المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌طبقات طلاب العلم - أدب الطلب ومنتهى الأرب - ت الخشت

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌وَاجِبَات طَالب الْعلم

- ‌إخلاص النِّيَّة لله

- ‌قصد تَحْصِيل علم الدّين

- ‌تجنب التحيز وَالْمَعْصِيَة

- ‌تحري الْإِنْصَاف

- ‌توطين النَّفس على الْبَحْث وَالِاجْتِهَاد

- ‌تجربة الشَّوْكَانِيّ مَعَ الِاجْتِهَاد

- ‌الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والعصبية

- ‌النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين

- ‌حب الشّرف وَالْمَال

- ‌الْجِدَال والمراء وَحب الظُّهُور

- ‌حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد

- ‌صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق لقَوْله بِخِلَافِهِ

- ‌كَون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن

- ‌آفَات الشُّيُوخ والتلاميذ

- ‌علاج التعصب

- ‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق

- ‌عود إِلَى أَسبَاب التعصب

- ‌الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية

- ‌عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم

- ‌المنافسة بَين الأقران

- ‌التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد

- ‌الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والتعصب

- ‌النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين

- ‌حب الشّرف وَالْمَال

- ‌الْجِدَال والمراء وَحب الِانْتِصَار والظهور

- ‌حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد

- ‌صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق الَّذِي قَالَ بِخِلَافِهِ

- ‌أَن يكون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن

- ‌من آفَات الشَّيْخ والتلميذ

- ‌علاج التعصب

- ‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق

- ‌عود إِلَى أَسبَاب التعصب الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية

- ‌عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم

- ‌تَقْلِيد المتعصبين من عُلَمَاء الْجرْح وَالتَّعْدِيل

- ‌المنافسة بَين الأقران بِلَا تبصر

- ‌التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الختلفة

- ‌طَبَقَات طلاب الْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الْمُخْتَلفَة

- ‌طَبَقَات طلاب الْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم

- ‌علم النَّحْو

- ‌علم الصّرْف

- ‌علم الْمعَانِي وَالْبَيَان

- ‌فن الْوَضع والمناظرة

- ‌المؤلفات الْمُشْتَملَة على بَيَان مُفْرَدَات اللُّغَة عُمُوما وخصوصا

- ‌علم الْمنطق

- ‌فن أصُول الْفِقْه

- ‌علم الْكَلَام أَو أصُول الدّين

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌علم السّنة

- ‌علم مصطلح الحَدِيث

- ‌علم التَّارِيخ

- ‌مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى

- ‌علم الْفِقْه

- ‌من لَوَازِم الْإِنْصَاف وَالِاجْتِهَاد

- ‌أهمية الِاطِّلَاع على أشعار المبدعين

- ‌النّظر فِي بلاغات مبدعي الْإِنْشَاء

- ‌علم الْعرُوض والقوافي

- ‌أهمية الِاطِّلَاع على الْعُلُوم الفلسفية

- ‌أَنْصَاف المثقفين فِي زمن الشَّوْكَانِيّ

- ‌المؤهلون لتلقي الْعلم

- ‌تولي أهل الْعلم للمناصب

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة للْعلم

- ‌علم النَّحْو

- ‌علم الصّرْف

- ‌علم الْمعَانِي وَالْبَيَان

- ‌علم أصُول الْفِقْه

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌علم الحَدِيث

- ‌عُلُوم أُخْرَى

- ‌مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة للعم

- ‌علم الْإِعْرَاب

- ‌علم مصطلح الحَدِيث

- ‌علم السّنة

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌مَاذَا يفعل الطَّالِب عِنْد حُدُوث إِشْكَال أَو صعوبة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة للْعلم

- ‌كَيفَ تصبح شَاعِرًا

- ‌كَيفَ تصبح منشئا

- ‌كَيفَ تصبح محاسبا

- ‌كَيفَ تصبح عَالما بالفلسفة

- ‌كَيفَ تصبح طَبِيبا

- ‌كَيفَ تكون عَالما بِمذهب من الْمذَاهب

- ‌مبَاحث ضَرُورِيَّة لطَالب الْحق

- ‌جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد

- ‌الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات

- ‌أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرينَة

- ‌التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة

- ‌الْإِجْمَاع - الْقيَاس

- ‌الِاجْتِهَاد - الِاسْتِحْسَان

- ‌مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام

- ‌الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات

- ‌تعدد الْمذَاهب

- ‌مفاسد بعض أدعياء التصوف

- ‌جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد

- ‌الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات

- ‌أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرَابَة

- ‌التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة

- ‌عدم الاغترار بِمُجَرَّد الِاسْم دون النّظر فِي مَعَاني المسميات وحقائقها

- ‌‌‌الْإِجْمَاعوَالْقِيَاس وَالِاجْتِهَاد وَالِاسْتِحْسَان

- ‌الْإِجْمَاع

- ‌الْقيَاس

- ‌الِاسْتِحْسَان

- ‌الِاجْتِهَاد

- ‌مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام

- ‌تعدد الْمذَاهب

- ‌الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات

- ‌مفاسد بعض أدعياء التصوف

الفصل: ‌طبقات طلاب العلم

‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الْمُخْتَلفَة

إِذْ قد انْتهى بِنَا الْكَلَام فِي بَيَان الْأَسْبَاب الْمَانِعَة من الْإِنْصَاف إِلَى هَذِه الْغَايَة وتغلغل بِنَا الْبَحْث إِلَى ذكر مَا ذَكرْنَاهُ من تِلْكَ الدقائق الَّتِي يَنْبَغِي لكل عَالم ومتعلم أَن تكون نصب عَيْنَيْهِ فِي إقدامه وإحجامه وَأَن تكون ثَابِتَة فِي تصَوره فِي جَمِيع أَحْوَاله وَمَا أحقها بذلك وأولاها بالحرص على مَا هُنَالك فَإِنَّهَا فَوَائِد لَا تُوجد فِي كتاب وفرائد لَا يَخْلُو أَكْثَرهَا عَن قُوَّة كثير من المرشدين الْمُحَقِّقين وَإِن حَال بَينهم وَبَين إبرازها إِلَى الْفِعْل حجاب

فلنتكلم الْآن على مَا يَنْبَغِي لطَالب الْعلم أَن يتعلمه من الْعُلُوم

‌طَبَقَات طلاب الْعلم

فَأَقُول إِنَّهَا لما كَانَت تَتَفَاوَت المطالب فِي هَذَا الشَّأْن وتتباين الْمَقَاصِد بتفاوت همم الطالبين وأغراض القاصدين فقد ترْتَفع همة الْبَعْض مِنْهُم فيقصد الْبلُوغ إِلَى مرتبَة فِي الطّلب لعلم الشَّرْع ومقدما لَهَا يكون عِنْد تَحْصِيلهَا إِمَامًا مرجوعا إِلَيْهِ مستفادا مِنْهُ مأخوذا بقوله مدرسا مفتيا مصنفا

وَقد تقصر همته عَن هَذِه الْغَايَة فَتكون غَايَة مقْصده ومعظم مطلبه وَنِهَايَة رغبته أَن يعرف مَا طلبه مِنْهُ الشَّارِع من أَحْكَام التَّكْلِيف والوضع على وَجه يسْتَقلّ فِيهِ بِنَفسِهِ وَلَا يحْتَاج إِلَى غَيره من دون أَن يتَصَوَّر الْبلُوغ إِلَى مَا تصَوره أهل الطَّبَقَة الأولى من تعدِي فَوَائِد معارفهم إِلَى غَيرهم وَالْقِيَام فِي مقَام أكَابِر الْأَئِمَّة ونحارير هَذِه الْأمة

وَقد يكون نِهَايَة مَا يُريدهُ وَغَايَة مَا يَطْلُبهُ أمرا دون أهل الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَذَلِكَ كَمَا يكون من جمَاعَة يرغبون إِلَى إصْلَاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بِمَا يقتدرون بِهِ على فهم مَعَاني مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الشَّرْع وَعدم تحريفه وَتَصْحِيفه وتغيير إعرابه من دون قصد مِنْهُم إِلَى الِاسْتِقْلَال بل يعزمون

ص: 126

على التعويل على السُّؤَال عِنْد عرُوض التَّعَارُض والاحتياج إِلَى التَّرْجِيح

فَهَذِهِ ثَلَاث طَبَقَات للطلبة من المتشرعين الطالبين للاطلاع على مَا جَاءَ فِي الْكتاب وَالسّنة إِمَّا كلا أَو بَعْضًا بِحَسب اخْتِلَاف الْمَقَاصِد وتفاوت المطالب

وَثمّ طبقَة رَابِعَة يقصدون الْوُصُول إِلَى علم من الْعُلُوم أَو علمين أَو أَكثر لغَرَض من الْأَغْرَاض الدِّينِيَّة والدنيوية من دون تصور الْوُصُول إِلَى علم الشَّرْع

فَكَانَت الطَّبَقَات أَربع

وَيَنْبَغِي لمن كَانَ صَادِق الرَّغْبَة قوي الْفَهم ثاقب النّظر عَزِيز النَّفس شهد الطَّبْع عالي الهمة سامي الغريزة أَن لَا يرضى لنَفسِهِ بالدون وَلَا يقنع بِمَا دون الْغَايَة وَلَا يقْعد عَن الْجد وَالِاجْتِهَاد المبلغين لَهُ إِلَى أَعلَى مَا يُرَاد وَأَرْفَع مَا يُسْتَفَاد فَإِن النُّفُوس الأبية والهمم الْعلية لَا ترْضى بِدُونِ الْغَايَة فِي المطالب الدُّنْيَوِيَّة من جاه أَو مَال أَو رئاسة أَو صناعَة أَو حِرْفَة حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ

(إِذا غامرت فِي شرف مدوم

فَلَا تقنع بِمَا دون النُّجُوم)

(فَطَعِمَ الْمَوْت فِي أَمر حقير

كطعم الْمَوْت فِي أَمر عَظِيم)

وَقَالَ آخر مُشِيرا إِلَى هَذَا الْمَعْنى

(إِذا لم تكن ملكا مُطَاعًا

فَكُن عبدا لخالقه مُطيعًا)

(وَإِن لم تملك الدُّنْيَا جَمِيعًا

كَمَا تهواه فاتركها جَمِيعًا)

(هما شَيْئَانِ من ملك ونسك

ينيلان الْفَتى شرفا رفيعا)

وَقَالَ آخر

(فإمَّا مَكَانا يضْرب النَّجْم دونه

سرادقه أَو باكيا لحمام)

وَقد ورد هَذَا الْمَعْنى كثيرا فِي النّظم والنثر وَهُوَ الْمطلب الَّذِي تنشط إِلَيْهِ الهمم الشَّرِيفَة وتقبله النُّفُوس الْعلية

ص: 127

وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْنهمْ فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة الَّتِي هِيَ سريعة الزَّوَال قريبَة الاضمحلال فَكيف لَا يكون ذَلِك من مطَالب المتوجهين إِلَى مَا هُوَ أشرف مطلبا وَأَعْلَى مكسبا وَأَرْبع مرَادا وَأجل خطرا وَأعظم قدرا وأعود نفعا وَأتم فَائِدَة وَهِي المطالب الدِّينِيَّة مَعَ كَون الْعلم أَعْلَاهَا وأولاها بِكُل فَضِيلَة وأجلها وأكملها فِي حُصُول الْمَقْصُود وَهُوَ الْخَيْر الأخروي فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد قرن الْعلمَاء فِي كِتَابه بِنَفسِهِ وَمَلَائِكَته فَقَالَ (شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأولُوا الْعلم)

وَقصر الخشية لَهُ الَّتِي هِيَ سَبَب الْفَوْز لَدَيْهِ عَلَيْهِم فَقَالَ (إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء)

وَأخْبرهُ عباده بِأَنَّهُ يرفع عُلَمَاء أمته دَرَجَات فَقَالَ (يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات)

وَأخْبرنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِأَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء

وناهيك بِهَذِهِ المزية الجليلة والمنقبة النبيلة فَأكْرم بِنَفس تطلب غَايَة المطالب فِي أشرف المكاسب وأحبب بِرَجُل أَرَادَ من الْفَضَائِل مَا لَا تدانيه فَضِيلَة وَلَا تساميه منقبة وَلَا تقاربه مكرمَة فَلَيْسَ بعد مَا يتصوره أهل الطَّبَقَة الأولى مُتَصَوّر فَإِن نالوه على الْوَجْه الَّذِي تصوروه فقد ظفروا من خير العاجلة والآجلة وَشرف الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِمَا لَا يظفر بِهِ إِلَّا من صنع صنيعهم ونال نيلهم وَبلغ مبالغهم وَإِن اخترمهم دونه مخترم وَحَال بَينهم وَبَينه حَائِل فقد أعذروا وَلَيْسَ على من طلب جسميا ورام أمرا عَظِيما

ص: 128

إِن منعته عَنهُ الْمَوَانِع وصرفته عَنهُ الصوارف من بَأْس وَمَا أحسن مَا قَالَه الشريف الرضي الموسوي

(لَا بُد أَن أركبها صعبة

وقاحة تَحت علام وقاح)

(اجهدها أَو تنثني بالردا

دون الَّذِي أملت أَو بالنجاح)

أما فَتى نَالَ المنى فاشتفي

أَو بَطل ذاق الردى فاستراح)

وَكنت فِي أَيَّام الطّلب وعصر الشَّبَاب قد نظمت قصيدة فِي هَذَا الْمَعْنى على هَذَا النمط أذكر مِنْهَا الْآن أبياتا هِيَ

(قد أتعب السّير رحالي وَقد

آن لَهَا بعد الوحى أَن تراح)

(فَمَا يهاب العتب من فَازَ من

غَايَة أمْنِيته بالنجاح)

سعى فَلَمَّا ظَفرت بالمنى

يَمِينه ألْقى العصى واستراح)

فيا أَيهَا الْعَالم الصعلوك قد ظَفرت برتبة أرفع من رتب الْمُلُوك ونلت من الْمَعَالِي أَعْلَاهَا وَمن المناقب والفضائل أولاها بالشرف وأولاها فَإِن كل الْمَعَالِي الدُّنْيَوِيَّة وَإِن تناهت فَلَيْسَتْ بِاعْتِبَار الْمَعَالِي العلمية والشرف الْحَاصِل بهَا فِي ورد وَلَا صدر

فَإِنَّهُ يحصل للْعَالم أَولا وبالذات الْفَوْز بالنعيم الأخروي الدَّائِم السرمدي الَّذِي لَا تعدل مِنْهُ الدُّنْيَا بأسرها قيد شَرط بل مِقْدَار سَوط

وَيحصل لَهُ ثَانِيًا وبالعرض من شرف الدُّنْيَا مَا يصغر عِنْده كل شرف ويتقاصر دونه كل مجد ويتضاءل لَدَيْهِ كل فَخر وَإِن من فهم مِقْدَار مَا فِي الْعُلُوم من الْعُلُوّ كَانَ عِنْد نَفسه أعز قدرا وَأَعْلَى محلا وَأجل رُتْبَة من الْمُلُوك

ص: 129

وَإِن كَانَ متضايق الْمَعيشَة يركب نَعْلَيْه ويلبس طمريه وَقلت فِي هَذَا الْمَعْنى من أَبْيَات

(قد كنت ذَا طمرين أمرح فِي

الْعلَا مرح الْأَغَر بِجَانِب الميدان)

(مَا كنت مضطهدا فأطلب رفْعَة

أَو خاملا فَأُرِيد شهرة شاني)

فاحرص أَيهَا الطَّالِب على أَن تكون من أهل الطَّبَقَة الأولى فَإنَّك إِذا ترقيت من الْبِدَايَة التصورية إِلَى الْعلَّة الغائية الَّتِي هِيَ أول الْفِكر وَآخر الْعَمَل كنت فَرد الْعَالم وَوَاحِد الدَّهْر وقريع النَّاس وفخر الْعَصْر وَرَئِيس الْقرن وَأي شرف يسامي شرفك أَو فَخر يداني فخرك وَأَنت تَأْخُذ دينك عَن الله وَعَن رَسُوله لَا تقلد فِي ذَلِك أحدا وَلَا تقتدي بقول رجل وَلَا تقف عِنْد رَأْي وَلَا تخضع لغير الدَّلِيل وَلَا تعول على غير النَّقْد

هَذِه وَالله رُتْبَة تسمو على السَّمَاء ومنزلة تتقاصر عِنْدهَا النُّجُوم فَكيف بك إِذا كنت مَعَ هَذِه المزية مرجعا فِي دين الله ملْجأ لعباد الله مترجما لكتاب الله وَسنة رَسُول الله يَدُوم لَك الْأجر وَيسْتَمر لَك النَّفْع وَيعود لَك الْخَيْر وَأَنت بَين أطباق الثرى وَفِي عداد الْمَوْتَى بعد مئتين من السنين

وَلَا يحول بَيْنك وَبَين هَذَا الْمطلب الشريف مَا تنازعك نَفسك إِلَيْهِ من مطَالب الدُّنْيَا الَّتِي تروقها وتود الظفر بهَا فَإِنَّهُ حَاصِلَة لَك على الْوَجْه الَّذِي تحب والسبيل الَّذِي تُرِيدُ بعد تحصيلك لما أرشدتك إِلَيْهِ من الرُّتْبَة العلمية وَتَكون إِذْ ذَاك مخطوبا لَا خاطبا ومطلوبا لَا طَالبا

وعَلى فرض أَنَّهَا تكدي عَلَيْك المطالب وتعاند الْأَسْبَاب فلست تعدم الكفاف الَّذِي لَا بُد لَك مِنْهُ فَمَا رَأينَا عَالما وَلَا متعلما مَاتَ جوعا وَلَا أعوزه الْحَال حَتَّى انكشفت عَوْرَته عريا أَو لم يجد مَكَانا يكنه ومنزلا يسكنهُ وَلَيْسَ الدُّنْيَا إِلَّا هَذِه الْأُمُور وَمَا عَداهَا فضلات مشغلة للأحياء مهلكة للأموات

(أَنا إِن عِشْت لست أعدم قوتا

وَإِذا مت لست أعدم قبرا)

ص: 130

وعَلى الْعَاقِل أَن يعلم أَن لن يُصِيبهُ إِلَّا مَا كتبه الله لَهُ وَلَا يعدوه مَا قدره لَهُ وَأَنه قد فرغ من أَمر رزقه الَّذِي فَرْضه الله لَهُ فَلَا الْعُقُود يصده وَلَا السَّعْي واتعاب النَّفس يُوجب الْوُصُول إِلَى مَا لم يَأْذَن بِهِ الله

وَهَذَا مَعْلُوم من الشَّرْع قد توَافق عَلَيْهِ صَرِيح الْكتاب وَالسّنة وتطابقت عَلَيْهِ الشَّرَائِع وَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا فَمَا أَحَق هَذَا النَّوْع الْعَاقِل من الْحَيَوَان الَّذِي دارت رحى التَّكْلِيف عَلَيْهِ ونيطت أَسبَاب الْخَيْر وَالشَّر بِهِ أَن يشْتَغل بِطَلَب مَا أمره الله بِطَلَبِهِ وَتَحْصِيل مَا خلقه الله لتحصيله وَهُوَ الِامْتِثَال لما أمره بِهِ من طَاعَته والانتهاء مِمَّا نَهَاهُ عَنهُ من مَعَاصيه

وَإِن أعظم مَا يُريدهُ الله مِنْهُ ويقربه إِلَيْهِ ويفوز بِهِ عِنْده أَن يشغل نَفسه ويستغرق أوقاته فِي طلب معرفَة هَذِه الشَّرِيعَة الَّتِي شرعها الله لِعِبَادِهِ وَينْفق ساعاته فِي تَحْصِيل هَذَا الْأَمر الَّذِي جَاءَت بِهِ رسل الله إِلَى عباده وَنزلت بِهِ مَلَائكَته فَإِن جَمِيع مَا يُريدهُ الله من عباده عَاجلا وآجلا وَمَا وعدهم بِهِ من خير وَشر قد صَار فِي هَذِه الشَّرِيعَة

فَأكْرم بِرَجُل تاقت نَفسه عَن أَن يكون عبد بَطْنه إِلَى أَن يكون عبد دينه حَتَّى يَنَالهُ على الْوَجْه الْأَكْمَل ويعرفه على الْوَجْه الَّذِي أَرَادَهُ الله مِنْهُ ويرشد إِلَيْهِ من عباده من أَرَادَ لَهُ الرشاد وَيهْدِي بِهِ من اسْتحق الْهِدَايَة فَانْظُر أعزّك الله كم الْفرق بَين الرجلَيْن وَتَأمل قدر مَسَافَة التَّفَاوُت بَين الْأَمريْنِ هَذَا يسْتَغْرق جَمِيع أوقاته وَينْفق كل ساعاته فِي تَحْصِيل طَعَامه وَشَرَابه وملبسه وَمَا لَا بُد مِنْهُ قَامَ أَو قعد سعى أَو وقف وَهَذَا يُقَابله بسعي غير هَذَا السَّعْي وَعمل غير ذَلِك الْعَمَل فينفق ساعاته ويستغرق أوقاته فِي طلب مَا جَاءَ عَن الله وَعَن رَسُوله من التكاليف الَّتِي كلف بهَا عباده وَمَا أذن بِهِ من إبلاغه إِلَيْهِم من أُمُور دنياهم وأخراهم لينْتَفع بذلك ثمَّ ينفع بِهِ من يَشَاء الله من عباده ويبلغ إِلَيْهِم حجَّة الله ويعرفهم شرائعه

فَلَقَد تعاظم الْفرق بَين النَّوْعَيْنِ وتفاوت تَفَاوتا بقصر التَّعْبِير عَنهُ ويعجز

ص: 131

الْبَيَان لَهُ إِلَّا على وَجه الْإِجْمَال بِأَن يُقَال إِن أحد النَّوْعَيْنِ قد الْتحق بالدواب وَالْآخر بِالْمَلَائِكَةِ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قد سعى سعيا شابه من الْتحق بِهِ فَإِن الدَّابَّة يستعملها مَالِكهَا فِي مَصَالِحه وَيقوم بطعامها وشرابها وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ

وَمَعَ هَذَا فَمن نظر فِي الْأَمر بِعَين البصيرة وتأمله حق التَّأَمُّل وجد عَيْش من شغل نَفسه بِالطَّاعَةِ وفرغها للْعلم وَلم يلْتَفت إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة من أَمر دُنْيَاهُ تَجدهُ أرفه وحاله أقوم وسروره أتم وَتلك حِكْمَة الله الْبَالِغَة الَّتِي يتَبَيَّن عِنْدهَا أَنه لن يعدو الْمَرْء مَا قدر لَهُ وَلنْ يفوتهُ مَا كَانَ يُدْرِكهُ

وكما أَن هَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ ثَابت فِي الشَّرِيعَة مُصَرح بِهِ فِي غير موطن مِنْهَا قد أجراه الله على لِسَان الْجَبَابِرَة من عباده وعتاة أمته حَتَّى قَالَ الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ فِي بعض خطبه مَا مَعْنَاهُ أَيهَا النَّاس إِن الله كفانا أَمر الرزق وأمرنا بِالْعبَادَة فسعينا لما كفيناه وَتَركنَا السَّعْي للَّذي أمرنَا بِهِ فليتنا أمرنَا بِطَلَب الرزق وكفينا الْعِبَادَة حَتَّى نَكُون كَمَا أَرَادَهُ الله منا هَذَا معنى كَلَامه لَا لَفظه فَلَمَّا بلغ كَلَامه هَذَا بعض السّلف المعاصرين لَهُ قَالَ إِن الله لَا يخرج الْفَاجِر من هَذِه الديار وَفِي قلبه حِكْمَة ينْتَفع بهَا الْعباد إِلَّا أخرجهَا مِنْهُ وَإِن هَذَا مَا أخرجه من الْحجَّاج

فَانْظُر هَذَا الْجَبَّار كَيفَ لم يخف عَلَيْهِ هَذَا الْأَمر مَعَ مَا هُوَ فِيهِ من التجبر وَسَفك الدِّمَاء وهتك الْحرم والتجرؤ على الله وعَلى عباده وتعدي حُدُوده فَمَا أحقه بِأَن لَا يخفى على من هُوَ أَلين مِنْهُ قلبا وَأَقل مِنْهُ ظلما وأخف مِنْهُ تجبرا وَأقرب مِنْهُ من خير وَأبْعد مِنْهُ من شَرّ

وَإِن من تصور هَذَا الْأَمر حق التَّصَوُّر وتعقله كَمَا يَنْبَغِي انْتفع بِهِ انتفاعا عَظِيما ونال بِهِ من الْفَوَائِد جسيما وَالْهِدَايَة بيد الْهَادِي جل جلاله وتقدست أسماؤه

ص: 132

وَإِن لحسن النِّيَّة وإخلاص الْعَمَل تَأْثِيرا عَظِيما فِي هَذَا الْمَعْنى فَمن تعكست عَلَيْهِ بعض أُمُوره من طلبة الْعلم أَو أكلف عَلَيْهِ مطالبه وتضايقت مقاصده فَليعلم أَنه بِذَنبِهِ أُصِيب وبعدم إخلاصه عُوقِبَ أَو أَنه أُصِيب بِشَيْء من ذَلِك محنة لَهُ وابتلاء واختبارا لينْظر كَيفَ صبره واحتماله ثمَّ يفِيض عَلَيْهِ بعد ذَلِك من خَزَائِن الْخَيْر ومخازن العطايا مَا لم يكن بحسبان وَلَا يبلغ إِلَيْهِ تصَوره فليعض على الْعلم بناجذه ويشد عَلَيْهِ يَده ويشرح بِهِ صَدره فَإِنَّهُ لَا محَالة وَاصل إِلَى الْمنزل الَّذِي ذكرنَا نائل للمرتبة الَّتِي بَينا

وَمَا أحسن مَا حَكَاهُ بعض أهل الْعلم عَن الْحَكِيم أفلاطون فَإِنَّهُ قَالَ الْفَضَائِل مرّة الْأَوَائِل حلوة العواقب والرذائل حلوة الْأَوَائِل مرّة العواقب

وَقد صدق فَإِن من شغل أَوَائِل عمره وعنفوان شبابه بِطَلَب الْفَضَائِل لَا بُد أَن يفطم نَفسه عَن بعض شهواتها ويحسبها عَن الْأُمُور الَّتِي يشْتَغل بهَا أترابه ومعارفه من الملاهي ومجالس الرَّاحَة وشهوات الشَّبَاب فَإِذا انْتهى إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من تِلْكَ اللَّذَّات والخلاعات وجد فِي نَفسه بِحكم الشَّبَاب وحداثة السن وميل الطَّبْع مَا هُنَاكَ مرَارَة وَاحْتَاجَ إِلَى مجاهدة يرد بهَا جَامع طبعه ومتفلت هَوَاهُ ومتؤثب نشاطه وَلَا يتم لَهُ ذَلِك إِلَّا بإلجام شَهْوَته بلجام الصَّبْر ورباطها بمربط الْعِفَّة

وَكَيف لَا يجد مرَارَة الْحَبْس للنَّفس من كَانَ فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الْمَسَاجِد ومقصورة من مقاصر الْمدَارِس لَا ينظر إِلَّا فِي دفتر وَلَا يتَكَلَّم إِلَّا فِي فن من الْفُنُون وَلَا يتحدث إِلَّا إِلَى عَالم أَو متعلم وأترابه ومعارفه من قرَابَته وجيرانه وَذَوي سنه وَأهل نشأته وبلده يتقبلون فِي رافه الْعَيْش ورائق القصف

وَإِذا انْضَمَّ لذَلِك الطَّالِب إِلَى هَذِه المرارة الْحَاصِلَة لَهُ بعزف النَّفس عَن شهواتها مرَارَة أُخْرَى هِيَ اعواز الْحَال وضيق المكسب وحقارة الدخل فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يجد من المرارة المتضاعفة مَا يعظم عِنْده موقعه لكنه يذهب عَنهُ قَلِيلا قَلِيلا

ص: 133

فَأول عقدَة تنْحَل عَنهُ من عقد هَذِه المرارة عِنْدَمَا يتَصَوَّر مَا يؤول بِهِ الْأَمر الْأَمر وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ حَاله من الْوُصُول إِلَى مَا قد وصل إِلَيْهِ من يجده فِي عصره من الْعلمَاء

ثمَّ تنْحَل عَنهُ الْعقْدَة الثَّانِيَة بفهم المباحث وَحفظ الْمسَائِل وَإِدْرَاك الدقائق فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يجد من اللَّذَّة والحلاوة مَا يذهب بِكُل مرَارَة

ثمَّ إِذا نَالَ من المعارف حظا وأحرز مِنْهَا نَصِيبا وَدخل فِي عداد أهل الْعلم كَانَ متقلبا فِي اللَّذَّات النفسانية الَّتِي هِيَ اللَّذَّات بِالْحَقِيقَةِ وَلَا يعْدم عِنْد ذَلِك من اللَّذَّات الجسمانية مَا هُوَ أفضل وَأحلى من اللَّذَّات الَّتِي يتقلب فِيهَا كل من كَانَ من أترابه

وَهُوَ إِذا وازن بَين نَفسه الشَّرِيفَة وَبَين فَرد معارفه الَّذين لم يشتغلوا بِمَا اشْتغل بِهِ اغتبط بِنَفسِهِ غَايَة الِاغْتِبَاط وَوجد من السرُور والحبور مَا لَا يقادر قدره هَذَا بِاعْتِبَار مَا يجده من اللَّذَّة النفسانية عِنْد أَن يجد نَفسه عَالِمَة وَنَفس معارفه جاهلة

ويزداد ذَلِك بِمَا يحصل لَهُ من لَوَازِم الْعلم من الْجَلالَة والفخامة وَبعد الصيت وَعظم الشُّهْرَة ونبالة الذّكر ورفعة الْمحل وَالرُّجُوع إِلَيْهِ فِي مسَائِل الدّين وتقديمه على غَيره فِي مطَالب الدُّنْيَا وخضوع من كَانَ يزري عَلَيْهِ ويستخفف مَكَانَهُ من بني عصره فَإِذا جمعهم مجْلِس من الدُّنْيَا كَانُوا لَهُ بِمَنْزِلَة الخدم وَإِن كَانَ على غَايَة من الإفلاس والعدم

ثمَّ إِذا تناهى حَاله وَبلغ من الْحَظ فِي الْعلم إِلَى مَكَان عَليّ انثال عَلَيْهِ الطّلبَة للعلوم وَأَقْبل إِلَيْهِ المستفتون فِي أَمر الدّين وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ مُلُوك الدُّنْيَا فضلا عَن غَيره فَيكون عِنْد هَذَا عيشه حلوا مَحْضا وعمره مغمورا باللذات النفسانية والجسمانية ويرتفع أمره عَن هَذِه الدرجَة ارْتِفَاع لَا يقادر قدره إِذا تصور مَاله عِنْد الله من عَظِيم الْمنزلَة وَعلي الرُّتْبَة وعظيم الْجَزَاء الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود أَولا وبالذات من عُلُوم الدّين

ص: 134

وَكنت فِي أَوَائِل أَيَّام طلبي للْعلم فِي سنّ الْبلُوغ وَبعدهَا بِقَلِيل تصورت مَا ذكرت هُنَا فَقلت

(سددت الْأذن عَن دَاعِي

التصابي فَلَا دَاع لدي وَلَا مُجيب)

(وأنفقت الشبيبة غير وان

لمجد الشيب فليهن المشيب)

وَقلت أحب رامز إِلَى هَذَا الْمَعْنى

(وأبدي رَغْبَة لنجود نجد

وشوقا لَا نتشاقى مِنْهُ ريحًا)

(وَمَا بسوى العقيق أَقَامَ قلبِي

وأضحى بَين أهليه طريحا)

وَأما كَون الرذائل حلوة الْأَوَائِل مرّة العواقب فَصدق هَذَا غير خَافَ على ذِي لب فَإِن من أرسل عنان شبابه فِي البطالات وَحل رِبَاط نَفسه فأجراها فِي ميادين اللَّذَّات أدْرك من اللَّذَّة الجسمانية من ذَلِك بِحَسب مَا يتَّفق لَهُ مِنْهَا وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ ذَا مَال وجمال وَلكنهَا تَنْقَضِي عَنهُ اللَّذَّة وتفارقه هَذِه الْحَلَاوَة إِذا تَكَامل عقلهَا وَرجح فهمه وَقَوي فكره فَإِنَّهُ لَا يدْرِي عِنْد ذَلِك مَا يدهمه من المرارات الَّتِي مِنْهَا الندامة على مَا اقترفه من معاصي الله ثمَّ الْحَسْرَة على مَا فَوته من الْعُمر فِي غير طائل ثمَّ على مَا أنفقهُ من المَال فِي غير حلّه وَلم يفز من الْجَمِيع بِشَيْء وَلَا ظفر من الْكل بطائل

وتزداد حسرته وتتعاظم كربته إِذا قَاس نَفسه بِنَفس من أشتغل بِطَلَب الْمَعَالِي من أترابه فِي مقتبل شبابه فَإِنَّهُ لَا يزَال عِنْد موازنة ذَاته بِذَاتِهِ وَصِفَاته بصفاته فِي حسرات متجددة وزفرات متصاعدة وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ بَيته فِي الْعلم طَوِيل الدعائم وسلفه من المتأهلين لتِلْك الْمَعَالِي والمكارم فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تذْهب عَنهُ سكرة البطالة وتنقشع عَنهُ عماية الْجَهَالَة بكروب طَوِيلَة وهموم ثَقيلَة وَقد فَاتَهُ مَا فَاتَ وحيل بَين العير والنزوان وَحَال الجريض دون القريض وَفِي الصَّيف ضيعت اللَّبن

فَانْظُر أعزّك الله أَي الرجلَيْن أربح صَفْقَة وَأكْثر فَائِدَة وَأعظم عَائِدَة فقد بَين الصُّبْح لذِي عينين وَعند الصَّباح يحمد الْقَوْم السرى

ص: 135