الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
نخلُصُ ممَّا بحثناه في الفصل الأول إلى أَنَّ «الأَمانَ» عقدٌ من العقود والعهود والمواثيق التي تجري بين الناس على اختلاف أديانهم وأوطانهم، وكلُّ «عقدٍ» يدخلُ فيه الإنسانُ فلا بدَّ من «آثارٍ» تترتَّبُ عليه؛ تحدِّدُ الحقوقَ والواجباتِ لكلِّ طرفٍ من أطراف العقد.
إنَّ من معاني «الأَثَر» في اللغة: بقيَّة الشيء، أو ما بقي من رسم الشيء. والتأثيرُ: إبقاءُ الأثَر في الشيء
(1)
. ومن هنا استخدم الفقهاء هذا اللفظ بمعنى: «النتيجة المترتبة على التصرُّف»
(2)
، فيقولون مثلًا: من آثار النِّكاح: حِلُّ الجماع والعِدَّةُ والتوارثُ
(3)
. ويُلاحِظ الناظرُ في كتب الفقه القديمة أنَّ اللفظ الأكثر شيوعًا واستعمالًا لهذا المعنى هو «الحكم» ، فيقولون عن هذه الأمور المذكورة بأنها من «أحكام النكاح»
(4)
، وإنما شاع استعمال «الأثر» على ألسنة
(1)
«تاج العروس» (مادة: أثر).
(2)
«معجم لغة الفقهاء» (مادة: الأثر).
(3)
انظر: «بدائع الصنائع» 3/ 190، و «العناية شرح الهداية» 6/ 77، 8/ 397، و «المغني» 11/ 371، و «الموسوعة الفقهية» 22/ 111.
(4)
تُظهر نتيجة البحث النصِّي في كتاب: «المبسوط» ؛ أنَّ السرخسيَّ رحمه الله قد استعمل «أثر النكاح» في أربعة مواضع فقط، وذلك خلال البحث في مسألة العدة، بينما استعمل «حكم النكاح» في (18) موضعًا. وفي كتاب «المغني» استعمل ابن قدامة رحمه الله «آثار النكاح» في موضع واحد، بينما استعمل «حكم النكاح» و «أحكام النكاح» في (14) موضعًا. ومقصودهما في جميع هذه المواضع آثار عقد النكاح، واستعملا لفظ «الحكم» في مواضع قليلة بمعنًى آخر، والله أعلم.
المعاصرين، فيقولون:«آثار العقد»
(1)
، ويقصدون بذلك الأحكام المترتبة على العقد، فمن آثار عقود المِلْكيَّة ـ كالبيع والهبة والقرض ـ: نقل المِلْكيَّة من عاقدٍ إلى آخر إذا استوفت أركانها وشروطها. ونقل المِلكية حكمٌ مترتِّبٌ على ذلك العقد.
إنَّ بين مصطلحي الحكم والأثر فروقاتٍ دقيقةً ليس هذا موضع البحث فيها
(2)
، فأكتفي بالإشارة هنا إلى أنَّ العلاقة بين العنصر «المؤثِّر» والأثر الناتج عنه؛ لا تكون على درجةٍ ولا صفة واحدة، بل تتفاوت تفاوتًا كبيرًا، فمن الآثار ما يكون داخلًا في ماهيَّة العقد، ومنها ما يكون من شروطه ولوازمه، ومنها ما يكون متعلِّقًا بطرفَي العقد أو بطرفٍ واحدٍ منه. وهكذا هي الحال بالنسبة لهذه الآثار التي تترتَّبُ على الدخول في عقد الأمان؛ فبعضها داخلةٌ في ماهية الأمان، وبعضها من لوازمه وأحكامه وآدابه، وهذا بيان موجزٌ بذلك:
أما الأثر الأول ـ وهو تحريم خيانتهم والغدر بهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ـ: فداخل في ماهيَّة عقد الأمان ومن شروطه الأساسية، ونقضه يؤدِّي إلى نقض أصل العقد.
والأثر الثاني ـ وهو معاملة الكفار على أساس أنَّهم يملكون أموالهم مِلْكًا
(1)
من ذلك الاستعمال الكثير للفظ الأثر والآثار في «الموسوعة الفقهية» الكويتية في مباحث متفرقة، ممَّا لا تجده في المصادر الفقهية القديمة لتلك المباحث، فانظر فيها على سبيل المثال:«آثار العقد» (1/ 164، و 2/ 6، 8، و 7/ 30، و 22/ 230، 234، و 29/ 5، و 30/ 239، و 32/ 108، و 36/ 62، و 42/ 147). «آثار النكاح» (22/ 111، و 29/ 6، و 41/ 310، و 41/ 318). «آثار البيع» (9/ 106، 233). ويرد استعمال لفظ «آثار» في سياقات مختلفة في نحو (200) موضعٍ، والمراد بأكثرها الحكم المترتِّب على الشيء، وهو ما لا تجده في أي موسوعة فقهية قديمة كالمبسوط للسرخسي والمغني لابن قدامة، وغيرهما.
(2)
انظر: «رد المحتار» وهو حاشية ابن عابدين 3/ 237.
صحيحًا ـ، وكذلك الثالث ـ وهو أنَّ المسلم في بلاد الكفَّار يجب عليه الالتزامُ بأحكام الدِّين كما يجب عليه في بلاد الإسلام ـ، والرابع في جوازُ معاملَتِهم بالبَيْعِ والشِّراءِ والهِبَةِ والقَرْضِ والرَّهْنِ وسائرِ المعاملاتِ المباحة؛ فتتعلق بالمسلم من جهة اعتقاده وتديُّنه وأخلاقه في معاملة الآخر.
والأثر الخامس في أنَّ المسلمَ إذا دَخَلَ بلادَ الكفَّار الحربيِّينَ وكان يقصِدُ القيامَ بعمليَّاتٍ عسكريَّةٍ ضدَّهم، فأَظْهَرَ لهم طلبَ الدُّخولِ في أمانِهم، فأَعْطَوهُ الأمانَ، وسَمَحُوا له بدخول بلادهم؛ وَجَبَ عليهِ ـ ديانةً وأخلاقًا ـ الالتزامُ بعقد الأمان، وحَرُمَ عليه الغدرُ بهم، وكذلك الأثر السادس في أنه إذا دَخَلَ جماعةٌ من المسلمين في أَمانِ قومٍ من الكفَّارِ الحربيِّينَ، ثم قامتِ الحربُ بينهم وبين جماعةٍ أُخرَى من المسلمين؛ لم يَجُزْ لأولئك المسلمينَ المستأمَنِين نصرةُ إخوانِهم المسلمينَ إلا بعدَ أَنْ يُلْغُوا عَقْدَ الأَمانِ مع أولئك الكفَّارِ، ويُعْلِمُوهُمْ بذلكَ؛ فمن لوازم عقد الأمان وشروطه، وهما متقاربان؛ لكنْ بينهما فرقٌ ظاهرٌ في صورة الواقعة، ولهما تعلُّق أكيد بالأثر الأول.
أما الأثر السابع ـ وهو جواز السَّفَر بالقرآن حال العهد والأمان ـ فهو من الفروع الفقهية التي يحتاج المسلم إلى معرفتها وهو خارج دار الإسلام.
أما الأثر الثَّامن في أنَّ المسلمينَ المستأمَنينَ في بلاد الكفَّار لا يقيمونَ الحدودَ بينهم، لعَدَمِ وُجودِ وِلايةٍ إسلاميَّةٍ عليهم، لكنَّهم يلتزمون بما يترتَّب على ارتكابِ المعاصي الموجِبَة للحدود من توبةٍ وصومٍ وكفارةٍ ودِيَةٍ، ونحو ذلك، مما يلزمهم ديانةً؛ فمهمٌّ جدًّا لتصحيح تصور المسلم وتصرُّفه في البيئة التي يعيش فيها.
أما الأثر التاسع في أنَّ المسلمَ المقيمَ في بلاد الكفَّار ينبغي عليه أَنْ يُعاملهم بالحسنَى ويَدْعُوَهم إلى الإسلام، ويتألَّفَهم بموافقتهم في غيرِ ما حرَّمه الله تعالى، ولا يرتكبَ ما يحملهم على النُّفْرة من الدِّين الحقِّ، ولا يُثيرَهم بتصرُّفٍ يحملُهُم على إيذائه والإضرارِ به؛ فهو من اللوازم الأخلاقية والسلوكية.
ويأتي الأثر العاشر في بيان ما يجبُ على المسلم من حفظ جميل من أحسن إليه من الكفَّار، وشكرَه على إِحسانِه، ومقابلَته بالوفاء وجميل الذِّكْر وإِرادة الخير؛ ليؤكِّد على الاعتداد بالأثر المعنوي لعقد الأمان حتَّى بعد انقضاء مدَّته، وانتهاء أحكامه، فكيف إذا كان نافذًا؟ وليؤكِّد ـ أيضًا ـ على أن الواجب على المسلم أن يعامل الآخرين بالعدل والإحسان، ولا يجوز أن تحكمه ـ بأيِّ حالٍ من الأحوال ـ دوافع الأنانيَّة والانتهازية.
هذه عشرة آثار من آثار الدخول في عقد الآمان، وقد أردنا ببحثنا فيها التأكيد على الجوانب الدينية والسلوكية والأخلاقية التي يجب على المسلم المقيم خارج أرض الإسلام أن يتفقَّه فيها، ويلتزم بأحكامها، ويتأدَّب بآدابها، كما أردنا بذلك أن نكشف عن جانب عظيم من جوانب سماحة الشريعة الإسلامية، واشتمالها على ما فيه صلاح الحياة البشرية، وخير الناس أجمعين، وبالله تعالى التوفيق.