الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ جَنَى مَعْصِيَةً مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى أَوْ حَقِّ آدَمِيِّ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ باجْتِهَادِهِ بقَدْرِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ وَالْقَوْلِ
…
لما فرغ من الجنايات التي رتب الشارع عليها عقوبة معلومة أخذ فيما لم يرتب عليه عقوبة معلومة، ولهذا يقع في بعض النسخ
(التعزير)
على وجه الترجمة، وبيَّن أنه لا فرق في المعصية بين حق الله تعالى وحق الآدمي، ومعنى حق الله تعالى؛ أي الذي لا يتعلق به للآدمي حق كالأكل في رمضان، وحق الآدمي أن يتعلق به للآدمي كشتمه وضربه، وهو أيضاً لا يخلو عن حق الله تعالى؛ لأن من حقه تعالى على كل مكلف ترك أذاه، ولما كان هذا القسم إنما ينظر فيه باعتبار حق الآدمي جعل قسماً للأول، فإن الحاكم يعزره باجتهاده وإن عزر بجهل فهو أخف، ولا يسمى حق الله تعالى، وقد يعتبر أيضاً ما ينزجر به غيره من أن يقع في مثل ما وقع فيه هذا العاصي.
وقوله: (بحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ وَالٌَْوْلِ) فيه قصور؛ لأنه لا يتناول إلا المعصية القولية.
فَيُخَفِّفُ وَيُتَجَافَى عَنِ الرَّفِيعِ وَذِي الْفَلْتَةِن وَيُثَقَّلُ عَلَى ذِي الشَّرِّ
هذا نظراً إلى جانب القائل، وكذلك ينظر إلى جانب القول، وجانب المقول فيه، فإن كان القول عظيماً من ذي الشرف المخاطب برفيع القدر بالغ في الأدب وخفف في العكس.
وقوله: (وَيُتَجَافَى) خاص بحقوق الآدميين، وأما في حق الله تعالى فنقل في البيان عن بعض العلماء: فيه التجافي، قال: ولم يره مالك.
وَيَكُونُ بالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَبالإِقَامَةِ وَبنَزْعِ الْعِمَامَةِ وَبغَيْرِ ذَلِكَ
لأن القصد الانزجار ولهذا لا يتخصص بسوط ولا يد جنس ولا غيره.
ابن رشد: ومن قال: لرجل يا كلب، إن كانا من ذوي الهيئة عوقب القائل عقوبة خفيفة يهان بها ولا يبلغ به السجن، وإن كانا من غير ذي الهيئة عوقب القائل أشد عقوبة من الأولى يبلغ فيها السجن، وإن كان القائل من ذي الهيئة والمقول له عكسه عوقب بالتوبيخ، ولايبلغ به الإهانة ولا السجن وبالعكس عوقب بالضرب.
وَقَدْ يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ وَلا يَنْتَهِي إِلَى الْقَتْلِ
هذا هو المشهور عن مالك وابن القاسم.
وقوله: (وَلا يَنْتَهِي إِلَى الْقَتْلِ) أي: لا يكون الأدب بالقتل، ويحتمل لا ينتهي في الأدب بالضرب إلى ما يخشى منه القتل، وقد قال مطرف: يضربه وإن أتى على النفس، وروي عن مالك في العتبية: أنه أمر بضرب شخص وجد مع صبي في سطح المسجد وقد جرده وضمه إلى صدره أربعمائة سوط، وانتفخ ومات ولم يستعظم ذلك مالك، وقال ابن مسلمة: لا يتجاوز ثمانين، وقد روى القعنبي عن مالك: لا يجاوز خمسة وسبعين سوطاً، وروى أصبغ: أقصاها ما ينتهي إليه جرم الفساد مائتان، وقال مطرف في الواضحة: أقصاها ما يبلغ به الأدب في الجرم ثلاثمائة، لا يزاد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المؤدب على ثلاثة، وكذا قال سحنون: لا يزيد المدب أزيد من ثلاثة أسواط فإن اد عليها اقتص منه، واستشكله غير واحد، وحجة أشهب ما في الصحيح عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَاّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى".
وَيُؤَدِّبُ الأَبُ وَالْمُعَلِّمُ بِإِذْنِهِ الصَّغِيرَ لا الْكَبيرَ
هكذا قال ابن شاس، وظاهر قول مالك في الذي شتمه خاله أو عمه أو جده: لا أرى عليه في ذلك شيئاً إذا كان على وجه الأدب ونحوه تأديب الكبير، وقد طعن أبو بكر
في خاصرة عائشة رض الله عنهما ورأٍه صلىلله عليه وسلم في حجرها، وكذلك في مخاطبته لعبد الرحمن في حديث الضيفان.
وَالسَّيِّدُ رَقِيقَهُ
أي: في حقه وحق الله تعالى بشرط ألا يكون مبرحاً.
وَالزَّوْجُ بمَا يَتَعَلَّقُ بمَنْعِ حَقِّهِ
أي: في النشوز للآية، ووقع لابن رشد أنه يؤدب زوجته في تركها الصلاة.
وَالتَّعْزِيرُ جَائِزٌ بشَرْطِ السَّلامَةِ، فَإِنْ سَرَى فَعَلى الْعَاقِلَةِ بخِلافِ الْحَدِّ
أي: شرط السلامة غالباً في الذهن، وفي هذا الشرط نظر؛ لأنه مخالف لقول ابن الماجشون وغيره: وإن أتى على النفس. والظاهر الحكاية المنقولة عن مالك، ولكن الحاكم وغيره إذا جازت له العقوبة- يعني- ألا يكون عليه ضمان وتضمينهم مع أمرهم كتكليف ما لا يطاق.
وذكر في الإكمال: أنهم اختلفوا فيمن مات من التعزير، فقال الشافعي: عقله على عاقلة الإمام وعليه الكفارة، وقيل: علىبيت المال، وجمهور اللماء: ولا شيء عليه، وفي الموطأ في الرجل يضرب امرأته بالحبل والسوط فيصيبها من ضربه ما لم يرد ولم يتعمد فإنه يعقل ما أصابه منها على هذا الوجه، وفي المجموعة لمالك في معلم الكتَّاب والصنعة إن ضرب صبياً ما يعلم أنه من الأدب فمات فلا يضمن، ظاهره خلاف الموطأ إلا أن يحمل ما في الموطأ أنه خطأ بالزيادة في الأدب، أو يريد بما في المجموعة: لا يضمنه في ماله بخلاف الحد؛ أي: فلا يضمن مما سرى منه ونقل في ذلك الإجماع، فإن علم أن التعزير لا يحصل به زجر فلا يفعل لكن سجن الكبير حتى تحقق توبته ولا يعرض للصغير، هذا أشار إلي ابن عبد السلام والشافعي وهو ظاهر.
مَنْ فَعَلَ فِعْلاً يَجُوزُ لَهُ مِنْ طَبيبٍ وَشِبْهِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ هَلاكٌ أَوْ تَلَفُ مَالٍ فَلا ضَمَانَ عَلَيْهِ
…
[744/أ] الضمان ترجمة، وهذه المسألة أجري على القواعد التي قبلها، وشبه الطبيب الخادم والحجام ونحو ذلك، واحترز بقوله:(عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ) لهما لو لم يفعله على وجه الصواب كما سيأتي.
(فَتَولَّدَ مِنْهُ هَلاكٌ أَوْ تَلَفُ مَالٍ) يكون في الرقيق، وفي مثل فعل البيطار، ما ذكره من نفي الضمان مفيد بما إذا لم يكن السلطان قد تقدم إلى الأطبة والحجامين ألا يقدموا على شيء مما فيه ضرر إلا بإذنه، ففعلوا ذلك بغير إذنه فعليهم الضمان فيما تلف في أموالهم، رواه أشهب في ابن رشد، وقال ابن دحون: هو على العاقلة إلا فيما دون الثلث، وهو خلاف الراوية.
فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً أَوْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ، أَوْ فِي مُجَاوَزَةٍ أَوْ تَقْصيرٍ فَالضَّمَانُ كَالْخَطَأِ
…
يعني: إن لم يكن له بذلك علم وفعل ذلك على وجه الجرأة، وتولى الطبيب ذلك من غير أن يؤذن له، فآل إلى التلف أو أخطأ فيه، كما لو أراد قلع سن فقلع غيرها، أو في مجاوزة بأن أخذ من مأخذه، ولكن تجاوز حده، أو قصر فالضمان كالخطأ؛ أي: فتحمل العاقلة الثلث فأكثر، ولا تحمل الأقل، وهكذا قال عيسى ابن دينار، وهو ظاهر ما رواه أصبغ عن ابن القاسم، وقيل: الدية عليه في ماله دون العاقلة.
ابن رشد: وهو ظاهر قول مالك في العتبية، وشبه المصنف المسألة بالخطأ؛ لأن بعض وجوه المسألة كالجهل، وعدم الإذن قد يظن أنه من العمدن وينفرد الجاهل بالأدب.
ابن رشد: والغرب والسجن، ولا يؤدب المخطئ، وهل يؤدب من لم يؤذن له؟ فيه نظر.
وقيل بعدم ضمانه لكأن له وجه والله أعلم؛ لأنه كالمأذون له بالعرف إذا كان من المشهورين بالطب وخيف الفوات في العلاج، ولو ادعى على الطبيب العمد فيما زاد أو قصر، وادعى هو الخطأ فالقول قوله، واختلف قول سحنون في الزوج والسيد يفقأ عين زوجته، فيقول السيد أو الزوج: فعلت ذلك أدباً، وتقول المرأة أو العبد فعل ذلك عمداً على الخطأ أو على الأدب، وإليه رجع، وفرق في القول الأول بين الطبيب وبين الزوج والسيد؛ لأن فعل الطبيب ابتدأ على الإذن ولم يثبت الإذن في حق الزوج والسيد.
ابن رشد: الأظهر في السيد أن يحمل أمره على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل فيباع عليه إن قصد العبد ذلك، وأما الزوج فالذي أراه في ذلك أن يحمل أمره على الخطأ، لا على العمد، ولكن يكون كشبه العمد، وتكون فيه الدية على الجاني، وإن طلبت المرأة فراقه، وقالت: أخافه على نفسي، طلقت عليه طلقة بائنة.
وَإِذْنُ الْعَبْدِ لَهُ أَنْ يَحْجِمَهُ أَوْ يَخْتِنَهُ غَيْرُ مُفِيدٍ
فيضمن الفاعل ولا يفيده إذن العبد، وهكذا نص عليه في المجموعة، وزاد: وكذلك إذا أذن له ان يقطع عرقه، وهذا ظاهر في الختان، وأما الحجامة والفصد فالعرف مطرد بعدم الاحتياج إلى إذن السيد، لا سيما إذا كان موجب الحجامة ظاهراً.
وَمَنْ أَجَّجَ نَاراً عَلَى سَطْحٍ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ضَمِنَ، وَلَوْ بَغَتَتْهُ الرِّيحُ لَمْ يَضْمَنْ
ظاهر كلام المصنف أن للسطح تأثيراً في الضمان، والذي في المدونة في حريم الآبار، في من أرسل في أرضه ماء أو ناراً، فوصل إلى أرض جاره، فأفسد زرعه، فإن كان أرض جاره بعيدة يؤمَن أن يصل ذلك إليها، فتحاملت النار بريح أوغيرها، فلا شيء عليه، وإن لم يؤمَن وصول ذلك إليها لقربها فهو ضامن، ما قتلت النار من نفس فعلىعاقلة مرسلها، وكذلك الماء، فالعبرة على هذا إنما هي بالأمن وعدمه، وروى اللخمي: الضمان
في البعيد إذا كانت الريح لتلك الأرض، إلا أن تكون بعيدةجداً، وعدمها إن لم يكن وقت أرسلها ريح، ثم جدثت، أو كانت وتغيره إلى الناحية المحترقة، قال غير واد: يضمن إن كانت الأعشاب متصلة وإن بعدت.
وقوله في المدونة: وما قتلت النار من نفس فعلى عاقلة مرسلها؛ أي: إذا كان لا يؤمن أصولها، وأما مع الأمان فلا ضمان في النار، كما لابن كنانة ما ظاهره خلاف مذهب المدونة، قال فيمن أشعل ناراً في حائط رجل فتعدت النار على غيره فتحرقه من زرع أو حائط عليه غرم ما أشعل فيه دون ما عدت عليه.
وَسُقُوطُ الْمِيزَابِ هَدَرٌ
يعني: إذا اتخذ ميزاباً للمطر فوقع على إنسان أو مال فلا شيء في ذلك؛ لأنه اتخذته حيث يجوز له اتخاذه، وينبغي أن تقيد هذه المسألة بالتي بعدها؛ وهي قوله:
وَفِي سُقُوطِ الْجِدَارِ الْمَائِلِ وَأُنْذِرَ صَاحِبُهُ وَأَمْكَنَهُ تَدَارُكُهُ -الضَّمَانُ
قوله: (الْمَائِلِ) أي: بعد بنائه مستقيماً، وأما لو بني مائلاً لضمن من غير تفصيل هكذا، قال ابن شاس: ومراده بالإنذار الإشهاد، كما نص عليه في المونة.
ابن عبد السلام: ومعناه عند القاضي، أو من له النظر في ذلك، ولا ينفع الإشهاد إذا لم يكن كذلك، إذا كان رب الحائط منكراً لميلانه بحيث يخشى عليه السقوط؛ أنه لو كان مقراً فإنه يكتفى بالإشهاد، وإن لم يكن عند حاكم قاله بعض القرويين، وفي البيان في أدب السلطان الثاني: وقول يحيى- أنه ضامن لما أفسد الحائط إن انهدم بعد التقدم إليه والإشهاد عليه [744/ب] وإن لم يكن ذلك سلطاناً-مفسر لقول ابن القاسم: ومثل ما في المدونة.
وقال عبد الملك وابن وهب: لا ضمان عليه إلا ما أفسد بانهدامه بعد أن قضى عليه السلطان بهدمه ففرط في ذلك، وقال أشهب وسحنون: لا يشترط الإشهاد بل يكتفى أن يبلغ إلى حالة لا يكون لصاحبه أن يتركه لشدة ميله.
قوله: (وَأَمْكَنَهُ تَدَارُكُهُ) أي: رب الحائط إزالة الضررن إما بهدم الحائط، وأما بتدعيمه، وتراخى، وأما إذا لم يمكنه فبادر إلى رفع الأذى فسقط؛ فلا ضمان، ولو تقدم إليه في ذلك.
وَيَجُوزُ دَفْعُ الصَّائِلِ بَعْدَ الإِنْذَارِ لِلْفَاهِمِ مِنْ مُكَلَّفٍ أَوْ صَبيِّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ بَهِيمَةٍ عَنِ النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالْمَالِ
…
قوله: (مِنْ مُكَلَّفٍ) يتعلق بالصائل، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: ويجوز دفع الصائل من مكلف أو صبي أو مجنون أو بهيمة عن النفس والأهل والمال بعد الإنذار للفاهم، وإلا فغير الفاهم لا يمكن إنذاره، وقد تقدم في إنذار المحارب خلاف، فانظر هل يأتي هنا، وروى عيسى عن ابن القاسم: إن قتل الرجل الجمل الصول بعد التقدم إلى صاحبه فذكر أنه أراده وصال عليه، لا غرم عليه، ويقبل قوله في ذلك ابن رشد، يريد مع يمينه إذا كان بموضع لا يحضره الناس، واختلف في التقدم لأرباب البهائم هل لابد من السلطان أم لا، وعلى قول سحنون إذا بلغ الحائط مبلغاً يجب عليه هدمه، يضمن ولا يحتاج إلى التقدم.
ابن رشد: وهذا الخلاف إنما هو إذا اتخذ حيث يجوز له، وإلا فهو ضامن اتفاقاً، ومذهب أشهب في الكلب العقور والجمل الصول أنه لا ضمان على صاحبها، وإن تقدم إليه فهو قول رابع، وحيث ضمناه، قال ابن القاسم: في ماله، وقال ابن وهب: على العاقلة، ويثبت بالشاهد واليمين عند ابن القاسم، وقال أصبغ: لا يثبت إلا بشاهدين.
ابن رشد: ويأتي على قول ابن وهب في إلزامه العاقلة أنه يحبس بما يستحق به دم الخطأ من قسامة وغير ذلك.
فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لا يَنْدَفِعُ إِلا بالْقَتْلِ جَازَ قَتْلُهُ قَصْداً ابْتِدَاءً وَإِلا فَلا
هكذا قال القاضي أبو بكر؛ لأنه قال: لا يقصد قتله، وإنما يقصد الدفع، فإذا أدى إلى القتل فبذلك قال، وإن علم أنه لا يندفع عنه إلا بقتله فجائز له أن يقصد القتل ابتداء، وقد يقال: ينبغي أن يكون القتل هنا واجباً؛ لأنه يتوصل به إلى إحياء نفسه لا سيما إن كان الصائل غير آدمي، اللهم إلا أن يحمل كلام القاضي على أنه يمكنه الهروب، ولا يقبل منه إذا قتله دعوى أنه كان قصد قتله، كمن زعم أنه أراد زوجته إذا لم تتقدم منه شكوى.
وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لَمْ يَجُزُ لَهُ الْجَرْحُ
إذا قدر المصول إليه على الهروب من الصائل من غير مضرة تلحق المصول إليه لم يجز له جرح الصائل؛ لأنه منباب ارتكاب أخف المفسدتين، وهذا في غير المحاربين، وأما المحاربون فقد تقدم أن قتالهم جهاد.
وَلَوْ عَضَّهُ فسَلَّ يَدَهُ ضَمِنَ أَسْنَانَهُ عَلَى الأَصَحِّ
عبر المازري وغيره عنه بالمشهور، ونقل مقابله عن بعض الأصحاب: وهو أظهر لما في الصحيحين عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الخُصَيْنِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فسل يَدَهُ مِنْ فَمِهِ فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا بَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَكَ". زاد أبو داود رضي الله عنه: وإن شئت أن تمكنه من يدك فبعضها ثم تنزعها من فيه.
وقال ابن المواز: الحديث لم يروه مالك، ولو ثبت عنده لم يخالفه. وتأوله بعض شيوخ المازري على أن المعضود لا يمكنه النزع لها بذلك، وحمل تضمين الأصحاب على أنه يمكنه النزع برفق بحيث لا يقطع أسنان العاض، فصار متعدياص في الزيادة، فلذلك ضمنوه.
وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ ضِبْرِ بَابٍ فَقَصَدَ عَيْنَهُ فَالْقَوَدُ
(الصبر) بكسر الصاد: شق الباب، قاله الجوهري وعبر به تبعاً للحديث، والقود نقله المازري عن أكثر الأصحاب، ونقل عن الأقل نفيه لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام:"لَوْ أَنَّ امْرَأٌ اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَاتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ"، وحمل الأولون الحديث على دفعه من غير قصد لفقأ عينه أو مع قصد، ولكن الذي نفاه في الحديث إنما جناح، وأما الدية فلا ذكر لها، ودل كلام المصنف على أن القود مشروط بقصد العين؛ لقوله:(فَقَصَدَ عَيْنَهُ).
وَمَا أَتْلَفَهُ الْبَهَائِمُ مِنَ الزَّرْعِ نَهَاراً فَلا ضَمَانَ، وَفُسِّرَ: إِنْ اسْتُهْمِلَ بغَيْرِ حَافِظٍ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَالضَّمَانُ
…
والأصل في هذا ما رواه مالك مرسلاً، قال في الاستذكار: وهو مراسيل الثقات وتلقاه اهل الحجاز وطائفة من العراق بالقبول: أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَضَمانُهُ عَلَى أَهْلِهَا.
قوله: (وَفُسِّرَ) ظاهر، و (إِنْ اسْتُهْمِلَ) الزرع والذي في الجواهر بعد أن ذكر نفي الضمان نهاراً محمد بن حارث، وهذا الكلام محمول على أن أهل المواشي لا يهملون مواشيهم، وعلى أنهم لا يجعلون معها حافظاً وراعياً، وأما إن أهملت الماوشي، أهلها ضامنون. وفي الاستذكار: إنما سقط الضمان عن أرباب [745/أ] الماشية في النهار إذا أطلقت دون راعٍ، وإن كان معها راعٍ فلم يمنعها، وهو قادر على دفعها فهو المسلط لها، وهو حينئذٍ كالقائد والراكب.
وقال ابن رشد: إنما يسقط الضمان إذا أخرجها عن جملة مزارع القرية وتركها بالمسرح، وأما إن أطلقها للرعي قبل خروجها عن مزارع القرية، فهو ضامن، وإن كان
معها راعٍ فلا ضمان عليه، والضمان على الراعي إن فرَّط أو ضيع، قال: وعلى هذا حمل أهل العلم الحديث، ولم يأخذ يحيى بن يحيى بهذا الحديث، بل قال: يضمنون ما أفسدت ليلاً ونهاراً.
ابن القاسم عن مالك: وهو المشهور وإذا ضمنوا فإنهم يضمنون ما أفسدت وإن كان أكثر من قيمتها، وقال يحيى بن يحيى: إنما عليه الأقل من قيمتها أو قيمة ما أفسدت، ولعله قاسه على العبد الجاني، فإن قلت: فلا فرق على المشهور، قيل: لأن العبد مكلف، فهو الجاني بخلاف هنا، فإن الجاني في الحقيقة رب الماشية، ولمالك في العتبية: وسواء كان محضراً عليه أو غير محضر.
قوله: (وَأَمَّا باللَّيْلِ فَالضَّمَانُ) مخصوص بالزرع والحوائط، فقد قال مالك: إذا انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم؛ لم يغرم ربها شيئاً.
الباجي: وهذا الحكم يختص عندي بالموضع الذي يكون فيه الزرع والحوائط مع المسارح، فأما لو كان الموضع مختصاً بالمزارع دون المسارح ضمن ربها ما أتلف ليلاً كان أو نهاراً، كما لو كان مختصاً بالمسارح دون المزارع فزرع فيه إنسان، على خلاف العادة من غير إذن الإمام، فلا ضمان على أهل المواشي، كان ليلاً أو نهاراً، وروى مطرف عن مالك: إن كانت المزارع كثيرة معتدة لا يقدر أهلها على حراستها؛ لم يكن على أهل المواشي شيء مطلقاً.
ابن عبد السلام: وقال بعضهم: عكس هذا أولى؛ لأنه إذا كان الأمر هكذا، كان على أربابها ألا يخرجوها إلا براعٍ، وهذا كله إذا لم يكن من المواشي التي شأنها الداء على الزرع، فإن كانت كذلك وتقدم إلى أربابها ضمنوه ما أصابته ليلاً أو نهاراً، من غير خلاف، نقله في الاستذكار.
مالك: وتباع تلك الماشية في بلد لا زرع فيه، كانت بقراً أو غنماً أو غيرها، ابن القاسم: إلا أن يحبسها أهلها عن الناس.
ابن حبيب عن مالك: ويأمر الإمام ببيعها، وإن كره ربها، واختلف في الحيوان لا تستطاع حراسته إذا أضر بالناس، وقال ابن حبيب: لا يمنع، وعلى أهل القرية حفظ زرعهم وشجرهم، وقاله ابن القاسم وابن كنانة في المجموعة.
وَيُضْمَنُ بقِيمَتِهِ عَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ. وَرَوَى مُطَرِّفٌ: لا يُسْتَانَى في الزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ
…
هكذا رواه مطرف عن مالك، قال: على أهل المواشي قيمة ما أفسدت على الرجاء والخوف، على أن يتم او لا يتم، قال في المجموعة: وإن لم يبد صلاحه، وقوله: (وَرَوَى مُطَرِّفٌ
…
إلخ) لو نسبت الروايةمن أًلها لمطرف لكان أحسن، وكأنه عطفه بالفاء ليفيد أنه مع المعطوف عليه قول واحد، وأنه كالتمام له؛ أي: يضمن على الرجاء والخوف، ولا يستأنى بالزرع، هل ينبت أم لا ينبت بخلاف سن الصغير.
ابن رشد وابن زرقون: وعلى قول سحنون: يستأنى في الزرع لأخذه، قال في الذي يقطع شجرة رجل ينتظرها، فإن عادت كما كانت فال شيء على القاطع، فإن نقصت عن حالها غرم ما نقص، ولا يغرم أجر السقي والعلاج، كجرح الخطأ في الدية والدواء.
وفي التخريج نظر؛ لأن صاحب البهائم قد انتفع بما أكلت بهائمه، وقاطع الشجرة لم ينتفع بشيء، وعلى الأول فقال مطرف: إن تأخر الحكم حتى عاد الزرع فلا قيمة، ويؤدب المفسد، ونقل ابن يونس عن أصبغ أن عليه قيمة الزرع.
مطرف: وإن عاد أقل، وإن كان ما أفسد من ذلك ينتفع به فعليه قيمته كذلك، ليس على الرجاء، وقال أصبغ: بل على الرجاء، وإن عاد الزرع بعد الحكم، فقال مطرف: مضت القيمة لصاحب الزرع، وقيل: ترد كالبصر يعود.