المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النشوء في بلد متمذهب بمذهب معين - أدب الطلب ومنتهى الأرب - ت الخشت

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌وَاجِبَات طَالب الْعلم

- ‌إخلاص النِّيَّة لله

- ‌قصد تَحْصِيل علم الدّين

- ‌تجنب التحيز وَالْمَعْصِيَة

- ‌تحري الْإِنْصَاف

- ‌توطين النَّفس على الْبَحْث وَالِاجْتِهَاد

- ‌تجربة الشَّوْكَانِيّ مَعَ الِاجْتِهَاد

- ‌الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والعصبية

- ‌النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين

- ‌حب الشّرف وَالْمَال

- ‌الْجِدَال والمراء وَحب الظُّهُور

- ‌حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد

- ‌صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق لقَوْله بِخِلَافِهِ

- ‌كَون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن

- ‌آفَات الشُّيُوخ والتلاميذ

- ‌علاج التعصب

- ‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق

- ‌عود إِلَى أَسبَاب التعصب

- ‌الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية

- ‌عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم

- ‌المنافسة بَين الأقران

- ‌التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد

- ‌الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والتعصب

- ‌النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين

- ‌حب الشّرف وَالْمَال

- ‌الْجِدَال والمراء وَحب الِانْتِصَار والظهور

- ‌حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد

- ‌صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق الَّذِي قَالَ بِخِلَافِهِ

- ‌أَن يكون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن

- ‌من آفَات الشَّيْخ والتلميذ

- ‌علاج التعصب

- ‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق

- ‌عود إِلَى أَسبَاب التعصب الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية

- ‌عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم

- ‌تَقْلِيد المتعصبين من عُلَمَاء الْجرْح وَالتَّعْدِيل

- ‌المنافسة بَين الأقران بِلَا تبصر

- ‌التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الختلفة

- ‌طَبَقَات طلاب الْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الْمُخْتَلفَة

- ‌طَبَقَات طلاب الْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم

- ‌علم النَّحْو

- ‌علم الصّرْف

- ‌علم الْمعَانِي وَالْبَيَان

- ‌فن الْوَضع والمناظرة

- ‌المؤلفات الْمُشْتَملَة على بَيَان مُفْرَدَات اللُّغَة عُمُوما وخصوصا

- ‌علم الْمنطق

- ‌فن أصُول الْفِقْه

- ‌علم الْكَلَام أَو أصُول الدّين

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌علم السّنة

- ‌علم مصطلح الحَدِيث

- ‌علم التَّارِيخ

- ‌مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى

- ‌علم الْفِقْه

- ‌من لَوَازِم الْإِنْصَاف وَالِاجْتِهَاد

- ‌أهمية الِاطِّلَاع على أشعار المبدعين

- ‌النّظر فِي بلاغات مبدعي الْإِنْشَاء

- ‌علم الْعرُوض والقوافي

- ‌أهمية الِاطِّلَاع على الْعُلُوم الفلسفية

- ‌أَنْصَاف المثقفين فِي زمن الشَّوْكَانِيّ

- ‌المؤهلون لتلقي الْعلم

- ‌تولي أهل الْعلم للمناصب

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة للْعلم

- ‌علم النَّحْو

- ‌علم الصّرْف

- ‌علم الْمعَانِي وَالْبَيَان

- ‌علم أصُول الْفِقْه

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌علم الحَدِيث

- ‌عُلُوم أُخْرَى

- ‌مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة للعم

- ‌علم الْإِعْرَاب

- ‌علم مصطلح الحَدِيث

- ‌علم السّنة

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌مَاذَا يفعل الطَّالِب عِنْد حُدُوث إِشْكَال أَو صعوبة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة للْعلم

- ‌كَيفَ تصبح شَاعِرًا

- ‌كَيفَ تصبح منشئا

- ‌كَيفَ تصبح محاسبا

- ‌كَيفَ تصبح عَالما بالفلسفة

- ‌كَيفَ تصبح طَبِيبا

- ‌كَيفَ تكون عَالما بِمذهب من الْمذَاهب

- ‌مبَاحث ضَرُورِيَّة لطَالب الْحق

- ‌جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد

- ‌الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات

- ‌أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرينَة

- ‌التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة

- ‌الْإِجْمَاع - الْقيَاس

- ‌الِاجْتِهَاد - الِاسْتِحْسَان

- ‌مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام

- ‌الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات

- ‌تعدد الْمذَاهب

- ‌مفاسد بعض أدعياء التصوف

- ‌جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد

- ‌الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات

- ‌أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرَابَة

- ‌التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة

- ‌عدم الاغترار بِمُجَرَّد الِاسْم دون النّظر فِي مَعَاني المسميات وحقائقها

- ‌‌‌الْإِجْمَاعوَالْقِيَاس وَالِاجْتِهَاد وَالِاسْتِحْسَان

- ‌الْإِجْمَاع

- ‌الْقيَاس

- ‌الِاسْتِحْسَان

- ‌الِاجْتِهَاد

- ‌مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام

- ‌تعدد الْمذَاهب

- ‌الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات

- ‌مفاسد بعض أدعياء التصوف

الفصل: ‌النشوء في بلد متمذهب بمذهب معين

‌الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والتعصب

وَاعْلَم أَن سَبَب الْخُرُوج عَن دَائِرَة الْإِنْصَاف والوقوع فِي موبقات التعصب كَثِيرَة جدا فَمِنْهَا

‌النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين

وَهُوَ أَكْثَرهَا وقوعا وأشدها بلَاء أَن ينشأ طَالب الْعلم فِي بلد من الْبلدَانِ الَّتِي قد تمذهب أَهلهَا بِمذهب معِين وَاقْتَدوا بعالم مَخْصُوص وَهَذَا الدَّاء قد طبق فِي بِلَاد الْإِسْلَام وَعم أَهلهَا وَلم يخرج عَنهُ إِلَّا أَفْرَاد قد يُوجد الْوَاحِد مِنْهُم فِي الْمَدِينَة الْكَبِيرَة وَقد لَا يُوجد لِأَن هَؤُلَاءِ الَّذين ألفوا هَذِه الْمذَاهب قد صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا هِيَ الشَّرِيعَة وَأَن مَا خرج عَنْهَا خَارج عَن الدّين مباين لسبيل الْمُؤمنِينَ (كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ) فَأهل هَذَا الْمَذْهَب يَعْتَقِدُونَ أَن الْحق بِأَيْدِيهِم وَأَن غَيرهم على الْخَطَأ والضلال والبدعة وَأهل الْمَذْهَب الآخر يقابلونهم بِمثل ذَلِك وَالسَّبَب أَنهم نشأوا فوجدوا آبَاءَهُم وَسَائِر قراباتهم على ذَلِك وَرَثَة الْخلف عَن السّلف وَالْآخر عَن الأول وانضم إِلَى ذَلِك قصورهم عَن إِدْرَاك الْحَقَائِق بِسَبَب التَّغْيِير الَّذِي ورد عَلَيْهِم مِمَّن وجدوه قبلهم

وَإِذا وجد فيهم من يعرف الْحق فَهُوَ لَا يَسْتَطِيع أَن ينْطق بذلك مَعَ أخص خواصه وَأقرب قرَابَته فضلا عَن غَيره لما يخافه على نَفسه أَو على مَاله أَو على جاهه بِحَسب اخْتِلَاف الْمَقَاصِد وتباين العزائم الدِّينِيَّة فَيحصل من قصورهم مَعَ تغير فطرهم بِمن أرشدهم إِلَى الْبَقَاء على مَا هم عَلَيْهِ وَأَنه الْحق وخلافه الْبَاطِل وسكوت من لَهُ فطنة ولدينه عرفان وَعِنْده إنصاف عَن

ص: 40

تعليمهم معالم الْإِنْصَاف وهدايتهم إِلَى طرق الْحق مَا يُوجب جمودهم على مَا هم عَلَيْهِ واعتقادهم أَن الْحق مَقْصُور عَلَيْهِ منحصر فِيهِ وَأَن غَيره لَيْسَ من الدّين وَلَا هُوَ من الْحق فَإِذا سمع عَالما من الْعلمَاء يُفْتى بِخِلَافِهِ أَو يعْمل على مَا لَا يُوَافقهُ اعْتقد أَنه من أهل الضلال وَمن الدعاة إِلَى الْبِدْعَة وَهَذَا إِذا عجز عَن إِنْزَال الضَّرَر بِهِ بِيَدِهِ أَو لِسَانه فَإِن تمكن من ذَلِك فعله مُعْتَقدًا أَنه من أعظم مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله ويدخره فِي صَحَائِف حَسَنَاته ويتأجر الله

وَهَذَا مَعْلُوم لكل أحد وَقد شاهدنا مِنْهُ مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ حصر وَلَا تحيط بِهِ عبارَة بل قد بلغ هَذَا المتعصب فِي معاداة من يُخَالِفهُ إِلَى حد يُجَاوز بِهِ عدواته للْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَو علم المخدوع الْمَغْرُور بِأَن سَعْيه ضلال وَعَمله وبال وَأَنه من (الأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا) لأقصر عَن غوايته وأرعوى عَن بعض جَهله لكنه جهل قدر نَفسه وخسران سَعْيه وتحامي غَيره من أهل الْمعرفَة والفهم إرشاده إِلَى الْحق وتنبيهه على فَسَاد مَا هُوَ فِيهِ مَخَافَة على نَفسه مِنْهُ وَمِمَّنْ يشابهه فِي ذَلِك فتعاظم الْأَمر وَعم الْبلَاء وتفاقم الْأَمر وَعم الضَّرَر

وَلَو نظر ذَلِك المتعصب بِعَين الْإِنْصَاف وَرجع إِلَى عقله وَمَا تَقْتَضِيه فطرته الْأَصْلِيَّة لكف عَن فعله وأقصر عَن غيه وجهله وَلكنه قد حيل بَينه وَبَين ذَاك وَفرغ الشَّيْطَان مِنْهُ إِلَّا من عصم الله وَقَلِيل مَا هم

وَهَكَذَا صَاحب الْمعرفَة وحامل الْحجَّة وثاقب الْفَهم لَو وَطن نَفسه على الْإِرْشَاد وَتكلم بِكَلِمَة الْحق وَنصر الله سُبْحَانَهُ وَنصر دينه وَقَامَ فِي تَبْيِين مَا أمره الله بتبيينه لحمد مسراه وشكر عاقبته وَأرَاهُ الله سُبْحَانَهُ من بَدَائِع صنعه وعجائب وقايته وَصدق مَا وعد بِهِ من قَوْله (ولينصرن الله من ينصره)(إِن تنصرُوا الله ينصركم وَيثبت أقدامكم) مَا يزِيدهُ

ص: 41

ثباتا ويشد من عضده ويقوى قلبه فِي نصْرَة الْحق ومعاضدة أَهله

وَمن تَأمل الْأَمر كَمَا يَنْبَغِي عرف أَن كل قَائِم بِحجَّة الله إِذا بَينهَا للنَّاس كَمَا أمره الله وصدع بِالْحَقِّ وَضرب بالبدعة فِي وَجه صَاحبهَا وألقم المعتصب حجرا وأوضح لَهُ مَا شَرعه الله لِعِبَادِهِ وَأَنه فِي تمسكه بمحض الرَّأْي مَعَ وجود الْبُرْهَان الثَّالِث عَن صَاحب الشَّرْع كخابط عشواء وراكب العمياء فَإِن قبل مِنْهُ ظفر بِمَا وعده رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْأجر فِي حَدِيث لِأَن يهدى الله بك رجلا الحَدِيث وَإِن لم يقبل مِنْهُ كَانَ قد فعل مَا وَجب الله عَلَيْهِ وخلص نَفسه من كتم الْعلم الَّذِي أمره الله بإفشائه وَخرج من ورطة أَن يكون من الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْبَينَات وَالْهدى وَدفع الله عَنهُ مَا سولته لَهُ نَفسه الأمارة من الظنون الكاذبة والأوهام الْبَاطِلَة وانْتهى حَاله إِلَى أَن يكون كَعبه الْأَعْلَى وَقَوله الأرفع وَلم يزده ذَلِك إِلَّا رفْعَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وحظا عِنْد عباد الله وظفرا بِمَا وعد الله بِهِ عبَادَة الْمُتَّقِينَ وهم وَإِن أَرَادوا أَن يضعوه بِكَثْرَة الْأَقَاوِيل وتزوير المطاعن وتلفيق الْعُيُوب وتواعدوه بإيقاع الْمَكْرُوه بِهِ وإنزال الضَّرَر عَلَيْهِ فَذَلِك كُله يَنْتَهِي إِلَى خلاف مَا قدروه وَعكس مَا ظنوه وَكَانَت الْعَاقِبَة لِلْمُتقين كَمَا وعد بِهِ عبَادَة الْمُؤمنِينَ (وَلَا يَحِيق الْمَكْر السيء إِلَّا بأَهْله)

وَلَقَد تتبعت أَحْوَال كثير من القائمين بِالْحَقِّ المبلغين بِهِ كَمَا أَمر الله المرشدين إِلَى الْحق فوجدتهم ينالون من حسن الأحدوثة وَبعد الصيت وَقُوَّة الشُّهْرَة وانتشار الْعلم ونفاق المؤلفات وطيرانها وقبولها فِي النَّاس مَا لَا يبلغهُ غَيرهم وَلَا يَنَالهُ من سواهُم

وسأذكر لَك هُنَا جمَاعَة مِمَّن اشتهرت مذاهبهم وانتشرت أَقْوَالهم وطارت

ص: 42

مصنفاتهم بعدهمْ وَمَا أَصَابَهُم من المحنة مَا نالهم كإمام دَار الْهِجْرَة مَالك بن أنس فَإِنَّهُ بلَى بخصوم وعاداه مُلُوك فنشر الله مذْهبه فِي الأقطار واشتهر من أَقْوَاله ماملأ الأنجاد والأغوار

كَذَلِك الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فَإِنَّهُ وَقع لَهُ من المحن الَّتِي هِيَ منح مِمَّا لَا يخفى على من لَهُ اطلَاع وَضرب بَين يَدي المعتصم العباسي ضربا مبرحا وهموا بقتْله مرّة بعد مرّة وسجنوه فِي الْأَمْكِنَة الْمظْلمَة وكبلوه بالحديد ونوعوا لَهُ أَنْوَاع الْعَذَاب فنشر الله من علومه مَا لَا يحْتَاج إِلَى بَيَان وَلَا يفْتَقر إِلَى إِيضَاح وَكَانَت الْعَاقِبَة لَهُ فَصَارَ بعد ذَلِك إِمَام الدُّنْيَا غير مدافع ومرجع أهل الْعلم غير مُنَازع وَدون النَّاس كَلِمَاته وانتفعوا بهَا وَكَانَ يتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ فتطير فِي الْآفَاق فَإِذا تكلم بِالْكَلِمَةِ فِي رجل بِجرح تبعه النَّاس وَبَطل علم الْمَجْرُوح وَإِن تكلم فِي رجل بتعديل كَانَ هُوَ الْعدْل الَّذِي لَا يحْتَاج بعد تعديله إِلَى غَيره

ثمَّ الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ أَصَابَهُ من مُحَمَّد بن يحيى الذهلي

ص: 43

وَأَتْبَاعه من المحنة مَا مَاتَ بِهِ كمدا ثمَّ جعل الله تَعَالَى كِتَابه الْجَامِع الصَّحِيح كَمَا ترى أصح كتاب فِي الدُّنْيَا وَأشهر مؤلف فِي الحَدِيث وَأجل دفتر من دفاتر الْإِسْلَام

ثمَّ انْظُر أَحْوَال من جَاءَ بعد هَؤُلَاءِ بدهر طَوِيل كَابْن حزم المغربي فَإِنَّهُ أُصِيب بمحن عَظِيمَة بِسَبَب مَا أظهره من إرشاد النَّاس إِلَى الدَّلِيل والصدع بِالْحَقِّ وتضعيف علم الرَّأْي حَتَّى أفْضى ذَلِك إِلَى امتحان الْمُلُوك لَهُ وإيقاعهم بِهِ وتشريده من مواطنه وتحريق مصنفاته وَمَعَ ذَلِك نشر الله من علومه مَا صَار عِنْد كل فرقة وَفِي كل بِلَاد الْمُسلمين وَبَين ظهراني كل طَائِفَة

ثمَّ كَذَلِك شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية أَحْمد بن عبد الْحَلِيم فَإِنَّهُ لما أبان للنَّاس فَسَاد الرَّأْي وأرشدهم إِلَى التَّمَسُّك بِالدَّلِيلِ وصدع بِمَا أمره الله بِهِ وَلم يخف فِي الله لومة لائم قَامَ عَلَيْهِ طوائف من المنتمين إِلَى الْعلم المنتحلين لَهُ من أهل المناصب وَغَيرهم فمازالوا يحاولون ويصاولون ويسعون بِهِ إِلَى الْمُلُوك ويعقدون لَهُ مجَالِس المناظرة ويفتون تَارَة بسفك دَمه وَتارَة باعتقاله فنشر الله من فَوَائده مَا لم ينشر بعضه لأحد من معاصريه وترجمه أعداؤه فضلا عَن أصدقائه بتراجم لم يَتَيَسَّر لَهُم مثلهَا وَلَا مَا يقارنها لأحد من الَّذين يتعصبون لَهُم ويدأبون فِي نشر فضائلهم

ص: 44

ويطرؤون فِي إطرائهم وَجعل الله لَهُ من ارْتِفَاع الصيت وَبعد الشُّهْرَة مَا لم يكن لأحد من أهل عصره حَتَّى اخْتلف من جَاءَ بعد عصره فِي شَأْنه وَاشْتَغلُوا بأَمْره فعاداه قوم وَخَالفهُم آخَرُونَ وَالْكل معترفون بِقَدرِهِ معظمون لَهُ خاضعون لعلومه واشتهر هَذَا بَينهم غَايَة الاشتهار حَتَّى ذكره المترجمون لَهُم فِي تراجمهم فَيَقُولُونَ وَكَانَ من المائلين إِلَى ابْن تَيْمِية أَو المائلين عَنهُ

وَهَذِه الْإِشَارَة إِنَّمَا هِيَ لقصد الْإِيضَاح لَك لتعلم بِمَا يصنعه الله لِعِبَادِهِ وعلماء دينه وَحَملَة حجَّته وَفِي كل عصر من هَذَا الْجِنْس من تقوم بِهِ الْحجَّة على الْعباد

وَانْظُر فِي أهل قطرنا فَإِنَّهُ لَا يخفى عَلَيْك حَالهم إِن كنت مِمَّن لَهُ اطلَاع عَليّ أَخْبَار النَّاس وَبحث عَن أَحْوَالهم كالسيد الإِمَام مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْوَزير فَإِنَّهُ قَامَ دَاعيا إِلَى الدَّلِيل فِي دِيَارنَا هَذِه فِي وَقت غربَة وزمان ميل من النَّاس إِلَى التَّقْلِيد وإعراض عَن الْعَمَل بالبرهان فناله من أهل عصره من المحن مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ مصنفاته حَتَّى ترسل عَلَيْهِ من ترسل من مشائخه برسالة حاصلها الْإِنْكَار عَلَيْهِ لما هُوَ فِيهِ من الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَطرح التَّقْلِيد وَقَامَ عَلَيْهِ كثير من النَّاس وثلبوه بالنظم والثر وَلم يضيره ذَلِك شَيْئا بل نشر الله من علومه وَأظْهر من معارفه مَا طَار كل مطار

ثمَّ جَاءَ بعده مَعَ طول فصل وَبعد عهد السَّيِّد الْعَلامَة الْحسن بن أَحْمد الْجلَال والعلامة صَالح بن مهْدي المقبلي فنالا من المحن والعداوة من

ص: 45

أهل عصرهما مَا حمل الأول على استقراره فِي هِجْرَة الجراف منعزلا عَن النَّاس وَحمل الثَّانِي على الارتحال إِلَى الْحرم الشريف والاستقرار فِيهِ حَتَّى توفاه الله فِيهِ وَمَعَ هَذَا فنشر الله من علومهم وَأظْهر مؤلفاتهم مَا لم يكن لأحد من أهل عصرهما مَا يُقَارِبه فضلا عَن أَن يُسَاوِيه

ثمَّ كَانَ فِي الْعَصْر الَّذِي قبل عصرنا هَذَا السَّيِّد الْعَلامَة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْأَمِير وَله فِي الْقيام بِحجَّة الله والإرشاد إِلَيْهَا وتنفير النَّاس عَن الْعَمَل بِالرَّأْيِ وترغيبهم إِلَى علم الرِّوَايَة مَا هُوَ مَشْهُور مَعْرُوف فعاداه أهل عصره وَسعوا بِهِ إِلَى الْمُلُوك وَلم يتْركُوا فِي السَّعْي عَلَيْهِ بِمَا يضرّهُ جهدا وطالت بَينه وَبينهمْ المصاولة والمقاولة وَلم يظفروا مِنْهُ بطائل وَلَا نقصوه من جاه وَلَا مَال وَرَفعه الله عَلَيْهِم وَجعل كَلمته الْعليا وَنشر لَهُ من المصنفات المطولة والمختصرة مَا هُوَ مَعْلُوم عِنْد أهل هَذِه الديار وَلم ينتشر لمعاصريه المؤذين لَهُ المبالغين فِي ضَرَره بحث من المباحث العلمية فضلا عَن رِسَالَة فضلا عَن مؤلف بسيط فَهَذِهِ عَادَة الله فِي عباده فأعلمها وتيقنها

وَكَانَ شَيخنَا السَّيِّد الْعَلامَة عبد الْقَادِر بن أَحْمد رحمه الله من أَكثر النَّاس نشرا للحق وإرشادا لَهُ وتلقينا لَهُ وهدما لما يُخَالِفهُ فَجعل الله علما

ص: 46

يقْتَدى بِهِ ومرجعا يأوى إِلَيْهِ أهل عصره وأخضع لَهُ كل مُخَالف لَهُ واعترف لَهُ كل وَاحِد بِأَنَّهُ إِمَام عصره وعالمه ومجتهده وَلم يضرّهُ مَا كَانَ يَنَالهُ بِهِ المخالفون لَهُ من الْغَيْبَة الَّتِي هِيَ غَايَة مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ وَنِهَايَة مَا يبلعون إِلَيْهِ

وَإِنِّي أخْبرك أَيهَا الطَّالِب عَن نَفسِي وَعَن الْحَوَادِث الْجَارِيَة بيني وَبَين أهل عصري لِيَزْدَادَ يقينك وَتَكون على بَصِيرَة فِيمَا أرشدتك إِلَيْهِ اعْلَم أَنِّي كنت عِنْد شروعي فِي الطّلب على الصّفة الَّتِي ذكرتها لَك سَابِقًا ثمَّ كنت بعد التَّمَكُّن من الْبَحْث عَن الدَّلِيل وَالنَّظَر فِي مجاميعه أذكر فِي مجَالِس شيوخي ومواقف تدريسهم وَعند الِاجْتِمَاع بِأَهْل الْعلم مَا قد عَرفته من ذَلِك لَا سِيمَا عِنْد الْكَلَام فِي شئ من الرَّأْي مُخَالف الدَّلِيل أَو عِنْد وُرُود قَول عَالم من أهل الْعلم قد تمسك بِدَلِيل ضَعِيف وَترك الدَّلِيل الْقوي أَو أَخذ بِدَلِيل عَام وبعمل خَاص أَو بِمُطلق وَطرح الْمُقَيد أَو بمجمل وَلم يعرف الْمُبين أَو بمنسوخ وَلم ينتبه للناسخ أَو بِأول وَلم يعرف بآخر أَو بمحض رَأْي وَلم يبلغهُ أَن فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة دَلِيلا يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ فَكنت إِذا سَمِعت بِشَيْء من هَذَا لَا سِيمَا فِي مَوَاقِف المتعصبين ومجامع الجامدين تَكَلَّمت بِمَا بلغت إِلَيْهِ مقدرتي وَأَقل الْأَحْوَال أَن أَقُول اسْتدلَّ هَذَا بِكَذَا وَفُلَان الْمُخَالف لَهُ بِكَذَا وَدَلِيل فلَان أرجح لكذا فمازال أسراء التَّقْلِيد يستنكرون ذَلِك ويستعظمونه لعدم الْفَهم بِهِ وَقبُول طبائعهم لَهُ حَتَّى ولد ذَلِك فِي قُلُوبهم من الْعَدَاوَة والبغضاء مَا الله بِهِ عليم

ثمَّ كنت إِذا فرغت من أَخذ فن من الْفُنُون أَو مُصَنف من المصنفات على شيوخي أقبل جمَاعَة من الطّلبَة إِلَيّ وعولوا عَليّ فِي تدريسهم فِي ذَلِك

فَكَانَ يَأْخُذ أترابي شَيْئا من الْحَسَد الَّذِي لَا يَخْلُو عَنهُ إِلَّا الْقَلِيل

ثمَّ تكاثر الطّلبَة عَليّ فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد وَغَيرهَا وَأخذُوا عني أخذا خَالِيا عَن التعصب سالما من الاعتساف فَكنت أقرر لَهُم دَلِيل كل مَسْأَلَة وأوضح

ص: 47

لَهُم الرَّاجِح فِيهَا وأصرح لَهُم بِوُجُوب الْمصير إِلَى ذَلِك وَكَانُوا قد تمرنوا وَعرفُوا عُلُوم الِاجْتِهَاد وَذهب عَنْهُم مَا تكدرت بِهِ فطرهم من الْمُغيرَات

فَزَاد ذَلِك الْمُخَالفين عَدَاوَة وشناعة وحسدا وبغضا وأطلقوا ألسنتهم بذلك وَكَانَ مَعَ ذَلِك ترد إِلَيّ أبحاث من جمَاعَة من أهل الْعلم الساكنين بِصَنْعَاء وَغَيرهم من أهل الْبِلَاد الْبَعِيدَة والمدائن النائية فأحرر الجوابات عَلَيْهِم فِي رسائل مُسْتَقلَّة ويرغب تلامذتي لتَحْصِيل ذَلِك وتنتشر فِي النَّاس فَإِذا وقف عَلَيْهِ المتعصبون ورأوه يُخَالف مَا يَعْتَقِدُونَ استشاطوا غَضبا وعرضوا ذَلِك على من يرجون مِنْهُ الْمُوَافقَة والمساعدة فَمن ثالب بِلِسَانِهِ ومعترض بقلمه وَأَنا مصمم على مَا أَنا فِيهِ لَا أنثني عَنهُ وَلَا أميل عَن الطَّرِيقَة الَّتِي أَنا فِيهَا وَكَثِيرًا مَا يرفعون ذَلِك إِلَى من لَا علم عِنْده من رُؤَسَاء الدولة الَّذين لَهُم فِي النَّاس شهرة وصولة فَكَانَ فِي كل حِين يبلغنِي من ذَلِك الْعجب ويناصحني من يظْهر لي الْمَوَدَّة وَمن لَا تخفى عَلَيْهِ حَقِيقَة مَا أقوله وحقيته مَعَ اعترافهم بِأَن مَا أسلكه هُوَ مَا أَخذه الله على الَّذين حملُوا الْحجَّة لكِنهمْ يتعللون بِأَن الْوَاجِب يسْقط بِدُونِ ذَلِك ويذكرون أَحْوَال أهل الزَّمَان وَمَا هم عَلَيْهِ وَمَا يخشونه من العواقب فَلَا أرفع لذَلِك رَأْسا وَلَا أعول عَلَيْهِ

وَكنت أتصور فِي نَفسِي أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يتعصبون عَليّ وتشغلون أنفسهم بذكري والحط عَليّ هم أحد رجلَيْنِ

إِمَّا جَاهِل لَا يدْرِي أَنه جَاهِل وَلَا يَهْتَدِي بالهداية وَلَا يعرف الصَّوَاب

وَهَذَا لَا يعبأ الله بِهِ

أَو رجل متميز لَهُ حَظّ من علم وَحِصَّة من فهم لكنه قد أعمى بصيرته الْحَسَد وَذهب بإنصافه حب الجاه وَهَذَا لَا ينجع فِيهِ الدَّوَاء وَلَا تَنْفَع عِنْده المحاسنة وَلَا يُؤثر فِيهِ شئ

فمازلت على ذَلِك وَأَنا أجد الْمَنْفَعَة بِمَا يصنعونه أَكثر من الْمضرَّة والمصلحة العائدة على مَا أَنا فِيهِ بِمَا هم فِيهِ أَكثر من الْمفْسدَة

ص: 48

وَلَقَد اشْتَدَّ بلاهم وتفاقمت محنتهم فِي بعض الْوَاقِعَات فَقَامُوا قومه شيطانية وصالوا صولة جَاهِلِيَّة وَذَلِكَ أَنه ورد إِلَيّ سُؤال فِي شَأْن مَا يَقع من كثير من الْمُقَصِّرِينَ من الذَّم لجَماعَة من الصَّحَابَة صانهم الله وَغَضب على من ينتهك أعراضهم المصونة فأجبت برسالة ذكرت فِيهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّة الزيدية من أهل الْبَيْت وَغَيرهم ونقلت إِجْمَاعهم من طرق وَذكرت كَلِمَات قَالَهَا جمَاعَة من أكَابِر الْأَئِمَّة وظننت أَن نقل إِجْمَاع أهل الْعلم يرفع عَنْهُم العماية ويردهم عَن طرق الغواية فَقَامُوا بأجمعهم وحرروا جوابات زِيَادَة على عشْرين رِسَالَة مُشْتَمِلَة على الشتم والمعارضة بِمَا لَا ينْفق إِلَّا على بَهِيمَة وَاشْتَغلُوا بتحرير ذَلِك وأشاعوه بَين الْعَامَّة وَلم يَجدوا عِنْد الْخَاصَّة إِلَّا الْمُوَافقَة تقية لشرهم وفرارا من معرتهم وَزَاد الشَّرّ وتفاقم حَتَّى أبلغوا ذَلِك إِلَى أَرْبَاب الدولة والمخالطين لملوك من الوزراء وَغَيرهم وأبلغوه إِلَى مقَام خَليفَة الْعَصْر حفظه الله وَعظم الْقَضِيَّة عَلَيْهِ جمَاعَة مِمَّن يتَّصل بِهِ فَمنهمْ من يُشِير عَلَيْهِ بحبسى وَمِنْهُم من ينتصح لَهُ بأخراجي من مواطني وَهُوَ سَاكِت لَا يلْتَفت إِلَى شئ من ذَلِك وقاية من الله وحماية لأهل الْعلم ومدافعة عَن القائمين بِالْحجَّةِ فِي عباده

وَلم تكن لي إِذْ ذَاك مداخلة لأحد من أَرْبَاب الدولة وَلَا اتِّصَال بهم

وَاشْتَدَّ لهج النَّاس بِهَذِهِ الْقَضِيَّة وجعلوها حَدِيثهمْ فِي مجامعهم وَكَانَ من بيني وَبينهمْ مَوَدَّة يشيرون عَليّ بالفرار أَو الاستتار وَأجْمع رَأْيهمْ على أَنِّي إِذا لم أساعدهم على أحد الْأَمريْنِ فَلَا أَعُود إِلَى مجَالِس التدريس الَّتِي كنت أدرس بهَا فِي جَامع صنعاء فَنَظَرت مَا عِنْد تلامذتي فَوجدت أنفسهم قَوِيَّة ورغبتهم فِي التدريس شَدِيدَة إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُم فقد كَادُوا يستترون من

ص: 49

الْخَوْف ويفرون من الْفَزع

فَلم أجد لي رخصَة فِي الْبعد عَن مجَالِس التدريس

وعدت وَكَانَ أول درس عاودته عِنْد وصولي إِلَى الْجَامِع فِي أصُول الْفِقْه بَين العشائين فَانْقَلَبَ من بالجامع وَتركُوا مَا هم فِيهِ من الدَّرْس والتدريس ووقفوا ينظرُونَ إِلَيّ متعجبين من الْإِقْدَام على ذَلِك لما قد تقرر عِنْدهم من عظم الْأَمر وَكَثْرَة التهويل والوعيد والترهيب حَتَّى ظنُّوا أَنه لَا يكمن الْبَقَاء فِي صنعاء فضلا عَن المعاودة للتدريس ثمَّ وصل وَأَنا فِي حَال ذَلِك الدَّرْس جمَاعَة لم تجر لَهُم عَادَة بالوصول إِلَى الْجَامِع وهم متلفعون بثيابهم لَا يعْرفُونَ وَكَانُوا ينظرُونَ إِلَيّ ويقفون قَلِيلا ثمَّ يذهبون وَيَأْتِي آخَرُونَ حَتَّى لم يبْق شكّ مَعَ أحد أَنَّهَا إِن لم تحصل مِنْهُم فتْنَة فِي الْحَال وَقعت مَعَ خروجي من الْجَامِع فَخرجت من الْجَامِع وهم واقفون على مَوَاضِع من طريقي فَمَا سَمِعت من أحدهم كلمة فضلا عَن غير ذَلِك

وعاودت الدُّرُوس كلهَا وتكاثر الطّلبَة المتميزون زِيَادَة على مَا كَانُوا عَلَيْهِ من كل فن وَقد كَانُوا ظنُّوا أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يقف بَين يَدي مَخَافَة على أنفسهم من الدولة والعامة فَكَانَ الْأَمر على خلاف مَا ظَنّه وَكنت أتعجب من ذَلِك وَأَقُول فِي نَفسِي هَذَا من صنع الله الْحسن ولطفه الْخَفي لِأَن من كَانَ الْحَامِل لَهُ على مَا وَقع الْحَسَد والمنافسة لم ينجح كَيده بل كَانَ الْأَمر على خلاف مَا يُرِيد

وَمن عَجِيب مَا أشرحه لَك أَنه كَانَ فِي درس بالجامع بعد صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ يحضرهُ من أهل الْعلم الَّذين مقصدهم الرِّوَايَة وَإِثْبَات السماع جمَاعَة ويحضره من عَامَّة النَّاس جمع جم لقصد الاستفادة بالحضور

فَسمع ذَلِك وَزِير رافضى من وزراء الدولة وَكَانَت لَهُ صولة وَقبُول كلمة بِحَيْثُ لَا يُخَالِفهُ أحد وَله تلعق بِأَمْر الأجناد فَحَمله ذَلِك على أَن

ص: 50

استدعى رجلا من المساعدين لَهُ فِي مذْهبه فنصب لَهُ كرسيا فِي مَسْجِد من مَسَاجِد صنعاء ثمَّ كَانَ يسرج لَهُ الشمع الْكثير فِي ذَلِك الْمَسْجِد حَتَّى يصير عجبا من الْعجب فتسامع بِهِ النَّاس وقصدوا إِلَيْهِ من كل جَانب لقصد الفرجة وَالنَّظَر إِلَى مَا لَا عهد بِهِ وَالرجل الَّذِي على الْكُرْسِيّ يملي عَلَيْهِم فِي كل وَقت مَا يتَضَمَّن الثلب لجَماعَة من الصَّحَابَة صانهم الله

ثمَّ لم يكتف ذَلِك الْوَزير بذلك حَتَّى أغرى جمَاعَة من الأجناد من العبيد وَغَيرهم بالوصول إِلَيّ لقصد الْفِتْنَة فوصلوا وَصَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة قَائِمَة ودخلوا الْجَامِع على هَيْئَة مُنكرَة وشاهدتهم عِنْد وصولهم

فَلَمَّا فرغت الصَّلَاة قَالَ لي جمَاعَة من معارفي إِنَّه يحسن ترك الْإِمْلَاء تِلْكَ اللَّيْلَة فِي البُخَارِيّ فَلم تطب نَفسِي بذلك واستعنت بِاللَّه وتوكلت عَلَيْهِ وَقَعَدت فِي الْمَكَان الْمُعْتَاد وَقد حضر بعض التلاميذ وَبَعْضهمْ لم يحضر تِلْكَ اللَّيْلَة لما شَاهد وُصُول أُولَئِكَ الأجناد

وَلما عقدت الدَّرْس وَأخذت فِي الْإِمْلَاء رَأَيْت أُولَئِكَ يدورون حول الْحلقَة من جَانب إِلَى جَانب ويقعقعون بِالسِّلَاحِ ويضربون سلَاح بَعضهم فِي بعض ثمَّ ذَهَبُوا وَلم يَقع شئ بمعونة الله تَعَالَى وفضله ووقايته

ثمَّ أَن ذَلِك الْوَزير أَكثر السّعَايَة إِلَى الْمقَام الإمامي هُوَ وَمن يُوَافقهُ على هَوَاهُ ويطابقه فِي اعْتِقَاده من أعوان الدولة واستعانوا برسائل بَعْضهَا من عُلَمَاء السوء وَبَعضهَا من جمَاعَة من الْمُقَصِّرِينَ الَّذين يظنهم من لَا خبْرَة لَهُ فِي عداد أهل الْعلم

وَحَاصِل مَا فِي تِلْكَ الرسائل إِنِّي قدر أردْت تَبْدِيل مَذْهَب أهل الْبَيْت عليهم السلام وَأَنه إِذا لم يتدارك ذَلِك الْخَلِيفَة بَطل مَذْهَب آبَائِهِ وَنَحْو هَذَا من الْعبارَات المفتراه والكلمات الخشنة والأكاذيب الملفقة

وَلَقَد وقفت على رِسَالَة مِنْهَا لبَعض أهل الْعلم مِمَّن جمعني وإياه طلب الْعلم

ص: 51

ونظمنا جَمِيعًا عقد الْمَوَدَّة وسابق الإلفة فرأيته يَقُول فِيهَا مُخَاطبا لإِمَام الْعَصْر إِن الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ وَيجب عَلَيْهِ أَن يَأْمر جمَاعَة يكبسون منزلي ويهجمون مسكني وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهِ من الْكتب المتضمنة لما يُوجب الْعقُوبَة من الاجتهادات الْمُخَالفَة للْمَذْهَب

فَلَمَّا وقف على ذَلِك قضيت مِنْهُ الْعجب وَلَوْلَا أَن تِلْكَ الرسَالَة بِخَطِّهِ الْمَعْرُوف لدي لما صدقت وفيهَا من هَذَا الزُّور والبهت والكلمات الفظيعة شئ كثير وَهِي فِي نَحْو ثَلَاثَة كراريس

وَعند تَحْرِير هَذِه الأحرف قد انتقم الله مِنْهُ فشرده إِمَام الْعَصْر إِلَى جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر مَقْرُونا فِي السلَاسِل بِجَمَاعَة من السوقة وَأهل الْحَرْف الدنيئة وأهلكه الله فِي تِلْكَ الجزيرة (وَلَا يظلم رَبك أحدا) وَكَانَ حُدُوث هَذِه الْحَادِثَة عَلَيْهِ ونزول هَذِه الفاقرة بِهِ بمرأى ومسمع من ذَلِك الْوَزير الرافضي الَّذِي ألف لَهُ تِلْكَ الرسَالَة استجلابا لما عِنْده وطلبا للقرب إِلَيْهِ وتوددا لَهُ

وَمن جملَة مَا وقفت عَلَيْهِ من الرسائل الْمُؤَلّفَة بعناية هَذَا الْوَزير رِسَالَة لبَعض مشائخي الَّذين أخذت عَنْهُم بعض الْعُلُوم الإلهية وفيهَا من الزُّور ومحض الْكَذِب مَا لَا يظنّ بِمن هُوَ دونه وَمَا حمله على ذَلِك إِلَّا الطمع فِي الْوَزير فعاقبه الله بِقطع مَا كَانَ يجرى عَلَيْهِ من الْخَلِيفَة وَأُصِيب بفقر مدقع وفاقة شَدِيدَة حَتَّى صَار عِبْرَة من العبر وَكَانَ يفد إِلَيّ يشكو حَاله وَمَا هُوَ فِيهِ من الْجهد وَالْبَلَاء فأبلغ جهدي فيمَ منفعَته وَمَا يسد فاقته

وَهَكَذَا جمَاعَة من المترسلين عَليّ المبالغين فِي إِنْزَال الضَّرَر بِي أرجعهم الله إِلَيّ راغمين وأحوجهم لمعونتي مضطرين وَلم أعاقب أحدا مِنْهُم بِمَا أسلفه وَلَا كافيته بِمَا قَدمته

فَانْظُر صنع الله مَعَ من عودى وأوذى لأجل تمسكه بالإنصاف ووقوفه عَنهُ الْحق

ص: 52

اللَّهُمَّ إِنِّي أحمدك على جميل صنعك وجزيل فضلك وَجَمِيل طولك حمدا يَتَجَدَّد بتجدد الْأَوْقَات ويتعدد بِعَدَد المعدودات وَإِنِّي لم أكن أَهلا لما أوليته فَأَنت لَهُ أهل وَبِه حقيق لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك

وَمِمَّا أسوقه إِلَيْك أَيهَا الطَّالِب وَأَعْجَبَك مِنْهُ أَنه كَانَ لي صديق بِمَدِينَة من مَدَائِن الْيمن جمعني وإياه الطّلب والإلفة والوداد وَكَانَ عالي الْقدر رفيع الْمنزلَة فِي الْعلم كَبِير السن بعيد الصيت مَشْهُور الذّكر وَلَعَلَّه كَانَ يُفِيد الطّلبَة فِي الْفِقْه قبل مولدِي وَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض شيوخي ورحل إِلَى صنعاء وَطلب عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي أَيَّام طلبي لَهَا وَكَانَ بيني وَبَينه من الْمَوَدَّة أَمر عَظِيم وَله معي مذاكرات ومباحثات وترسلات فِي فَوَائِد كَثِيرَة هِيَ فِي مَجْمُوع رسائلي

فَلَمَّا حدث مَا حدث من قيام مَا قَامَ عَليّ من الْخَاصَّة والعامة وَكَانَ إِذا ذَاك قد فَارق صنعاء وَعَاد إِلَى مدينته وَعَكَفَ عَلَيْهِ الطّلبَة واستفادوا بِهِ فِي الْفُنُون فَقَامُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّه بلغ إِلَيْنَا مَا حدث من أليفك الَّذِي تكْثر الثَّنَاء عَلَيْهِ والمذاكرة لَهُ من مُخَالفَة الْمَذْهَب والتظهر بِالِاجْتِهَادِ فَإِن كنت مُوَافقا لَهُ قمنا عَلَيْك كَمَا قَامَ عَلَيْهِ أهل صنعاء وَإِن كنت تخَالفه فِيمَا ظهر مِنْهُ فترسل عَلَيْهِ

فوصلت مِنْهُ رِسَالَة فِي عدَّة كراريس وَمَا حمله على ذَلِك إِلَّا المداراة لَهُم والتقية مِنْهُم وظاهرها الْمُخَالفَة وباطنها الْمُوَافقَة مَعَ حسن عبارَة وجودة مَسْلَك وَلم أستنكر ذَلِك مِنْهُ وَلَا أَنْبَتَهُ عَلَيْهِ فَإِن الصدع بِالْحَقِّ والتظهر بِمَا لَا يُوَافق النَّاس من الْحق لَا يستطيعه إِلَّا الْأَفْرَاد وَقَلِيل مَا هم

ووصلت رسائل من جمَاعَة آخَرين من مَدَائِن بعيدَة من صنعاء فِيهَا مَا هُوَ مُوَافق لي مقو لما ذهبت إِلَيْهِ وفيهَا مَا هُوَ مُخَالف لذَلِك (وَلَا يزالون مُخْتَلفين)

ص: 53