الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَكَانَ هَذَا الصنع مِنْهُم يحملني على مجاوبتهم بِمَا لَا يُعجبنِي بعد الصحو من سكر الحداثة وَالْقِيَام من رقدة الشَّبَاب لَا لكَونه غير حق أَو لَيْسَ بصواب بل لكَون فِيهِ من سِهَام الملام وصوارم الْخِصَام مَا لَا يُنَاسب هَذَا الْمقَام
فَإِذا كَانَ هَذَا فِي المشتركين فِي التدريس والأفتى وهما خارجان عَن مناصب الدُّنْيَا لِأَنَّهُمَا فِي دِيَارنَا لَا يقابلان بِشَيْء من الدُّنْيَا لَا من سُلْطَان وَلَا من غَيره من نوع الْإِنْسَان فَمَا بالك بالرئاسات الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الدّين وَالدُّنْيَا أَو الَّتِي هِيَ خَاصَّة بالدنيا متمحضة لَهَا فَإِنَّهُ لَا شكّ أَن التنافس بَين أَهلهَا أهم من الرئاسات الدِّينِيَّة الْمَحْضَة الَّتِي لم تشب بِشَيْء من شوائب الدُّنْيَا
فَيَنْبَغِي للمنصف أَن لَا يغْفل عَن هَذَا السَّبَب فَإِن النَّفس قد تنقبض عَن كَلَام من كَانَ منافسا فِي رُتْبَة مُعَارضا فِي فَضِيلَة وَإِن كَانَ حَقًا وَقد يحصل مَعَ النَّاظر فِيهِ زِيَادَة على مُجَرّد الانقباض فيتكلم بِلِسَانِهِ أَو يحرر بقلمه مَا فِيهِ مُعَارضَة للحق وَدفع للصَّوَاب فَيكون مؤثرا لحمية الْجَاهِلِيَّة وعصبية الطاغوت على الشَّرِيعَة المطهرة وَكفى بِهَذَا فَإِنَّهُ من الخذلان الْبَين نسْأَل الله الْهِدَايَة إِلَى سَبِيل الرشاد
التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد
وَمن أَسبَاب التعصب الحائلة بَين من أُصِيب بهَا وَبَين المتمسك بالإنصاف التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد
وَكَثِيرًا مَا يَقع ذَلِك فِي أصُول الْفِقْه فَإِنَّهُ قد اخْتَلَط فِيهَا الْمَعْرُوف بالمنكر وَالصَّحِيح بالفاسد والجيد بالرديء فَرُبمَا يتَكَلَّم أهل الْعلم على مسَائِل من مسَائِل الرَّأْي ويحررونها ويقررونها وَلَيْسَت مِنْهُ فِي شي وَلَا تعلق لَهَا بِهِ بِوَجْه فَيَأْتِي الطَّالِب لهَذَا الْعلم إِلَى تِلْكَ الْمسَائِل فيعتقد أَنَّهَا مِنْهُ فَيرد
إِلَيْهَا الْمسَائِل الفروعية وَيرجع إِلَيْهَا عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة وَيعْمل بهَا فِي كثير من المباحث زاعما أَنَّهَا من أصُول الْفِقْه ذاهلا عَن كَونهَا من علم الرَّأْي وَلَو علم بذلك لم يَقع فِيهِ وَلَا ركن إِلَيْهِ فَيكون هَذَا وَأَمْثَاله قد وَقَعُوا فِي التعصب وفارقوا مَسْلَك الْإِنْصَاف وَرَجَعُوا إِلَى علم الرَّأْي وهم لَا يَشْعُرُونَ بِشَيْء من ذَلِك وَلَا يَفْطنُون بِهِ بل يَعْتَقِدُونَ أَنهم متشبثون بِالْحَقِّ متمسكون بِالدَّلِيلِ واقفون على الْإِنْصَاف خارجون عَن التعصب
وَقل من يسلم من هَذِه الدقيقة وينجو من غُبَار هَذِه الأعاصير بل هم أقل من الْقَلِيل وَمَا أخطر ذَلِك وَأعظم ضَرَره وَأَشد تَأْثِيره وَأكْثر وُقُوعه وأسرع نفَاقه على أهل الْإِنْصَاف وأرباب الِاجْتِهَاد
فَإِن قلت إِذا كَانَ هَذَا السَّبَب كَمَا زعمت من الغموض والدقة وَوُقُوع كثير من المنصفين فِيهِ وهم لَا يَشْعُرُونَ فَمَا أحقه بِالْبَيَانِ وأولاه بالإيضاح وأجرده بالكشف حَتَّى يتَخَلَّص عَنهُ الواقعون فِيهِ وينجوا مِنْهُ المتهافتون إِلَيْهِ
قلت اعْلَم أَن مَا كَانَ من أصُول الْفِقْه رَاجعا إِلَى لُغَة الْعَرَب رُجُوعا ظَاهرا مكشوفا كبناء الْعَام على الْخَاص وَحمل الْمُطلق على الْمُقَيد ورد الْمُجْمل إِلَى الْمُبين وَمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمر وَالنَّهْي وَنَحْو هَذِه الْأُمُور فَالْوَاجِب على الْمُجْتَهد أَن يبْحَث عَن مواقع الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة وموارد كَلَام أَهلهَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي مثل ذَلِك فَمَا وَافقه فَهُوَ الأحق بِالْقبُولِ وَالْأولَى بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ
فَإِذا اخْتلف أهل الْأُصُول فِي شَيْء من هَذِه المباحث كَانَ الْحق بيد من هُوَ أسعد بلغَة الْعَرَب هَذَا على فرض عدم وجود دَلِيل شَرْعِي يدل على ذَلِك فَإِن وجد فَهُوَ الْمُقدر على كل شَيْء
وَإِذا أردْت الزِّيَادَة فِي الْبَيَان والتكثر من الْإِيضَاح بِضَرْب من التَّمْثِيل وطرق من التَّصْوِير فَاعْلَم أَنه قد وَقع الْخلاف فِي أَنه هَل يبْنى الْعَام على الْخَاص مُطلقًا أَو مَشْرُوطًا بِشَرْط أَن يكون الْخَاص مُتَأَخِّرًا
وَوَقع الْخلاف فِي أَنه هَل يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد مَعَ اخْتِلَاف السَّبَب أم لَا
وَوَقع الْخلاف فِي معنى الْأَمر الْحَقِيقِيّ هَل هُوَ الْوُجُوب أم غَيره
وَوَقع الْخلاف فِي معنى النَّهْي الْحَقِيقِيّ هَل هُوَ التَّحْرِيم أَو غَيره
فَإِذا أردْت الْوُقُوف على الْحق فِي بحث من هَذِه الأبحاث فَانْظُر فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة واعمل على مَا هُوَ مُوَافق لَهَا مُطَابق لما كَانَ عَلَيْهِ أَهلهَا واجتنب مَا خالفها فَإِن وجدت مَا يدل على ذَلِك من أَدِلَّة الشَّرْع كَمَا تقف عَلَيْهِ فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة من كَون الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب وَالنَّهْي يُفِيد التَّحْرِيم فَالْمَسْأَلَة أصولية لكَونهَا قَاعِدَة كُلية شَرْعِيَّة لكَون دليلها شَرْعِيًّا كَمَا أَن مَا يُسْتَفَاد من اللُّغَة من الْقَوَاعِد الْكُلية أصولية لغوية
فَهَذِهِ المباحث وَمَا يشابهها من مسَائِل النّسخ ومسائل الْمَفْهُوم والمنطوق الراجعة إِلَى لُغَة الْعَرَب المستفادة مِنْهَا على وَجه يكون قَاعِدَة كُلية هِيَ مسَائِل الْأُصُول والمرجع لَهَا الَّذِي يعرف بِهِ راجحها من مرجوحها هُوَ الْعلم الَّذِي هِيَ مستفادة مِنْهُ مَأْخُوذَة من موارده ومصادره
وَأما مبَاحث الْقيَاس فغالبها من بحث الرَّأْي الَّذِي لَا يرجع إِلَى شَيْء مِمَّا تقوم بِهِ الْحجَّة وَبَيَان ذَلِك أَنهم جعلُوا لِلْعِلَّةِ مسالك عشرَة لَا تقوم الْحجَّة بِشَيْء مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ رَاجعا إِلَى الشَّرْع كمسلك النَّص على الْعلَّة أَو مَا كَانَ مَعْلُوما من لُغَة الْعَرَب كالإلحاق بمسلك إِلْغَاء الْفَارِق وَكَذَلِكَ قِيَاس الأولى الْمُسَمّى عِنْد الْبَعْض بفحوى الْخطاب
وَأما المباحث الَّتِي يذكرهَا أهل الْأُصُول فِي مقاصده كَمَا فَعَلُوهُ فِي مقصد الْكتاب ومقصد السّنة وَالْإِجْمَاع فَمَا كَانَ من تِلْكَ المباحث الْكُلية مستفادا من أَدِلَّة الشَّرْع فَهُوَ أصولي شَرْعِي وَمَا كَانَ مستفادا من مبَاحث اللُّغَة فَهُوَ أصولي لغَوِيّ وَمَا كَانَ مستفادا من غير هذَيْن فَهُوَ من علم الرَّأْي الَّذِي
كررنا عَلَيْك التحذير مِنْهُ وَمن الْمَقَاصِد الْمَذْكُورَة فِي الْكتب الْأُصُولِيَّة الَّتِي هِيَ من مَحْض الرَّأْي الِاسْتِحْسَان والاستصحاب والتلازم
وَأما المباحث الْمُتَعَلّقَة بِالِاجْتِهَادِ والتقليد وَشرع من قبلنَا وَالْكَلَام على أَقْوَال أَصْحَابه فَهِيَ شَرْعِيَّة فَمَا انتهض عَلَيْهِ دَلِيل الشَّرْع مِنْهَا فَهُوَ حق وَمَا خَالفه فَبَاطِل
وَأما المباحث الْمُتَعَلّقَة بالترجيح فَإِن كَانَ الْمُرَجح مستفادا من الشَّرْع فَهُوَ شَرْعِي وَإِن كَانَ مستفادا من علم من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة فالاعتبار بذلك الْعلم فَإِن كَانَ لَهُ مدْخل فِي التَّرْجِيح كعلم اللُّغَة فَإِنَّهُ مَقْبُول وَإِن كَانَ لَا مدْخل لَهُ إِلَّا لمُجَرّد الدَّعْوَى كعلم الرَّأْي فَإِنَّهُ مَرْدُود
وَإِذا تقرر هَذَا ظهر لَك مِنْهُ فَائِدَتَانِ
الأولى إرشادك إِلَى أَن بعض مَا دون أهل الْأُصُول فِي الْكتب الْأُصُولِيَّة لَيْسَ من الْأُصُول فِي شَيْء بل هُوَ من علم الرَّأْي الَّذِي هُوَ عَن الشَّرْع وَمَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِهِ من الْعُلُوم بمعزل
الثَّانِيَة إرشادك إِلَى الْعُلُوم الَّتِي تستمد مِنْهَا الْمسَائِل الْمُدَوَّنَة فِي الْأُصُول لترجع إِلَيْهَا عِنْد النّظر فِي تِلْكَ الْمسَائِل حَتَّى تكون على بَصِيرَة ويصفو لَك هَذَا الْعلم ويخلص عَن مشوب الْكَذِب
فَإِن قلت إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا ذكرته فَمَا تَقول فِيمَا يزعمه أهل الْأُصُول من أَنه لَا يقبل فِي إِثْبَات مسَائِله إِلَّا الْأَدِلَّة القطعية
قلت هَذِه دَعْوَى مِنْهُم يكذبها الْعَمَل ويدفعها مَا دونوه فِي هَذَا الْعلم
من أَدِلَّة مسَائِله
فَإِن قلت إِذا كَانَ استمداد هَذَا الْعلم عِنْدهم من الْكَلَام والعربية وَالْأَحْكَام كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَيْسَ ذَلِك دَعْوَى مُجَرّدَة فَإِنَّهُم قد صَرَّحُوا فِي علم الْكَلَام بِأَنَّهُ لَا يقبل فِي إِثْبَات مسَائِله إِلَّا الْأَدِلَّة القطعية وصرحوا فِي الْكَلَام على نقل اللُّغَة أَنَّهَا لَا تثبت بالآحاد وَإِذا كَانَ مَا مِنْهُ الاستمداد مثبتا ببراهين قَطْعِيَّة كَانَ مَا استمد مِنْهُ مثله فِي ذَلِك
قلت هَذِه دَعْوَى على دَعْوَى وظلمات بَعْضهَا فَوق بعض أما علم الْكَلَام فغالب مسَائِله مَبْنِيَّة على مُجَرّد الدعاوي على الْعقل الَّتِي هِيَ كسراب بقيعة إِذا جَاءَهُ طَالب الْهِدَايَة لم يجد شَيْئا وَقد قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى هَذَا وَأما مَا كَانَ من مسَائِله مأخوذا من الشَّرْع فَهِيَ مسَائِل شَرْعِيَّة وَلَا فرق بَين شَرْعِي وشرعي من هَذِه الْحَيْثِيَّة
وَأما اللُّغَة فقد وَقع الْخلاف بَين أهل الْعلم هَل يشْتَرط فِي إِثْبَاتهَا أَن يكون النَّقْل متواترا أم لَا وَالْحق بيد من لم يثبت هَذَا الشَّرْط فَإِن سَابق المشتغلين بِنَقْل علم اللُّغَة ولاحقهم قد رأيناهم يثبتونها لمُجَرّد وجود الْحَرْف فِي بَيت من أَبْيَات شعرائهم وَكلمَة من كَلِمَات بلغائهم وَمن أنكر هَذَا فَهُوَ مكابر لَا يسْتَحق تَطْوِيل الْكَلَام مَعَه