الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّدْبيرُ:
وَهُوَ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْوَصِيَّةِ
قال الجوهري: وهو عتق العبد عن دبر.
عياض: وهو مأخوذ من العتق بعد موت المعتق وإدبار الحياة عنه، ودبر كل شيء ما وراءه بسكون الباء وضمها. والجارحة بالضم لا غير، وأنكر بعضهم الضم في غيرها، ورسمه المصنف بالرسم المذكور، فقوله:(عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَوْتِ) يشمل الوصية والتدبير.
وقوله: (عَلَى غَيْرِ الْوَصِيَّةِ) فصل أخرج به الوصية. وأورد عليه أنه غير مانع؛ لأنه يصدق على المعلق علىموت أجنبي، وليس بتدبير بل هو عتق إلى أجل، وأجيب بأن قوله:(عَلَى غَيْرِ الْوَصِيَّةِ) قرينة تدل على أنه أراد [755/أ] التعليق على موت المعتق كي لا تكون الوصية معلقة إلا على موت الموصي، أو بأن (أل) في (الْوَصِيَّةِ) نائبة مناب الضمير؛ أي: على موته.
الصِّيغَةُ: نَحْوَ دَبَّرْتُكَ، وَأَنْتَ مُدَبَّرٌ، وَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي
يعني: أن هذا الباب له ثلاثة أركان؛ صيغة، ومدبر، والصيغ التي ذكرها المصنف صريحة في التدبير، نعم قد يخرج عن هذه الصيغة إلى الوصية بالقرينة؛ كقوله: أنت حر عن دبر مني ما لم أغير ذلك أو أرجع عنه أو أفسخه، كما أن صريح الوصية إذا صحبه قرينة تدل على إرادة التدبير انتقل حكمه؛ كقوله: إذا مت فعبدي فلان حر لا يغير ن حاله أو لا مرجع له فيه، فهذا كله حكم التدبير، حكاه عياض. وحكى بعضهم في الوصية إذا التزم الموصي عدم الرجوع عنها هل يلزمه ذلك؟ قولان.
أَوْ بَعْدَ مَوْتِي وَشِبْهُهُ
هذا مذهب أشهب؛ لأن مذهب ابن القاسم قال في المدونة، قيل: ومن قال لعبده أنت حر يوم أموت. قال، قال مالك فيمن قال في صحته لعبده: أنت حر بعد موتي فأراد بيعه أنه يسأل، فإن أراد وجه الوصية صدق، وإن أراد التدبير صدق ومنع من بيعه.
ابن القاسم: وهي وصية أبداً حتى يتبين أنه أراد التدبير. وقال أشهب: إذا قال هذا في إحداث وصية لسفر؛ لما جاء "إنه لا ينبغي لأحد أن يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة". فهو تدبير إذا قال ذلك في صحته.
ابن القاسم بعد الكلام المتقدم: وإن قال: إن كلمت فلاناً فأنت حر بعد موتي فكلمه؛ لزمه عتقه بعد موته، كما لو حلف بالعتق ولم يقل بعد موتي فحنث؛ فإنه يلزمه. قال: فكذلك هذا يلزمه ويعتق من ثلثه وصار حنثه بالعتق بعد الموت شبيهاً بالتدبير، وفرق في قوله: أنت حر بعد موتي بين غير المعلق فجعله وصية، وبين المعلق فجعله تدبيراً.
أبو عمران: ولا خلاف إذا قال ذلك في مرضه وسفره إن كان وصية. قال في المدونة، وإن قال: أنت حر بعد موتي بيوم أو شهر أو أكثر؛ فهو من الثلث ويلحقه الدين. قالوا: وهذا وصية؛ لأن مخالفة التدبير بكونه ليس معلقاً على الموت قرينة في إرادة الوصية.
وَأَمَّا إِنْ مِتُّ مَرَضِي هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِي هَذَا فَوَصِيَّةٌ لا تَدْبيرٌ
لما ذكر أولاً قوله على الوصية أخذ يبين ما هو وصية، وإنما كان وصية لأن قوله هذا يقتضي أن له الرجوع إن لم يمت في ذلك المرض أو السفر، فكان ذلك قرينة صارفة عن التدبير؛ إذ التدبير لا رجوع فيه، وما ذكره المصنف هو قول ابن القاسم في العتبية، وله في الموازية أن ذلك تدبير، حكاه اللخمي وعياض وغيرهما.
عياض: واختلف إذا قيد تدبيره بشرط، فقوله: إن مت في مرضي، أو سفري، أو في هذا الباب، وإذا قدم فلان فأنت مدبر، هل هي وصية له الرجوع فيها، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ، إلا أن يكون قصد التدبيرن وله في الموازية وكتاب ابن سحنون: هو تدبير لازم، وقاله ابن كنانة.
وَأَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوتِي بسَنَةٍ إِنْ كَانَ السَّيِّدُ مَلِيئاً لَمْ يُوقَفْ، فَإِذَا مَاتَ فَإِنْ كَانَ صَحِيحاً وَقْتَ الأَجَلِ فَمِنْ رَاسِ الْمَالِ، وَيَرْجِعُ بكِرَاءِ خِدْمَتِهِ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ مَرِيضاً فَمِنْ ثُلْثِهِ وَلا رُجُوعَ لَهُ بخِدْمَتِهِ، وِإنْ كَانَ غَيْرَ مَلِيءِ وُقِفَ خَرَاجُهُ سَنَةٌ، ثُمَّ يُعْطَى السِّيَّدَ بَعْدَ كُلِّ شَهْرٍ بَعْدَهَا خَرَاجُ شَهْرٍ قَبْلَهَا
…
قوله: (بسَنَةٍ) يريد أو شهراً، أو سنتين، أو نحو ذلك، فإن كان السيد مليئاً لم يوقف؛ أي: خراج خدمة العبد وترك لسيده يستخدمه، فإذا مات السيد فلا يخلو أني كون قبل الموت بسنة مريضاً أو صحيحاً، فإن كان مريضاً فقد تبين أنه أعتقه في المرض فيخرج من ثثه بغلة على تركة سيده؛ لأن كل من خرج من ثلثه فغلته لسيده، لأنها لا ينظر فيه إلا بعد الموت، وإن كان عند السنة صحيحاً فقد تبين أنه أعتقه في الصحة؛ فيعتق من رأس المال ويرجع بكراء خدمته في السنة؛ لأنه قد تبين انه كان مالكها في نفس الأمر، ولهذا لا يضرهما استئذان السيد بعد السنة أو غيرها، وإن كان السيد حين التعليق معسراً وقف خراج العبد سنة، ثم يعطى السيد بعد كل شهر بعد السنة خراج شهر قبلها؛ أي: السنة المحفوظة للسنة المتقدمة، وهذا قول ابن القاسم في العتبية، والأقرب أنه يدفع كل يوم من السنة خراج يوم قبلها، وقاله ابن القاسم أيضاً، ونقله سحنون عن بعض الأصحاب، ولم يفصل سحنون فيما حكاه بين أن يكون السيد معسراً أو موسراً، وحكى في البيان ثلاثة أقوال:
الأول: يعجل عتقه من الآن ولا ينتظر به موت سيده؛ لاحتمال أن يكون لم يبق بينه وبين موته إلا مثل الأجل الذي سمى أو أقل؛ فلا يسترقه بالشك وهو أحد قولي ابن القاسم.
الثاني: أن يكون يعتق بعد موته من الثلث، وله أن يطأ إن كانت أمة؛ لأنه عتق لا يكسبه إلا الموت، وهو قول أشهب.
الثالث: لا يعتق من رأس المال ولا من الثلث للشك، وهو لأشهب أيضاً وهو أَعف الأقوال، وأظهرها قول ابن القاسم؛ يعني: ما ذكره المصنف.
وعورضت هذه المسألة بما إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر؛ فإنه يعجل الطلاق، وقد يجاب بأن الطلاق أضيق؛ لأنه لا يقبل التأجيل والتبعيض، ألا ترى [755/ب] أنه لو قال: أحد من نسائي طالق؛ أنه يلزمه طلاق الجميع. المشهور: ولو قال أحد عبيدي حر اختار عتق واحد.
الْمُدَبِّرُ شَرْطُهُ: التَّمْييزُ لا الْبُلُوغُ؛ فَيَنْفُذُ مِنَ الْمُمَيِّزِ وَلا يَنْفُذُ مِنَ السَّفِيهِ
لما فرغ من الصيغة شرع في المدبِّر-بكسر الباء- وشرط فيه التمييز، فيخرج المجنون والصغير الذي لا يميز، والأقرب أن التدبير يلزم السكران كما يلزمه العتق على المشهور، وما ذكره من نفوذه من المميز هو مفهوم كلام ابن شاس.
ابن راشد وابن عبد السلام وغيرهما: وهو كذلك. ففي البيان: أما الصغير فلا خلاف أنه لا يجوز طلاقه ولا عتقه ولا شيء من أفعاله. وفي النوادر: أن تدبير من لم يبلغ الحلم لا يجوز بخلاف وصيته. والفرق بين التدبير والوصية: أن الوصية إنما تخرج بعد موته وله الرجوع، والتدبير ليس له الرجوع فيه.
وقوله: (لا يَنْفُذُ مِنَ السَّفِيهِ) يريد المولى عليه، وسواء كنا ماله واسعاً أم لا. وقال ابن كنانة: إن لم يكن له غير العبد الي دبر لم يجز تدبيره، وإن كان ماله واسعاً لا يجحف العبد به- فإن ذلك له- جاز، وإن دبر عبداً من وَجْهِ رقيقه، أو لكثرتهم ثمناً، أو جارية مرتفعة هي جُلُّ ماله؛ فلا يجوز.
ابن رشد: وهو استحسان. ابن عبد السلام: ولا ينفذ من السفيه هو قول أشهب، وقال ابن القاسم: له أن يدبر في المرض، فإن صح بطل. وقال ابن كنانة: يجوز تدبيره ولا يقع إلا بعد موت، وإنما يمنع من ماله في حياته. انتهى. فانظر نقله مع نقل ابن رشد. أما السفيه غير المولى عليه؛ فالمشهور عن ابن القاسم أن أفعاله جائزة، والمشهرو عن مالك أن أفعاله مردودة.
وَفِي نُفُوذِهِ مِنْ ذَاتِ الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَكُن لَهَا مَالٌ سِوَاهُ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ
احترز بذات الزوج من الأيم فإن تدبيرها ينفذ. وروى ابن القاسم نحو قوله عن مالك؛ لأن التدبير لم يخرجه من يدها ولها فيه الخدمة والتحمل، ويقول سحنون قال مطرف وابن الماجشون. وروى أيضاً عن مالك قد ألزمته إلزاماً لا رجوع لها فيه فصار ذلك كالتفويت، وينبغي أن يقيد بما إذا أنقصهالتدبير أكثر من ثلث مالها، والله أعلم.
وَإِذَا دَبَّرَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ صَحَّ، وَفِي مُؤَاجَرَتِهِ أَوْ تَنْجِيزِ عِتْقِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٍ
…
احترز بـ (الْمُسْلِمَ) مما لو دبر عبده الكافر؛ فإنه لا يلزمه وله الرجوع فيه، نص عليه ابن القاسم. وقوله:(الْمُسْلِمَ) يشمل صورتين؛ الأولى: أن يسلم في ملكه ثم يدبره. الثانية: أن يشتريه مسلم ثم يدبره. وفي كل منهما ما ذكره المصنف، وما قاله ابن القاسم هو له في المدونة يؤاجر عليه ويحال بينه وبينه، ويقول مطرف قال ابن الماجشون، وهو ظاهر؛ لأنه يحتمل في استدامة ملك الكافر. وزاد اللخمي في الصورة الثانية قولاً ثالثاً: أن الشراء فيه معتقد وكأنه دبر عبد غيره.
ابن القاسم: وإن آجر مدبر النصراني إذا أسلم وقبض المستاجر أجرته فأتلفها، ثم مات قبل أن يخدم العبد شيئاً، فإن رضي العبد أن يخدم مدة الإجارة رغبته في عتق جميع ثلثه؛ فذلك له، ثم يباع باقيه على ورثة سيده النصراني ولا كلام لمن استأجره، وإن أبى العبد أن يخدم في حصة ما أعتق، فإن رضي الذي استأجره أن يخدم ما رق منه لاستحقاق بعض ما استؤجر؛ بيع من جميعه بقدر الإجارة وعتق ثلث ما بقي وبيع على الورثة ما بقي بعد ذلك، وإن رضي المستأجر أن يخدم ما رق منه للورثة؛ فليبع من ثلثه بقدر ثلث الإجارة ويعتق ما بقي من ثلثه ويخدم المستأجر ثلثه حصة ما رق منه، وإذا تمت الإجارة بيع على الورثة ما رق لهم منه، إلا أن يسلموا قبل ذلك فيبقى لهم.
ابن الجلاب: وإن دبر الحربي عبده ثم أسلم العبد أوجر عليه من مسلم ودفعت له إجارته، فأما إن مات عتق من ثلثه، ويخرج فيها وجه آخر؛ وهو أن يباع عليه ويدفع إليه الثمن اعتباراً بأم الولد إذا أسلمت قبله.
وَيَرْتَفِعُ بقَتْلِ سَيِّدِهِ عَمْداً، أَوْ باسْتِغْرَاقِ الدَّيْنِ لَهُ ولِلتَّرِكَةِ
أي: يرتفع التدبير بقتل سيده عمداً، كما أن القاتل عمداً لا يرث؛ لأنهما لما استعجلا الشيء قبل أوانه عوقبا بحرمانه، واحترز بالعمد من الخطأ، فإنه يعتق في ماله لا ديته، ويرتفع أيضاً باستغراق الدين له وللتركة؛ لأن الدين إنما يخرج من الثلث والدين مقدم، كما لو كان المدبر يساوي مائة والتركة مائتان وعيه ثلاثمائة.
وَيَرْتَفِعُ بَعْضُهُ بمُجَاوَزَةِ الثُّلُثِ
ويبطل بعض المدبر بسبب مجاوزة ذلك البعض الثلث؛ لأنه إنما يخرج من الثلث، وفي الدارقطني عن ابن عمر- رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث". وضعفه أبو عمر، وقال: الصحيح أنه موقوف على ابن عمر.
وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ وَكَانَ لِلسَّيِّدِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى حَاضرٍ مُوسِرٍ بيعَ بالنَّقْدِ، وَإِنْ كَانَ حَالاًّ عَلَى قَرِيبِ الْغَيْبَةِ اسْتُؤْنِيَ بالْعِتْقِ قَبْضُهُ، وَإِلا بيعَ لِلْغُرَمَاءِ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ أَوْ أَيْسَرَ الْمُعْدَمُ بَعْدَ بَيْعِهِ؛ فَفِيهَا: يَعْتِقُ مِنْهُ حَيْثُ كَانَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِلْوَرَثَةِ الْفِدْيَة دُونَهُ
…
أي: لو ضاق ثلث السيد عن خروج المدبر منه وكان للسيد دين مؤجل على حاضر مليء؛ بيع بالنقد ليخرج المدبر، فإن كان الدين يساوي مائة وترك السيد مائة والمدبر يساوي مائة أعتق، ولا يريد المصنف بيع بالنقد؛ أي: بالعين، بل المراد المعجل؛ [756/أ]
لأن الدين إذا كان عيناً إنما يباع بالعرض، وإن كان الدين حالاًّ على قريب الغيبة؛ فلايباع واستؤني العِتْقُ قبضَ ذلك الدينِ ممن هو عليه ويعتق فيه المدبر، وقرب الحلول كالحال، هكذا أشار إليه صاحب البيان.
قوله: (وَإِلا) أي: وإن لم يكن على حاضر موسر، بل على غائب ولو كان مليًّا أو على معسر، ولو كان حاضراً بيع المدبر للغرماء، أو بيع منه ما جاوز الثلث، وإن حضر الغائب بعد بيعه أو أيسر المعدم؛ فقولان أوجههما في المدونة، هكذا ذكر المصنف، وإنما ظاهرهما على ما قاله اللخمي- نعم هو مذهب عيسى وأصبغ-: يعتق منه حيث كان، سواء كان في يد وارث أو مشتر.
الشيخ أبو محمد: وهذا المعروف عن مالك وأصحابه، والثاني لابن القاسم في العتبية، والنفس إليه أميل، وليس كمالٍ طرأ للورثة ولم يتقدم علمهم به؛ لأن هذا قد علموا بهن وأبطل الشرع حق المدبر منه، ثم إن ابن القاسم إنام أبطل حق المدبر في هذا القول إذا أخرج عن يد الورثة ببيع، أو هبة، أو صدقة، أو وجه من الوجوه. قال: وأما إن كان بيد الورثة؛ فإنه يعتق في ثلثه ما اقتضى، وعلى هذا فالاتفاق على أنه يعتق منه إن كان المدبر بيد الورثة، وإنما اختلف إذا لم يكن بأيديهم، وهكذا أشار إليه اللخمي.
وَلا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ، وَلا هِبَتُهُ، وَلا الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلا إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلا بالْحُرِّيَّةِ
منع بيعه هو المشهور، ونقل في الموطأ: أنه الأمر المجمع عليه عندهم.
ابن عبد البر: كان بعض أصحابنا يفتي ببيعه إذا تخلق على مولاه وأحدث إحداثاً قبيحاً، وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز بيعه؛ لما في الصحيحين: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أصحابه أعتق غلاماً عن دبر لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل ثمنه إليه. والجواب أنه قد روى النسائي في بعض طرقه أن الرجل كان عليه دين،
ونحن نقول بموجبه، وأيضاً فقد ذكر عبد الحق عن ابي مريم عن عبد الغفار ابن القاسم الكوفي الأنصاري: أنه روى عن أبي جعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في قصة هذا المدبر، قال: إنما أذن ببيع خدمته. ويشهد للثاني ما رواه مالك: أن عائشة رضي الله عنها باعت جارية لها سحرتها. أرادت بذلك تعجيل العتق بقتلها.
مالك وسحنون: وكانت مدبرة، وإذا فرعنا على المذهب، فلو بيع المدبر فسخ بيعه ما لم يتصل به عتق، واختلف حينئذ قول مالك، فقال مرة: بإمضاء البيع ويجوز وولاؤه للمشتري، وقال مرة: يفسخ لأن الأول لما دبره فقد انعقد ولاؤه له، فلو أمضاه للمشتري لزم نقل الولاء، والأول أشهر والثاني أقيس، وعلى الأشهر فقال مالك: لا شيء على البائع والثمن سيغ له حلال، وقاله ابن القاسم، وقال ابن كنانة: يؤمر أن يتضح من ثمنه، وقال ابن القاسم: إذا باع مدبره وجعل أمره وما صار إليه فليجعل ثمنه كله في مدبر، وجمع بعض الشيوخ مسألة: إذا مات هذا المدبر عند مشتريه أو أعتقه، وذكر أربعة أقوال:
الأول: أنه لا يجب عليه أن يتنجز من ثمنه في الوجهين، والثاني: مقابله. والثاثل: يجب عليه أن يتنجز بما زاد على قيمته على الرجاء والخوف فيها. الرابع: الفرق فيجب عليه التنجز من الزيادة في الموت دون العتق.
وَلَوْ جَنَى لَمْ يُبَعْ، فَفِيهَا: وإِنْ شَاءَ السَّيِّدُ أَسْلَمَ خِدْمَتَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِي أَرْشَهَا أَوْ فِدَاهُ، فَإِنْ أَسْلَمَهُ فَمَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِمْ فَإِنْ عَتَقَ فَفِي اتِّبَاعِهِمْ ذِمَّتَهُ قَوْلانِ، فَإِنْ رُقَّ بَعْضُهُ تَعَلَّقِ بهِ حِصَّتُهُ مِمَّا بَقِيَ وَخُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ إِسْلامِ الْبَعْضِ وَافْتِكَاكِهِ
…
إذا جنى المدبر جناية لم يبع في تلك الجناية. وقوله: (حَتَّى يَسْتَوْفِي أَرْشَهَا) يعني: أن المجني عليه لا يملك جميع الخدمة، بل إنما له من الخدمة بمقدار أرش جنايته، وهذا هو المشهور، وقيل: إنه يملك الجميع، وعلى المشهور فللسيد أن يقاص أهل الجناية بما أخذوا من الجناية ويدفع لهم بقية الأرش وقاله التونسي، هذا التخيير الذي ذكره المصنف مقيد
بما إذا لم يكن للمدبر مال، فإن كان له مال لم يكن للسيد إسلامه من مجني عليه بخدمته، بل يدفع أرش الجناية من ماله، نص عليه في المدونة وغيرها، وإن أسلمه السيد فمات السيد قبل أن يستوفي ذو الجناية أرشها، فإن حمله الثلث نفذ عتقه، ثم في اتباع ذي الجناية للمدبر قولان. مذهب المدونة: أنه يتبع. والقول بأنه لا يتبع حكاه ابن الجلاب. وسبب الخلاف: هل تدفع الخدمة للمجني عليه على سبيل التقاضي أو على سبيل المعاوضة والتمليك، فعلى الأول يرجع إلى السيد إذا استوفى المجني عليه أرش الجناية ويتبع المدبر إذا مات السيد قبل استيفاء الجناية، وعلى الثاني العكس فيهما؛ بناء على أن الجناية إنما تعلقت بالخدمة والخدمة سقطت بالعتق أو تعلقت برقبته، ولما منع الشرع من بيعه لأجل التدبير وزوال التدبير بقيت الجناية متعلقة برقبتها، وأما تعذر بيعها لأجل الحرية؛ تعلقت بالذمة، وإن لم يحمل الثثل رقبته؛ عتق منه محمل الثلث حتى لو لم يترك السيد غيره عتق ثلثه ورق ثلثاه وكان ثلثاه بقي من رأس الجناية متعلقاً بما رق من الرقبة، ويختلف في اتباع ثلث الحر، وهذا قول المصنف:(تعَلَّقَ بهِ حِصَّتُهُ مِمَّا بَقِيَ) يعني: من أرش الجناية، وهكذا الفقهاء السبعة [756/ب]: أن الورثة مخيرون في إسلام ما بقي.
محمد: وإنام يخير الورثة في الباقي، وقد كان السيد أسلمه؛ لأنه إنما أسلم خدمته فيما صار بعضه رقاً خروا لأنه غير ما أسلمه السيد.
وَلَوْ جَرَحَ الْمُدَبَّرُ ثَانِياً بَعْدَ إِسْلامِهِ تَحَاصَّا ببَقِيَّةِ الأُولَى وجُمْلَةِ الثَّانِيةِ بخِلافِ الْقِنِّ يَجْرَحُ فَيُخَيَّرُ الأَوَّلُ بَيْنَ إِسْلامِهِ وَافْتِكَاكِهِ
…
يعني: جرح المدبر واحدا وأسلم إليه ثم جرح ثانياً؛ ففي المدونة: يتحاص هو والأول في خدمة الثاني لجميع أرش جرحه، والأول بما بقي له إن كان استخدمه شيئاً، بخلاف العبد القن؛ فإنه إذا أسلم ملك للمسلم إليه، فإذا جرح ثانياً كان المجروح أولاً من سيده فيخير بين أن يسلمه أو يفديه، والتخريج لابن الجلاب وهو مبني على القول أنه
يدفع الخدمة تمليكاً، والقن في اللغة أخص منه عند الفقهاء العبد الذي لا شائبة فيه من شوائب الحرية. وقال في المحكم: القن هو الذي ملك أبوه وكذلك الاثنان، والجمع هذا الأعرف، وحكىجمعه أقنان وأقن، والأقناء قن بغير هاء، وقال اللحياني: العبد القن الذي ولد عندك ولا يستطيع أن يخرج عنك.
تنبيه: لم يتكلم المصنف على الركن الثالث وهو المدبَّر بفتح الباء؛ لدلالة كلامه عليه، وهو كل من فيه شائبة رق من عبد أو أمة، صغيراً وكبيراً وجميلاً.
وَوَلَدُ الْمُدَبَّرِ مِنْ أَمَتِهِ بَعْدَ التَّدْبيرِ بِمَنْزِلَتِهِ
احترز بـ (أَمَتِهِ) من زوجته؛ لأن الزوجة إذا كانت حرة فالولد حر، وإن كانت أمة فهو رقيق لسيدها. واحترز بـ (بَعْدَ التَّدْبيرِ) مما لو حملت به قبله؛ فإنه لا يكون مدبراً ولو ولد بعده، فإذا ولدته لستة أشهر فأكثر من يوم التدبير كان مدبراً مع أبيه، ويحمل على أنها حملت به بعد التدبير، وإن ولدته لأقل كان رقاً لسيده ولم يكن مدبراً مع أبيه.
ابن حبيب: وإن أحدث السيد ديناً؛ فلا يباع الولد وهو صغير ويوقف إلى حد التفرقة فيباع، وكذلك لو كان الصغير هو المدبر دونها، وإذا كان ولد المدبر بمنزلة أبيه، فهل يحاص أباه عند ضيق الثلث على المشهور في المدبرين في كلمة واحدة خلافاً لابن نافع الذي يقول: منهم محمل الثلث بالقرعة، أو يكون الأب مقدماً في الثلث؛ لأنه تقدم تدبيره على تدبير ولده؛ كالمدبر من أحدهما بعد الآخر، والثاني هو الظاهر، والأول هو المنقول في المدونة وغيرها.
وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ كَذَلِكَ
أي: ما ولد للمدبرة من زوجها بمنزلتها؛ يعتق بعتقها، أما لو أعتقها السيد في حياته لم يعتق إلا بموت سيدهم.
وَالْحَمْلُ عِنْدَ التَّدْبيرِ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بهِ
أي: إذا دبرها وهي حامل، فإن الولد يتبعها ولا يشترط ي حملها أن يكون كائناً بعد التدبير كما اشترط في حمل المدبر من أمته؛ لأن ما في بطن المدبرة عضو من أعضائها ولا يصح استثناؤه، أو لأن أمة المدبر ليس فيها عقد تدبير وإنما عقد التدبير في سيدها، بخلاف المدبرة فيما إذا صادف الولد التدبير وهو في بطنها فقد شمله ذلك.
وَفِي صَيْرُورَةِ أَمَةِ مُدَبَّرٍ تَحْمِلُ بَعْدَ التَّدْبيرِ، ثُمَّ يَعْتِقُ أَمَّ وَلَدٍ قَوْلانِ
يعني: أن أمة المدبر إذا حملت بعد عقد التدبير ثم يعتق سيدها بموت سيده وخروجه من الثلث، فهل تكون بذلك الحمل أمَّ ولد؟ في ذلك قولان وهما لمالك في كتاب أمهات الأولاد من المدونة؛ ففيها، قال ابن القاسم: وكل ما ولد لمدبر أو مكاتب من أمته فما حملت به بعد عقد التدبير أو الكتابة فهو بمنزلته يعتق مع المكاتب بالأداء ومع المدبر في الثلث، وإذا أعتقا كانت الأمة أم ولد بذلك لهما؛ كان الولد حياً أو ميتاً، وقاله مالك. وقال ابن القاسم: لأن ولدها بمنزلة أبيه فوجب أن يجري فيها ما جرى في ولدها.
سحنون: ولمالك قول أنها لا تكون أم ولد بذلك، وقاله الرواة في املدبر خاصة أن لسيدها انتزاعها إن لم تكن حاملاً، وأن المدبر لا يتبعها إلا بإذن السيد، قالوا: وأما المكاتب فهي له أم ولد إذا أعتق إذا كان السيد ممنوعاً من ماله، وليس للمكاتب بيعها وإن أذن له سيده حتى يخاف العجز، والقياس كما قاله ابن المواز: أنها لا تكون به أم ولد، وهو قول أشهب وعبد الملك، واستحسن ابن أن تكون به أم ولد.
وَلِلسَّيِّدِ انْتَِاعُ مَالِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ الْوَفَاةُ أَوْ يُفْلِسْ
في كلامه نظر؛ لأن أهل المذهب نصوا على أن السيد إذا مرض مرضاً مخوفاً لا يجوز له الانتزاع، فإذا مراده بقوله (مَا لَمْ يَحْضُرْهُ الْوَفَاةُ) ما لم يمرض مرضاً مخوفاً؛ لأنه
حينئذ إنما ينزع لغيره وهذا هو المشهور، وقيل: له أن ينتزع، وفي بعض النسخ أو يفلس، وقد يحمل قوله:(أَوْ يُفْلِسْ) على المريض؛ أي: ما لم يفلس الميرض. قال في المدونة: وإن أفلس الميرض لم يكن له أن يأخذ مال مدبره للغرماء.
وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَخْذُ مَالِهِ
أي: لو أفلس السيد لم يكن للغرماء أخذ مال المدبر ولا لهم أن يجبروا السيد على انتزاعه؛ لأنهم لم يعاملوه على ذلك، كما لا يجبرونه على قبول الهبة ولا على السلف، وخرج قول بأن يكون لهم جبره على الانتزاع مما قيل في المذهب فيمن حبس عليه حبس؛ يعني: وشرط عليه المحبس أن يبيع إذا احتاج إلى البيع أن لهم إجباره عليه.
وَيُقَوَّمُ بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدِهِ بمَالِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ عَتَقَ، وَإِلا أُعْتِقَ بَعْضُهُ، وَأُقِرَّ مَالُهُ بيَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبِ: أَمَّا إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْمُدَبَّرِ بمَالِه ضُمَّ مَالُهُ مَعَ التَّرِكَةِ، فَإِذَا عَتَقَ أُعْطِيَ بَقِيَّةَ [757/أ] الثُّلُثِ
…
قوله: (بمَالِهِ) مثاله: قيمته بماله مائتان والتركة أربعمائة (وَإِلا) أي: وإن لم يحمله الثلث عتق ما يحمله الثلث، كما لو كانت المسألة بحالها والتركة مائة فقط؛ فيعتق منه نصفه فقط ويقر بيده نصف ماله وهو خمسون. وقول ابن القاسم منقول عن مالك، وعلى قول ابن وهب: يعتق كله؛ لأنه إذا ضممت المائة التي بيده إلى المائة التي للميت خرج جميعه منه. وقوله: (أُعْطِيَ بَقِيَّةَ الثُّلُثِ) يريد: إن بقي شيء من الثلث.
ابن وهب: فإذا كانت قيمة المدبر مائة دينار وله ثمانمائة دينار؛ كان له من ماله مائتا درهم. قال: وكذلك يفعل بالذي أوصى بعتقه وللعبد مال، ورواه ابن وهب عن الليث وربيعة ويحيى بن سعيد.
اللخمي: وعلى قول ابن القاسم يعتق ثلثه هنا ويقر المال بيده. وقال في الموازية: وإن دبر عبده في صحته واستثنى ماله فذلك جائز.
ابن القاسم: ويستثنى ماله بعد الموت ويقوم في ثلث سيده بغير ماله، ويأخذ ما في يديه فيحسب من مال سيده، بمنزلة من قال: إذا مت فعبدي حرٌّ أو مدبَّرٌ وخذوا ماله.
* * *