المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عن الحق - أدب الطلب ومنتهى الأرب - ت الخشت

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌وَاجِبَات طَالب الْعلم

- ‌إخلاص النِّيَّة لله

- ‌قصد تَحْصِيل علم الدّين

- ‌تجنب التحيز وَالْمَعْصِيَة

- ‌تحري الْإِنْصَاف

- ‌توطين النَّفس على الْبَحْث وَالِاجْتِهَاد

- ‌تجربة الشَّوْكَانِيّ مَعَ الِاجْتِهَاد

- ‌الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والعصبية

- ‌النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين

- ‌حب الشّرف وَالْمَال

- ‌الْجِدَال والمراء وَحب الظُّهُور

- ‌حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد

- ‌صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق لقَوْله بِخِلَافِهِ

- ‌كَون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن

- ‌آفَات الشُّيُوخ والتلاميذ

- ‌علاج التعصب

- ‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق

- ‌عود إِلَى أَسبَاب التعصب

- ‌الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية

- ‌عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم

- ‌المنافسة بَين الأقران

- ‌التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد

- ‌الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْبعد عَن الْحق والتعصب

- ‌النشوء فِي بلد متمذهب بِمذهب معِين

- ‌حب الشّرف وَالْمَال

- ‌الْجِدَال والمراء وَحب الِانْتِصَار والظهور

- ‌حب الْقَرَابَة والتعصب للأجداد

- ‌صعوبة الرُّجُوع إِلَى الْحق الَّذِي قَالَ بِخِلَافِهِ

- ‌أَن يكون المنافس الْمُتَكَلّم بِالْحَقِّ صَغِير السن أَو الشَّأْن

- ‌من آفَات الشَّيْخ والتلميذ

- ‌علاج التعصب

- ‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق

- ‌عود إِلَى أَسبَاب التعصب الِاسْتِنَاد إِلَى قَوَاعِد ظنية

- ‌عدم الموضوعية فِي عرض حجج الْخُصُوم

- ‌تَقْلِيد المتعصبين من عُلَمَاء الْجرْح وَالتَّعْدِيل

- ‌المنافسة بَين الأقران بِلَا تبصر

- ‌التباس مَا هُوَ من الرَّأْي الْبَحْث بِشَيْء من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ مواد الِاجْتِهَاد

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الختلفة

- ‌طَبَقَات طلاب الْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى مَرَاتِب الْعلم الْمُخْتَلفَة

- ‌طَبَقَات طلاب الْعلم

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى للْعلم

- ‌علم النَّحْو

- ‌علم الصّرْف

- ‌علم الْمعَانِي وَالْبَيَان

- ‌فن الْوَضع والمناظرة

- ‌المؤلفات الْمُشْتَملَة على بَيَان مُفْرَدَات اللُّغَة عُمُوما وخصوصا

- ‌علم الْمنطق

- ‌فن أصُول الْفِقْه

- ‌علم الْكَلَام أَو أصُول الدّين

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌علم السّنة

- ‌علم مصطلح الحَدِيث

- ‌علم التَّارِيخ

- ‌مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الأولى

- ‌علم الْفِقْه

- ‌من لَوَازِم الْإِنْصَاف وَالِاجْتِهَاد

- ‌أهمية الِاطِّلَاع على أشعار المبدعين

- ‌النّظر فِي بلاغات مبدعي الْإِنْشَاء

- ‌علم الْعرُوض والقوافي

- ‌أهمية الِاطِّلَاع على الْعُلُوم الفلسفية

- ‌أَنْصَاف المثقفين فِي زمن الشَّوْكَانِيّ

- ‌المؤهلون لتلقي الْعلم

- ‌تولي أهل الْعلم للمناصب

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة للْعلم

- ‌علم النَّحْو

- ‌علم الصّرْف

- ‌علم الْمعَانِي وَالْبَيَان

- ‌علم أصُول الْفِقْه

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌علم الحَدِيث

- ‌عُلُوم أُخْرَى

- ‌مؤشر الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّانِيَة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الثَّالِثَة للعم

- ‌علم الْإِعْرَاب

- ‌علم مصطلح الحَدِيث

- ‌علم السّنة

- ‌علم التَّفْسِير

- ‌مَاذَا يفعل الطَّالِب عِنْد حُدُوث إِشْكَال أَو صعوبة

- ‌كَيْفيَّة الْوُصُول إِلَى الْمرتبَة الرَّابِعَة للْعلم

- ‌كَيفَ تصبح شَاعِرًا

- ‌كَيفَ تصبح منشئا

- ‌كَيفَ تصبح محاسبا

- ‌كَيفَ تصبح عَالما بالفلسفة

- ‌كَيفَ تصبح طَبِيبا

- ‌كَيفَ تكون عَالما بِمذهب من الْمذَاهب

- ‌مبَاحث ضَرُورِيَّة لطَالب الْحق

- ‌جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد

- ‌الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات

- ‌أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرينَة

- ‌التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة

- ‌الْإِجْمَاع - الْقيَاس

- ‌الِاجْتِهَاد - الِاسْتِحْسَان

- ‌مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام

- ‌الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات

- ‌تعدد الْمذَاهب

- ‌مفاسد بعض أدعياء التصوف

- ‌جلب الْمصَالح وَدفع الْمَفَاسِد

- ‌الدَّلَائِل الْعَامَّة والكليات

- ‌أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة أَو قرَابَة

- ‌التحايل على أَحْكَام الشَّرِيعَة

- ‌عدم الاغترار بِمُجَرَّد الِاسْم دون النّظر فِي مَعَاني المسميات وحقائقها

- ‌‌‌الْإِجْمَاعوَالْقِيَاس وَالِاجْتِهَاد وَالِاسْتِحْسَان

- ‌الْإِجْمَاع

- ‌الْقيَاس

- ‌الِاسْتِحْسَان

- ‌الِاجْتِهَاد

- ‌مفاسد أَصَابَت دين الْإِسْلَام

- ‌تعدد الْمذَاهب

- ‌الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي بعض الْأَمْوَات

- ‌مفاسد بعض أدعياء التصوف

الفصل: ‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عن الحق

‌العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عَن الْحق

وَاعْلَم أَنه كَمَا يتسبب عَن التعصب محق بركَة الْعلم وَذَهَاب رونقه وَزَوَال مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الثَّوَاب كَذَلِك يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْفِتَن المفضية إِلَى سفك الدِّمَاء وهتك الْحرم وتمزيق الْأَعْرَاض وَاسْتِحْلَال مَا هُوَ فِي عصمَة الشَّرْع مَا لَا يخفى على عَاقل وَقد لَا يَخْلُو عصر من العصور وَلَا قطر من الأقطار من وُقُوع ذَلِك لَا سِيمَا إِذا اجْتمع فِي الْمَدِينَة والقرية مذهبان أَو أَكثر وَقد يَقع من ذَلِك مَا يُفْضِي إِلَى إحراق الديار وَقتل النِّسَاء وَالصبيان كَمثل مَا كَانَ يَقع بَين السّنيَّة والشيعة بِبَغْدَاد فَإِنَّهُم كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي كل عَام فتنا ويهرقون الدِّمَاء ويستحلون من بَعضهم الْبَعْض مَا لَا يستحلونه من أهل الذِّمَّة بل قد لَا يستحلونه من الْكفَّار الَّذين لَا ذمَّة لَهُم وَلَا عهد

وَهَذَا يعرفهُ كل من لَهُ خبْرَة بأحوال النَّاس وَمن أَرَادَ الِاطِّلَاع على تفاصيل مَا كَانَ يَقع بَينهم فِي بَغْدَاد بخصوصها فَلْينْظر فِي مثل تَارِيخ ابْن جرير وَفِي تواريخ الذَّهَبِيّ وتاريخ ابْن كثير وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يسجل فِي حوادث كل سنة شَيْئا من ذَلِك فِي الْغَالِب

ص: 92

وَقد تَنْتَهِي بهم التعصبات والمناقضات إِلَى مَا هُوَ من أَنْوَاع الْجُنُون والحماقات القبيحة كَمَا وَقع فِي كتب التَّارِيخ أَن أهل السّنة بِبَغْدَاد أركبوا امْرَأَة على جمل وأركبوا رجلَيْنِ آخَرين وَسموا الْمَرْأَة عَائِشَة وَالرّجلَيْنِ طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَمَشوا مَعَهم وتحزبوا وتجمعوا فَسمع بذلك الشِّيعَة من أهل الكرخ فَأَقْبَلُوا مشرعين بِالسِّلَاحِ والكراع وقاتلوا أهل السّنة قتالا شَدِيدا وضربوا الْمَرْأَة الْمُسَمَّاة عَائِشَة والمسمى طَلْحَة وَالزُّبَيْر ضربا مبرحا

وَمن غرائب مناقضاتهم أَن الشِّيعَة لما اجْتَمعُوا لزيارة الْحُسَيْن بن عَليّ رضي الله عنه فِي عَاشُورَاء اجْتمعت السّنيَّة وَخَرجُوا يزورون مُصعب بن الزبير وَجعلُوا ذَلِك عَادَة لَهُم فِي عَاشُورَاء فَانْظُر مَا فِي هَذِه المناقضة من الْجَهْل فَإِن مصعبا لَيْسَ بمستحق لذَلِك لِأَنَّهُ لم يكن مَعْرُوفا بِعلم وَلَا فضل بل أَمِير كَبِير ولى الْعرَاق من أَخِيه عبد الله بن الزبير وَسَفك من الدِّمَاء مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى وَقع الْحَرْب بَينه وَبَين عبد الْملك بن مَرْوَان فخذله أهل الْعرَاق فَقتل فَانْظُر أَي فَضِيلَة لمصعب يسْتَحق بهَا أَن يكون للسنية كالحسين للشيعة

وَبِالْجُمْلَةِ فقد حدثت بِسَبَب الِاخْتِلَاف بَين الطَّائِفَتَيْنِ فواقر عَظِيمَة لَو لم يكن مِنْهَا إِلَّا دُخُول التتر بَغْدَاد وقتلهم الْخَلِيفَة وَالْمُسْلِمين فَإِن سَبَب ذَلِك الْوَزير الرافضي ابْن العلقمي كَانَ بَينه وبن الْأَمِير مُجَاهِد الدّين الدويدار من الْعَدَاوَة أَمر عَظِيم وَكَانَ مُجَاهِد الدّين يتعصب على الشِّيعَة

ص: 93

تعصبا شَدِيدا حَتَّى أفْضى ذَلِك إِلَى نهب أهل الكرخ وإحراق بعض مساكنهم فَغَضب الْوَزير عضبا شَدِيدا وَلم يسْتَطع الْمُكَافَأَة إِذا ذَاك فَحَمله ذَلِك على مُكَاتبَة التتر وترغيبهم فِي بَغْدَاد وتسهيل الْأَمر عَلَيْهِم فَأقبل هولاكو ملك التتر وَمَعَهُ جَيش من التتر عَظِيم فوصلوا بَغْدَاد وَأَحَاطُوا بهَا من جَمِيع جوانبها وَمَا زَالَ الْوَزير يخدع الْخَلِيفَة وَيفرق جيوشه ويحول بَينه وَبَين الحزم حَتَّى أعيته الْحِيلَة وَتمكن الْعَدو فَخرج عَن ذَلِك الْوَزير إِلَى التتر وَقد تقدم بَينهم من الْمُكَاتبَة مَا فِيهِ حُرْمَة وَذمَّة وتكفل لَهُم بإقاع الْخَلِيفَة وأعيان الْمحل فِي أَيْديهم يَقْتُلُونَهُمْ كَيفَ شاؤوا ثمَّ دخلوهم بَغْدَاد بعد ذَلِك ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَلِيفَة وَأخْبرهُ أَن سُلْطَان التتر لَا يُرِيد استئصاله وَلَا نزع يَده من الْخلَافَة وَلَيْسَ لَهُ رَغْبَة إِلَى ذَلِك بل مُرَاده أَن يكون متصرفا عَن أَمر الْخَلِيفَة كَمَا كَانَ يتَصَرَّف عَن أَمرهم الْمُلُوك الحمدانية والبويهية والسلجوقية وَأَنه يُرِيد أَن يتَزَوَّج ابْن الْخَلِيفَة بابنته وَمَا زَالَ يخدع الْخَلِيفَة ويفتل مِنْهُ فِي الذرْوَة وَالْغَارِب حَتَّى أسعده وَمَال إِلَى مقاله وَقَالَ لَهُ يخرج هُوَ وأعيان الْبَلَد لعقد النِّكَاح فَخرج الْخَلِيفَة وأخوته وَأَوْلَاده وأعمامه وأمراؤه وأعيان بَغْدَاد من كل طبقَة من الطَّبَقَات الَّتِي تتصل بالخليفة وَكَانَ الَّذِي عين الخارجين وَسَمَّاهُمْ هُوَ الْوَزير الْمَذْكُور فَلم يدع أحدا من أَرْكَان الدولة يخْشَى مِنْهُ وَلَا سِيمَا من كَانَ متعصبا على الشِّيعَة كالأمير مُجَاهِد الدّين الدويدار فَإِنَّهُ جعلهم فِي أول الخارجين لشهود العقد وَقد كَانَ أبرم هُوَ وسلطان التتر أَنه سيجعله وزيرا كَمَا كَانَ مَعَ الْخَلِيفَة العباسي فَلَمَّا خرج أُولَئِكَ الْأَعْيَان والخليفة قَتلهمْ التتر جَمِيعًا ثمَّ دخلُوا بَغْدَاد فَقتلُوا من بهَا من الطَّائِفَتَيْنِ لم يبقوا على شيعي وَلَا سني وَكَانَ جملَة الْقَتْلَى كَمَا نَقله كثير من ثِقَات المؤرخين ثَمَانِيَة عشر لكا عَن ألف قَتِيل وثماني مائَة ألف قَتِيل

ص: 94

فَانْظُر هَذِه الفاقرة الْعَظِيمَة الَّتِي تسببت عَن تعصب الْوَزير الرافضي لأَصْحَابه من الرافضة لَا رحمه الله وَقد كَانَ يظْهر التأسف والتندم وَيَقُول إِنَّه مَا كَانَ يظنّ أَن الْأَمر يَقع هَكَذَا وَأَنه كَانَ يظنّ سَلامَة الشِّيعَة وَعدم وُصُول الْأَمر إِلَيْهِم حَسْبَمَا قدمه لنَفسِهِ وَلَهُم وَلم يصل إِلَى مَا شَرطه لنَفسِهِ من الوزارة وَلَا غَيرهَا وَغَايَة مَا ناله السَّلامَة من الْقَتْل وَمَات بعد أَن اقْتَرَف هَذِه الْعَظِيمَة بأيام يسيرَة دون سنة وَكَانَ مَوته كمدا على مَا جناه على نَفسه خُصُوصا وعَلى إخوانه من الرافضة وَسَائِر الْمُسلمين وَكَانَ فِي بعض الْأَوْقَات يظْهر التجلد وَيَقُول لَا يُبَالِي بِمن قتل وَلَا بِمن أُصِيب بعد أَن شفى نَفسه من الدويدار

فَانْظُر هَذِه الْجَاهِلِيَّة الَّتِي تظاهر بهَا هَذَا الرافضي وَانْظُر مَا صنع بِالْمُسْلِمين وَمَا جناه الْخَلِيفَة على نَفسه من استخلاصه للوزارة وأمانته على الْأَسْرَار والركون إِلَيْهِ فِي تَدْبِير الدولة

وَهَكَذَا من ألْقى مقاليد أمره إِلَى رَافِضِي وَإِن كَانَ حَقِيرًا فَإِنَّهُ لَا أَمَانَة لرافضي قطّ على من يُخَالِفهُ فِي مذْهبه ويدين بِغَيْر الرَّفْض بل يسْتَحل مَاله وَدَمه عِنْد أدنى فرْصَة تلوح لَهُ لِأَنَّهُ عِنْده مُبَاح الدَّم وَالْمَال وكل مَا يظهره من الْمَوَدَّة فَهُوَ تقيه يذهب أَثَره بِمُجَرَّد إِمْكَان الفرصة

وَقد جربنَا هَذَا تجريبا كثيرا فَلم نجد رَافِضِيًّا يخلص الْمَوَدَّة لغير رَافِضِي وَإِن آثره بِجَمِيعِ مَا يملكهُ وَكَانَ لَهُ بِمَنْزِلَة الخول وتودد إِلَيْهِ بِكُل مُمكن

وَلم نجد فِي مَذْهَب من الْمذَاهب المبتدعة وَلَا غَيرهَا مَا نجده عِنْد هَؤُلَاءِ من الْعَدَاوَة لمن خالفهم ثمَّ لم نجد عِنْد أحد مَا نجد عِنْدهم من التجرئ على شتم الْأَعْرَاض المحترمة فَإِنَّهُ يلغن أقبح اللَّعْن ويسب أفظع السب كل من تجْرِي بَينه وَبَينه أدنى خُصُومَة وأحقر جِدَال وَأَقل اخْتِلَاف وَلَعَلَّ سَبَب هَذَا وَالله أعلم أَنه لما تجرؤا على سبّ السّلف الصَّالح هان عَلَيْهِم سبّ من

ص: 95

عداهم وَلَا جرم فَكل شَدِيد ذَنْب يهون مَا دونه وَقد يَقع بعض شياطينهم فِي عَليّ كرم الله وَجهه حردا عَلَيْهِ وغضبا لَهُ حَيْثُ ترك حَقه بل قد يبلغ بعض ملاعينهم إِلَى ثلب الْعرض الشريف النَّبَوِيّ صانه الله قَائِلا إِنَّه كَانَ عَلَيْهِ الْإِيضَاح للنَّاس وكشف أَمر الْخلَافَة وَمن الأقدم فِيهَا والأحق بهَا

وَأما تسرع هَذِه الطَّائِفَة إِلَى الْكَذِب وإقدامهم عَلَيْهِ والتهاون بأَمْره فقد بلغ من سلفهم وخلفهم إِلَى حد الْكَذِب على الله وعَلى رَسُوله وعَلى كِتَابه وعَلى صالحي أمته وَوَقع مِنْهُم فِي ذَلِك مَا يقشعر لَهُ الْجلد وناهيك بِقوم بلغ الخذلان بغلاتهم إِلَى إِنْكَار بعض كتاب الله وتحريف الْبَعْض الآخر وإنكار سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَجَاوَزَ ذَلِك جمَاعَة من زناديقهم إِلَى اعْتِقَاد الألوهية فِي مُلُوكهمْ بل فِي شُيُوخ بلدانهم

وَلَا غرو فاصل هَذَا الْمظهر الرافضي مظهر إلحاد وزندقة جعله من أَرَادَ كيدا لِلْإِسْلَامِ سترا لَهُ فأظهر التَّشَيُّع والمحبة لآل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم استجذابا لقلوب النَّاس لِأَن هَذَا أَمر يرغب فِيهِ كل مُسلم وقصدا للتغرير عَلَيْهِم ثمَّ أظهر للنَّاس أَنه لَا يتم الْقيام بِحَق الْقَرَابَة إِلَّا بترك حق الصَّحَابَة ثمَّ جَاوز ذَلِك إِلَى إخراجهم صانهم الله عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ

ومعظم مَا يَقْصِدهُ بِهَذَا هُوَ الطعْن على الشَّرِيعَة وإبطالها لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم هم الَّذين رووا للْمُسلمين علم الشَّرِيعَة من الْكتاب وَالسّنة فَإِذا تمّ لهَذَا الزنديق بَاطِنا الرافضي ظَاهرا الْقدح فِي الصَّحَابَة وتكفيرهم وَالْحكم عَلَيْهِ بِالرّدَّةِ بطلت الشَّرِيعَة بأسرها لِأَن هَؤُلَاءِ هم حملتها الراوون لَهَا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

فَهَذَا هُوَ الْعلَّة الغائية لَهُم وَجَمِيع مَا يتظهرون بِهِ من التَّشَيُّع كذب وزور وَمن لم يفهم هَذَا فَهُوَ حقيق بِأَن يتهم نَفسه وَيَلُوم تَقْصِيره وَلِهَذَا

ص: 96

تَجدهُ إِذا تمكنوا وسارت لَهُم دولة يتظاهرون بِهَذَا وَيدعونَ النَّاس إِلَيْهِ كَمَا وَقع من القرامطة والباطنية والإسماعلية وَمَا نحا نَحوه فَإِنَّهُم لما تمكنوا أظهرُوا صَرِيح الْكفْر والزندقة وفعلوا تِلْكَ الأفاعيل من الاستهتار بمحارم الله وَمَا عظمه كنقلهم للحجر الْأسود من الْحرم إِلَى هجر وكقول رَئِيس القرامطة اللعين لما سفك دِمَاء الْحجَّاج بِالْبَيْتِ الْحَرَام وَفعل بِهِ من الْمُنْكَرَات مَا هُوَ مَعْرُوف

(وَلَو كَانَ هَذَا الْبَيْت لله رَبنَا

لصب علينا النَّار من فَوْقنَا صبا)

(لأَنا حجَجنَا حجَّة جَاهِلِيَّة

محللة لم يبْق شرقا وَلَا غربا)

ثمَّ قَالَ لمن بَقِي فِي الْحرم سالما من الْقَتْل يَا حمير أَنْت تَقولُونَ (وَمن دخله كَانَ آمنا)

وَقد كَانَ أول هَذِه النحلة القرمطية التظهر بمحبة أهل الْبَيْت والتوجع لَهُم والعداوة لأعدائهم ثمَّ انْتهى أَمرهم إِلَى مثل هَذَا

وَهَكَذَا الباطنية فَإِن مَذْهَبهم الَّذِي يتظهرون بِهِ ويبدونه للنَّاس هُوَ التَّشَيُّع وَلَا يزَال شياطينهم ينقلون من دخل مَعَهم فِيهِ من مرتبَة إِلَى مرتبَة حَتَّى يقفوه على بَاب الْكفْر وصراح الزندقة وَإِذا تمكن بعض طواغيتهم فعل كَمَا فعل عَليّ بن الْفضل الْخَارِج بِالْيمن من دُعَاء النَّاس إِلَى صَرِيح الْكفْر وَدَعوى النُّبُوَّة ثمَّ الترقي إِلَى دَعْوَى الألوهية وكما فعله الْحَاكِم العبيدي بِمصْر من

ص: 97

أَمر النَّاس بِالسُّجُود لَهُ وَالْقِيَام عِنْد ذكره على صفة مَعْرُوفَة فَكَانَ إِذا ذكره الْخَطِيب يَوْم الْجُمُعَة على الْمِنْبَر قَامَ جَمِيع من بِالْمَسْجِدِ ثمَّ يخرون ساجدين ثمَّ يقوم بقيامهم من يتَّصل بالجامع من أهل الْأَسْوَاق ثمَّ يسري ذَلِك إِلَى قيام أهل مصر وَمَا كَانَ يبديه من الْأَفْعَال المتناقضة والحماقات الْبَارِدَة مَقْصُوده من ذَلِك تجريب أَحْوَال النَّاس واختبار طاعتهم لَهُ فِي الْأُمُور الْبَاطِلَة وَفِي مُخَالفَة الشَّرِيعَة حَتَّى ينقلهم إِلَى مَا يُريدهُ وَكم نعدد لَك من هَذَا

وَالْجُمْلَة فَإِذا رَأَيْت رجلا قد انْتهى بِهِ الرَّفْض إِلَى ذمّ السّلف الصَّالح والوقيعة فيهم وَإِن كَانَ ينتمي إِلَى غير مَذْهَب الإمامية فَلَا تشك فِي أَنه مثلهم فِي مَا قدمنَا لَك

وجرب هَذَا إِن كنت مِمَّن يفهم فقد جربناه وَجَربه من قبلنَا فَلم يَجدوا رجلا رَافِضِيًّا يتنزه عَن شئ من مُحرمَات الدّين كَائِنا مَا كَانَ وَلَا تغتر بالظواهر فَإِن الرجل قد يتْرك الْمعْصِيَة فِي الْمَلأ وَيكون أعف النَّاس عَنْهَا فِي الظَّاهِر وَهُوَ إِذا أمكنته فرْصَة انتهزها انتهاز من لَا يخَاف نَارا وَلَا يَرْجُو جنَّة

وَقد رَأَيْت من كَانَ مِنْهُم مُؤذنًا ملازما للجماعات فانكشف سَارِقا

وَآخر كَانَ يؤم النَّاس فِي بعض مَسَاجِد صنعاء وَله سمت حسن وَهدى عَجِيب وملازمة للطاعة وَكنت أَكثر التَّعَجُّب مِنْهُم كَيفَ يكون مثله رَافِضِيًّا ثمَّ سَمِعت بعد ذَلِك عَنهُ بِأُمُور تقشعر لَهُ الْجُلُود وترجف مِنْهَا الْقُلُوب

وَكَانَ لي صديق يكثر المجالسة لي والوصول إِلَيّ وَفِيه رفض يسير وَهُوَ متنزه عَن كل مَحْظُور ثمَّ مَا زَالَ ذَلِك يزِيد بِهِ الْأَسْبَاب حَتَّى صَار يصنف فِي مثالب جمَاعَة من الصَّحَابَة ثمَّ صَار يمزق أَعْرَاض جمَاعَة من أَحيَاء أهل الْعلم

ص: 98

والأموات وينسبهم إِلَى النصب بِمُجَرَّد كَونهم لَا يوافقونه على رفضه ثمَّ صَار يتَّصل بِهِ جمَاعَة وَيَأْخُذُونَ عَنهُ من الرَّفْض مَا لَا يتظاهر بِمثلِهِ أهل هَذِه الديار

وَكنت أعرف مِنْهُ فِي مبادئ أمره صلابة وعفة قلت إِذا كَانَ وَلَا بُد من رَافِضِي عفيف فَهَذَا ثمَّ سَمِعت عَنهُ بفواقر نسْأَل الله السّتْر وَالسَّلَام

وَأما وثوب هَذِه الطَّائِفَة على أَمْوَال الْيَتَامَى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ وَمن يقدرُونَ على ظلمه كَائِنا من كَانَ فَلَا يحْتَاج إِلَى برهَان بل يَكْفِي مدعيه إِحَالَة منكره على الِاسْتِقْرَار والتتبع فَإِنَّهُ سَيظْهر عِنْد ذَلِك بِصِحَّة مَا ذَكرْنَاهُ

وَلَقَد جربت أهل عصرى فِي هَذِه الْمَادَّة تجريبا عَظِيما لتعلقي بِمَا تتَعَلَّق بِهِ الأطماع واختبار بِالنَّاسِ على اخْتِلَاف طبقاتهم وَلَا شكّ أَن الدُّنْيَا مُؤثرَة وَأَن الْوُثُوب على مصالحها وتقديمها وانتهاز الفرص فِي مَا يتَعَلَّق بهَا غير مُخْتَصّ بهؤلاء بل هُوَ عَام لكل الْفرق والزاهد فِيهَا الْمُؤثر للدّين عَلَيْهَا هُوَ الشاذ النَّادِر لَكِن هَؤُلَاءِ لَهُم مزِيد تكالب وعظيم تهافت وَشدَّة تهالك مَعَ عدم وقُوف عِنْد حُدُود الشَّرْع واقتصار على مَا فِيهَا من تَحْلِيل وَتَحْرِيم

وَمن أقرب حوادث الرَّفْض فِي دِيَارنَا هَذِه أَنه كَانَ جمَاعَة من المتظهرين بِالْعلمِ يملون على النَّاس فِي جَامع صنعاء فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة بعد الْألف فِي كتب فَضَائِل عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه وَكَانَ نَحْو ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة كل وَاحِد مِنْهُم قد اجْتمع عَلَيْهِ جمَاعَة كَثِيرَة من الْعَامَّة وَكَانَ أحدهم يملي على كرْسِي مُرْتَفع وتسرج حوله الشمع الْكثير فيجتمع من النَّاس عدد كثير جدا لقصد الفرجة كَمَا يتَّفق فِي مثل هَذَا وَكَانُوا يشوبون المناقب بِذكر مثالب بعض الصَّحَابَة ويحطون من بَعضهم ويصرحون بسب الْبَعْض ويتوجعون من الْبَعْض

وَكَانَ مَا يصدر من هَؤُلَاءِ من هَذِه الْأُمُور إِنَّمَا هُوَ مُطَابقَة للوزير الرافضي الَّذِي قد قدمت لَك ذكره وَلَا سِيمَا صَاحب الْكُرْسِيّ وَهَذَا الْوَزير لم يكن رفضه لوازع ديني كَمَا يتَّفق لكثير من أهل الْجَهْل المتعلقين بالرفض فَهُوَ أنذل من ذَاك وَأَقل وَلكنه يفعل ذَلِك مساعدة لجَماعَة من شياطين المتفقهة

ص: 99

المتعصبة يدْخلُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ إِنَّه لم يبْق من يحامي على هَذَا الْأَمر سواك وَإنَّك ركن التَّشَيُّع وملجأ أَهله وَنَحْو هَذِه الْعبارَات فيبالغ فِي التظهر بِهَذِهِ الْخصْلَة وَيُحب نِسْبَة ذَلِك إِلَيْهِ فَكَانَ الرَّفْض مكملا لمثالبه متتما لمعايبه لِأَنَّهُ فِي كل بَاب من أَبْوَاب القبائح قريع ظَهره ونسيج وَحده

فَلَمَّا تكاثر مَا يصدر من أُولَئِكَ المشتغلين بِمَا لَا يعنيهم من ثلب السّلف مَعَ مَا يَنْضَم إِلَى ذَلِك من إِدْخَال الضغائن فِي قُلُوب الْعَامَّة وَإِيمَانهمْ أَن النَّاس قد تركُوا مَذْهَب أهل الْبَيْت وفعلوا وفعلوا وكل ذَلِك كذب فَإِن النَّاس هم فِي هَذِه الديار زيدية وَكثير مِنْهُم يُجَاوز ذَلِك فيصيروا رَافِضِيًّا جلدا وَلم يكن فِي هَذِه الديار على خلاف ذَلِك إِلَّا الشاذ النَّادِر وهم أكَابِر الْعلمَاء وَمن يقتد بهم فَإِنَّهُم يعْملُونَ بِمُقْتَضى الدَّلِيل وَلَا ينتمون إِلَى مَذْهَب وَلَا يتعصبون لأحد فَهَؤُلَاءِ الَّذين يقصدهم أُولَئِكَ الرافضة بِكُل فاقرة ويرمونهم بِالْحجرِ والمدر ويسمونهم بميسم النصب

فَلَمَّا تفاقم شَرّ أُولَئِكَ المدرسين وَصَارَ الْجَامِع ملعبا لَا متعبدا واشتغل بأصواتهم المصلون عَن صلَاتهم والذاكرون عَن ذكرهم رَجَعَ إِمَام الْعَصْر أعز الله بِهِ الدّين منع صَاحب الْكُرْسِيّ من الْإِمْلَاء فِي الْجَامِع وَأمره بِالْعودِ إِلَى الْمَسْجِد الَّذِي كَانَ يملي فِيهِ

فَحَضَرَ أُولَئِكَ المستعمرون على عَادَتهم وَكَانَ الْإِمْلَاء قبل صَلَاة الْعشَاء فَلَمَّا لم يحضر شيخهم ذهب بَعضهم ليجيء بِهِ من بَيته فَأخْبرهُم أَن الإِمَام قد مَنعه وَأمره بِالْعودِ إِلَى حَيْثُ كَانَ

فَلم يعذروه وَلَا سمعُوا مِنْهُ وَرَجَعُوا إِلَى الْجَامِع ثمَّ ثَارُوا ثورة شيطانية وَقَامُوا قومة طاغوية فمنعوا من الصَّلَاة فِي الْجَامِع وَمَا زَالَ ينظم إِلَيْهِم كل رَافِضِي وَمن لَهُ رَغْبَة فِي إثارة الْفِتْنَة حَتَّى صَارُوا جمعا كثيرا ثمَّ خَرجُوا فقصدوا بَيت الْمُؤَذّن الَّذِي أظهر عَلَيْهِم الرَّأْي الإمامي فرجموه حَتَّى كَادُوا

ص: 100

يهدمونه وَفِيه نسَاء وَأَطْفَال قد صَارُوا فِي أَمر مريع

هَذَا وَلَيْسَ لذَلِك الْمُؤَذّن الْمِسْكِين سعي وَلَا لَهُ قدرَة على شئ وَلكنه أرسل بِالرَّأْيِ الإمامي وَإِلَى الْأَوْقَاف إِلَيْهِ ووالى الْوَقْف أَيْضا لَيْسَ لَهُ سعي فِي ذَلِك وَلكنه أرْسلهُ إِلَيْهِ بعض من يتَّصل بالْمقَام الإمامي

ثمَّ لما فرغوا من رجم بَيت الْمُؤَذّن ذَهَبُوا وَلَهُم صُرَاخ عَظِيم وأصوات شَدِيدَة إِلَى بَيت وَالِي الْأَوْقَاف وَهُوَ رجل من أهل الْعلم من آل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فرجموا بَيته رجما شَدِيدا حَتَّى غشى على بعض من فِيهِ من الشرائف فَقَالَ لَهُم قَائِل إِن هَؤُلَاءِ الشرائف المرجومات هن بَنَات نَبِيكُم وَبَنَات عَليّ بن أبي طَالب وَلم يكن بَنَات مُعَاوِيَة وَلَا بَنَات عمر بن الْعَاصِ وَغَيرهمَا مِمَّن تعادونهم فَمَا لكم ولهن فَلم يلتفتوا إِلَى ذَلِك واستمروا فِي الرَّجْم ثمَّ دخلُوا إِلَى بعض الْبَيْت ونهبوا بعض مَتَاعه

وبلغهم أَن وَالِي الْأَوْقَاف وَولده لمَسْجِد قريب من بَيته فحاصروا حَيْصَة حمر الْوَحْش وصرخوا صرخة الْحمر الْأَهْلِيَّة وذهبوا إِلَى ذَلِك الْمَسْجِد عازمين على قَتله فأغلق عَلَيْهِ بعض النَّاس مَقْصُورَة الْمَسْجِد فَسلم

ثمَّ ذَهَبُوا بصراخهم وجلبتهم إِلَى بَيت بعض أهل الْعلم من أهل الْبَيْت النَّبَوِيّ وَكَانَ يعظ النَّاس بالجامع ويتظهر بِبَعْض من السّنة فرجموا بَيته رجما شَدِيدا وَفِيه شرائف وَأَطْفَال

ثمَّ ثَارُوا إِلَى بَيت بعض وزراء الْخَلِيفَة لَا لذنب إِلَّا لكَونه ينافسه ذَلِك الْوَزير الرافضي وَكَونه ينتسب إِلَى بعض بطُون قُرَيْش فرجموه رجما شَدِيدا ثمَّ كسروا بعض أبوابه ودخلوا وكادوا يتصلون بِمن فِيهِ لَوْلَا أَنه حماه جمَاعَة بِالرَّمْي بالبنادق وَآخَرُونَ بِالسِّلَاحِ

ويتصل بِبَيْت هَذَا الْوَزير المرجوم بَيت وَزِير آخر من أهل الْعلم فرجموه ورجمهم من فِي بَيت الْوَزير حَتَّى أَصَابُوا جمَاعَة مِنْهُم فَتَرَكُوهُ وَسبب رجمهم

ص: 101

لبيت الْوَزير هَذَا أَنه من جملَة من يتظهر بِعلم السّنة ثمَّ لما كَاد ينقضى اللَّيْل فارقوا مَا هم فِيهِ وَقد أثاروا فتْنَة عَظِيمَة ومحنة شَدِيدَة

وَلما كَانَ النَّهَار جمع الْخَلِيفَة أعوانه وطلبني واستشارني فأشرت عَلَيْهِ بِأَن يحبس أُولَئِكَ المدرسين الَّذين أثاروا الْفِتْنَة فِي الْجَامِع بِسَبَب مَا يصدر مِنْهُم من نكاية الْقُلُوب وإثارة الْعَوام فحبسهم ثمَّ أَشرت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَأْمر بتتبع أُولَئِكَ الَّذين رجموا الْبيُوت وفعلوا تِلْكَ الأفاعيل وَمن وجدوه حبسوه وَيَأْمُر بتتبع جمَاعَة من شياطين الْفُقَهَاء المثيرين للفتنة فَفعل وحبسوا جَمِيعًا

وَلَكِن لم ينصح وَإِلَى مَدِينَة صنعاء لموافقته للوزير الرافضي فِي الرَّفْض ومهابته لَهُ ووقوفه عِنْدَمَا يختاره ويرتضيه

وَبعد أَن اجْتمع فِي الْحَبْس جمَاعَة كَثِيرَة من هَؤُلَاءِ أرسل الإِمَام حفظه الله لجَماعَة من شياطينهم المباشرين للفتنة من الْفُقَهَاء فجِئ بهم من الْحَبْس إِلَيْهِ وضربهم بالعصى تَحت دَاره وَهُوَ ينظر ثمَّ أرسل فِي الْيَوْم الآخر لجَماعَة من أهل السُّوق المباشرين للفتنة فَصنعَ بهم مَا صنع بأولئك ثمَّ جعل جمَاعَة من شياطين الْجَمِيع فِي سلاسل وَأرْسل بهم إِلَى جزائر الْبَحْر على هَيْئَة مُنكرَة فسكنت الْفِتْنَة سكونا تَاما

وَلَقَد شهِدت من التعصبات فِي هَذِه الْفِتْنَة مَا بهرني من الْخَاصَّة والعامة أما الْخَاصَّة فَإِنِّي رَأَيْت من أهل بَيت الْخلَافَة من أَوْلَاد الإِمَام وَغَيرهم وَمن الوزراء والأمراء والقضاه وَأهل الْعلم من ذَلِك مَا يعجب مِنْهُ فَإِنِّي لما أَشرت على الْخَلِيفَة بِمَا أَشرت خرجت من الْمَكَان الَّذِي هُوَ مُسْتَقر فِيهِ إِلَى حجرته وفيهَا أكَابِر أَوْلَاده وهم إِذا ذَاك أُمَرَاء الأجناد وَعِنْدهم جَمِيع الوزراء وهم جَمِيعًا فِي أَمر مريع فيهم من يعظم عَلَيْهِ حبس أُولَئِكَ المدرسين وَيَرَاهُ حطا فِي مرتبَة الرَّفْض ونقصا من الرافضة وَقد قتل مِنْهُم ذَلِك الْوَزير الرافضي فِي الذرْوَة وَالْغَارِب وأوهمهم أَنَّهَا ستثور فتْنَة من الْعَامَّة والأجناد ومازال بعض أَوْلَاد الْخَلِيفَة يردد عَليّ ذَلِك ويرغبني فِي الرُّجُوع

ص: 102

عَن الشور الَّذِي أَشرت بِهِ على الْخَلِيفَة وَيذكر مَا قد أَلْقَاهُ إِلَيْهِ الْوَزير الرافضي من خشيَة ثورة الأجناد والعامة فمازلت أعرفهُ بِالصَّوَابِ وأذكر لَهُ أَن هَذِه الْفِتْنَة لَو لم تحسم يَوْمنَا هَذَا بِحَبْس المثيرين لَهَا لهلك غَالب النَّاس فِي اللَّيْلَة الْوَاصِلَة ونهبوا الْأَمْوَال جهارا وَأَنه سيصل الْأَمر إِلَى الْخَلِيفَة وَأَوْلَاده فضلا عَن غَيرهم وعرفته أَنه مَا سيثور بِسَبَب ذَلِك أجناد وَلَا غَيرهم فَإِن هَذَا تسكين للفتنة لَا إثارة لَهَا

وَلَقَد حمدوا هَذِه المشورة بعد حِين وَعرفُوا أَنَّهَا صَوَاب وَأَن بهَا كَانَ سُكُون تِلْكَ الْفِتْنَة الَّتِي غلت مراجلها وكادت تعم جَمِيع أهل صنعاء ثمَّ تسرى بعد ذَلِك إِلَى سَائِر الديار اليمنية

وَأما الْعَامَّة فَلَا يَتَّسِع الْمقَام لسرد مَا شوهد مِنْهُم من الصولة والجولة والاشتغال بِهَذَا الْأَمر وَلَقَد كنت أرى كثيرا من المنسوبين إِلَى الْعلم يَبْكُونَ رَحْمَة لإخوانهم المثيرين للفتنة لما حل بهم من الْعقُوبَة

وَلَقَد تَغَيَّرت بهجة هَذِه الْمَدِينَة الْعَظِيمَة وتكدرت مشاربها العلمية وَذهب رونق معارفها بِمَا يصنعه جمَاعَة الْمُقَصِّرِينَ المغيرين لفطرتهم السليمة بِمَا حدث من علم الروافض ودسائسهم الَّتِي هِيَ أضرّ على الْمُقَصِّرِينَ من السم الْقِتَال وأدوى على من لم تستحكم مَعْرفَته وترسخ فِي الْعُلُوم قدمه من الدَّاء العضال على كَثْرَة من فِيهَا من الْعلمَاء المنصفين والطلبة المتميزين الأذكياء الماهرين فَإِنَّهُ قل أَن يُوجد بِمَدِينَة من الْمَدَائِن مَا يُوجد الْآن فِي صنعاء من رُجُوع أهل الْعلم بهَا إِلَى مَا صَحَّ عَن الشَّارِع وَعدم تعويلهم على الرَّأْي وطرحهم للمذاهب عِنْد قيام الدَّلِيل الناهض

فَإِن هَذِه مزية وفضيلة لَا تكَاد تعرف فِي سَائِر الأقطار إِلَّا فِي الْفَرد الشاذ الْبَالِغ من الْعلم إِلَى منزلَة علية مَعَ مُرَاجعَته لفطرته وتفكره فِي طروء مَا طَرَأَ من الْمُغيرَات وتدبره لما قدمنَا ذكره من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للتعصب الحائلة بَين المتمذهبين وَبَين الْإِنْصَاف

ص: 103

وَهَذَا النَّادِر الشاذ يُبَالغ فِي الكتم ويستكثر من المجانبة لما يَظُنّهُ الْحق مَخَافَة من وثوب المقلدة عَلَيْهِ وهتكهم لَهُ لأَنهم لَا يقنعون من الْعَالم وَإِن كَانَ فِي أَعلَى دَرَجَات الِاجْتِهَاد إِلَّا بِأَن يكون مثلهم مُقَلدًا بحتا مقتديا بالعالم الَّذِي يقلدونه هم وأسلافهم وَإِن كَانَ هَذَا الْعَالم الَّذِي يُرِيدُونَ مِنْهُ ذَلِك أغلا رُتْبَة وَأجل قدرا وَأكْثر علما من عالمهم الَّذِي يقلدونه كَمَا يجده من لَهُ اطلَاع على كثير من أَحْوَال النَّاس فَإِن فِي عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من هُوَ أوسع علما وأعلا قدرا من أَمَامه الَّذِي ينتمي إِلَيْهِ وَيقف عِنْد رَأْيه ويقتدي بِمَا قَالَه فِي عِبَادَته ومعاملته وَفِي فَتَاوِيهِ وقضائه ويسرى ذَلِك إِلَى مصنفاته فيرجح فِيهَا مَا يرجحه إِمَامه وَإِن كَانَ دليلة ضَعِيفا أَو مَوْضُوعا أَو لَا دَلِيل بِيَدِهِ أصلا بل مُجَرّد مَحْض الرَّأْي وَيدْفَع من الْأَدِلَّة الْمُخَالفَة لَهُ مَا هُوَ أوضح من شمس النَّهَار تَارَة بالتأويل المتعسف وحينا بالزور الملفق مَعَ كَونه بمَكَان من الْعلم لَا يخفى عِنْده الصَّوَاب وَلَا يلتبس مَعَه الْحق وَلكنه يفعل ذَلِك مَخَافَة على نَفسه من تِلْكَ الطَّبَقَة المشومة أَو تَأْثِيرا لما قد ظفر بِهِ من الدُّنْيَا والجاه الَّذِي لَا يسْتَمر لَهُ إِلَّا بالموافقة لَهُم والسلوك فِيمَا يرضيهم وَقد يحملهُ على ذَلِك الْحِرْص على نفاق مُصَنفه بَينهم واشتهاره عِنْدهم وتداولهم لَهُ

وَمَا كَانَ أغناه عَن هَذِه البلية الَّتِي وَقع فِيهَا وَالْجِنَايَة الَّتِي جناها عل نَفسه فِي العاجلة والآجلة

أما فِي الآجلة فَظَاهر فَإِن اشْتِغَاله بذلك التصنيف الْمُشْتَمل على تَأْثِير رأى فَرد من أَفْرَاد أهل الْعلم على مَا شَرعه الله فِي مُحكم كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله من أعظم الذُّنُوب الَّتِي تَلقاهُ بَين يَدي الله فَإِنَّهُ ضال مضل مفتون فاتن محَارب للشريعة المطهرة معاند لَهَا فَعَلَيهِ إِثْم بِمَا سنة من هَذِه السّنة السَّيئَة وإثم من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

وَأما فِي العاجلة فَإِن مثل هَؤُلَاءِ الصم الْبكم من المقلدة لَا يفرح الْعَاقِل

ص: 104

بانتشار مصنفاته عِنْدهم وشيوعها بَينهم لأَنهم لَا يفهمون الْعلم وَلَا يعْرفُونَ أَهله وَلَا فرق بَينهم وَبَين الْعَامَّة البحت إِلَّا مُجَرّد الدعْوَة والتلبس بلباس أهل الْعلم وَالْقعُود فِي مقاعد أَهله فَكَمَا أَن الْعَاقِل لَا يفرح بِإِقْرَار جمَاعَة لَهُ من البدو والحراث أَو السوقة من أهل الحياكة والحجامة وسقاط أهل المهن الدنيئة والمعاشر الوضيعة كَذَلِك لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يفرح بِمثل ذَلِك من المقلدة فَإِنَّهُم كَمَا قَالَ الْقَائِل

(فَإِن لم يكنها أَو تكنه فَإِنَّهُ

أَخُوهَا غذته أمه بلبانها)

وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يعرف نَفسه بِهَذَا التصنيف لاستقصار أهل الْعلم الَّذين هم أَهله وَعَلَيْهِم الْمعول فِيهِ لغايته واستحقار مَا جَاءَ بِهِ والإزراء عَلَيْهِ من كل وَاحِد مِنْهُم فِي عصره ذَلِك وَمَا بعده من العصور مَا دَامَ ذَلِك المُصَنّف المشؤوم مَوْجُودا على وَجه الأَرْض كَمَا هُوَ مَعْلُوم فَإِن الْمُحَقق من أهل الْعلم إِذا عثر على شئ من هَذِه المصنفات المتعسفة الْخَارِجَة عَن الْحق انقبضت أنفسهم عَنهُ واستبردوه وَسقط مُصَنفه عِنْدهم وَلم يعدوه من أهل الْعلم فِي ورد وَلَا صدر وألحقوه بالطبقة الَّتِي حَملته على ذَلِك الصنع الَّذِي صنعه لَهُم وأحملوا ذكره فِي مصنافاتهم الَّتِي هِيَ المصنفات الْمُعْتَبرَة

وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا صنع هَذَا المُصَنّف لنَفسِهِ بذلك التصنيف إِلَّا مَا هُوَ خزى لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ووبال عَلَيْهِ فِي الآجلة والعاجلة

وَقد يسْلك بعض هَؤُلَاءِ مسلكا هُوَ أخس من ذَلِك المسلك وَذَلِكَ بِأَن يُورد الْأَقْوَال ويحتج لكل وَاحِد مِنْهَا بِمَا احْتج بِهِ قَائِله ويستكثر من إِيرَاد أَدِلَّة مَا هُوَ الْحق مِنْهَا ويخرجه من مخارجه المقبولة ثمَّ يذكر مَا قيل من ضعف دَلِيل مَا قَالَ بِهِ من يَعْتَقِدهُ أهل عصره وقطره وينسب ذَلِك التَّضْعِيف إِلَى من يعْتد بِهِ من أهل الْعلم ثمَّ يعْتَرض ذَلِك التَّضْعِيف باعتراض يعرف من هُوَ من أهل الْعلم والإتقان سُقُوطه وبطلانه ركونا مِنْهُ على أَن ذَلِك لَا يخفى على من لَهُ قدم فِي الْعلم وزعما أَنه قدر من لَهُم إِلَى مَا هُوَ الْحق بإيراد دَلِيله الصَّحِيح وَإِلَى مَا يُخَالِفهُ بإيراد دَلِيله الضَّعِيف وَأَنه لم يَأْتِ بِمَا أَتَى بِهِ من الِاعْتِرَاض

ص: 105

السَّاقِط والتقوية لِلْقَوْلِ الْفَاسِد إِلَّا على وَجه لَا يخفى على أهل الإتقان وَلَا يلتبس عِنْد العارفين وَهُوَ فِي زَعمه قد أرْضى الْخَاصَّة والعامة وسلك مسلكا فِي غَايَة التحذلق وَنِهَايَة التبصر وَهُوَ لَا يشْعر بِأَن الْخَاصَّة من أهل التَّحْقِيق فِي غنى عَن رمزه وهمزه وتحذلقه فَإِنَّهُم يعْرفُونَ مسالك الْحق بِدُونِ زَعمه وَيَأْخُذُونَ الصَّوَاب من معادنه فنفاق مَا جَاءَ بِهِ لديهم غَايَة مَا فِيهِ أَنهم لَا يطعنون عَلَيْهِ بِالْجَهْلِ والقصور والبلادة وَبعد الْإِدْرَاك وَلكنه قد فتح للمقصرين أَبْوَاب الطعْن على الْأَدِلَّة الصَّحِيحَة وَزَادَهُمْ إِلَى مَا لديهم من البلايا الْبَاطِلَة بلايا أُخْرَى وَجعل بَينهم وَبَين الرُّجُوع إِلَى الْحق ردما فَوق الرَّدْم الَّذِي قد كَانَ معمورا وَرفع أبنية الْبَاطِل وشيدها وَلم يهدم مِنْهَا بتصنيفه حجرا وَلَا مدرا لِأَنَّهُ لقنهم المطاعن على الشَّرْع وَفتح لَهُم أَبْوَاب الْمقَال على الْأَدِلَّة وهم لَا يعْرفُونَ أَن اعتراضهم فَاسد وَأَنه لَا ينْفق وَلَا يصلح لقُصُور أفهامهم عَن إِدْرَاك مَا هُوَ صَحِيح أَو بَاطِل وَضعف معارفهم عَن الْبلُوغ إِلَى دَرَجَة التَّمْيِيز فَزَادَهُم بِمَا أفادهم شرا إِلَى شرهم وتعصبا إِلَى تعصبهم وبعدا عَن الْحق إِلَى بعدهمْ وَلم ينْتَفع الْخَاصَّة بِشَيْء مِمَّا جَاءَ بِهِ من الألغاز بل أنزل بهم من الضَّرَر مَا لم يكن قبله فَإِن أهل التعصب يصولون عَلَيْهِم باعتراضه ويجولون ويدفعون بِهِ فِي وَجه من قَالَ بِضعْف دَلِيل القَوْل الَّذِي قَالَه من يقلدونه ويجعلون ذَلِك ذَرِيعَة لَهُم إِلَى الِاغْتِبَاط بِمَا هم فِيهِ والتهالك على مَا ألفوه ووجدوا عَلَيْهِ آباهم

وَإِنَّمَا التصنيف الَّذِي يسْتَحق أَن يُقَال لَهُ تصنيف والتأليف الَّذِي يَنْبَغِي لأهل الْعلم الَّذين أَخذ الله عَلَيْهِم بَيَانه وَأقَام لَهُم على وُجُوبه عَلَيْهِم برهانه هُوَ أَن ينصرُوا فِيهِ الْحق ويخذلوا بِهِ الْبَاطِل ويهدموا بحججه أَرْكَان الْبدع ويقطعوا بِهِ حبائل التعصب ويوضحوا فِيهِ للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم من الْبَينَات وَالْهدى ويبالغوا فِي إرشاد الْعباد إِلَى الْإِنْصَاف ويحببوا إِلَى قُلُوبهم الْعَمَل بِالْكتاب السّنة وينفروهم من اتِّبَاع مَحْض الرَّأْي وزائف الْمقَال وكاسد الِاجْتِهَاد وَلَا يمنعهُم من ذَلِك مَا يخيله لَهُم الشَّيْطَان ويسوله من أَن هَذَا التصنيف لَا ينْفق عِنْد المقلدة أَو يكون سَببا لجلب فتْنَة أَو نزُول مضرَّة أَو

ص: 106

ذهَاب جاه أَو مَال أَو رئاسة فَإِن الله نَاصِر دينه ومتمم نوره وحافظ شَرعه ومؤيد من يُؤَيّدهُ وجاعل لأله الْحق ودعاة الشَّرْع والقائمين بِالْحجَّةِ سُلْطَانا وأنصارا واتباعا وَإِن كَانُوا فِي أَرض قد انغمس أَهلهَا فِي موجات الْبدع وتكسعوا فِي متراكم الضلال وَقد قدمنَا الْإِرْشَاد إِلَى شئ من هَذَا

فَإِن قلت هَؤُلَاءِ المتعصبة قد طبقوا جَمِيع أقطار الأَرْض الإسلامية وَصَارَت الْمدَارِس والفتاوى وَالْقَضَاء وَجَمِيع الْأَعْمَال الدِّينِيَّة بِأَيْدِيهِم فَإِن كل مملكة من الممالك الإسلامية يعتزى أَهلهَا إِلَى مَذْهَب من الْمذَاهب ونحلة من النَّحْل وكل بلد من الْبِلَاد وقطر من الأقطار كثرت أَو قلت لَا بُد أَن يكون أَهلهَا مقلدين لمَيت من الْأَمْوَات يَأْخُذُونَ عَنهُ مَا يَجدونَ فِي مؤلفاته ومؤلفات أَتْبَاعه المقلدين لَهُ حَتَّى صَارَت مسَائِل مَذْهَبهم نصب أَعينهم لَا يتحولون عَنْهَا وَلَا يخالفونها ويعتقد من تفاقم تعصبه من المقلدة أَن الْخُرُوج عَن ذَلِك الْخُرُوج من الدّين بأسره وَإِن كَانَت بَقِيَّة الْمذَاهب على خلَافَة فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة كَمَا نجده فِي كل مَذْهَب من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا

فَمَا عَسى يغنى إرشاد فَرد من أَفْرَاد الْعلم إِلَى الْإِنْصَاف وَاتِّبَاع نَص الدَّلِيل فِي قطر وَاسع من أقطار الأَرْض أَو مَدِينَة كَبِيرَة من مدائنه فَأَنَّهُ بِأول كلمة تخرج مِنْهُ وأيسر مُخَالفَة يفوه بهَا يقوم عَلَيْهِ من المقلدة من ينغص عَلَيْهِ مشربه ويكدر عَلَيْهِ حَاله وَأَقل الْأَحْوَال أَن يسْعَى بِهِ هَؤُلَاءِ المقلدة إِلَى أمثالهم مِمَّن بِأَيْدِيهِم الْأَمر وَالنَّهْي والدولة والصولة فيمنعونه من المعاودة ويتوعدونه بأبلغ توعد هَذَا إِذا لم يمنعوه من التدريس والإفتاء بِمُجَرَّد ذَلِك ويحولون بَينه وَبَين مَا أردْت مِنْهُ بِكُل حَائِل وَمَا يصنع الْمِسْكِين بَين مئين من المقلدة كل وَاحِد مِنْهُم أجل قدرا مِنْهُ وأنبل ذكرا وَأحسن ثيابًا وأفره مركوبا وَأكْثر اتبَاعا عِنْد أُلُوف مؤلفة من الْعَامَّة الَّذين هم بَين جند وسوقة وحراث وَأهل حرف لَا يفهمون خطابا وَلَا يعْقلُونَ حَقًا فَمَا ظَنك بالعامة إِذا بَلغهُمْ الْخلاف بَين فَرد من أَفْرَاد الْعلم خامل الذّكر وَبَين جَمِيع من

ص: 107

يعدونه عَالما من أهل بلدهم من المدرسين والقضاة والمفتين وهم عدد جم وَمِقْدَار ضخم أَترَاهُم يظنون الْحق بيد ذَلِك الْفَرد ويتبعونه وَيَقُولُونَ بقوله وَيدعونَ من يُخَالِفهُ من أهل مدينتهم قاطبة هَذَا مَا لَا يكون فَإنَّا نجد الْعَامَّة فِي قديم الزَّمن وَحَدِيثه مَعَ الْكَثْرَة وَلَا سِيمَا من كَانَ لَهُ من أهل الْعلم نصيب من دولة كالقضاة فَإِن الْوَاحِد مِنْهُم يعدل عِنْد الْعَامَّة ألوفا من أهل الْعلم الَّذين لَا مناصب لَهُم وَلَا دولة فَكيف إِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك مَا يلقيه إِلَيْهِم المقلدة من الْكَلِمَات الَّتِي تثير غضبهم وتستطير حميتهم كَقَوْلِهِم هَذَا الرجل يُخَالف إمامكم وَيَدْعُو النَّاس إِلَى الخرج من مذْهبه ويزرى عَلَيْهِ وَيَقُول إِنَّه جَاءَ بِغَيْر الْحق وَخَالف الشَّرْع فَإِنَّهُم عِنْد سَماع هَذَا مَعَ مَا قد رسخ فِي عقائدهم وَثَبت فِي عُقُولهمْ لَا يبالون أَي دم سَفَكُوا وَأي عرض انتهكوا يعلم هَذَا كل من لَهُ خبْرَة بهم وممارسة لَهُ

قلت هَذَا السُّؤَال الَّذِي أوردته أَيهَا الطَّالِب للحق الرَّاغِب فِي الْإِنْصَاف قد أفادنا أَنَّك لم تفهم مَا قَدمته لَك فِي هَذَا الْكتاب حق الْفَهم وَلم تتصوره كُلية التَّصَوُّر فقد كررت لَك فِي مَوَاضِع مِنْهُ مَا تستفيد مِنْهُ جَوَاب مَا أوردته هُنَا فعاود النّظر وَكرر التدبر وأطل الْفِكر بعد أَن تبالغ فِي تصفية الْفطْرَة وتستكثر من الاستعداد للقبول وهب أَنه لم يتَقَدَّم مَا يصلح أَن يكون جَوَابا لما خطر ببالك الْآن من هَذَا السُّؤَال فها أَنا أُجِيب عَلَيْك بجوابين الأول جَوَاب مُجمل وَالْآخر جَوَاب مفصل

أما الْجَواب الْمُجْمل فَأَقُول لَك بعد تَسْلِيم جَمِيع مَا أوردته فِي سؤالك هَذَا من أَن حَامِل الْعلم ومبلغ الْحجَّة سيحال بَينه وَبَين مَا يُريدهُ بِأول كلمة تخرج مِنْهُ فِيهَا مُخَالفَة لما أَلفه النَّاس وَلَا يقدر بعْدهَا عل شئ من الْهِدَايَة إِلَى الْحق والإرشاد إِلَى الْإِنْصَاف لما قدرته من أَنَّهَا ستقوم عَلَيْهِ الْقِيَامَة وتأزف عَلَيْهِ الآزفة وتضيق عَنهُ دَائِرَة الْحق وتنبو عَنهُ جَمِيع المسامع وَتُؤْخَذ عَلَيْهِ كل وَسِيلَة

ص: 108

فَبعد هَذَا كُله قد قَامَ بِمَا أوجب الله عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَا طلبه الله مِنْهُ من الْهِدَايَة ووفي بِمَا أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد وامتثل مَا ألزنه بِهِ من الْبَيَان وَصَارَ بذلك من الْعلمَاء العاملين القائمين بنشر حجج الله وإبلاغ شرائعه

وَهَذَا فَرْضه لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره وَلَا يجب على من سواهُ فَهُوَ لم يكتم مَا علمه الله وَلَا خَان عهد الله وَلَا خَالف أمره وَلَا اشْترى بِهِ ثمنا قَلِيلا وَلَا بَاعه بِعرْض من أَعْرَاض الدُّنْيَا فَلهُ أجر من مكنه الله من ذَلِك وخلى بَينه وَبَينه لِأَنَّهُ قد قَامَ فِي الْمقَام الَّذِي افترضه الله عَلَيْهِ وسلك الطَّرِيقَة الَّتِي أمره بسلوكها فحال بَينه وَبَينه من لَا يُطيق دَفعه وَلَا يقدر على مناهضته فَكَانَ ذَلِك قَائِم بِعُذْرِهِ مسْقطًا لفرضه مُوجبا لاستحقاقه لثواب مَا قد عزم عَلَيْهِ وَأجر مَا أَرَادَهُ

فَأَي غنيمَة أجل من غنيمته ونعمة أكبر من نعْمَته وَأَيْنَ مَنْزِلَته عِنْد الله من منزلَة من فتح الله عَلَيْهِ من أَبْوَاب معارفه ولطائف شَرِيعَته بِمَا يفرق بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل وَيعرف بِهِ صَوَاب القَوْل من خطأه فكتم الْحجَّة وآثر على نشرها مَا يرجوه من استدرار خلف من أخلاف الدُّنْيَا ونيل جاه من الجاهات ورئاسة من الرئاسات ومعيشة من المعائش فَمضى عمره وَانْقَضَت حَيَاته كَاتِما للحجة مُخَالفا لأمر الله نابذا لعهده طارحا لما أَخذه عَلَيْهِ

وَأما الْجَواب الْمفصل فَاعْلَم أَنِّي لم أرد بِمَا أرشدت إِلَيْهِ فِي هَذَا الْكتاب مَا خطر ببالك وَلَا لوم عَليّ فقد كررت لَك مَا قصدته تكررا لَا يخفى على الفطن فَهَل طلبت من حَامِل الْحجَّة أَن يقوم بَين ظهراني النَّاس قَائِلا اجتنبوا كَذَا من الرَّأْي اتبعُوا كَذَا من الْكتاب وَالسّنة صَارِخًا بذلك فِي المحافل ناطقا بِهِ فِي الْمشَاهد مَعَ علمه بتراكم سحائب الْجَهْل وتلاطم أمواج بحار التعصب وإظلام أفق الْإِنْصَاف واكفهرارا وَجه الاسترشاد

فَإِن هَذَا وَإِن كَانَ مسْقطًا لما افترضه الله على من استخلصه من عباده لحمل حجَّته وإبلاغ شَرِيعَته لَكِن لكل عَالم قدوة بِأَنْبِيَاء الله وأسوة بِمن أرْسلهُ

ص: 109

من رسله فقد كَانُوا صلى الله عليه وسلم يدبرون عباد الله بتدبيرات فِيهَا من الرِّفْق واللطف وَحسن المسلك مَا لَا يخفى على أهل الْعلم فَإِن نَبينَا صلى الله عليه وسلم قد تألف رُؤَسَاء الْمُشْركين وهم إِذْ ذَاك حديثو عهد بجاهلية وَترك الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار من الْغَنِيمَة وَسُيُوفهمْ تقطر من دِمَاء المؤلفين واتباعهم وَمن يشاكلهم فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَصَحَّ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه ترك من كَانَ منافقا على نفَاقه وعصمهم بِظَاهِر كلمة الْإِسْلَام وَلم يكشفهم ويتلف مِمَّا عِنْدهم بعد أَن ظهر مِنْهُم مَا ظهر من النِّفَاق كَعبد الله بن أبي سلول رَأس الْمُنَافِقين وَقَالَ لَا يتحدث النَّاس أَن مُحَمَّد يقتل أَصْحَابه وَقد اشْتَمَل الْكتاب وَالسّنة على مَا كَانَ يَقع من الْأَنْبِيَاء صلى الله عليه وسلم من تَدْبِير أَمرهم والرفق بهم واغتنام الفرص فِي إرشادهم وإلقاء مَا يحدوبهم إِلَى الْحق فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت وَالْحَالة بعد الْحَالة على حسب مَا تقبله عُقُولهمْ وتحتمله طبائعهم وتفهمه أذهانهم

فالعالم الَّذِي أعطَاهُ الله الْأَمَانَة وَحمله الْحجَّة وَأخذ عَلَيْهِ الْبَيَان يُورد الْكَلَام مَعَ كل أحد على حسب مَا يقبله عقله وبقدر استعداده

فَإِن كَانَ كَلَامه مَعَ أهل الْعلم الَّذين يفهمون الْحجَّة ويعقلون الْبُرْهَان ويعلمون أَن الله سُبْحَانَهُ لم يتعبد عباده إِلَّا بِمَا أنزلهُ فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله وَحَال بَينهم وَبَين الِالْتِفَات إِلَى ذَلِك وَالرُّجُوع إِلَيْهِ وَالْعَمَل عَلَيْهِ مَا تكدرت بِهِ فطرهم وتشوشت عِنْده أفهامهم من اعْتِقَاد حقية لتقليد أَو استعظام الْأَمْوَات من أهل الْعلم أَو استقصار أنفسهم عَن معرفَة الْحق بِنَصّ الدَّلِيل فَعَلَيهِ أَن يعْتَمد مَعَهم تسهيل مَا تعاظموه من الْوُقُوف على الْحق قَائِلا

إِن الله تعبد جَمِيع هَذِه الْأمة بِمَا فِي الْكتاب وَالسّنة وَلم يخص بفهم ذَلِك

ص: 110

من كَانَ من السّلف دون من تَبِعَهُمْ من الْخلف وَلَا قصر فَضله بِمَا شَرعه لجَمِيع عباده على أهل عصر دون عصر أَو أهل قطر دون قطر أَو أهل بطن دون بطن فالفهم الَّذِي خلقه للسلف خلق مثله للخلف وَالْعقل الَّذِي رَكبه فِي الْأَمْوَات ركب مثله فِي الْأَحْيَاء وَالْكتاب وَالسّنة موجودان فِي الْأَزْمِنَة الْمُتَأَخِّرَة كَمَا كَانَا فِي الْأَزْمِنَة الْمُتَقَدّمَة والتعبد بهما لمن لحق كالتعبد لمن مضى وَعلم لُغَة الْعَرَب مَوْجُود فِي الدفاتر عِنْد الْمُتَأَخِّرين على وَجه لَا يشذ مِنْهُ شئ بعد أَن كَانَ المتقدمون بأخذونه عَن الروَاة حرفا حرفا ويستفيدون من أربابه كلمة كلمة وَكَذَلِكَ تَفْسِير الْكتاب الْعَزِيز مَوْجُود فِي التفاسير الَّتِي دونهَا السّلف للخلف بعد أَن كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يرحل فِي تَفْسِير آيَة من كتاب الله إِلَى الأقطار الشاسعة وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيث المروية عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَوْجُودَة فِي الدفاتر الَّتِي جمعهَا الأول للْآخر بعد أَن كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يرحل فِي طلب الحَدِيث الْوَاحِد إِلَى الْبِلَاد الْبَعِيدَة وَهَكَذَا جَمِيع الْعُلُوم الَّتِي يستعان بهَا على فهم الْكتاب وَالسّنة

فالوقوف على الْحق والاطلاع على مَا شَرعه الله لِعِبَادِهِ قد سهله الله على الْمُتَأَخِّرين ويسره على وَجه لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ من الْعِنَايَة والتعب إِلَّا بعض مَا كَانَ يَحْتَاجهُ من قبلهم وَقد قدمنَا الْإِشَارَة إِلَى هَذَا الْمَعْنى

ثمَّ أَن هَذَا الْعَالم يُوضح لمن يَأْخُذ عَنهُ الْعلم فِي كل بحث مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل ويوجبه الْإِنْصَاف وَهُوَ وَإِن أَبى ذَلِك فِي الِابْتِدَاء فَلَا بُد أَن يُؤثر ذَلِك الْبَيَان فِي طبعه قبولا وَفِي فطرته انقيادا

ويحرص على أَن تكون أوقاته مَشْغُولَة بتدريس الطّلبَة فِي كتب التَّفْسِير والْحَدِيث وشروحه وَفِي كتب الْفِقْه الَّتِي يتَعَرَّض مؤلفوها لذكر الْأَدِلَّة وَالتَّرْجِيح فَإِنَّهُ فِي تدريس هَذِه المؤلفات يَتَيَسَّر لَهُ من الْإِرْشَاد وَالْهِدَايَة وتأسيس الْحق وتقريب الْإِنْصَاف مَا لَا يَتَيَسَّر لَهُ فِي غَيرهَا

وَإِن كَانَ كَلَامه وَمَعَ من هُوَ دون هَذِه الطَّبَقَة فأنفع مَا يلقيه إِلَيْهِ هُوَ ترغيبه فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد وتعريفه أَن الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعُلُوم هُوَ الْوُصُول إِلَى مَا وصل

ص: 111