الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِذا عرفت مَا يَنْبَغِي لكل طبقَة من تِلْكَ الطَّبَقَات من المعارف العلمية فلنكمل لَك الْفَائِدَة بِذكر مبَاحث ينْتَفع بهَا طَالب الْحق ومريد الْإِنْصَاف انتفاعا عَاما ويرتقي بهَا إِلَى مَكَان يَسْتَغْنِي بِهِ عَن كثير من الجزئيات
جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد
فَمِنْهَا أَن يعلم أَن هَذِه الشَّرِيعَة المطهرة السمحة مَبْنِيَّة على جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد وَمن تتبع الوقائع الكائنة من الْأَنْبِيَاء والقصص المحكية فِي كتب الله الْمنزلَة علم ذَلِك علما لَا يشوبه شكّ وَلَا تخالطه شُبْهَة
وَقد وَقع ذَلِك من نَبيا صلى الله عليه وسلم وقوعا لَا يُنكره من لَهُ أدنى علم بالشريعة المطهرة فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لما تبين لَهُ نفاق بعض الْمُنَافِقين واستحقاقه للْقَتْل بِحكم الشَّرِيعَة قَالَ لَا يتحدث النَّاس بِأَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه
فَترك قَتله لجلب مصلحَة هِيَ أتم نفعا لِلْإِسْلَامِ وَأكْثر عَائِدَة على أَهله وَدفع مفْسدَة هِيَ أعظم من الْمفْسدَة الكائنة بترك قَتله
وَبَيَان ذَلِك أَنه إِذا تحدث النَّاس بِمثل هَذَا الحَدِيث وشاع بَينهم شيوعا لَا يتَبَيَّن عِنْده السَّبَب كَانَ ذَلِك من أعظم المنفرات لأهل الشّرك عَن الدُّخُول فِي الدّين لِأَنَّهُ يصد أسماعهم ذَلِك الحَدِيث فيظنون عِنْده أَن مَا يعتقدونه من السَّلامَة من الْقَتْل بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام غير صَحِيح فيهربون مِنْهُ هربا شَدِيدا ويبعدون عَنهُ بعدا عَظِيما
وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ صلى الله عليه وسلم التَّأْثِير لجَماعَة مِمَّن لم تثبت قدمه فِي الْإِسْلَام بغنائم حنين كَأبي سُفْيَان والأقرع بن حَابِس وعيينة بن حصن فَكَانَ يُعْطي الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ وأمثالهم الْمِائَة من الْإِبِل وَمَا يقوم مقَام ذَلِك والمهاجرون وَالْأَنْصَار الَّذين هم الْمُقَاتلَة المستحقون للغنيمة ينظرُونَ إِلَى التَّأْثِير وَوَقع فِي أنفسهم مَا وَقع حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ يرحم الله رَسُول الله
يُعْطي هَؤُلَاءِ وسيوفنا تقطر من الدِّمَاء فَلَمَّا علمُوا بِمَا أَرَادَهُ صلى الله عليه وسلم من الْمصلحَة العائدة على الْإِسْلَام وَأَهله بتأليف مثل هَؤُلَاءِ وتأثيرهم بِالْغَنِيمَةِ قبلوه أتم قبُول وَطَابَتْ أنفسهم أكمل طيبَة
وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ صلى الله عليه وسلم الْعَزْم على مصالحة الْأَحْزَاب بِثلث ثمار الْمَدِينَة ظنا مِنْهُ بِأَن فِي ذَلِك جلب مصلحَة وَدفع مفْسدَة فَلَمَّا تبين لَهُ أَن التّرْك أجلب للْمصْلحَة وأدفع للمفسدة صَار إِلَيْهِ
وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ صلى الله عليه وسلم النَّهْي عَن تلقيح النّخل فَلَمَّا تبين لَهُ مَا فِي ذَلِك من الْمصلحَة لأَهله أذن لَهُم بِهِ
وَهَكَذَا وَقع مِنْهُ الْأذن بالعرايا لما شكى عَلَيْهِ الْفُقَرَاء مَا يلحقهم من الْمفْسدَة بِالْمَنْعِ من شِرَاء الرطب بِالتَّمْرِ مَعَ عظم الْخطر فِيمَا هُوَ مَظَنَّة بالربا
وَكم يعد الْعَاد من هَذِه الْأُمُور
وَبِالْجُمْلَةِ فَكل مَا وَقع من النّسخ والتخصيص وَالتَّقْيِيد فِي هَذِه الشَّرِيعَة المطهرة فسببه جلب الْمصَالح أَو دفع الْمَفَاسِد
فَإِن كل عَالم بِعلم أَن نسخ الحكم بِحكم آخر يُخَالِفهُ لم يكن إِلَّا لما فِي النَّاسِخ
من جلب مصلحَة أَو دفع مفْسدَة زَائِدَة على مَا فِي الأولى من النَّفْع وَالدَّفْع
وَهَكَذَا بالتقييد كَمَا وَقع فِي قَوْله تَعَالَى (غير أولى الضَّرَر) وَقَوله عز وجل (من الْفجْر) وَنَحْو ذَلِك كثير جدا
وَقد كَانَ دينه صلى الله عليه وسلم وهجيره الْإِرْشَاد إِلَى التَّيْسِير دون التعسير وَإِلَى التبشير دون التنفير فَكَانَ يَقُول يسروا وَلَا تُعَسِّرُوا وَلَا تنفرُوا
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يرشد إِلَى الألفة واجتماع الْأَمر وينفر عَن الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف لما فِي الألفة والاجتماع من الجلب للْمصَالح وَالدَّفْع للمفاسد وَفِي الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف من عكس ذَلِك
فالعالم المرتاض بِمَا جَاءَنَا عَن الشَّارِع الَّذِي بَعثه الله تَعَالَى متمما لمكارم الْأَخْلَاق إِذا أَخذ نَفسه فِي تَعْلِيم الْعباد وإرشادهم إِلَى الْحق وجذبهم عَن الْبَاطِل ودفعهم عَن الْبدع وَالْأَخْذ بحجزهم عَن كل مزلقة من المزالق مدحضة من المداحض بالأخلاق النَّبَوِيَّة وَالشَّمَائِل المصطفوية الْوَارِدَة فِي الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة المطهرة فيسر وَلم يعسر وَبشر وَلم ينفر وأرشد إِلَى ائتلاف الْقُلُوب واجتماعها وَنهى عَن التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف وَجعل غَايَة همه وأقصى رغبته جلب الْمصَالح الدِّينِيَّة للعباد وَدفع الْمَفَاسِد عَنْهُم كَانَ من أَنْفَع دعاة الْمُسلمين وأنجع الحاملين لحجج رب الْعَالمين وانجذبت لَهُ الْقُلُوب ومالت إِلَيْهِ الْأَنْفس وتذلل لَهُ الصعب وتسهل عَلَيْهِ الوعر وانقلب لَهُ المتعصب منصفا والمبتدع متسننا وَرغب فِي الْخَيْر من لم يكن يرغب فِيهِ
وَمَال إِلَى الْكتاب وَالسّنة من كَانَ يمِيل عَنْهُمَا وتردى بأثواب الرِّوَايَة من كَانَ متجلببا بِالرَّأْيِ وَمَشى فِي رياض الِاجْتِهَاد واقتطف من طيب ثمراته واستنشق من عابق رياحينه مَا كَانَ معتقلا فِي سجن التَّقْلِيد مكبلا بالقيل والقال مكتوفا بآراء الرِّجَال
فَإِن قلت مَا ذكرته من انبناء الشَّرِيعَة المطهرة على جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد مَاذَا تُرِيدُ بِهِ هَل يُلَاحظ ذَلِك النَّفْع وَالدَّفْع مُطلقًا أَو فِي حَالَة من الْحَالَات
قلت لَا أُرِيد مَا قَدمته إِلَّا أَن مَا لم يرد فِيهِ نَص يَخُصُّهُ وَلَا اشْتَمَل عَلَيْهِ عُمُوم وَلَا تنَاوله إِطْلَاق فَحق على الْعَالم المرشد للعباد الطَّالِب للحق أَن يستحضر ذَلِك ويرشد إِلَيْهِ ويهتم بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ
وَأما مواقع النُّصُوص وموارد أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة ومواطن قيام الْحجَج فَلَا جلب نفع وَلَا دفع ضرّ أولى من ذَلِك وَأقرب مِنْهُ إِلَى الْخَيْر وَأولى مِنْهُ بِالْبركَةِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مصَالح مجلوبة ومفاسد مدفوعة وَإِن قصرت بعض الْعُقُول عَن إِدْرَاك ذَلِك والإحاطة بكنهه وَالْوُقُوف على حَقِيقَته فَمن قُصُورهَا أتيت وَمن ضعف إِدْرَاكهَا دهيت
وَمن تدبر ذَلِك كل التدبر وتأمله بِحَق التَّأَمُّل لم يخف عَلَيْهِ فَإِن كل جزئي من جزئيات الشَّرِيعَة الَّتِي قَامَ الدَّلِيل على طلبَهَا والتعبد بهَا للْكُلّ أَو الْبَعْض مُطلقًا أَو مُقَيّدا لَا بُد أَن يشْتَمل على جلب مصلحَة أَو مصَالح عرفهَا من عرفهَا وجهلها من جهلها وكل جزئي من جزئيات الشَّرِيعَة الْوَارِدَة بِالنَّهْي عَن أَمر أَو أُمُور لَا بُد أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ مُشْتَمِلًا على مفْسدَة أَو مفاسد تنْدَفع بِالنَّهْي عَنْهَا
ولمزيد التتبع وَكَثْرَة التدبر فِي ذَلِك مدخلية جليلة لَا سِيمَا مَعَ استحضار الِاسْتِعَانَة بِاللَّه والتوكل عَلَيْهِ والتفويض إِلَيْهِ