الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر التأويل عند السلف والمتكلمين والفرق بين التفسير والتأويل
لقد ورد ذكر التأويل في القرآن الكريم أكثر من التفسير فما هو التأويل؟
وهل هو مرادف للتفسير أم بينهما فرق؟، وكيف كان فهم علماء السلف والمتكلمين له؟.
أولا: التأويل عند علماء السلف: (1)
التأويل في اللغة هو: تفعيل من أوّل يؤوّل تأويلا، ومادته من الفعل «آل» بمعنى رجع وصار، ومعناه: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلي ما يحتاج إلي دليل، لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. وقيل هو تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح بغير بيان لفظه (2).
وفي الاصطلاح هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلي احتمال مرجوح به لاعتضاده بدليل يصير به اغلب الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر (3).
وهذا المعنى للتأويل عبّر به علماء الأصول، وهو قريب من فهم المفسرين من علماء السلف - أيضا - للتأويل، فشيخ المفسرين الطبري رحمه الله يعبر عن
(1) مصطلح (السلف) في الغالب يطلق على صدر هذه الأمة من أهل النقاء والصفاء وحصره بعض العلماء في أهل القرون الثلاثة الأولي المشهود لها بالخير على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لم يخالط إيمانهم فكر فلسفي ولا غيره من البدع ولم يقدموا على كلام الله ورسوله شيئا وقد أمرنا باتباع سبيلهم وحذرنا من السير في غير طريقهم قال تعالى: ومَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدي ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّي [النساء: 115]، وقد سار على دربهم علماء أجلاء دافعوا عن منهجهم فاستحقوا أن يلحقوا بهم.
(2)
لسان العرب 1/ 264 (مادة أول).
(3)
انظر: روضة الناظر: لابن قدامة بشرح ابن بدران 2/ 30 وما بعدها.
التفسير بالتأويل، فيقول عند كل آية:«القول في تأويل قوله تعالى» ثم يشرع في تفسيرها، ويقول في مقدمة تفسيره التأويل على ثلاثة أوجه:
ما لا سبيل إلي الوصول إليه وهو ما استأثر الله بعلمه.
وما خص الله تعالى بعلم تأويله نبيه صلى الله عليه وسلم.
وما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن (1).
ومن خلال السياق الموجز السابق لمعنى التأويل عند الأصوليين والمفسرين من علماء السلف، يبدو أنهم كانوا يستعملونه في إطار معناه اللغوي، وهو الكشف عن معنى اللفظ أو حمله على معنى من المعاني إن كان يحتمل أكثر من معني.
وللتأويل عند علماء السلف ضوابط مهمة تبعد المؤوّل أو المفسّر عن اتباع الهوى والشطط في التأويل من أهمها: «أن يكون المعنى الذي أوّل إليه النص من المعاني التي يحتملها لفظ النص نفسه .. موافقا لوضع اللغة .. وأن يكون للتأويل دليل صحيح يدل على صرف اللفظ عن الظاهر إلي غيره .. لأن الأصل في عبارات الشرع ونصوصه أنها قوالب لمدلولاتها الظاهرة، ويجب العمل بظاهرها إلا إذا قام دليل للعدول عن الظاهر إلي غيره .. فظاهر الأمر: أنه يدل على الوجوب فيجب العمل بهذا الظاهر ولا يحمل على الندب والإرشاد إلا بدليل، وكذلك ظاهر النهي التحريم فيجب الكف والترك، وأما العدول إلي القول بالكراهة فلا يقبل إلا بدليل) (2).
ومن العلماء من فرّق بين التأويل والتفسير، ومن فرّق وجّه الفرق بينهما بأن التفسير يتعلق ببيان موضوع اللفظ، والتأويل ببيان المعنى المراد (3).
(1) تفسير الطبري 1/ 25، 26 بتصرف.
(2)
انظر: روضة الناظر وجنة المناظر 2/ 31، 32 إرشاد الفحول للشوكاني ص 177.
(3)
انظر: أصول التفسير وقواعده ص 52/ 53.
ومثال ذلك: في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّك لَبِالْمِرْصادِ (14)[الفجر: 14] تفسيره أي من الرصد، يقال رصدته أي رقبته وتأويله: المعنى المراد التحذير من التهاون بأمر الله تعالى لأنه مطلع على عباده ومراقبهم
…
ثانيا: التأويل عند المتكلمين: (1)
ليس للتأويل عند المتكلمين ضابط معين إلا العقلانية البعيدة عن كل الأصول المعتمدة سواء في أصول التفسير وأصول الفقه أو أصول اللغة أو أصول الاعتقاد، .... والسبب في ذلك أنهم لما تأثروا بالفلسفة التي جاءت من الكتب المترجمة عن الإغريق واليونان وغير ذلك وقعوا في ضلالات مستكرهة، وكلما رأوا شيئا في القرآن أو السّنّة ما يكشف أمرهم أوّلوه والتمسوا له المخارج البعيدة.
قال عنهم ابن قتيبة رحمه الله: «ولما اطرد لهم القول على ما أصلوا، ورأوه حسن الظاهر، قريبا من النفوس يروق السامعين، ويستميل قلوب الغافلين، نظروا في كتاب الله تعالى فوجدوه ينقض ما قاسوا ويبطل ما أسسوا، فطلبوا له التأويلات المستكرهة والمخارج البعيدة وجعلوه عويصا وألغازا» (2).
وضرب أكثر المتكلمين بأصول التفسير عرض الحائط، وقالوا في القرآن بالهوى، وكان لتأويلهم الفاسد آثار خطيرة، من أخطرها التأويلات العقدية للآيات القرآنية التي تحدثت عن بعض صفات الله تعالى، التي وصف بها نفسه في القرآن أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم مثل: اليد والعين والوجه والنفس والاستواء
(1) يطلق هذا المصطلح على العلماء الذين درسوا العقيدة متأثرين بالفلسفة والمنطق ويسمي المنقول عنهم علم الكلام.
(2)
انظر: علي سامي النشار وآخر في تحقيقهما مجموعة رسائل عقائد السلف ص 226 ط دار المعارف.
على العرش، ونزول الله تعالى ومجيئه و
…
وغير ذلك (1).
فقد قاموا بتأويلها وصرف ألفاظها إلي غير ظاهرها هروبا من شبهة التجسيم والتمثيل فوقعوا في التعطيل والتحريف والقول على الله بغير علم.
فأولوا مثلا قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي (1)[طه: 5](بمعنى استولى، مع أنه ليس في أي استعمال العرب اسْتَوى بمعنى (استولى) وإنما هو بمعنى (استقر) وإن كان في نظرهم أن تأويل الاستواء بالاستقرار فيه وصف الله تعالى بالمكانية و .. غير ذلك، فلا بد أن يعلموا أن الاستواء في جانب الله عز وجل يختلف عنه في جانب خلقه.
ويلاحظ خطورة القول بمثل ذلك التأويل الذي لا يحدّه حد ولا يضبطه ضابط الذي قاله علماء الكلام، إذ يترتب عليه أن يكون الصحابة والتابعون من المشبهة - والعياذ بالله - فقد كانوا يمرّون مثل تلك الآيات على ظاهرها بدون تأويل، ويردون إلي الله تعالى علم مراده منها.
وقد كان موقف علماء السلف من مثل تلك الآيات إمرارها على ظاهرها بدون تعطيل ولا تشبيه، فعند ما يقرءون يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلي [الليل: 20]، فَإِنَّك بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] (نثبت لله اليد والوجه والعين كما أثبتها لنفسه سبحانه، وتنزهه عن أن تكون هذه الأوصاف جوارح، فلا يعلم كنهها إلا هو سبحانه، (وكذلك مجيئه ونزوله وضحكه) بما يليق بجلاله سبحانه.
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي (5)(فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه)(2).
(1) انظر: تأويلاتهم في أساس التقديس للرازي ص 111 - 191 والإرشاد للجوبيني ص 145 - 146.
(2)
انظر شرح أصول اعتقاد أهل السّنّة والجماعة للالكائي (برقم 664، ط دار البصيرة، الإسكندرية.
ورأينا ابن جرير الطبري رحمه الله عند ما تحدث عن التأويل جعل القرآن ثلاثة أقسام منه قسم لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار ولا سبيل للوصول إليه.
وخلاصة القول: أنه لا بدّ من تقرير أن الذي حمل المتكلمين على تلك التأويلات في الغالب هو حسن النية وطلب التنزيه لله تعالى، ولكن حسن النية من غير اعتماد على الأصول المعتمدة للفهم السليم لا يغني من الحق شيئا.