الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأثر العاشر:
يجبُ على المسلم أَنْ يحفَظَ لمن أحسن إليه من الكفَّار جميلَه، ويشكرَه على إِحسانِه، ويقابلَه بالوفاء وجميل الذِّكْر وإِرادة الخير
لا شكَّ أنَّ منحَ الكافر للمسلم الأَمانَ والحفظَ والرِّعايةَ من أعلى صُوَرِ الإحسان الماديِّ، وهو بذلك يستحقُّ الشُّكرَ والامتنانَ مِنَ المسلم، وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«لا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ» .
(1)
؛ فأطلقَ الشُّكرَ للنَّاس؛ ولم يقيِّده بصفةِ الإيمان.
وأمر صلى الله عليه وسلم بالمكافأة على كلِّ معروفٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَنَعَ إِليكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِؤُونَهُ؛ فَادْعُوا لَهُ، حتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (2/ 295:7938)، والبخاريُّ في «الأدب المفرد» (219)، وأبو داود في «السنن» (4811)، والترمذيُّ في «الجامع» (1954)، وابن حبَّان في «الصحيح» (3407) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه عند الترمذيِّ:«مَنْ لا يَشْكُرِ النَّاسَ لا يَشْكُرِ اللهَ» . وقال: «حديث حسنٌ صحيح» . وهو كما قال، وانظر:«سلسلة الأحاديث الصحيحة» (416).
كَافَأْتُمُوهُ».
(1)
وقال الله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما:«نزلتْ هذه الآيةُ في المسلم والكافر» .
(2)
وعن ابن الحنفيَّة
(3)
في هذه الآية، قال:«هي مسجَّلةٌ للبَرِّ والفاجر» .
(4)
ورسولُنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة والقدوة لنا في هذا، فقد كان عمُّه أبا طالبٍ يُجيره ويحميه، ويَحوطُه وينصره، ويقوم في صفِّه، ويُحبُّه حبًّا شديدًا، لكنَّه لم يُسْلِمْ، فلمَّا حضرته الوفاةُ جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، يدفعُه حرصه على إيمانه ليكون في الآخرة من الفائزين، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«يا عمُّ! قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهدُ لك بها عند الله» .
فقال أبو جهلٍ وعبدُ الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرِضُها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتَّى قال آخر ما قال: هو على ملَّة عبد المطلب! وأبَى أن يقول: لا إله إلا الله.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (2/ 68:5365)، والبخاري في «الأدب المفرد» (216)، وأبو داود في «السنن» (1672)، والنسائي في «المجتبى» (5/ 82)، وفي «الكبرى» (2359)، وابن حبَّان في «الصحيح» (3408) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وصححه النوويُّ في «رياض الصالحين» (1723)، والألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (254).
(2)
أخرجه ابن مردويه كما في «الدُّر المنثور» [الرحمن: 60].
(3)
هو محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، من كبار التابعين، كان عالمًا فاضلاً. توفي بعد سنة (80/ 699) بالمدينة النبوية. مترجم في «سير أعلام النبلاء» (4/ 110:36).
(4)
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (130)، وقال الألباني في «صحيح الأدب المفرد» (97):«حسن الإسناد» .
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَا لأَستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك» . فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]، وأنزل في أبي طالب:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
(1)
وهكذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وفيًّا شاكرًا لعمِّه في حياته وبعد موته، ولم يحمله موته على الكفر على نسيان جميله، والتنكُّر لإحسانه، بل توسَّل إلى ربِّه عز وجل للشفاعة له، شفاعةً خاصَّةً ليست إلا لَهُ، وهي تخفيف عذابه في جهنَّم، كما جاء في حديث العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه أنَّه قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمِّكَ؛ فإنه كان يَحُوطكَ ويغضبُ لك؟ قال: «هو في ضَحْضَاحٍ مِن نارٍ، ولولا أنَا لكان في الدَّرْك الأَسْفَلِ منَ النَّار» .
(2)
وبعد موت أبي طالبٍ فَقَدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المجيرَ والنَّصيرَ في مكَّة، فخرج إلى الطَّائف، فقابله أهلُها بالتَّكذيب والإيذاء، فرجع من الطَّائف، وقد اشتدَّ عليه الأمرُ، وعَظُمَ البلاءُ، ولم يمكنه الدُّخول إلى مكَّة لإيغال أهلها في إيذائه بعد موت أبي طالبٍ، فَبَعَثَ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ ليُجيرَه.
(1)
أخرجه البخاريُّ في «الصحيح» (1360)، ومسلم في «الصحيح» (24) من طريق سعيد بن المسيِّب عن أَبيه: أنَّه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءَه رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكر الحديث.
(2)
أخرجه البخاريُّ في «الصحيح» (3883 و 6208 و 6572)، ومسلم في «الصحيح» (209). وورد من حديث ابنه عبد الله بن عباس: أخرجه مسلمٌ (212). ومن حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ: أخرجه البخاريُّ (3885 و 6564)، ومسلم (210).
والضَّحضاحُ: في الأصل ما رقَّ من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين، فاستعاره للنَّار. قالَه ابنُ الأثير في «النِّهاية» (مادة: ضحضح).
قال ابنُ هشام
(1)
(2)
ومرَّت السَّنوات، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، وماتَ المطعم بن عديٍّ على شِرْكِه، فرثاهُ شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم: حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، مسجِّلاً بشعره مواقفه النَّبيلة لتذكرها الأجيالُ قرنًا بعد قرنٍ، فقال أبياتًا منها:
أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيِّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي
…
بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدَّمَا
وَبَكِّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا
…
عَلَى النَّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلَّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الدَّهْرَ وَاحِدًا
…
مِنْ النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا
أَجَرْتَ رَسُولَ اللهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا
…
عَبِيدَك مَا لَبَّى مُهِلٌّ وَأَحْرَمَا
فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدٌّ بِأَسْرِهَا
…
وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيِّةِ جُرْهُمَا
لَقَالُوا هُوَ الْمُوفِي بِخُفْرَةِ جَارِهِ
…
وَذِمَّتِهِ يَوْمًا إذَا مَا تَذَمَّمَا
فَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ
…
عَلَى مِثْلِهِ فِيهِمْ أَعَزُّ وَأَعْظَمَا
(1)
أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري (ت: 213/ 828): مؤرِّخ، كان عالمًا بالأنساب واللغة وأخبار العرب، ولد ونشأ في البصرة، وتوفي بمصر. أشهر كتبه «السيرة النبوية» المعروف بسيرة ابن هشام، هذَّب فيه سيرة ابن إسحاق. مترجم في «سير أعلام النبلاء» (10/ 428:131).
(2)
«السيرة النبوية» 1/ 381، وقصة دخول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي متفق عليها بين أهل السير والتاريخ.
وَآبَى إذَا يَأْبَى، وَأَلْيَنَ شِيمَةً
…
وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
(1)
ثُمَّ كانت غزوةُ بدرٍ الكبرى في السنة الثانية من الهجرة (624 م)، وهي يومُ العزَّة والنَّصر، يومُ الفرقان، حيث مكَّنَ الله تعالى أولياءَه من رؤوس الكفر وطواغيته، فقُتل منهم مَن قُتل، وأُسر منهم مَن أُسر، وجيء بهم إلى عبدِ الله ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم، فنظر إليهم نظرةً، واستحضر جرائمهم في مكَّة في حقِّ الدعوة وفي حقِّه صلى الله عليه وسلم وحقِّ أصحابه رضي الله عنهم؛ استحضر ما كانوا يتسلَّطون به عليه من الأذى الماديِّ والمعنويِّ، ولكن لم يحمله ذلك كلُّه على الانتقام، ولم تجد نشوةُ النَّصر إلى قلبه الطَّاهر النَّقي سبيلاً، بل استحضر ـ وهو في حال القوَّة والغَلَبَة ـ موقفَ المطعم بن عديٍّ، فقال سيِّدُ الأوفياء والشُّرفاء صلى الله عليه وسلم في أولئك الأسرى:«لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى؛ لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» .
(2)
وهذا غاية ما يكون من الوفاء والإحسان، وحفظ الجميل، وكرم النَّفس، وعلو الهمَّة، فأين نحن من أخلاق نبيِّنا الكريم صلوات ربِّي وسلامه عليه؟ اللهم غفرانك!
(1)
«السيرة النبويَّة» لابن هشام 1/ 380.
(2)
أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 80:16733)، والبخاري في «الصحيح» (3139 و 4024)، وأبو داود في «السنن» (2689) من حديث جُبَيْر بن مُطعم بن عديٍّ رضي الله عنه.