الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - التأسيس الفقهي لمسائل هذا الكتاب ووجه ارتباطها بالواقع المعاصر
لقد حرصتُ في هذا الكتاب على الاستشهاد بنصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كما فهمها الصحابة والتابعون ومن اقتفى أثرهم من فقهاء المسلمين عبر العصور، ولم أنقل عن العلماء والباحثين المعاصرين إلا في مواضع قليلةٍ. وكان غرضي من ذلك ـ كما أشرت إليه في المقدمة ـ أن أُشارك في تقديم نموذجٍ من الأحكام الشرعية والأخلاقية الرائعة من مصادرنا الفقهية التي تحظى بتقديرٍ وقبولٍ كبيرٍ عند المسلمين عامَّةً، بخلاف كتابات العلماء المعاصرين؛ التي قد يتجرَّأ بعض أصحاب الأهواء والأغراض على إثارة الشبهات حولها، رغم ما لهؤلاء العلماء من مكانة علمية مرموقة، وجهود مخلصة مشهودة في خدمة الإسلام والمسلمين في هذا العصر.
إنَّ هذا الاستشهادَ الفقهي أخضعَ البحثَ لطريقة الفقهاء المتقدِّمين في معالجة المسائل ذات الصلة في ضوء واقعهم وما أحاطت به من أحوالٍ، وجاءت مصطلحاتهم معبِّرةً عن ذلك، وأهم تلك المصطلحات وأكثرها تكرارًا في هذا البحث مصطلح:«دار الإسلام» ، و «دار الكفر» و «دار الحرب» .
لهذا رأيت أن أذكر نبذةً موجزةً في التعريف بها، ثم أذكر أصلها وسبَبَها، وما دخل عليها من تغيُّرٍ في العصر الحديث:
أولاً: دار الإسلام:
يقصد بالدار: المحلُّ والموضعُ والمنزل المسكون، وهي ـ هنا ـ بمعنى:
البلد
(1)
. فالدار في اصطلاح الفقهاء هي «الدولة» في الاصطلاح السياسي المعاصر، وهي عبارة عن مجموعة من النَّاس تُقيم على وجه الدوام في إقليم معيَّن، ولها حاكم ونظامٌ تخضع لهما، وشخصيةٌ معنويةٌ، واستقلال سياسيٌّ
(2)
.
فدار الإسلام: هي الدولة التي تتَّصف بصفة الديانة الإسلامية، وتكون هذه الصفة هي الغالبة في مكوِّناتها وخصائصها الدينية والثقافية والاجتماعية العامة؛ وإن كان في مواطنيها قليل أو كثير من غير المسلمين، يتمتَّعون ـ أيضًا ـ بحرَّيتهم وحقوقهم، لكن أحكام الإسلام هي الظاهرة والغالبة.
والمراد بأحكام الإسلام: الشعائر والمظاهر العامة التي تميِّز ملةَ الإسلام عن غيرها، مثل: الأذان وإقامة الجماعات والجمع والأعياد، وتعظيم أركان الإسلام، وتنفيذ الأحكام التي تحفظ لجماعة المسلمين هويَّتها وخصوصيَّتها، وإن حصل في ذلك التنفيذ نقصٌ أو تقصيرٌ
(3)
.
ثانيًا: دار الكفر:
دار الكفر هي نقيض دار الإسلام، فهي كل دولة انتفت عنها صفة الإسلام، لهذا يعرِّفُها الفقهاء بأنَّها:«كلُّ بقعةٍ تكون فيها أحكام الكفر ظاهرة»
(1)
انظر: «لسان العرب» لابن منظور (مادة: دار)، و «الموسوعة الفقهية» (20/ 198) (مادة: دار).
(2)
انظر: «القانون الدولي العام» للدكتور علي صادق أبو هيف (ص 109)، و «معالم الدولة الإسلامية» للدكتور محمد سلام مدكور، (ص 57).
(3)
قال الإمام المحدِّثُ الفقيه أبو بكرٍ أحمد بن إبراهيم الإسماعيليُّ (ت: 371/ 982) رحمه الله في «اعتقاد أهل السنة» (ص 56)، الفقرة (49):«ويرونَ الدَّار دارَ إسلامٍ لا دار كُفرٍ ـ كما رأَتْهُ المعتزلةُ ـ ما دام النِّداءُ بالصلاة والإقامة بها ظاهرَين، وأهلُها ممكَّنين منها، آمنين» .
وراجع البحث في هذه المسألة بأدلتها ومذاهب الأئمة فيها في: «الغلو في الدين» للدكتور عبد الرحمن اللويحق، (ص 330 - 346).
وإن كان في مواطنيها قليل أو كثير من المسلمين الذين يتمتَّعون بحريتهم وحقوقهم حسب أنظمة البلد الذي يقيمون فيه.
ثالثًا: دار الحرب:
جرَى عامَّة الفقهاء على وصف كل دار كفر بأنها دار حربٍ، فهذان المصطلحان بمعنًى واحدٍ
(1)
، فإن كانت دولة غير المسلمين في حال حربٍ مع دولة المسلمين؛ فوصفها بدار الحرب واضحٌ لا إشكال فيه، وإن كانت في حال موادعةٍ ومسالمةٍ؛ فوصفها بدار الحرب مبنيٌّ على النَّظر في أصل الصفة القائمة بها، وهي التي ترجع إليها عند انتفاء السَّلام، فهي دار حربٍ في القوَّة والإمكان، وإن لم تكن دار حربٍ في واقع الحال.
أصل هذا التقسيم وعلاقته بالواقع:
إنَّ ما تتابع الفقهاء على تقريره من تقسيم العالم إلى دارين ـ دار الإسلام ودار الكفر أو الحرب ـ يستندُ إلى الأدلة التفصيلية في القرآن والسنة التي وضعت أسس بناء الدولة المسلمة وبيَّنت خصائصها وأصَّلت لعلاقاتها مع الدول الأخرى في حالتي الحرب والسِّلم
(2)
، كما يستند إلى الواقع الذي ظهرت فيه آثار تلك الأحكام والخصائص والعلاقات. فهذا التقسيمُ مبنيٌّ على
(1)
انظر في تعريف دار الكفر ـ وهي دار الحرب ـ: «شرح السير الكبير» للسرخسي (5/ 2165)، و «بدائع الصنائع» (7/ 130 - 131)، و «أحكام أهل الذمة» (2/ 728)، و «الإنصاف» للمرداوي (10/ 35)، و «الموسوعة الفقهية» (20/ 206) (مادة: دار الحرب) ولم تُفرِدْ مادةً لدار الكفر، لترادفهما وقلة استعمال الأخير في عُرف الفقهاء.
(2)
راجع جملةً من أدلة التقسيم في: «اختلاف الدارين وأثره في أحكام المعاملات والمناكحات» للدكتور إسماعيل فطاني، ص:(23 - 30)، و «اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية» للدكتور عبد العزيز بن مبروك الأحمدي (1/ 297 - 312).
الأدلة الشرعيَّة، وعلى الواقع الذي كان يحكمه التدافع والصراع المستمر، ولم يكن يخضع لأيِّ نظامٍ دوليٍّ يقنِّن طبيعة العلاقة بين الدول، ومن هنا عمد الفقهاء إلى إبراز هذا التقسيم وتحرير دلالاته، ليتيسَّر لهم بذلك وضع أسس العلاقة بين الدارين، وتقرير الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمقيمين في كلِّ دارٍ من المسلمين وغيرهم، وتمييز ما يترتَّب عليها باختلاف الدار من تغيُّرٍ وآثارٍ، فكانت دوافعهم لهذا التقسيم دينية وتشريعية وسياسية وواقعية.
لقد حظيت هذه المسألة باهتمام العلماء والباحثين المعاصرين، واختلفت آراؤهم فيها، فرأى بعضهم الحفاظ عليها كما وردت في المصادر الفقهية
(1)
. بينما ادَّعى آخرون أنَّها تفتقر إلى مستندٍ شرعيٍّ وليست إلا رأيًا فقهيًّا معبِّرًا عن مرحلةٍ تاريخيةٍ؛ فرأوا إلغاءها تمامًا
(2)
. وتوسَّط فريق ثالث فرأوا أن عقد الصلح والسلام يزيل صفة الحرب عن الدار، فتكون دار كفر لا دار حرب، وتسمَّى ـ حينئذٍ ـ بدار العهد
(3)
.
(1)
انظر ـ على سبيل المثال ـ: «اختلاف الدارين» لإسماعيل فطاني (ص 57)، و «الحقوق والواجبات والعلاقات الدولية في الإسلام» للدكتور محمد رأفت عثمان، (ص 163).
(2)
انظر: البيان الختامي لمؤتمر (ماردين دار السلام) الذي أقامه لفيف من المفكرين والمثقفين في مدينة ماردين التركية: 12/ 4/1431 هـ - 28/ 3/2010 م.
(3)
هذا رأي الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «العلاقات الدولية في الإسلام» (ص 56)؛ حيث جعل الدور ثلاثًا: (دار الحرب، ودار الإسلام، ودار العهد)، وخرَّج هذه القسمة الثلاثية على بعض كلام الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن الشيباني، وتبعه في ذلك جماعة من الباحثين المعاصرين، لكنَّ المحقَّق في هذه المسألة أن القسمة عند الفقهاء عامَّةً ثنائيةٌ فقط:(دار الإسلام ودار الكفر ـ وهي دار الحرب ـ)، وما نسبه إلى الإمامين المذكورين خطأٌ تجدُ مناقشته في «اختلاف الدارين» لإسماعيل فطاني (ص 40 - 57).
وسيأتي النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في التفريق بين دار الكفر ودار الحرب، وهو ممَّا يمكن أن يُدعَم به تقسيمُ أبو زهرة. هذا من جهة التوثيق الفقهي، ولا يمنع قبوله اجتهادًا جديدًا في المسألة بناءً على الواقع الجديد للعلاقات الدولية؛ كما سيأتي شرحه.
ليس بإمكاني تفصيل القول فيما يتعلق بهذه الآراء من أدلة وبحوث ومناقشات، فهذا خارج عن غرض هذا الكتاب، لكنِّي أذكر ما يترجَّح عندي منها، وهو القول الثالث، فأقول ـ وبالله التوفيق ـ:
إن المتأمل في إضافة الدار إلى الإسلام أو الكفر أو الحرب سيجد أنها تنطوي على صفة ذاتية لا يتصور زوالها إلا بانتفاء الدار نفسها، أو صفة عارضة يتصور زوالها مع بقاء الدار. فصفة الإسلام لا يتصور زوالها عن دولة قد صبغت الديانةُ الإسلاميةُ كيانَها السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، فكل دولة انتفت عنها الصبغة الإسلامية لا يمكن وصفها إلا بأنها:«دولة غير إسلامية» ؛ ولا يمكن أن توصف بغير هذه الصفة. وهذا بخلاف صفة: «الحرب» فيمكن تصور زوالها مع بقاء صفة الكفر فيها. وكذلك الحال بالنسبة لغير المسلمين؛ فإنَّهم قد ينظرون إلى: «دار الإسلام» بأنها دار إسلامٍ وحربٍ ضدَّهم، وقد ينظرون إليها بأنها دار إسلام وعهد وسلام معهم.
إنَّ الفقهاء المتقدمين لم يمكنهم تصوُّر انتفاء صفة الحرب عن أي دولة غير إسلامية، ذلك لأنَّ العلاقات بين الدول كانت قائمة ـ كما ذكرنا ـ على الصراع والتدافع، ولم يكن هذا خاصًّا بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها، بل كانت جميع الدول على اختلاف أديانها وقومياتها ومواقعها الجغرافية في حال حرب وصراع مستمر، والموادعة والسلام هي الحال الطارئة. لهذا غلب عليهم استعمال مصطلح:«دار الحرب» بإطلاقٍ حتَّى وإن كان مرادهم «دار الكفر» التي بينها وبين المسلمين معاهدة صلح وسلام، لكن وقع في كلام شيخ الإسلام أَبي العبَّاس ابنِ تيمية رحمه الله
(1)
ما يدلُّ على صحَّة ما ذكرتُه من إمكان انتفاء صفة «الحرب» عن «دار الكفر» :
(1)
شيخ الإسلام تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية النُّميري الحراني الحنبلي الدمشقي (ت: 728/ 1328): شيخ الإسلام في زمانه وأبرز علمائه، وصاحب الآثار الكبرى في علوم الدين، كان صالحًا مصلحًا، داعيًا إلى العودة إلى القرآن والسنة، وكان ذا باع طويل في مختلف العلوم. تربو مصنفاته على ثلاث مئة مجلد في علوم الإسلام المختلفة من أهمها:«اقتضاء الصراط المستقيم» و «الصارم المسلول على شاتم الرسول» ، و «درء تعارض العقل والنقل» ، و «منهاج السنة النبوية» ، وله فتاوى ورسائل كثيرة طبع قسم منها في «مجموع الفتاوى» (35 مجلدًا) و «الفتاوى الكبرى» (5 مجلدات). مترجم في «الأعلام» (1/ 144).
قال رحمه الله في بعض كلامه ـ: «إنَّ المسلم بدار حربٍ أو دار كفرٍ غير حرب
…
»
(1)
؛ وهذا صريح في التَّفريق بين الدَّارين.
وقال في موضعٍ آخر: «وكون البقعة ثغرًا للمسلمين، أو غير ثغرٍ؛ هو من الصفات العارضة لها لا اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلامٍ أو دار كفرٍ، أو دار حربٍ أو دار سِلْمٍ، أو دار عِلْمٍ وإيمانٍ أو دار جهل ونفاق؛ فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتِهم، بخلاف المساجد الثلاثة
(2)
فإن مزيَّتها صفة لازمة لها، لا يمكن إخراجها عن ذلك»
(3)
؛ فتأمَّل كيف ذكر دار الكفر مقابلَ دار الإسلام، ودار السِّلم مقابلَ دار الحرب، فنحن إزاء صِفَتين للدار، وليس صفة واحدة.
لهذا كلِّه: نرى صحَّة القول بأنَّ صفة الحرب ـ ابتداءً ولزومًا ـ قد انتفت عن الدول غير الإسلامية منذ أن أُنشئَتْ «هيئة الأمم المتحدة» في 24/ 10 /1945 م، حيث يُؤكِّد ميثاقُها على أنَّ لها هدفين رئيسيين هما: السَّلامُ العالمي، والكرامةُ الإنسانية. وينصُّ الميثاق على أن العضوية مُتاحةٌ لجميع الدول المحبة للسلام التي تكون قادرة وراغبة في تنفيذ الالتزامات الواردة في الميثاق.
(1)
«اقتضاء الصراط المستقيم» ط: الفقي، (ص 177)، وط: العقل (1/ 471).
(2)
يقصِدُ: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
(3)
«مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» (27/ 53 - 54).
وقد انضمَّتْ دولُ العالم الإسلامي إلى عضوية الأمم المتحدة، فالتزمت بذلك بأهم مبادئ ميثاقها، وهو:«أن تكون العلاقة بين الدول قائمة على السَّلام»
(1)
. ولا شكَّ أن هذا قد أحدث تغيُّرًا مهمًا في أصل العلاقة بين الدول، إذ صارت مبنيَّة ابتداء على «السلام» لا على «الحرب» ، على العكس تمامًا مما كان عليه الحال في العصور السابقة.
ومثل هذا التغيُّر معتبرٌ في الشريعة الإسلامية، لهذا لم يُغْفِلْهُ الفقهاء المعاصرون، بل تطرَّقوا إليه منذ حصوله، وأكتفي هنا باقتباس مهمٍّ، يمثِّل سابقةً علميةً مبكِّرةً في توصيف هذه النازلة، وهو لواحدٍ من أشهر فقهاء القرن الماضي الشيخ محمد أبو زهرة
(2)
، حيث قال رحمه الله:
«إنَّه يجبُ أن يُلاحظ أنَّ العالمَ الآنَ تجمعُه منظمةٌ واحدةٌ، قد التزم كلُّ أعضائها بقانونها ونظمها. وحكم الإسلام في هذه: أنه يجب الوفاءُ بكلِّ العهود والالتزامات التي تلتزمها الدُّولُ الإسلاميةُ، عملاً بقانون الوفاء بالعهد
(1)
انظر: «الموسوعة العربية العالمية» (مادة: الأمم المتحدة).
(2)
العلامة الفقيه محمد بن أحمد أبو زهرة (1316 - 1394/ 1898 - 1974): من أكبر علماء الشريعة الإسلامية في عصره، ولد في المحلَّة الكبرى التابعة لمحافظة الغربية بمصر، تخرج من مدرسة القضاء الشرعي (1343/ 1924)، ثم من دار العلوم (1346/ 1927)، واختير سنة (1352/ 1933) للتدريس في كلية أصول الدين ثم أستاذًا للدراسات العليا فيها، ثم في كلية الحقوق بجامعة القاهرة لتدريس مادة الخطابة بها، ومادة الشريعة الإسلامية، وترأس قسم الشريعة وشغل منصب الوكالة فيها، وأحيل إلى التقاعد سنة (1378/ 1958)، واختير عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر سنة (1382/ 1962). اشتهر بمقالات وبحوث وكتب كثيرة عالج فيها جوانب مختلفة ودقيقة في الفقه الإسلامي، مثل المِلْكية، ونظرية العقد، والوقف وأحكامه، والوصية وقوانينها، والتركات والتزاماتها، والأحوال الشخصية، والربا، وتراجم أشهر فقهاء الإسلام. مترجم في «الأعلام» للزِّرِكليِّ (6/ 25).
الذي قرَّره القرآن الكريم، وعلى ذلك: لا تعدُّ ديار المخالفين التي تنتمي لهذه المؤسَّسة العالمية دارَ حربٍ ابتداءً، بل تعتبرُ دار عهدٍ»
(1)
.
وهذا لا يُغفل حقيقة انقسام العالم إلى دار الإسلام ودار الكفر، لأنَّه انقسام يفرضه الواقع بناءً على الخصوصية الدينية لكلِّ طرفٍ، ومن هنا ظهر مصطلح:«العالم الإسلامي» ، وهو شائع الاستعمال عند السياسيين والمثقفين غير المسلمين أكثر منه لدى المسلمين، حتى إِنَّ المنصِّر الأمريكيَّ الشهير زويمر ((S. M. Zwemer (1867 - 1952 م)؛ لما أصدر مجلة متخصصة في تنصير المسلمين والهجوم على العقيدة والقيم الإسلامية؛ لم يجد بُدًّا من تسميتها بمجلة:«العالم الإسلامي» «The Moslem World» ، ولَمَّا أراد الرئيس الأمريكي باراك أوباما توجيه خطابٍ إلى المسلمين؛ لم يذكر اسم دولة من دولهم أو قومية من قومياتهم أو طائفة من طوائفهم، بل وجَّه خطابه في جامعة القاهرة بتاريخ: 4/ 6 /2009 م؛ إلى: «العالم الإسلامي» باعتباره كيانًا واحدًا، متميزًا بانتمائه الديني والتاريخي والأخلاقي والاجتماعي، وإن كان في أحضانه الواسعة أتباع أديان وثقافات متنوعة، يعيشون فيه بأمان، ويحظون بحقوقهم وحرياتهم. وعلى هذا الأساس ـ أيضًا ـ أُنشئَتْ سنة:(1381/ 1961): «رابطة العالم الإسلامي» ، وهي منظمة إسلامية دولية غير حكومية ـ وإن كانت المملكة العربية السعودية تتطوع باستضافتها وتمويلها ـ، كما أنشئت في سنة:(1389/ 1969): «منظمة المؤتمر الإسلامي» ؛ وهي منظمة حكومية تضمُّ في عضويتها سبعًا وخمسين دولة إسلامية
(2)
.
(1)
«العلاقات الدولية في الإسلام» (ص 60). وسيأتي عند الكلام على (الأثر السابع) نقل مهمٌّ عن الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله؛ فيه إشارة إلى زوال صفة الحرب لوجود معاهدات السلام بين الدول.
(2)
وفي سنة (2011 م) قرَّرت المنظمةُ تغيير اسمها إلى: «منظمة التعاون الإسلامي» .
إنَّ تميُّز «دار الإسلام» بحدودها الجغرافية، وكيانها السياسي، وخصائصها الدينية والاجتماعية؛ يمنح أبناءَها حقَّ الدفاع عن أرضهم وحقوقهم ضد أي اعتداء، كما يمنح شعورَهم الجمعيَّ رسوخًا وقوةً تُعينهم على الوحدة والتعاون والتناصر فيما يحقق لهم المصالح والمنافع، ويدفع عنهم المفاسد والأضرار.
وفي المقابل: فإنَّ نفيَ صفةِ الإسلام عن الدُّول التي لا تتصف بهذه الصفة هو تقرير للأساس الذي ينبني عليه الموقفُ الدينيُّ والسياسيُّ والأخلاقيُّ على المستوى الفرديِّ والجماعيِّ، فالمسلم الذي يقيم في دولة من تلك الدول ـ إقامةً مؤقَّتةً أو دائمةً ـ يقرُّ باختلاف الخصائص الدينية لتلك الدولة عن «دار الإسلام» ؛ وبالتالي فإنه يتفهَّم منهج أهلها في نظامهم السياسيِّ وسلوكهم الأخلاقيِّ والاجتماعيِّ، ويتجنَّب عوامل الاصطدام معها، وإن كان يراهم مخالفين لعقيدته وأخلاقه. وهذا هو الطريق الأمثل للتعايش الناجح والمثمر مع المحافظة على التميُّز الدينيِّ.
ومن هنا يتبيَّن لنا أن تقسيم العالم إلى «دار الإسلام» و «دار الكفر» ؛ ليس بمفهوم «صراع الحضارات» الذي يؤصِّل للعداء ويجرُّ إلى الحرب والمواجهة، بل ينطوي على أساس سليم للمحافظة على خصائص كلِّ طرفٍ، وعدم التدخُّل فيها، وتجنُّب جعلها سببًا للصراع، أو موضعًا للمنازعة والمغالبة. وهذا مقصِدٌ شريفٌ سبقت الشريعةُ الإسلاميةُ إليه القوانينَ الدوليةَ المعاصرةَ التي ضمنتْ للشعوب حقَّ التمتع بالحرية الدينية والمحافظة على خصائصها القوميَّة، ومنعتْ أيَّ تدخلٍ في الشؤون الداخلية للدول.
إن لهذا التصور الصحيح والفهم السليم لهذه المسألة أثرًا بالغًا على سلوك المسلم خارج حدود «دار الإسلام» ؛ فإنه سيَعِي دائمًا ـ إضافة إلى ما تقدَّم ذكره ـ أنَّ حقوقَه وحرياتِه الدينيةَ والمدنيةَ لا بدَّ أن تتقيَّد بحدودٍ معقولةٍ لا تتجاوزُ حقوقَ وحرياتِ الجالياتِ أو الأقلياتِ، وأنها ستكون خاضعة دائمًا
للخصوصية العامة للدولة. وغياب هذا التصور والفهم سيؤدِّي بالمسلم إلى التصرف كما لو أنَّه في بلدٍ مسلمٍ ـ مثل مكة أو المدينة ـ، فيعمد إلى انتهاك خصوصية المجتمع الذي هو فيه، مما يُدخله في صراع واصطدام يتعذَّر معه التعايشُ على أساسٍ من الثقة والاحترام. ومثل هذا الجهل هو الذي أدَّى ببعض المسلمين في بلدٍ مثل بريطانيا إلى المطالبة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية فيها!
وجه تنزيل أحكام هذا الكتاب على الواقع المعاصر
لقائلٍ أَنْ يقولَ هاهنا ـ معترضًا ـ: إن هذا المبحث أبرز إشكالاً موضوعيًّا في منهجية هذا الكتاب الذي يستند أساسًا إلى النصوص الشرعية بفهم الفقهاء المتقدِّمين لتقرير الواجب الدِّينيِّ على المسلم المقيم في دولةٍ غير مسلمةٍ، وهي في نظر أولئك الفقهاء «دار حرب» ولا بدَّ، بينما يرى الباحث أن صفة «الحرب» ؛ قد انتفت ـ ابتداءً ـ عنها في هذا العصر، فلا وجهَ ـ إذن ـ لاقتباس تلك النصوص التي لم تعُدْ لمسوِّغاتها الدينيَّة والتشريعيَّة وجود في الواقع المعاصر؟
والجواب على هذا الاعتراض والاستشكال من وجوهٍ عديدةٍ، ألخصُّها فيما يلي:
أولاً: إنَّ المقصد الأسمى لهذا الكتاب هو التأكيد على مفاهيم الحقِّ والعدل والرحمة والصِّدق والوفاء والأمانة في تعامل المسلم مع غير المسلم، وهذه المفاهيم مبنيَّةٌ على أحكامٍ دينيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ ثابتةٍ، لا يدخل عليها نسخٌ، ولا تقبلُ التَّغييرَ، فلا يجوز الاستخفافُ بها أو تضييعها؛ مهما تغيَّر المكانُ والزمانُ والحالُ، أو اختلفتِ الآراءُ والاجتهاداتُ.
ثانيًا: إنَّ انتفاء صفة الحرب عن دار الكفر هو انتقال من الحكم الأشدِّ إلى الحكم الأخفِّ، ونصوص الفقهاء متعلِّقة بدار الحرب ـ حالاً أو مآلاً ـ، فيصحُّ تنزيلها على كلِّ دار كفرٍ غير حربٍ من باب الأَولَى، بل هي في هذه
الحالة أقوى دلالةً، وأثبتُ حكمًا، وأجدرُ بالقبول.
ثالثًا: إن في المسلمين اليوم بعض الغلاة والجهلة الذين يدَّعون بأنَّ كل المعاهدات والاتفاقيات الدولية باطلة، وأن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب! ثم يسوِّغون بهذه الدَّعوى الزائفة أعمالَهم الإرهابيةَ، وسلوكَهم الشَّاذَّ المناقضَ للأحكام الشرعية، والأخلاق الإسلامية. فجاء هذا الكتاب ليقول لهم ـ بما زخر به من أدلة القرآن والسنة، ومن النقولات الموثَّقة عن علماء الإسلام الأعلام في الدِّين ـ: إنَّ الإسلام لا يعرفُ الفَوْضَى، ولا يقرُّ الغدرَ والخيانةَ، بل يُلزم أتباعَه بالصِّدق والوفاء حتَّى مع أعدائهم الحربيِّين. فلو كانتْ دعواكم صحيحةً ـ وهي ليست كذلك ـ فأول ما يجبُ عليكم أن تتعلَّموا أحكامَ دينكم الَّذي تدَّعون نُصرَتَه، وتلتزموا بطاعة أوامره واجتناب نواهيه، وتتأدَّبُوا بآدابه، وتتقيَّدوا بأخلاقه؛ فتكفُّوا عن الغدر بالأبرياء الآمنين، فليس من ديننا اختطافُ الطائراتِ، وتفجيرُ القطاراتِ، وتخريبُ العمرانِ، واستهدافُ الأماكن العامَّة، ونشر الفَوضى والوحشيَّة في العلاقة بين المسلمين وغيرهم.