من الشيوخ ولم يذكر فيه أكثرهم خلافاً، ونحا أبو الفرج إلى أن فيه حكومة، وربما استقرئ هذا القول من المدونة وغيرها حيث لم يجعلوا في لسان الأخرس إلا الحكومة من أن الذوق حاصل في لسان الأخرس. انتهى.
وقال ابن راشد: هكذا نقل ابن شاس. وقال اللخمي: فيه الدية قياساً على الشم، ورأيت الفقهاء بالديار المصرية ينكرون عليه هذا النقل ويقولون: هو خلاف المدونة؛ لأنه أوجب فيها في لسان الأخرس حكومة وقيد الذوق، ولعله أجاب في المدونة عن لسان الأخرس ذاهلاً عن الذوق، ولو نبه على ذلك لأجاب بالدية. انتهى باختصار. وفي المقدمات: ينبغي على أصولهم أني كون في الذوق الدية كاملة، ولا أعلم لأصحابنا فيه نصاً.
وَيُجَرِّبُ بالْمُرِّ الْمَقِرِ
بفتح الميم وكسر القاف، يقال منه مقر الشيء بالكسر يمقر مقراً إذا صار مراً فهو شيء مقر، والمقر أيضاً الصبر، وفي بعض النسخ:(المنفر) وهي كالأولى؛ أي الشديدة
المرارة، والذي لا يمكن الصبر عليه، وفي بعض النسخ:(المقه) وليستظاهرة؛ لأن المقه لغة: القبيح البياض، وليس المراد هنا، وسكت المصنف هنا عن اليمين، والظاهر أنه غير [713/ب] محتاج إليها؛ لأن الدال على صدقه هنا قوي، وهو اختباره بشديد المرارة، ولهذا عاقبه المصنف بوجوب اليمين في الجماع فقال:
وَفِي قُوَّةِ الْجِمَاعِ الدِّيَةُ وَيَحْلِفُ
لا أعلم فيه خلافاً. اللخمي: وتجب الدية في ذهاب النسل بشيء سقاه أو أطعمه وإن لم يبطل الإنعاظ.
فَإِنْ رَجَعَتْ رَدَّهَا قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، وَفِي الإِفْضَاءِ قَوْلانِ: حُكُومَةٌ وَدِيَةٌ؛ وَهُوَ رَفْعُ الْحَاجِزِ بَيْنَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الذَّكَرِ
…
القول بالحكومة في المدونة، ونص عليه في كتاب الرجم، والقول بوجوب الدية يه لابن القاسم، وهو الأقرب، وعلله ابن شعبان بأنه منعها اللذة، ولا تمسك الولد ولا تمسك البول إلى الخلاء؛ ولأن مصيبتها بذلك أعظم من الشفرين، وقدنصوا على وجوب الدية فيه، وتفسيره ظاهر التصور.
وَلا يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْمَهْرِ بخِلافِ أَرْشِ الْبَكَارَةِ
أي: ولا يندرج الإفضاء تحت المهر بخلاف البكارة؛ لأنه لا يمكن الوطء إلا بإزالتها.
وَلَوْ أَزَالَ الْبَكَارَةَ بأُصْبُعِهِ فَحُكُومَةً
أي: فعلى الزوج حكومة، وعليه نصف الصداق إن طلق، وهو القياس عند أصبغ في الموازية، ولابن القاسم أيضاً أن لها الصداق كاملاً.
وَالزَّوْجُ وَغَيْرُهُ فِيهمَا سَوَاءٌ إِلا فِي الْحَدِّ وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ فِي الإِفْضَاءِ إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ بخِلافِ الأَجْنَبيِّ يَغْتَصِبُهَا
…
(فيهِمَا) أي: في الإفضاء والبكارة. وقوله: (سَوَاءٌ) أي: في لزوم الدية أو الحكومة على القولين في الإفضاء ولزوم الحكومة في البكارة، ثم استثنى من المساواة وجوب الحد على الأجنبي إذا أزال البكارة بغير أُصبُعه، وحمل العاقلة في حق الزوج فإن عاقلته تحمل أرش الإفضاء لأنه خطأ، وهو ظاهر على القول بلزوم الدية؛ ولذلك ترك المصنف التفريع عليه، وأما على القول بلزوم الحكومة فيشترط فيها أن تبلغ الثلث.
واحترز بقوله: (يَغْتَصِبُهَا) مما لو طاوعته، فإنها لا أرش لها حينئذٍ في إفضائها، نص عليه في المدونة في الرجم. وقال أشهب: عليه الحكومة وإن طاوعته. واستحسنه اللخمي قال: ولا فرق في ذلك بين الزوج وغيره؛ لأن كل ذلك طوع. وفرق المشهور بأنها في الزنى أسقطت حقها بتمكينها من نفسها بخلاف ذات الزوج فإنها مجبرة على التمكين.
وَفِي مَنْفَعَةِ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ الدِّيَةُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: وَفِي قِيَامِهِ فَقَطْ، ثُمَّ مَا نَقَصَ فَبِحِسَابِهِ
…
يعني: أنه تجب الدية في مجموع منفعة القيام اولجلوس، وروى ابن القاسم في قيامه بانفراده الدية، ووجهه القياس على الرجل. والذي في المدونة: وقال مالك في الصلب الدية. قال ابن القاسم: ذولك إذا قصر عن القيام. فعلى هذا إن قدر على المشي مع حدب أو عتل فإنما فيه الاجتهاد، ونحوه لمالك في المجموعة، ورواه ابن وهب. وقال عبد الملك: إذا انكسر الصلب ولم يقدر على الجلوس ففيه الدية.
اللخمي: وقيل: فيه الدية إذا انطوى، يريد إذا صار كالراكع.
اللخمي: ويصح أن تكون الديةفي الصلب للفصلين جميعاً إذا بطل جلوسه وإن كان يقدر على المشي على الحباء وإن لم يبلغ أن يكون كالراكع، وكذلك إذا فسد قيامه وصار كالراكع وإن كان يقدر على الجلوس. وقال ابن الماجشون: في الصلب ثلاثة وثلاثون فقارة، فإذا كان في الصلب الدية ففي كل فقارة ثلاثة من الإبل.
اللخمي: فراعى الصلب، ولم يراعِ ما أفسده من المشي.
وقوله: (ثُمَّ مَا نَقَصَ فَبحِسَابِهِ) أي: على كل قول فعلى الأول يعتبر النقص من مجموع القيام والجلوس وعلى الثاني يعتبر من القيام فقط.
وَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ ذَلِكَ وَجِمَاعُهُ فَدِيَتَانِ
يعني: أن دية ذهاب الجماع لا تندرج تحت الصلب، وإن كانت قوة أكثر الجماع من الصلب.
فرع:
بقي على المصنف مما فيه الدية ما إذا أجذمه أو أبرصه أو أسود جسمه. واختلف في هدم عظام الصدر، فقال ابن القاسم: فيه الدية. وقال ابن عبدوس: فيه حكومة. اللخمي: وفي الشَّوَي-وهي جلدة الرأس- الدية. وقاله عبد الملك، ونص اللخمي أيضاً على وجوب الدية إذا سقاه ما أبطل نسله، وإن كنا أنعظ ويمني.
وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَحُكُومَةٌ كَأَشْفَارِ الْعَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَاللّحْيَةِ الرَّاسِ لَمْ تُنْبِتْ
لأن هذه الأشياء إنما فيها جمال.
فَأَمَّا جِرَاحُ الْعَبْدِ فَمُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْبُرْءِ بقِيمَتِهِ، وَفِي الشِّجَاجِ الأَرْبَعِ مِنْ قِيمَتِهِ بنِسْبَتِهَا مِنَ الدِّيَةِ، فَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ
…
لما في الموطأ أن مروان بن عبد الحكم كان يقضي في العبد يصاب بالجرح أن على من جرحه قدر ما نقص من ثمن العبد؛ أي: من قيمته.
وقوله: (بَعْدَ الْبُرْءِ) أي: الحر، وهذا مقيد بما إذا لم ينك الجرح لم يتلف المقصود منه، وأما إن أتلفه فإنه يضمن جميع قيمة العبد ويعتق عليه أحب سيده أم كره؛ لأن قيمته عوضه، وهو مضار ي ترك قيمته، وأخذ ما لا ينتفع به، وإحرام العبد العتق.
وقوله في المدونة: ويعتق عليه هو المشهور. وقال ابن االماجشون ومطرف: لا يعتق عليه لأنه إنما مثل بعبد غيره.
قوله: (وَفِي الشِّجَاجِ الأَرْبَعِ) أي: المأمومة والجائفة والمنقلة والموضحة (مِنْ قِيمَتِهِ بنِسْبَتِهَا مِنَ الدِّيَةِ) ففي كل من المأمومة والجائفة ثلث قيمته وهو ظاهر، وإنما فرق بين هذه وغيرها ما فيها تقدير كاليد والسن؛ لأن هذه الجراح قد تبرأ [714/أ] من غير شين، فلو لم يلزم الجاني إلا ما سلم في بعض الأوقات من أرش الجناية بخلاف غيرها، هكذا في عيسى بن دينار.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ جَبَّهُ فَلَمْ يُنِْصْهُ فَلا غُرْمَ وَيُعَاقَبُ فِي الْعَمْدِ
قد تقدم الكلام على هذه المسألة وما فيها من الخلاف في الغصب حين ذكرها المصنف.
وقوله: (وَيُعَاقَبُ فِي الْعَمْدِ) ليست العقوبة خاصة بهذه المسألة، بل هي في كل جناية عمد.
وَالْمَرْأَةُ مُسْلِمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا تُعَاقِلُ الرَّجُلَ مِثَلَهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ ثُلُثَ دَيَتِهِ فَإِذَا بَلَغَتْهُ رُدَّتْ إِلَى قِيَاس دِيَتِهَا، فَفِي ثَلاثِةِ أَصَابِعَ مِنَ الْمُسْلِمَةِ ثَلاثُونَ وَفِي أَرْبَعٍ عِشْرُونَ، وَالْمُوضَحِةُ وَالْمُنَقَّلَةُ كَالرَّجُلِ، وَالْمَامُومَةُ وَالْجَائِفَةُ نِصْفُهَا
…
تعاقله؛ أي: تساويه في العقل. ومعنى قوله: (مِثْلَهَا) المسلمة تعاقل المسلم والكتابية تعاقل الكتابي. ثمبين أن تلك المساواة بشرط ألا تبلغ الثلث، فإن بلغته رجعت إلى عقلها، ثم بين ذلك فقال:(فَفِي ثَلاثَةِ أَصَابِعَ مِنَ الْمُسْلِمَةِ ثَلاثُونَ) لكونها لم تبلغ ثلث
الدية، (وَفِي أَرْبَعٍ عِشْرُونَ) لرجوعه إلى ديتها، وهي في الموضحة والمنقلة كالرجل بخلاف الأمومة والجائفة.
ولما كان هذا الحكم يستشكله الذهن بأول وهلة أتبعه بالدليل عليه فقال:
وَهُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ: سَأَلْتُ ابْنَ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنهم: كَمْ فِي ثَلاثَةِ أَصَابِعَ مِنَ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: ثَلاثُونَ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي أَرْبَع؟ فَقَالَ: عِشْرُونَ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا. فَقَالَ: أَعِرَاقِيٍّ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: بَلْ عَالِمِّ مُتَثَبِّتٌ، أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ، فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي
…
هذا نقله ابن شاس، ونقل ابن عبد البر: جمهور المدينة. وبه قال الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز والليث وعطاء وقتادةوزيد بن ثابت رضي الله عنهم، ورواه النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها".
عبد الحق: وفيه عياش وهو في غير الشاميين ضعيف.
ابن عبد البر: وقول ابن المسيب: (هيَ السُّنَّةُ) يدل على أنه أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وَحَيْثُ اتَّحَدَ الْفِعْلُ أَوْ كَانَ فِي حُكْمِهِ لَمْ يُعْتَبَرِ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ، فَضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ تُبينُ أَصَابِعَ مِنْ يَدَيْنِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْيَدِ
…
لما بين أنها تعاقله فيما دون الثلث ولا تعاقله في الثلث أخذ يبين ما يضم من الجنايات وما لا يضم، فذكر أن الفعل الواحد أو ما في حكمه يوجب الضم وإن اختلف المحل كما أن اتحاد المحل يوجب الضم وإن افترق الفعل، وخالف عبد العزيز في هذا فرأى أن ما كان مفترقاً لا يضم وإن كان في فور واحد وليس كالضربة الواحدة، وروى المغيرة عن مالك مثله. أشهب: والأول أحب إلينا كالسارق أصل سرقته.
وقوله: (حُكْمُهَا) أي: حكم اليدين كاليد الواحدة فإن قطع من اليدين ثلاثة أصابع فعليه ثلاثون، وإن قطع أربعاً فعشرون.
فَلَوْ قُطِعَ لَهَا بَعْدَهُ أُصْبُعٌ لَمْ يُضَمَّ بَلْ تَاخُذُ لَهُ عُشْراً إِنْ كَانَ ثَانِياً أَوْ ثَالِثاً أَوَ خَامِساً كَمَا لضوْ كَانَ فِي كُلِّ يَدٍ عَلَى حِيَالِهَا وَكَذَلِكَ الرَّجْلانِ
…
الضمير في (بَعْدَهُ) يعود على الضرب المفهوم من ضربه أوعلى القطع المفهوم من (تُبينُ).
وقوله: (بَلْ تَاخُذُ) ذكَّر الأصبع لأنه يؤنث ويذكَّر، نص عليه الجوهري، ومراده بقوله:(لَمْ يُضَمَّ)؛ أي اليدين معاً، ويضم إليى اليد الواحدة فتأخذ له عشراً إن كان من اليد الأولى أصًبع أو أصبعين، وهو معنى قوله:(ثانياً أَوْ ثَالِثاً) على اختلاف النسخ وخمساً إن كان واق بأن يكون طع من اليد أولاً ثلاثة أصابع، (أوَ خَامِساً) بأن يكون قطع أولاً أربعاً.
وقوله: (كَمَا لَوْ كَانَ
…
إلخ) كما لو كان القطع في كل يد بانفرادها، ثم قطعت بعد ذلكمن أحد اليدين فإنها لا تضم إلى اليد المقطوعة، وقوله:(وَكَذَلِكَ الرِّجْلانِ) أي: في جميع ما تقدم، وضابط هذا أنك تضم إذا اتحد المحل وإن تعدد الضرب، وكذلك تضم إذا اتحد الضرب وإن تعدد المحل وإن لم يتحد فلا يضم، واعترض عليه ابن عبد السلام: تذكير الأصبع وهو مؤنث، وقد تقدم ما يجاب عنه، وكذلك بتقديرنا قوله:(لَمْ يُضَمَّ)؛ أي اليدين معاً يندفع قوله ابن عبد السلام أيضاً، فقول المصنف:(لَمْ يُضَمْ) منافٍ لقوله: (وخمساً إن كان رابعاً)، والله أعلم.
وَقِيلَ: لا يُضَمُّ شَيْءٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ فِيهِمَا كَالْمَشْهُورِ فِي الأَسْنَانِ وَكَالْمَوَاضِحِ أَوْ الْمَنَاقِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ
…
(فِيهِمَا) أي في الصورتين المتقدمتين إذا كان المقطوع في اليدين أو في كل يد على حالها، ويحتمل أن يعود على اليدين او الرجلين على ما إذا تعدد الضرب وقرب الزمان
بينهما أو بعد، وهذا القول مذهب عبد العزيز بن سلمة، وروى المغيرة عن مالك مثله، وذلك أن هذين الإمامين يقولان: لا يضاف حكم أصبع إلى الآخر إلا أن يقطع من الكف في ضربة واحدة أربع أصابع فتأخذ بحساب عقلها، ثم إن قطع بعد ذلك الأصبع الخامسة يكون خمس، وقال عبد الملك: عشرة. ونحوه عن ابن نافع، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال. انتهى.
وقوله: (كَالْمَشْهُورِ فِي الأَسْنَانِ) يعني أن المشهور فيها عدم الضم، بل تأخذ لكل سن قطعت بعد غيرها خمساً، والقولان لابن القاسم، ورأى في الشاذ الضم كالأصابع. اللخمي: وعدم الضم أقيس، ولا يصح الضم إلا على قول ابن المسيب أن في جميع الأسنان [714/ب] دية كالأصابع في جميعها، وأما على قول مالك أنه لا يقتصر على دية وأن في كل واحدة خمس فلا يحسن، ويكون كالمواضح والمناقل فلا يضم بعضها إلى بعض قالوا: باتفاق.
وَلا يُضّمُّ الْخَطَأُ إِلَى الْعَمْدِ-اقْتَصَّتْ أَوْ عَفَتْ-فَتَاخُذُ لِرَابعٍ وَخَامِسٍ عِشْرِينَ
هذا هو المعروف، ولم يختلف فيه قول ابن القاسم وروايته، قال في البيان: وروى أشهب أنه يحسب عليها من أصابعها ما أصيب به عمداً، وهو قول سحنون والبرقي.
وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ فِي حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَافٍ وَبَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الْجَانِي أَيْضاً عَلَى الأَشْهَرِ مُنَجَّمَةً
…
لما فرغ من تقدير الديات في النس وأجزائها شرع في بيان من هي عليه فذكر أن الدية على العاقلة بشرط أن تكون الجناية خطأ أو في حكمه، وهو العمد الذي لا قصاص فيه كالمأمومة والجائفة، ولا يريد بما في حكمه الدية على الأب فإنه قد تقدم ان المشهور كونها على الأب.
وقوله: (مِنْ غَيْرِ اعْتِرَافٍ) يعني: ويشترط في وجوبها على العاقلة أن يثبت القتل ببينة، أو في معناه من اللَّوْث بخلاف الاعتراف، وسيأتي ما فيه من الخلاف.
قوله: (وَبَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الْجَانِي) شرط ثالث؛ أي أن الدية لا تجب على العاقلة إلا أن تبلغ الثلث.
أبو عمر: وهو قول الفقهاء السبعة خلافاص للشافعي في حملها القليل والكثير، وقوله:(ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الْجَانِي أَيْضاً) أي أيهما بلغ حملته العاقلة، والأشهر مذهب المدونة فلو وجبت على رجل منقلة حملتها العاقلة، ومقابل الأشهر في العتبية أن العاقلة إنما يحتمل ما بلغ ثلث دية المجني دون الجاني، ويظهر الخلاف في المرأة والكتابي والمجوسي، ولعبد الملك ثالث: أن العاقلة لا تحمل إلا ثلث دية رجل كان الجاني رجلاً أو امرأة، وإنما جعلت الدية على العاقلة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كذلك فعل، ولم تجعل على الجاني رفقاً به؛ لأنه معذور بالخطأ، ورفقاً أيضاً بالعاقلة في جعلها عليهم منجمة في ثلاث سنين، وحكى اللخمي عن أشهب أن العاقلة لا تحمل إلا ما زاد على الثلث.
وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ وَفِيما لَمْ يَبْلُغِ الثُّلُثَ فَعَلَى الْجَانِي حَالَّةً
هذا بيان ما احترز عنه، وقوله:(حَالَّةً) هو المشهور، وقيل: إن دية العمد منجمة.
وَجِرَاحُ الْعَمْدِ الَّتِي لا قَوَدَ فِيهَا كَالْمَامُومَةِ وَالْجَائِفَة وَكَسْرِ الْفَخِذِ إِنْ بَلَغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ بخِلافِ قَطْعِ الْيَدِ وَنَحْوِه مِمَّا لَوْ كَانَ لَهُ لَقَطَعَ لأَنَّ هَذَا يَسْقُطُ لِلْعَدَمِ
…
يعني: أنه اختلف في الجراح التي لا قصاص فيها لكونها متالف فكان مالك أولاً يقول: عقلها في مال الجاني. ثم رجع إلى أنه على العاقلة بناءً علىلنظر العمد أو إلى عدم القصاص فكانت كالخطأ، ولمالك ثالث أنها في ماله إلا أن يكون عديماً فعلى العاقلة.
وقوله: (بخِلافِ
…
إلخ) أي أن القصاص في هذا إنما سقط لعدم وجود مثله للجاني فلهذا يكون عقلذلك في ماله، بخلاف المأمومة ونحوها فإن القصاص قد سقط مع أن موضعها قائم.
وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةٌ خَطَأً فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَسَمْعُهُ فَدِيَتَانِ وَنِصْفُ عُشْرٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً وَمَامُومَةُ بضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ
…
نحوه في المدونة، وهو ظاهر على مذهب مالك الي يرى العقل في القلب، واما على قول عبد الملك فإذا كانت الموضحة في اللحي الأعلى من الوجه فكذلك وإن كانت في الدماغ تسقط دية الموضحة، واحترز بقوله:(خَطَأً) مما لو كانت الموضحة عمداً فإنه يقتص له من الموضحة، فإن ذهب عقل المقتص منه وسمعه فواضح، وإن لم يذهب ذلك فدية ذلك في مال الجاني على المشهور.
قوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً ومَامُومَةً) إنما مثل مثالين لينبه على أنه لا فرق بين جرح ومنفعة وبين جرحين.
وقوله: (بضَرْبَةٍ) احترازاً من ضربتين فإن العاقلة لا تحمل الموضحة حينئذٍ؛ لأنها دون الثلث.
وَالدِّيَةُ الْمُغَلِّظَةُ عَلَى الْجَانِي عَلَى الْمشْهُورِ
قد تقدم هذا.
وَلا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ عَمْدٍ وَلا عَبْدٍ وَلا صُلْحَاً ولا قَاتِلاً نَفْسَهُ عَمْداً أَوْ خَطَأً، وَلا اعْتِرَافاً وَلا أَقَلُّ مِنَ الثُّلُثِ
…
أما العمد فلا خلاف أن العاقلة لا تحمله إلا ما تقدم من المتالف، وأما العبد فلأنه إن جنى عمداً اقتص منه، وإن جنى خطأً ففي رقبته، وأما الصلح فإن كان عمن يلزم العاقلة
من دية الخطأ فمن حق العاقلة أن ترده إن شاءت، وإن كنات عن عمد فلا يلزمها الأصل ولا الفرع، وجمهور العلماء على أنه لا شيء في قتل الإنسان نفسه، ورأى الأوزاعي على عاقلته الدية، وسيأتي الخلاف في الاعتراف بالخطأ. قوله:(وَلا أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ) تقدم الكلام عليه.
وَالْعَاقِلَةُ هِيَ الْعَصَبَةُ وَالْحِقَ بِالْعَصَبَةِ أَهْلُ الدِّيوَانِ لِعِلَّةِ التَّنَاصُرِ
هذا ما قال مالك أن العاقلة هي العصبة، ابن الجلاب: قربوا أو بعدوا. ابن عبد البر: وكانت الدية في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتعاقلون بالنصرة فجرى الآن على ذلك، حتى فعل عمر رضي الله عنه الديوان.
قوله: (وَالْحِقَ بالْعَصَبَةِ) مجمل في حمل العقل من حيث الجملة، ويحتمل أنهم يدخلون معهم في الحمل، والأول هو المراد؛ لأن ظاهر كلام مالك وأشهب وأًبغ أن الديوان مقدم على العصبة، وسيصرح المصنف بذلك، وحكى ابن شعبان قولاً بأنه لا مدخل للديوان في [715/أ] العصبة ولا يعقل على الإنسان إلا قومه.
وَقَالَ أَشْهَبُ: بشَرْطِ قِيَامِ الْعَطَاءِ
هكذا نقله اللخمي عن أشهب وابن القاسم، ومعناه أنه إنما يحمل أهل الديوان بشرط قيام العطاء لهم ليعطوا منه.
أشهب: وإن لم يكنعطاءً قائماً يحمل عنه قومه، وإن لم يكن في أهل الديوان من يحمل ذلك لم يدخل معهم الخارجون من أهل الديوان، ويضم إليهم من أهل الديوان أقرب القبائل إليهم.
وَالْمَوَالِي الأَعْلَوْنَ
أي: اتفقوا على دخول المولى الأعلى؛ لأنه من العصبة، وعصبة النسب مقدمة عليه كما تقدم الأقرب فالأقرب من ذوي الأنساب.
وَبَيْتُ الْمَالِ
أي: لمن لا عاقلة له؛ لأنهم كام يرثون يعقلون عنه.
وَلِذَلِكَ يُقْسِمُ مَوَالِي أُمِّ الْمُلاعَنَةِ عَلَى ابْنِهَا فِي الْعَمْدِ، فَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْعَرَبِ فَلا قَسَامَةَ، وَأَمَّا فِي الْخَطَأ فَوَرَثَتُهُ
ولأجل أن الولى الأعلى من العاقلة، لموالي الملاعنةأن يقسموا علىبنها في العمد والدية في الخطأ، وإن كانت من العرب فلا اسمة في المد لعدم العاصب بخلاف الخطأ فتقسم أمه وإخوته لأمه ويأخذون حظهم من الدية، وإلى هذا أشار بقوله:(وَأَمَّا فِي الْخَطَأ فَوَرَثَتُهُ)، ولو أسقط المصنف (أُمَّ)، وقال: مولى الملاعنة لكان أصوب، ولعله من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي الأم الملاعنة.
وَالْمُوَالِي وَالْمُحَالِفُ فَلَيْسَ مِنْهَا
أي: من العاقلة.
وَفِي الْمَوَالِي الأَسْفَلِينَ قَوْلانِ
القول بدخولهم رواه أصبغ عن ابن القاسم، وأكثر مسائل أهل المذهب تدل عليه، والقول بعدم دخولهم لسحنون في كتاب ابنه، وهو أقيس؛ لأنهم ليسوا عصبة ولا ورثة.
وَفِي دُخُولِ الْجَانِي فِي التَّحَمُّلِ رِوَايَتَانِ
استظهره ابن القصار وهو الصواب، وذكر صاحب الإشراف عن بعض أصحابنا أن قول مالك بدخوله استحسان وليس بقياس.
يُبْدَأُ بأَهْلِ الدِّيوَانِ فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى مَعُونَةٍ أَعَانَتْهُمْ عَصَبَتُهُمْ
أي: بأهل الديوان وإن كانوا قبائل شتى، وهكذا في الموازية والعتبية، قال في البيان: وهو خلاف المدونة أن العقل إنما هو على عصبة القاتل فإن اضطر إلى معونة الديوان أعانهم عصبتهم، وفي الموازية: أعانهم من قومه من ليس معهم في الديوان، قال: ما يفعلون ذلك وإني لا أرى ذلك. ابن المواز: ليس ذلك عليهم.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ دِيوَانٍ فَعَصَبَتُهُ وَيُبْدَأُ بالْفَخِذِ ثُمَّ الْبَطْنِ ثُمَّ الْعِمَارَةِ ثُمَّ الْفَصِيلَةِ ثُمَّ أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ ....
هكذا ذكر ابن شاس، وحاصله: البداءة بالأقرب فالأقرب، وما ذكره المصنف راجع إلى اللغة، وحكى الجوهري ما حكاه المصنف عن أبي عبيد عن ابن الكاتب عن أبيه قال: الشعب أكبر من القبيلة ثم العصبة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ، ولنقتصر على هذا فإنه متعلق باللغة لا بالفقه، ونقل ابن كوثر وابن أبي جمرة في وثائقهما عن سحنون أن حد العاقلة سبعمائة منتمون إلى أب واحد، وفي البيان في الديات الأولى أن في رواية سحنون: إذا كانت العاقلة خمسمائة وألف فهم قليل، ويتمم أقرب القبائل إليهم.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ فَمَوالِي فإَِنْ فَبَيْتُ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِماً، وَإِنْ كَانَ ذِمِّياً فَأَهْلُ إِقْلِيِمِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ثُمَّ يَضْرِبُ الأَقْرَبُ الَّذِينَ مِنْ كُوَرِهمْ
أي: الأعلون والأسفلون على الخلاف المتقدم.
وقوله: (إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِماً) هذا شرط في بيت المال؛ لأن ما قبلها من المراتب يشترط فيها المسلم والذمي، وما ذكره المصنف ظاهر على القول بأن مال الكتاب الحر لأهل دينه ولورثته، وأما على قول ابن القاسم بأن ماله للمسلمين فينبغي أن يعقل عنه في بيت المال.
واحترز بقوله: (مِنْ أَهْلِ دِينِه) من اليهودي بالنسبة إلى النصراني وبالعكس.
سحنون: وإذا لزمتهم أي اليهود بمدينة القيروان وإفريقية دخل فيها من إفريقية من اليهود الذين يحملون معهم الخراج فكل من كان يحمل معهم الخراج فكان خراجهم واحداً يأخذون به ويعقلون عنه، وإن لم يكن فيمن معهم الخراج قوة على أداء العقل أسلفهم الإمام ولا يقدحون.
أشهب: وإن دخل إلينا حربي بأمان فقتل مسلماً حبس وأرسل إلى موضعه وكورته فيخبرونهم بما صنع وما يلزمهم في حكمنا فإن أدوا عنه وإلا لم يلزمه إلا ما كان يؤدبه معهم، رواه البرقي عنه، وروي عن سحنون الدية في مال الجاني، وليس على أهل بلده منها شيء، وقال ابن القاسم: ديته على أهل دينه الحربيين، والكُوَر: بضم الكاف وفتح الواو، وجمع كورة بضم الكاف وسكون الواو، الجوهري: وهي المدينة.
فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ صُلْحٍ فَأَهْلُ ذَلِكَ الصُّلْحِ
هكذا قال مالك في الموازية.
وَلا يُضْرَبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ إِلا بمَا لا يَضُرُّ بمَالِهِ وَيُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ بقَدْرِه وَمِمَّنْ دُونَهُ بقَدْرِه، وَلا يُضْرَبُ عَلَى فَقِيرٍ وَلا عَلَى مُخَالِفٍ فِي الدَّينِ وَلا على عَبْدٍ وَلا صَبيِّ وَلا امْرَأَةٍ
…
يعني: أنه لا يؤخذ من كل واحد من العاقلة إلا ما لا يضر بماله؛ فذلك يختلف الضرب بحسب الغني والفقر.
قوله: (وَلا يُضْرَبُ) فهذا بيان منه لموانع ضربها، فلا تضرب على فقير؛ لأنها إعانه والفقير ينبغي أن يعان، ولا على مخالف في الدين لأن علتها التناصر، ولا تناصر مع اختلاف الدين، والعبد كالفقير، والصبي والمرأة [715/ب] لا تناصر فيهم، اللخمي:
خمسة يعقل عنهم ولا يعقلون: الصبيان والمجانين والنساء والفقير والغارم، وإذا كان عليه من الدين بقدر ما في يديه ويفضل له ما يكون به في عدد الفقراء، ولو كان لا شيء بيده فهو فقير.
فَلَوْ بَلَغَ الصَّبيُّ أو قَدِمَ الْغَائِبُ لَمْ يَدْخُلْ، فَلَوْ أُعْدِمَ مَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ لَمْ تُزَلْ
أي: المعتبر من كان موصوفاً بالصفات المتقدمة يوم ضربها؛ فلذلك إن بلغ الصبي أو قدم الغائب لم يدخلا، ولا تزاد على من أيسر، ولو أعدم من جعلت عليه لم تزل.
وَفِيمَنْ مَاتَ قَوْلانِ
الأقرب عدم السقوط لاتفاقهم على العدم، وهو قول ابن القاسم، والقول الآخر لأصبغ، قال: ويرجع ذلك إلى بقية العاقلة.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ أَعْطِيَاتِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ دِرْهَمٌ وَنَصِفٌ
هذا كالبيان لقوله: ولا تضرب إلا بما لا يضر بماله.
وَلا دُخَولَ لِلْبَدَويِّ مَعَ الْحَضَرِيِّ وَإِنْ كَانَتْ قَبِيلَتَهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ خِلافاً لأشْهَبَ، كَمَا لا يَدْخُلُ أَهْلُ مِصْرَ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ، وَبُعَدُّ كَالْعْدُومِ ....
يعني: لا تعقل أهل البادية مع الحاضرة ولا بالعكس وإن كانت قبيلة، وهذا مذهب مالك في المدونة، وبه أخذ ابن القاسم بأنه لا يستقيم أن يكون في دية واحدة إبل وعبر، وأجاز ذلك أشهب، قال: ويخرج أهل البادية ما يلزمهم إبلاً وإن كان الجارح ليس منهم، ويخرج أهل القرى حصتهم عيناً وإن كان الجارح ليس منهم، وإنما تؤخذ الإبل من البدوي بقيمتها.
ابن عبد السلام: وانظر قوله: بقيمتها، وما المانع من أخذها بالجزء من نصف أو ثلث كما لو كان قاتلان أحدهما بدوي والآخر حضري، ولأشهب وعبد الملك قول آخر أن الأقل تبع للأكثر إن كان أهل العمود الأكثر كانت الدية إبلاً ويؤدي معهم أهل القرى ما عليهم إبلاً وبالعكس، وإن كان ما عليهم متناصفاً، زاد عبد الملك أو يقرب بعضهم من بعض فيحمل كل فريق من ذلك ما هم أهله، ورواه ابن وهب عن مالك.
وقوله: (لا يَدْخُلُ أَهْلُ مِصْرَ مَعَ أَهْلِ الشِّامِ) وهو تشبيه لإفادة الحكم، وليس مراده به حجة علىشهب، قال بعض من تكلم على هذا الموضع: ويحتمل الاستدلال؛ لأن ابن القاسم وأشهب اتفقا على ذلك.
وَفِي ضَمَّ مِثْلِ كُوَرِ فَسَطَاطِ مِصْرَ إِلَيْهِا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
يعني: أنه اختلف في مثل ضم أعمال مصر إليها، فقال بالضم ابن القاسم، وقال أشهب بعدمه، وحكى عن أشهب أيضاً الضم، وهو الأقرب لأن البلد الواحد قد يضيق عن حملها، وذهب أن مصر لا يضيق فليس غيرها كهي، والمراد بفسطاط مصر نفس المدينة، وأما مصر إذا أطلقت فقال اللخمي: مراد ابن القاسم بمصر أهل الكورة، ومصر من أسوان إلى الإسكندرية، وقال سحنون في إفريقية: بضم عقلها بعضها إلى بعض من طرابلس إلى طبنة.
خليل: ومن انقطع من أهل جهة فسكن جهة أخرى اختبر الموضع الذي انتقل إليه، وأشار غير واحد إلى أنه بنفس الانتقال يتغير الحكم؛ يعني إذا فرضت الدية ولو في اليوم الذي انتقل فيه، وقال بعضهم: لابد أن تكون تقدمت قبل ذلك بأربعة أيام، وهذا الخلاف أشار بعض الشيوخ إلى تخريجه هنا من مسائل المقدمات.
وَتُنَجَّمُ الْكَامِلَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَغَيْرِه ثَلاثَ سِنِينَ أَثْلاثاً وَفِي آخِرِهَا مِنْ يَوْمِ الْحُكُمِ
أي: الدية الكاملة على المسلم؛ أي المأخوذة من قبل المسلم أو غيره، ونبه بذلك حتى لا يتهم أن الكاملة مقصورة على دية المسلم؛ إذ هي أكمل الديات.
وقوله: (ثلاثَ سِنينَ) لا خلاف في ذلك.
ابن عبد البر: وما قيل: في أربع فشذوذ: و (أَثلاثاً) منصوب على الحال؛ أي متساوية، وقوله:(فِي آخِرِهَا) زيادة في البيان؛ إذ لو كان الدفع في أول كل سنة لزم أن تكون في سنتين، وهو مناقض لجعلها في ثلاث.
قوله: (يَوْمِ الْحُكْمِ) أي يوم القتل أو يوم الخصام.
وَفِي حُلَولِ غَيْرِ الْكَامِلَةِ قَوْلانِ
هما روايتان، والمشهور التنجيم، وهو الموافق لقضاء عمر؛ لأنه فرض ثلثي الدية في سنتين، نقله ابن عبد البر، ولأنه إذا قيل بالحلول يكون في غير الكاملة أكثر من الكاملة؛ لأن الثلاثة الأرباع أو الثلثين إذا كانت حالة قد يكون أكثر من قيمة فيسعها مؤجلاً.
وَعَلَى تَنْجِيِهِ فَفِي ثَلاثِ سِنينَ، أَوْ بالنِّسْبَةِ قَوْلانِ
يعني: وإذا فرعنا على القول بتنجيم غير الكاملة فاختلف: هل ذلك في ثلاث سنين أو بالنسبة فيكون الثلث في سنة والنصف في سنة ونصف؟ ومقتضى كلامه أنه لو وجب الثلث على القول الأول نجم في ثلاث سنين، وهذا لا يوجد، وإنما ذلك بشرط أن يزيد الواجب على الثلثين كثلاثة أرباع الدية وخمسة أسداس.
وَعَلَى النِّسْبَةِ فَفِي مِثْلِ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ ثَالِثُهَا: يَنْظُرُ الْحَاكِمُ، وَالْمَشْهُورُ التَّنْجِيمُ بالأَثْلاثِ، وَلِلزَّائِدِ سَنَةٌ فَالنِّصْفُ وَالرُّبُعُ فِي ثَلاثَةٍ
…
يعني: واختلف إذا بنينا على القول بالنسبة في مثل النصف والثلاثة الأرباع، قيل: يجتهد الإمام فيه إن رأى أني جعله في سنتين أو في سنة ونصف، وأخذ ابن القاسم في المدونة بالسنتين، فقال: وفي سنتين أحب إلى لما جاء أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع، وقال أشهب: في النصف يؤخذ الثلث إذا مضت سنة، والسدس الباقي [716/أ] إذا مضت السنة الثانية، وزاد اللخمي عن مالك قولاًآخر في النصف بأن يكون في سنة ونصف، قال في المدونة إثر الروايتين: أو ثلاثة أرباعها في ثلاث سنين، وقال في خمسة أسداسها؛ يجتهد الإمام في السدس الباقي.
عياض: يعني يجتهد حتى يجعل في أول السنة الثالثة أو وسطها أو آخرها، وقيل: يأتي على قوله في ثلاثة أرباع الدية في ثلاث سنين ربع كل سنة أن يقسم خمسة أسداس الدية على ثلاثة سنين. انتهى.
ولم أر ما شهره المصنف فضلاً عن ان يكون شهوراً، ولعله أخذه مما في المدونة أن الثلاثة الأرباع في ثلاث، ثم إن القولين المتقدمين من كلام المصنف. وقوله:(التَّنْجِيمُ بالأَثْلاثِ، وَلِلزَّائِدِ سَنَةً) وفي بعض النسخ (نسبة).
ابن عبد السلام: والثانية هي الصواب؛ لأنه على الأولى يكون تكراراً مع القول المتقدم، وأن غير الكاملة تكن في ثلاث سنين على السواء، وعلى هذا يكون الثلثان في سنتين وللزائد أيضاً سنة.
ثم قوله إثر هذا: (فالنصف والربع في ثلاث سنين) بغير النسخة الأولى.
ابن المواز: إن جاوزت الثلثين فأمر بين فهي كالكاملة، وإن جاوزت بالشيء اليسير فذلك كل شيء.
الباجي: وإذا قلنا ما زاد على الثلثين يقطع في ثلاثة أعوام، فقال أشهب: يقطع في كل سنة ثلاثة، وإن لم يكن له مال قطع في سنتين، واستحسن أن تكون الزيادة في آخر السنتين، قال: وإن كانت ثلثاً وزيادةيسيرة فهي في سنة، وإن كان له بال ففي السنة الثانية، قال ذلككله ابن سحنون عن أبيه.
وَحُكْمُ مَا وَجَبَ عَلَى عَوَاقِلَ مُتَعَدِّدَةٍ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فِي التَّنْجِيمِ حُكْمُ الْعَاقِلَةِ كَمَا أَنَّ حُكْمَ مَا وَجَبَ بالْجِنَايَات الْمُتَعَدِّدَةِ خَطَأً فِي حَمْلِ الْعَاقِلَةِ حُكْمُ مَا وَجَبَ بالْجَانِي الْوَاحِدِ ....
أي: أن اتحاد الجناية مع تعدد الجاني يجعل حكم العاقلة الواحدة عشرة رجال حملوا خشبة وقطعت منهم على رجل فإن الدية تنجم على عاقلة كل واحد منهم، ويكون على قبيلة كل واحد منهم عشر الثلث في كل سنة من الثلاث كما أن الجنايتين المتعددتين من قبيلة حكمهما حكم ما وجب بالجاني الواحد فتنجم عليها الجناية وإن تعددت، وهيمصيبة نزلت عليها، ونبه المصنف على هذا دفعاً لتوهم أن الجناية الثانية إنما تنجم على العاقلة بعد وفائهم الأولى.
وَتَجِبُ فِي الْجَنِينِ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى عَمْداً أَوْ خَطَأً إِذَا كَانَ حُرّاً مُسْلِماً - حُرّاً كَانَ أَبُوهُ أَوْ عَبْداً-فِي مَالِ الْجَانِي غُرَّةٌ
…
قد تقدم الحديث المقتضي لذلك، ثم لا فرق في الجنين بين أن يكون ذكراً أو أنثى ولا أن يكون بفعل عمد أو خطأ بشرط أن يكون حرّاً، إما أن تكون أمه حملت به وهي حرة، وإما أن تكون أمهُ لأبيه، وبشرط أن يكون محكوماً له بالإسلام. وسيأتي الكلام على الجنين المحكوم له بالرق والكفر.
وقوله: (فِي مَالِ الْجَانِي) متعلق بـ (تَجِبُ)، وهذا مذهب المدونة، وروى أبو الفرج أن العاقلة تحملها؛ لأنها دية شخص قائم بنفسه، والأول مقيد بألا تكون دية الجاني، ففي
المدونة: وإن ضرب مجوسي أو مجوسية بطن مسلمة خطأ فألقت جنيناً ميتاً حملته عاقلة الضارب، والتخويف حتى تسقط موجب الغرة كالضرب بشرط أن يثبت التخويف أنه أمر يخاف منه وأن يشهد الشهود أنها لزمت الفراش منذ تخوفت إلى أن يسقط، وشهد النساء على السقط.
وَهُوَ مَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَلَدٌ مُضْغَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا
هذا الباب وما تكون به أم الولد وما تحل به المعتدة واحد، وقد تقدم خلاف ابن القاسم في الدم المجتمع الذي لا يذاب بالماء الساخن، وقد يقال: كلام المصنف هنا يوهم قصر الحكم على المضغة فما بعدها إلا أن يقال: غيرها يعم.
وَفِي جَنِينِ الذَّمِّيِّ نِصْفُهَا
أضاف الجنين للذمي لأنه تابع لأبيه، (نِصْفُهَا) أي نصف دية جنين المسل، ومراده بالذمي الكتابي؛ لأن المجوسي لا تبلغ ديته النصف لأن دية الجنين إما عشر دية أمه أو نصف عشر دية أبيه، فدية جنين المجوسي أربعون درهماً.
وَفِي جَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قِيمَةِ الأُمِّ، وَقِيلَ: مَا نَقَصَهَا
الأصل مذهب المدونة، ولا التفات إلى حرية أبيه لأنه تابع لأمه في الرق، والقول الثاني لابن وهب، ومنشأ الخلاف هل قيمة الأمة كدية الحرة، والأمة مال فكانت كسائر البهائم فإنه ليس فيها إلا ما نقص، ولو تزوج نصراني مجوسية أو بالعكس ففي جنينها قولان: هل على حكم أبيه أو حكم أمه؟ والأول أصح، وكذلك اختلف في العبد المسلم يكون زوج الكتابية، فقال ابن القاسم: تجب في ولده غرة؛ لأن ولدها حر من قبل أمه ومسلم من قبل أبيه، وقال أشهب: فيه عشر دية أمه.
وَالْغرَّةُ: عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ مِنَ الْحُمْرِ عَلَى الأَحْسَنِ أَوْ مِنْ وَسَطِ السُّودَانِ
(الْحُمْرِ) هم البيض، قال صلى الله عليه وسلم:"بعثت إلى الأحمر والأسود".
وقوله: (عَلَى الأَحْسَنِ) أي الأفضل، وليس المراد على القول الأحسن وإنما استحب الحمر؛ لأنه اختلف: هل للفظ الغرة زيادة على الرقبة بحسب اللغة؟ فقيل: لا زيادة، ولهذا فسرها الباجي بالأسنان وغيره بالسمت، وبعض الشيوخ برقيق الخدمة [716/ب] لا عليه، وقيل: بل هي مأخوذة من غرة الفرس فلابد عنده أن تكون من البيض، وإلى ذلك ذهب ابن عبد البر، وقيل: هي مأخوذة من الغرة بمعنى الخيار والأحسن؛ لأن الغرة عند العرب أحسن ما يملك، فلهذا الاختلاف استحب مالك الحمر ولم يوجبه، قال في المدونة: وإن قل الحمر بتلك البلد فلتؤخذ من السودان، قال في المجموعة: من وسط السودان.
ابن عبد السلام: ولم أرَ لأصحابنا في سن الغرة حداً، وقال الشافعي: أقله سبع سنين.
وَمَهْمَا بَذَلَ خَمْسِينَ دِينَاراً أَوْ سِتُّمَائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ غُرَّةٌ تُسَاوِي أَحَدَهُمَا وَجَب الْقَبُولُ، وَإِلا لَمْ يَجِبْ إِلا أَنْ يَتَرَاضَوْا
…
ظاهره تخيير الجاني وهو موافق لقول اللخمي الذي يقتضيه قول مالك وابن القاسم وأشهب أن الجاني بالخيار، يريد أن يغرم الغرة أو يأتي بعشر دية الأم من كسبهم، إما ذهب أو ورق، وظاهر المدونة خلافه؛ لأن فيها بعد نصه أن ذلك غرة عبد أو وليدة، والقيمة في ذلك خمسون ديناراً أو ستمائة درهم، وليست القيمة بستة مجمع عليها، وإنما أرى ذلك حسناً فإذا بذل الجاني عبداً أو وليدة أجبر على أخذه إن شاء، وأما بذل خمسين ديناراً أو ستمائة درهم، وإن ساوى أقل من ذلك، لم يجبروا على أخذه إلا أن يشاءوا، فلم ينص على الجبر إلا في الوليدة، ولذلك قال أبو عمران: انظر إن أتى الجاني بخمسين ديناراً أوستمائة
درهم هل يجبرون على أخذها، وهل تجوز أو يواطئه عليها أو يؤخره لها أو يكون ذلك ديناً بدين كما هو في قتل الخطأ إن راضوه على غير العين مؤجلاً؟ واستشكل اللخمي اشتراط أن تكون الغرة تساوي هذا القدر، قال: لأن المذكور فيالحديث الغرة، ولم تعتبر القيمة، وأثمان العبيد تختلف في البلدان، فلو وجبت الغرة بموضع لا يساوي ذلك لم يلزم بأكثر.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا تُؤْخَذُ الإِبِلُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِهَا خَمْسَ فَرَائِضَ
قال في المدونة: لأنه قد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة والناس يومئذ أهل إبل، وإنما تقويمها بالعين مستحسن، واختار محمد وغيره قول أشهب، وحسَّن محمد الخمس بأن تكون بنت مخاض وبنت لبون وابن لبون ذكر وحقة وجذعة، وقاله ربيعة، ونقل ابن شعبان والباجي عن أشهب هذا التفسير أيضاً.
أصبغ: ولا أحسب ابن القاسم إلا قال بالإبل، ورواه عنه ابوزيد، واعترض ابن المواز حجة ابن القاسم بأن الحديث ليس فيه إبل؛ لأنه قد وافق على الورق والذهب.
وَغُرَّةُ الْجَنِينِ مُشْتَرَطَةٌ بانْفِصَالِهِ مَيِّتاً قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ
اتفق على وجوب الغرة إذا انفصل في حياة أمه، واختلف إذا انفصل بعد موتها فالمشهور لا غرة فيه كعضو من الميتة، والثاني: لأشهب في الموازية.
فَإِنِ انْفَصَلَ بَعْضُهُ فِي حَيَاتِهَا فَقَوْلانِ
هو فرع على المشهور؛ أي إذا اشترط خروجه في حياتها فهل يقوم مقامه خروج بعضه، والقولان ذكرهما ابن شعبان.
ابن راشد: والظاهر منق ول مالك أنه لا شيء فيه، وفي بعض النسخ: فإن انفصل بعد موتها أو بعضها في حياتها قولان، والنسخة الأولى أصوب لما يلزم على هذه من التكرار.
فَإِنِ انْفَصَلَ حَيّاً مُطْلَقاً وَالْجِنَايَةُ خَطَأً وَتَرَاخَى الْمَوْتُ فَالدِّيَةُ بقَسَامَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاخَ فَفِي الْقَسَامَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ
…
يعني: فإن انفصل الجنين حيّاً قبل موت أمه أو بعده، وهو مراده بـ (مُطْلَقاً) فإن تراخَ موته فالدية بقسامة لاحتمال أن يكون مات من غير ضربة، وإن لم يتراخَ الموت فقال ابن القاسم: لابد من القسامة أيضاً، وقال أشهب: لا يحتاج إلى القسامة، واستحسنه اللخمي، قال: لأن محله إذا مات بالحضرة أن ذلك عن الضربة كغير الجنين، والفرق لابن القاسم أن هذا المولود لضعفه يخشى عليها الموت بأدنى الأسباب، ولو قال المصنف عوض قوله:(حَيّاً)(واستهل) لكان أحسن، فقال ابن المواز: لو خرج حيّاً ولم يستهل حتى قتله رجل لا قود فيه وإنما فيه الغرة، وعلى قاتله الأدب، قال: وقال بعض العلماء: فيه دية كاملة.
فرع:
وإذا اشترطنا القسامة فأبى الأولياء عنها فحكى صاحب النكت عن بعض شيوخه أن لهم الغرة كمن قطعت يده ثم تراخىفمات، فأبوا أن يقسموا فإن لهم دية اليد. عبد الحق: وهو عندي غير مستقيم بل ليس لهم الغرة لأن الجنين لما استهل صارخاً صار من جملة الأحياء، وزالت ديته عن الغرة.
وَإِنْ كَانَتْ عَمْداً فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ إِنْ تَعَمَّدَ هَذَا الْجَنِينَ بضَرْبِ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ فَالْقَوَدُ بِقَسَامَةٍ
…
يعني: وإن كانت الجناية عمداً، والإشارة بذلك إلى تراخي موته وعدم تراخيه، والأول هو قول أشهب وقول ابن القاسم الذي جعله شاذاً هو مذهب المدونة والمجموعة، وألحق ابن شاس ضرب الرأس بالظهر والبطن بخلاف الرجل وشبهها، ونص ابن أبي زيد في مختصره على أن ضربها في الرأٍ كالرجل في نفي القصاص
[717/أ] ووجوب الدية في مال الجاني، وصرح الباجي بالمشهور كالمصنف فقالا: المشهور قول مالك أنه لا قود فيه وإن كان الضرب عمداً.
وَإِذَا تَعَدَّدَ الْجَنِينُ تَعَدَّدَ الوَاجِبُ مِنْ غُرَّةٍ أو دِيَةٍ
يعني: عن غرة إن لم يستهل، ودية إن استهل.
وَالدِّيَةُ مُطْلَقاً تُورَثُ كَمَالِ الْمَيِّتِ
(مُطْلَقاً) سواء كانت عن عمد أو عن خطأ، وقد قضى عمر رضي الله عنه بتوريث المرأة من دية زوجها لما روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسألة لا تناسب الجنين، وكأنه أراد التوصل إلى الكلام على دية الجنين، ولهذا قال:
وَغُرَّةُ الْجَنِينِ وَدِيَتُهُ كَذَلِكَ
يعني: أنهما موروثان على فرائض الله، وروي عن مالك أنها للأبوين فقط على الثلث والثلثين، فإن لم يكن إلا أحدهما فجميعها له، وهو قول ابن هرمز، ثم رجع مالك إلى الأول، وهو قول ابن شهاب، وقال ربيعة: هي للأم خاصة؛ لأنها ثمن عن عضو منها، اللخمي: وهو أحد قولين ابن القاسم، وانظر قول مالك وابن هرمز: فإن لم يكن إلا أحدهما فهي له، فكيف يتصور أن ينفرد الأب؟ ّ
عبد الحق: وإنما يتصور إذا خرج الجنين بعد موتها على القول الذي يقول: إن فيه الغرة، وأما على قول ابن القاسم في الكتاب فلا.
وَلِِذَلكَ لَوِ اسْتَهَلَّ صَارِخاً بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ وَرِثَهَا وَوَرِثَ مَا أَلْقَتْهُ مَيَّتاً قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ
أي: ولكون الدية تورث عنه، (لَوِ اسْتَهَلَّ صَارِخاً بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ) يريد: ثم مات ورثها، يريد لأنه حي بعد موروثه، (ووَرِثَ مَا أَلْقَتْهُ َمَيِّتاً) قبل موتها، وسواء ألقته قبل موت المستهل أو بعده، ولا إشكال إن ألقته بعده، وكذلك إذا ألقته قبله لأن الجنين يرث.
وَإِنِ انْفَصَلَ مِنْهَا مَيِّتاً بَعْدَ مَوْتِهَا فَكَالْعَدَمِ
أي: لا يرث لعدم حياته ولا يورث؛ إذ لا غرة على لمشهور.
الكَفَّارَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إِذَا قَتَلَ حُرّاً مُؤْمِناً مَعْصُوماً خَطَأً
هذا هو الموجب الثالث من موجبات الجراح، ودليله قوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَئاً)[النساء: 92] الآية، وقوله:(عَلَى الْحُرِّ) احترازاص من العبد؛ لأن الله تعالى قال: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)، والعبد لا يصح له ذلك إذ لا ولاء له، واحترز بـ (الْمُسْلِمِ) من الكافر فلا تجب عليه؛ إما لأنه غير مخاطب، وإما لعدم أهليته للقربة، وقوله: (إِذَا قَتَلَ
…
إلخ)، ذكر للمقتول أربعة شروط:
أولها: الحرية فلا تجب الكفارة في قتل العبد، نعم تستحب كما سيأتي، وظاهر الآية أن فيه الكفارة لأنه مؤمن، وهو ظاهر قول أشهب لقوله: فليعتق، نقله عنه ابن راشد.
ثانيها: الإيمان للآية. ثالثها: أن يكون معصوماً. رابعاً: أن يكون خطأً.
ابن عبد السلام: فإن قيل: لِمَ غير المصنف العبارة فذكر الإسلام في حق القاتل والإيمان في حق المقتول؟ قيل: الأصل في الأحكام التي بطلت ظهورها فيما بين الناس أن تكون معلقة على ظاهر مثلها، وهو ههنا الإسلام؛ لأنه ههنا وصف ظاهر، وكفارة القتل من هذا النوع، ولكن أتى المصنف بوصف الإيمان لأنه المطابق للآية، فإن قيل: فهل يظهر لذكر الإيمان في الآية بالنسبة إلى القاتل والمقتول معنى، قيل: نعم؛ لأن الإيمان مستلزم للمراقبة الحاملة على توقي أسباب القتل، وأدعى للتحرز من إذابة الممن لأخيه المؤمن بلسانه فكيف بيده فكيف بقتله؟!
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمَنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعَيُوبِ لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ وَلا عَقْدُ عِتْقِ كَرَقَبَةِ الظِّهَارِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ انْتَظَرَ أَحَدَهُمَا
…
أي: هي تحرير، وقد تقدم الكلام على شروط الرقبة، ومن لم يجدها فعليه صيام شهرين متتابعين بنص الآية، وكلامه ظاهر.
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الصَّبيِّ وَالْمَجْنُونِ
جعلوا الكفارة من باب خطاب الوضع؛ لأنها لما كانت عن النفس أشبهت عوض المتلفات، فإن كان لهذا دليل من إجماع أو غيره فيجب التسليم، وإلا فالظاهر سقوطها عنهما، وردها إلى خطاب التكليف.
وَفِي اسْتِحْبَابِهَا فِي الْجَنِينِ رِوَايَتَانِ
أي: وعدم استحبابها، والروايتان معاً في الموازية لأن فيها: أحب إلي أن يُكفِّر، ابن المواز: وقال أشهب: لا كفارة عليه وليست بنفس، وكأنه جرحها جرحاً، وفي المدونة: واستحسن مالك الكفارة في الجنين، قيل: وظاهر قول أشهب: لا كفارة فيه خلاف المدونة.
أبو الحسن: وقوله: استحسن؛ أي: استحب، ولم يرد الاستحسان الذي هو أحد الأدلة، وقول ابن عبد السلام: هذكا عبر غير واحد بلفظ الاستحباب، وعبارة الإمام فيه وفي الرقيق بالاستحسان في الحكم، والاستحسان مدركه ليس بظاهر.
وَتُسْتَحَبُّ فِي الرَّقِيقِ وَالذَّمِّيِّ وَالْعَمْدِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ وَقَاتِلِ مَنْ لا يُكَافِئُهُ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ
…
أي: وتستحب في جميع هذه الأشياء، والمذهب كما ذكر استحبابها في العمد والشافعي يوجبها فيه، ويرى أنها إذا وجبت في الخطأ فوجوبها في العمد أولى، والخلاف كالخلاف في اليمين الغموس.
وقوله: (وَقَاتِلِ مَنْ لا يُكَافِئُهُ) هذا محمول على العمد، والكلام الأول في الخطأ ولا يلزم التكرار؛ لأنه حينئذٍ لا يستفاد من قوله: (وَقَاتِلٍ مَنْ لا يُكَافِئُهُ
…
إلخ) إلا ما استفيد من قوله: [717/ب](وَتُسْتَحَبُّ فِي الرَّقِيقِ وَالذَّمِّيِّ)، وهذا إنام يأتي على تمشية ابن راشد وابن عبد السلام أن قوله:(وَقَاتِلِ مَنْ لا يُكَافِئُهُ) معطوف على (الرَّقِيقِ)، ويحتمل أن يكون (قَاتِلِ) مرفوعاً على الابتداء، (وَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ) معطوف عليه، والخبر يضرب ويحبس، وكنا الأحسن على هذا أني قول: يضربان ويحبسان لكنه أفرده باعتبار المذكور، أو حذف خبر قاتل لدلالة خبر (عُفِيَ عَنْهُ)، وعلى هذا مشاه بعض من تكلم على هذا الموضع، وهو أقرب لعدم لزوم التكرار، ولأنه كذلك في ابن شاس، والأول أقرب إلى لفظه، ولا سيما وقع في بعض النسخ:(وقتل) على المصدر.
فرع:
اختلف الصحابة ومن بعدهم في قبول توبة القاتل وعدم قبولها.
ابن عبد السلام: واستحسان مالك الكفارة في قتل العمد مشعر بأن القاتل عنده في المشيئة، وإن كان له ما يدل على خلاف ذلك على ما نقله ابن رشد أنه لا يصلي خلفه وإن تاب.
وَمَنْ عُفِي يُضْرَبُ مَائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ رَقِيقاً عَلَى الأَشْهَرِ
لما فرغ من الموجب الثالث وهو الكفارةشرع في الموجب الرابع وهو التعزير، وأما الموجب الخامس وهو القيمة فإنما تجب في غير الحر، وقد تقدم ذلك، والأصل في ذلك ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:"أن رجلاً قتل عبده متعمداً فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقدْهُ به وأمره أن يعتق رقبة".
عبد الحق: في إسناده إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في غير الشاميين، وهذا الإسناد حجازي، وأنكر غيره عليه هذه العلة هنا، وجعل أهل المذهب هذا الحديث أصلاً في
قاتل النفس عمداً إذا تعذر منه القصاص لوجه ما، وهذا الاستناد حجازي، ومقابل الأشهر لأصبغ، قال: لا يحبس العبد ولا المرأة ولكن يجلدان، قال في الجواهر: وعلىهذا التعزير: في كل من قتل عمداً ولم يقتل كمن قتل من لا يكافئه كالمسلم يقتل الكافر وكالحر يقتل العبد، وفيمن عفي عنه في العمد. انتهى. ولا فرق في العبد بين عبده وغيره، نص عليه ابن القاسم وغيره.
وَكَذَلِكَ مَنْ أُقْسِمَ عَلَيْهِمْ فَقُتِلَ أَحَدُهُمْ
أي: وكمن عفي عنه في الضرب والسجن، وظاهر قوله:(أُقْسِمَ عَلَيْهِمْ) أن الأولياء يقسمونعلى الميع ثم يقتلون واحداً، وهذا خلاف المشهور، فإن المشهور أنهم يعينون أحداً بالقسامة كما سيأتي.
ولو كان العفو قبل القسامة قبل أن يحقق الولي الدم كشف الحاكم عن ذلك، فما كان يحق فيه الدم بالقسامة أو بالبينة جلد مائة وحبس عاماً، وما لا يوجب ذلك لا يكون ضرب ولا سجن؛ لأنه حق لله تعالى فلا يسقطه الأولياء ولو وجب للأولياء القسامة فنكلوا عنها فحلف المدعي عليهم وبرءوا، قال محمد: على المدعي عليه الجلد والسجن، ولم يخالف فيه إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: إذا نكلوا فلا سجن ولا جلد، وجمهورهم على هذا الحكم في كل مقتول ولو كان مجوسياً، وروى ابن حبيب عن مالك واختاره: إنما ذلك في المسلم عبداً كان أو حرّاً وأما غير المسلم فإنه يجب به الأدب المؤلم، واختلف في الألطخ فأوجب أشهب فيه ضرب مائة وسجن سنة، وفي الواضحة عن مالك: إذا وقعت التهمة على أحد ولم يتحقق ما تجب به القسامة ولا قتل فإن ذلك لا يجب به جلد ولا سجن سنة، ولكن يطال سجنه السنين الكثيرة.