الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحِرَابَةُ:
كُلُّ فِعْلِ يُقْصَدُ بهِ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَتَعَذَّرُ الاسْتِغَاثَةُ عَادَةً مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ حُرَّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأَمَنٍ
…
عبر بالحرابة إشارة إلى أن الأصل هنا الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ..} [المائدة: 32] الآية. وهذا مذهب المحققين أن الآية محمولة على هذه الجناية، وقيل: نزلت في المشركين الحربيين، وقيل: في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه، وال في العربيين ارتدوا في زمانه عليه الصلاة والسلام والصحيح الأول، ولو كان المقصود الكفار ما شرط في توبتهم كونها قبل القدرة عليهم، والمرتد ليس حده القطع والنفي.
وقوله: (كُلُّ
…
إلخ)، ليس هو حداً ولا رسماً؛ لأن الحد للماهية من حيث هي، ولفظة (كُلُّ) فيها تعرض للأفراد.
وقوله: (تَتَعَذَّرُ الاسْتِغَاثَةُ) أي: معه، والكلية يلزم اطرادها ولكن يرد عليه غصب من لا يقدر علىدفعه من سلطان أو غيره أيضاً، فليس شرط المحاربة المال فقد قال ابن القاسم فيمن منع قوماً يخرجون إلى الشام أو مصر أو مكة: إنه محارب، ويجاب عن الأول بأن الغاصب ولو كان سلطاناً لا تتعذر الاستغاثة عليه، فإن العلماء أهل الحل والعقد يأخذون عليه، وعن الثاني أنه تكلم على الغالب، على أنه سيتكلم على ذلك بقوله: (وَمُخِيفِهَا
…
إلخ)، والغيلة تدخل تحت هذه الكلية؛ لأن حقيقتها أن يخدع غيره ليدخله موضعاً ويأخذ ما معه، ولا يقبل قوله:(تَتَعَذَرُ مَعَهُ الاسْتِغَاثَةُ) ليس بجيد؛ لأن المسلوب يستغيث [740/ب] سواء وجد مغيثاً أو لم يجد، فكان ينبغي أن يقول: تتعذر معه الإغاثة لأن استغاثة المعدوم ومن لا تنفع إغاثته كالمعدوم.
وقوله: (مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ) صفة لفعل؛ أي: فعل كائن من رجل أو امرأة، ونبه بقوله:(أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَامَنٍ) على من قال: إنها لا تكون إلا بين المسلمين، والله أعلم.
وَمُخيفِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَإِنْ لَمْ يَاخُذُ مَالاً، وَالْمَاخُوذُ بحَضْرَةِ الْخُرُوجِ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُخِفِ السَّبيلَ
…
أي: ومخيف الطريق؛ لأنها تفهم من السياق، (وَإِنْ) في كلامه في الموضعين للمبالغة في كل واحد منهما على الاستقلال؛ إذ لو قال: وإن لم يقتل ولم يأخذ، لأفاد ترتيب الحكم على المجموع، ولا يلزم منه ترتيبه على كل من الجزأين، ومعنىكلاهم أن مطلق إخافة الطريق موجب لكونه محارباً سواء قتل أم لا، سواء أخذ مالاً أم لا، وكذلك أيضاً المأخوذ بحضرة الخروج وإن لم يخف الطريق، وهذا مذهب المدونة ففيها على اختصار ابن يونس: وكذلك إن لم يخفوأخذ مكانه قبل أن يتقادم أمره، أو أخرج بعضاً وأخذ مكانه فهو مخير فيه وله أن يأخذ في هذا بأيسر الحكم، وكذلك النفي والضرب والسجن.
أبو الحسن: وظاهرها أنه مخير فيمن أخذ بالحضرة، ولم يحصل منه الإخافة، وكذلك قال اللخمي: إن أخذ قبل الإخالة لا يجري عليه شيء من أحكام المحارب وإنما يعاقب، وهو بمنزلة من خرج ليسرق أو يزني ولم يفعل، واستدل على ذلك لمالك في الموازية: في رجل خرج بسيفه قاصداً لقتل رجل أنه لا يقتل ولا يقطع، وكلام اللخمي ظاهر في المعنى إلا أن النص على كلامه كما تقدم، وفي بعض النسخ:(وإن لم يخف القتل)؛ يعني: أن المأخوذ بحضرة الخروج محارب وليس للإمام قتله، وهو يأتي على بعض القرويين واللخمي كما تقدم.
فَقَاطِعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ مُحَارِبٌ
لأن الذمي معصوم المال كالمسلم وعطفه بالفاء ليرتبه على ما قبله.
وَمُشْهِرُ السِّلاحِ لِذَلِكَ مُحَارِبٌ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِداً فِي مَدِينَةٍ
(لِذَلِكَ) أي لأخذ المال (وَإِنْ كَانَ) أي: المحارب واحداص في مدينة، وهذا قول ابن القاسم، وقال ابن الماجشون: ولا يكون محارباً في القرية إلا أن يريد بذلك القرية كلها، فأما المختفي في القرية لا يؤذي الواحد والمستضعف فلا.
وَالذي يُسْقِي السَّيْكَرَانَ لِذَلِكَ مُحَارِبٌ
أي: لأخذ المال، ونحوه في المدونة.
عياض: وظاهر الموازية إنما يكون حرابة إذا كان ما سقاه يموت منه، ولعله يريد ما نقله اللخمي عنها في رجل أطعم قوماً سويقاً وأخذ متاعهم فمات بعضهم وليط بعضهم فلم يفيقوا إلى الغد، فقال الفاعل: ما أردت قتلهم، إنما أعطانيه رجل وقال: إنه يسكر، فأردت إخدارهم وأخذ أموالهم، لا يقبل قوله ويقتل، ولو قال: ما أردت إخدارهم ولا أخذ أموالهم وإنما هو سويق في شيء فيه، إلا أنه اخذ أموالهم حين ماتوا، فلا شيء عليه إلا الغرم، وفي العتبية نحوه على قصد الإسكار وأخذ المال لا على قصد الموت.
وَالسَّارِقُ فِي اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ فِي دَارٍ أَوْ زُقَاقٍ مُكَابَرَةً تَمْنَعُ الاسْتِغَاثَةَ مُحَارِبٌ
لأنه لماكابر على وجه يمنع الاستغاثة كان محارباً؛ لأن السرقة أخذ المال خفية، ولو أخذ السارق المال فلما نوزع فيه قاتل حتى خرج به، فنص اللخمي وغيره على أنه سارق؛ لأن قتاله حينئذٍ ليدفع عن نفسه.
اللخمي: وإن علم به قبل أن يأخذ المتاع فقاتل حتى أخذه فهو محارب عند مالك، وليس بمحارب عند عبد الملك، وأما الغاصب فيقتل المغصوب منه بإثر الغصب خشية أن يطلبه، فقال اللخمي: ليست بحرابة وإنما هي غيلة وفي كونها غيلة نظر، فقد قال مالك فيمن لقي رجلاً فسأله طعاماً فأبى وأخذه وعنفه، ونزع منه الطعام وأخذ ثيابه، قال: هذا يشبه المحارب إلا أن حكمه الضرب والنفي، وكذلك الذي توجد معه الدابة فيقر أنه وجد عليها رجلاً فأنزله عنها وأخذها، فإنه يضرب وينفى، وقال في الذي يجد الرجل في الصحراء وعند العتمة فينزع عنه ثيابه: أنه لا يقطع إلا أن يكون لصاً أو محارباً، قال: والذي يلقى الرجل في الليل فيكابره على ثوبه حتى يزيله عنه فإنه لا يقطع أيضاً، قال: وإنما المحارب من حمل على غير ثائرة ولا عداوة فأخاف السبيل وضر بالمسلمين.
وَمُخَادِعُ الصَّبِّي حَتَّى أَدْخَلَهُ مَوْضِعاً فَيَاخُذَ مَا مَعَهُ مُحَارِبٌ
لأنه أخذ ما عليه على وجه تتعذر منه الاستغاثة، ومخادعة الصغير كمخادعة الكبير، وقد تقدم أن الغيلة تدخل في الحرابة.
وَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ باتِّفَاقٍ، وَفِي دُعَائِهِ إِلَى التَّقْوَى قَبْلَهُ إِنْ أَمْكَنَ قَوْلانِ
هذا نقل ابن المواز اتفاق مالك وأصحابه على جواز القتال، وفي المدونة: وجهاد المحاربين جهاد، وفي العتبية: من أعظم الجهاد وأفضل أجراً، ولمالك في أعراب قطعوا الطريق: جهادهم أحب إليَّ من جهاد الروم. ابن عبد السلام: وظاهر قول أهل المذهب أنه لا مزية عل ىجهاد الكفار، وقال ابن شعبان: جهاد المحاربين أفضل من جهاد الكفار.
قوله: (وَفِي دُعَائِهِ) المشهور أنهم يعدعون، مالك في الموازية: ويناشده الله ثلاثاً، وقال عبد الملك وسحنون: لا يدعوه وليبادر لقتله، ولاإشكال في سقوط الدعوى إذا عاجلونا، عن ذلك احترز المصنف بقوله:(إِنْ أَمْكَنَ). مالك: وإن طلبوا مثل الطعام أو النوع وما خف [741/أ] فليعطوه ولا يقاتلوا، وقال سحنون: لا يعطون شيئاًوإن قلَّ.
ابن عبد السلام: وينبغي قصر هذا الخلاف على ما إذا طلبوه من الرفاق والمارة بهم، ولو طلبوه من الوالي لم يجز أن يجيبهم إليه؛ لأن فيه وهناً على المسلمين.
وَمُوجَبُهَا: إِمَّا الْقَتْلُ أَوِ الصَّلْبُ ثُمَّ الْقَتْلُ مَصْلُوباً، أَوْ قَطْعُ الأَيْدِي وَالأَرْجلِ مِنْ خِلافٍ مُوَالاةً، أَوِ النَّفْيُ
…
(مُوجَبُهَا) بفتح الجيم؛ أي: الذيتوجبه الحرابة أحد أمور الأربعة للآية الكريمة، والصلب مختص بالرجل نص عليه اللخمي وكذلك النفي.
اللخمي: واختلف عن مالك في العقوبات الأربع التي ذكرها هل هي على التخيير في المحارب الواحد يوقع به الإمام أيها شاء، أو على الترتيب، أو على قدر جرم المحارب، فقيل إذا أخذ ولم يخف ولا قتل ولاأخذ مالاً يؤخذ بأيسره.
ابن القاسم: وأيسر أن يضربه وينفيه، وإن كان قد أخاف ولم يأخذ مالاً أو أخذ المال ولم يخف، أو جمع أخذ المال والإخافة كان فيه بالخيار بين القتل والقطع ولا يؤخذ بيسره.
وإن كان قد طال زمانه على أمره وأخذ المال إلا أنه لم يقتل فإنه يقتله ولا تخيير له فيه، وروي عن ابن وهب أن الإمام مخير وإن قتل الناس وعظم فساده، وقال عياض: اختلف تأويل الأشياخ على مذهب الكتاب إذا طالت إخافته وعظم شره ولم يقتل، وأكثرهم يرون الإمام يخير فيه فيما شاء لكن يستحبون له النفي، وعليه اختصر أكثرهم، وتأول بعض الأندلسيين أن حكم هذا حكم الذي قتل لابد من قتله، وصحح الأول، وحكى المازري عن مالك خلاف مذهبه وأن العقوبات عنده على الترتيب بحسب اختلاف صفاته، فيقتله لكل حال إذا كان ذا رأي وتدبير، ويقطعه إذا كان ذا بطش، وإن كان على خلاف ذلك عزره وحبسه، فجعل ما استحسن مالك مع إباحة التخيير مستحقاً مرتباً، ولا يقوله مالك ولا أصحابه. انتهى. فانظره مع حكاية اللخمي الخلاف.
وقوله: (الصَّلْبُ ثُمَّ الْقَتْلُ)؛ يعني: لا يكفيه الصلب وحده بل لابد بعده من القتل، ووقع لمالك في بعض المواضع أنه قال: يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفى مثل ظاهر القرآن، وفهم من قول المصنف تقديم الصلب على القتل وعلى هذا فقوله:
وَيُقَدَّمُ الصَّلْبُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيُؤَخَّرُ عِنْدَ أَشْهَبَ
إنما أتى به ليبين قول أشهب، على أن أشهب لم يوجب تقديم الصب، ونصه في النوادر: إنما يصلب ثم يقتل، ولو صلبه ثم قتله مصلوباً فذلك له.
اللخمي: ويقتل على الوجه المعتاد والمعروف بالسيف والرمح، ولا يقتل على صفة تعذيب ولابحجارةن ولا يرمى من شيء عالٍ وإن رأى صلْبه صَلَبَه قائماً ولا يصلبه منكوساً، وينبغي أن تطلق يداه؛ لأن فيه بعض الراحة إلى أن يموت فإن لم يطلق فلا بأس.
وهل يصلي عليه أم لا؟ أما على مذهب من يرى الذي يقتل ثم يصلب فيصلي عليه قبل الصلب، واختلف في الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يقتل على الخشبة، فقال ابن الماجشون في الواضحة: لا ينزل من أعلى الخشبة حتى تأكله الكلاب والسباع، ولا يترك لأحد من أهله ولا من غيرهم ينزله ليدفنه ولا يصلي عليه، وقال أصبغ: لا بأس أن يخلَّى بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون علهي ويدفنونه، ولابن الماجشون في الثمانية: يُصَفُّ خلف الخشبة ويصلى عليه وهو مصلوب، خلاف ظاهر قوله في الواضحة، وقال سحنون: إذا قتل على الخشبة أنزل عنها وصلي عليه.
واختلف قوله: هل يعاد إليها ليرتدع بذلك أهل الفساد أم لا؟ على قولين، هذا نقل صاحب المقدمات، ونقل ابن عبد السلام: أنه اختلف قوله: إذا مات هل ينزل من ساعته ويدفع إلى أهله للصلاة عليه أو الدفن، أو إذا صلوا عليه يعيده الإمام إلى الخشبتين اليومين والثلاثة ليرتدع به أهل الفساد؟ فانظره.
محمد: ولو حبسه الإمام لقتله ثم مات في الحبس لم يصلبه بعد موته، ولو قتله إنسان في الحبس فإن الإمام يصلبه.
وَأَمَّا النَّفْيُ فَلِلْحُرِّ لا لِلْعَبْدِ كَمَا ذُكِرَ فِي الزِّنَى إِلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَقِيلَ: يُحْبَسُ ببَلَدِهِ، وَقِيلَ: النَّفْيُ طَلَبُهُمْ إِلَى أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُقَطَّعُوا
…
أي: للحر الذكر لا للعبد، وهذا على قول أن النفي إخراجه إلى بلد آخر، وأما على القول بأنه حبسه بمكان فيحبس، وكذلك المرأة وقاله اللخمي، قال: ولو قال سيد العبد: أنا أرضى أن ينفى ولا يقطع وأن يكون على الأحرار بذلك، وكذلك في المرأة إذا قالت: أنا أخرج إلى بلد آخر أسجن فيه حتى تظهر توبتي وردت رفقة ثقة، أن يكون ذلك لها؛ لأنه أهون عليها من القطع من خلاف ومن القتل.
قوله: (كَمَا ذُكِرَ فِي الزِّنَى) في المسافة ولزوم الأجرة، ابن القاسم: ورواه عن مالك، وأقل البلد المنفي إليه ما تقصر فيه الصلاة، ثم بين أن الغاية هنا ليست كالزنى بل يحبس هنا حتى تظهر توبته، اللخمي: ولا يكفي في ظهور توبته مجرد ظاهره؛ لأنه كما ذكره لكونه في السجن فإنه يُظهر التوبة والنسك والخير ليخلص مما هو فيه، قال: ولو علمت منه التوبة حقيقة قبل أن يطول سجنه لم يخرج؛ لأن طول سجنه أحد الحدود الأربعة، فإخراجه قبل أن يطول سجنه بمنزلة من أقيم عليه بعض الحد.
قوله: (وَقِيلَ: يُحْبَسُ ببَلَدِهِ) هذا رواه مطرف عن مالك في الواضحة، والقول الثالث لابن الماجشون قال: وليس النفي [741/ب] عندنا الذي ذكر الله تعالى أن ينقل من قرية إلى قرية يسجن بها، ولا يكون هذا مثلاص لما جزاؤه القتل والقطع، وإنما النفي أن تنفيهم من الأرض بطلبكم إياهم لتقيموا عليهم الحد يشردون ويحبسون وأنتم تطلبونهم إلى أن تأخذوهم فتقيموا عليهم الحد.
وَالتَّعْيينُ لِلإِمَامِ لا لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ لَهُ، فَيُعَيِّنُ لِذِي الْبَطْشِ وَالتَّدْبيرِ الْقَتْلَ، وَلِذِي الْبَطْشِ الْقَطْعَ، وَلا يَضْرِبُهُمَا، وَلِغَيْرِهِمَا وَلِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ النَّفْيَ وَيَضْرِبُهُمَا إِنْ شَاءَ ....
أي: التعيين في العقوبات الأربع للإمام وليس لغيره في ذلك حق، وما يفصل به عوض عن كل ما صدر منه من إخاة طريق وقتل أحد، وهو وإن كان ظاهراً في التفصيل وموافقة الترتيب ونحوه في المقدمات، إلا أنه تأول على استحباب ذلك لما تقدم من كلام عياض، وفي ترتيب المصنف القتل على ابطش والترتيب نظر، بل نص صاحب المقدمات وغيره على التدبير فقط.
وقوله: (لِذِي الْبَطْشِ) أي: دون التدبير بين القطع من خلاف، (وَلِغَيْرِهِمَأ)؛ أي لغير من حصل فيه أحد الوصفين وهو من كثرت منه التردد وليس له أحد
الوصفين ولمن وقعت منه فلتة النفي، (وَيَضْرِبُهُمَا) الضمير عائد على غيرهما، ومن وقعت منه فلتة.
وقوله: (إِنْ شَاءَ) ظاهر المدونة أنه لابد من ضربه لقوله: الذي يؤخذ بحضرة الخروج ولم يخف السبيل ولم يأخذ المال، فهو لو أخذ بأيسر الحكم لم أرَ به بأساً، وكذلك الضرب والنفي، وما ذكره أشبه بمذهب أشهب، فقال: إن جلده مع النفي ضعيف، وإنما استحسن لماخفف عنه من غيره ولو قاله قائل لم أعبه.
وقوله: "وإنما استحسن" أي: زيادة على النص، ابن القاسم في الموازية: وليس لجلده حد إلا الاجتهاد من الإمام.
وَيُقْتَلُ الْمُحَارِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَ، وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ إِذَ قَتَلَ وَلَوْ غَيْرَ كُفْءٍ، وَقَتَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه مُسْلِماً قَتَلَ ذِمِّياً حِرَابَةً، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الدِّمِ عَفْوٌ
…
يعني: أن الإمام يخير فيه على ما تقدم إذا لم يكن قد قتل، وأما إن قتل ولو غير كفؤ كما لو قتل كافراً أو عبداص فيتحتم قتله تناهي فساده، وهذا هو المشهور، وقال أبو مصعب: بل له فيه التخيير أيضاً، وقد تقدم أيضاً الخلاف في تحتم قتل من طال زمانه وامتدت إذايته، واستدل المصنف بفعل عثمان رضي الله عنه، وقد يقال: لا حجة فيه؛ إذ لا يدل على التحتم وفعله لأنه أحد الوجوه، ولو سلمفيحتمل أن يكون مذهبه قتل المسلم بالكافر قصاصاً.
قوله: (ولَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ عَفْوٌ) يعني: لأن القتل ليس للقصاص وهو كالتأكيد لقوله: (يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ). ابن عبد السلام: فإن قلت: فإذا اختار الإمام قطعه أو نفيه على قول أبي مصعب ففعل ذلك فحل للولي قصاص. قلت: لا. انتهى.
وَيُقْتَلُ مَنْ أَعَانَ عَلَى الْقَتْلِ وَمَنْ لَمْ يُعِنْ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ
أي: من أعان في القتل بضرب أو إمساك أو لم يُعن بهما لكن أعان بممالأة وهكذا في المدونة وغيرها.
ابن عبد السلام: ولابد من الممالأة الذي ذكرها عمر رضي الله عنه، وهو أن يكون ممن لم يضرب حضوراً بحيث إذا احتيج إلى إعانته أعان، وبذلك يفهم قول ابن القاسم: ولو كانوا مائة ألف.
وَيَسْقُطُ حَدُّ الْحِرَابَةِ بالتَّوْبَةِ قَبْلَ الظَّفَرِ لا بَعْدَهُ وَيَكُونُ الْقِصَاصُ لِوَلِيِّ الدَّمِ وَلِلْمَجْرُوحِ كَغَيْرِ الْمُحَارِبِ
…
(قَبْلَ الظَّفَرِ) أي: قبل أن يقدر عليه لقوله تعالى: {إِِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 34]. اختلف في صفة توبته على ثلاثة أقوال حكاها في المقدمات:
الأول: لابن القاسم أن يترك ما هو عليه وإن لم يأتِ الإمام او يأتِ الإمام طائعاً.
الثاني: لابن الماجشون أن يترك ما هو عليه ويحبس في موضعه ويظهر لجيرانه، وأما إن ألقى سلاحه وأتى الإمام طائعاً فإنه يقيم عليه حد الحرابة.
الثالث: أن توبته إنما تكون بالمجيء إلى الإمام، ول وترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكماً من الأحكام ولا يدل فراره على توبته، فإذا فر في القتال فقال ابن القاسم: إن كان قتل أحداً فليتبع، وإن لم يكن قتل أحداً فلا أحب أن يتبع ولا يقتل. وقال سحنون: يتبعون ولو بلغوا برك الغماد، وروي عنه أنه يتبع منهزمهم ويقتلون مقبلين ومدبرين ومنهزمين، وليس هروبهم توبة، وأما التذفيف على جريحهم فإن لم تتحقق هزيمتهم وخيف لحدتهم دفف عليه وإلا فهو أسير يحكم فيه افمام بماي راه، وفي الموازية: قال ابن القاسم: لا يجهز على جريحهم ولم يره سحنون، ولا يسقط حد الحرابة بتأمينه إذا سأل الإمام بخلاف المشرك؛ لأن المشرك يقر إذا امن على حاله وبيده أموال الناس، ولا يجوز تأمين المحارب على ذلك ولا أمان له قاله عبد الملك.
محمد: وإن امتنع المحارب بنفسه حتى أعطي الأمان فاختلف فيه، فقيل: يتم له ذلك، وقيل: ليس له ذلك وبهذا قال أصبغ.
وقوله: (وَيَكُونُ القِصَاصُ
…
إلخ) يعني: إذا سقط حد الحرابة بالتوبة لم يسط حق الآدميين وما هو المعروف، وروى الوليد بن مسلم عن مالك: أنه يسقط عنه أيضاً ما أخذ من الأموال إلا ما كان قائماً جنسه، أو يكون قتل [742/أ] فللأولياء الخيار، ونظر ابن عبد السلام قولاً بسقوط حق الله تعالى وحق الآدميين إلا أ، هـ يرد عين المال إن وجد، وقال: وهو الصحيح وظاهره سقوط القصاص عنه.
فَيُقْتَلُ الرَّبيئَةُ وَمَنْ أَمْسَكَ لِلْقَتْلِ وَمَنْ تَسَبَّبَ لَهُ
عياض: الربيئة بفتح الراء وكسر الباء بواحدة مهموز: الطليعة التي تحرص المحاربين وتنظر لهم من الأماكن العالية.
وقوله: (وَمَنْ أَمْسَكَ) ظاهر التصور، فإن قيل: ما تقدم من قوله: (وَيُقْتَلُ مَنْ أَعَانَ عَلَى الْقَتْلِ وَمَنْ لَمْ يُعِنْ) يغني عن هذا، قيل: المتقدم فيمن ظفر به وهذا فيمن جاء تائباً، وقاله ابن عبد السلام وغيره.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَسَبَّبُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْتَلُ، وقَالَ أَشْهَبُ: يُضْرَبُ مِائَةً ويُحْبَسُ سَنَةً
…
أي: لم يتسبب في قتله ولكن التقوي به حاصل، ووافق أشهب ابن القاسم إذا أخذوا قبل التوبة، وأما إنتابوا قبل أن يقدروا عليهم فقط سقط عنهم حكم الحرابة، لا يقتل منهم إلا منولي القتل ومن أعان عليه ومن أمسك له، وهو يعلم أنه يريد قتله ولكن يضرب كل واحد منهم ويحبس عاماً.
وَأَمَّا الْغُرْمُ فَكَالسَّارِقِ، وَقَالَ سُحْنُونُ: إِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْحِرَابَةِ وَإِلا فَفِي ذِمَّتِهِ
ظاهر قوله: (كَالسَّارِقِ) جريان قولي ابن القاسم وأشهب، وأما القول الذي قدمه من القوم مطلقاص فلا يحد هنا، نعم وجد عكسه وهو عدم الغرم إلا أن يكون ما أخذه قائماً بعده. وقوله:(وَقَالَ سُحْنُونُ) فيه نظر؛ لأنه يوهم أنه مخالف وليس كذلك هو موافق، ويوهم أن السرقة ليس الحكم فيها كذلك وهو كذلك كما تقدم، فلو أسقط قول سحنون لكان أحسن؛ لأنه هو عين قول ابن القاسم وأشهب.
وَيَغْرَمُ الْوَاحِدُ عَنِ الءجَمِيعِ تَائِباً أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ
هذا قول مالك وابن القاسم وأشهب؛ لأن كل واحد إنما قوي بهم فكانوا كالحملاء.
(تَائِباً أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ) حال من الواحد، وقال ابن عبد الحكم: لا أرى على كل واحد إلا ما أخذه، وكلامه يشعر بأن حمك المحاربين في ذلك مخالف لحكم السراق، وأن الواحد من السراق لا يضمن ما سرقه وأصحابه معه.
ابن عبد السلام: وهو ظاهر ما حكاه بعض الشيوخ، وحكى ابن رشد: أن في سماع عيسى أن السراق إذا تعاونوا والغاصب يضمنون ما أخذوه ضمان المحاربين.
أبو محمد صالح: معناه حيث يقطعون كلهم بالتعاون، وحكى اللخمي عن ابن الماجشون: إن كانوا لا يقدرون على ذلك إلا بالتعاون والكثرة، فمن أخذ منهم كان عليه جميع ما ذهب، وإن كان موضعاً يقوى عليه الواحد والاثنان فيلزمه ما يلزم جماعتهم.
وَمَا بأَيْدِيِهِمْ مِنَ الْمَالِ الَّذِي سَلَبُوهُ إِنْ طَلَبَهُ طَالِبٌ دُفِعَ إِلَيْهِ بَعْدَ الاسْتِينَاءِ وَالْيَمِينِ
ظاهره بغير حميل وهو مذهب المدونة، وقال سحنون: بلبحميل، وفي مختصر الوقار: إن كان من أهل البلد فبحميل وإن كان من غره فبغير حميل أي لأنه يجد حميلاً.
وقوله: (بَعْدَ الاسْتِينَاءِ) قال مالك: من غير تطويل.
اللخمي: وإنما تدفع إليه إذا وصفه كما في اللقطة، وأما إن تداعاه رجلان قسم بينهما بعد أيمانهما، فإن حلف أحدهما فقط فهو له، وإن نكلا فليس لهما شيء إلا أن يقر المحاربون أنهم أخذوه من هذه الرفقة، أو كان أحدهما منهما والآخر ليس منهما فإنه لمن هو في الرفقة قاله اللخمي.
وقوله: (وَالْيَمِينِ) لا إشكال فيه وإذا دفعت لغير بينة ثم أثبت أحد أنها له، فإن على الأول الضمان إذا هلكت عندهم، قاله بعض الأصحاب.
ابن يونس: وأما أخذ المتاع ببينة يريد: أو بشاهد ويمين، ثم يثبت ما هو أقطع من ذلك وقد هلك بأمر الله تعالى فإنه لا يضمن شيئاً.
وَيَثْبُتُ بشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَوْ مِنَ الرُّفْقَةِ لا لأَنْفُسِهِمَا، وَلَوْ كَانَ مَشْهُوراً بالْحِرَابَةِ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ فُلانٌ الْمَشْهُورُ ثَبَتَتِ الْحِرَابَةُ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنَاهَا ....
قال في المدونة: وتجوز على المحاربين شهادة من حاربوه إن كانوا عدولاً؛ إذ لا سبيل إلى غير ذلك شهدوا لقتل وأخذ مال أو غيره، ولا تقبل شهادة واحد منهم لنفسه، وهذه الشهادة خارجة عن الأصل؛ إذ فيها العداوة، ولأن فيها: اشهد لي وأشهد لك، وإنما جازت للضرورة، ولما فيها من حق الله، والأموال تبع لها، وعورضت هذه المسألة بمسألة المتحملين؛ لأنه لم يجز هناك شهادة بعضهم لبعض إلا أن يكونوا نفراً كثيراً عشرين فأكثر، وأباه سحنون في العشرين وعارضوها أيضاً بما في سماع أبي زيد في رجلين شهد كل واحد منهما للىخر فقال: لا تجوز شهادتهما، وفرق ابن سهل بينهما بأن مسألة المتحملين ليس فيها حق الله تعالى فلذلك ردت؛ لأنهم تدركهم حمية البلدية وإن كان فيها الضرورة، ومسألة أبي زيد لا ضرورة فيها ولا حق الله فيها.
قوله: (لا لأَنْفُسِهِمَا) أي: لا تجوز شهادة الشخص لنفسه.
اللخمي: ولا لابنه قال: وتقبل شهادته إذا كان معه غيره أنه قتل ابنه أو أباه؛ لأنه إنما يقتل بالحرابة لا بالقصاص لا عفو فيه، ولو شهد بذلك بعد أن تاب المحارب لم تقبل شهادته؛ لأن الحق عاد إليه وله العفو والقصاص.
سحنون: فلو قالوا كلهم عند الحاكم: قتل كذا وكذا رجلاً وسلب منا كذا وكذا جارية والأحمال لفلان والثياب لفلان والجواري لفلان، فذلك جائز، ويجب به حد الحرابة، قاله مالك وابن القاسم وأِهب.
قوله: [742/ب] (وَلَوْ كَانَ مَشْهُوراً
…
إلخ) تصوره ظاهر ونحوه في الجواهر، ابن عبد السلام: وظاهره أن الإمام يكتفي بمجرد علمه بالشهرة وإن لم تقم بها بينة، والذي حكاه الباجي عن سحنون إذا توارت شهرة المحارب باسمه، فأتى من يشهد أن هذا فلان، وقالوا: لم نشاهد قطعه على الناس وما اشتهر به من القتل وأخذ الأموال، قتل بهذه الشهادة، وهذا آكد من شاهدين على العيان.
خليل: والظاهر أن كلام المصنف للمخالفة فيه لهذا؛ لأن قوله: (فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ فُلانٌ الْمَشْهُورُ) يقتضي أن الشهادة نصت على المجموع؛ لأنه لا يشتهر عند الإمام إلا بعد شهادة عند غيره غالباً، ونقل اللخمي عن سحنون إذاحبس الإمام المحاربين بشهادة عدل وشهد معه قوم غير عدول، ومن هؤلاء المحاربين من اشتهر اسمه بالفساد لا يعرفه بعينه، فليخرجه الإمام ويرقبه وبشهره حيث ينظر إليه المسافرون ثم يتم ذلك بنحو ما تقدم، وقال محمد: إن استفاض ذلك الذكر عنهم وكثر أدَّبهم الإمام وحبسهم.