الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأثر التاسع:
أنَّ المسلمَ المقيمَ في بلاد الكفَّار ينبغي عليه أَنْ يُعاملهم بالحسنَى ويَدْعُوَهم إلى الإسلام، ويتألَّفَهم بموافقتهم في غيرِ ما حرَّمه الله تعالى
، ولا يرتكبَ ما يحملهم على النُّفْرة من الدِّين الحقِّ، ولا يُثيرَهم بتصرُّفٍ يحملُهُم على إيذائه والإضرارِ به
إنَّ أول ما يجب على المسلم المقيم في بلاد الكفَّار أن يعلمَ أنَّه في ساحة الدعوة والتبليغ، لا في ميدان الحرب والقتال، وفرقٌ كبير بين الحالين، وهو فرقٌ واقعيٌّ مؤثِّرٌ في الأحكام الشرعية، إذ لكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ حالٍ أحكامُها المتعلِّقة بها، فمن لم يدرك هذا، ولم يتصرَّف بمقتضاه؛ فقد خرج في هذا عن حدود الشَّرع والفطرة والعقل.
فالواجب في مقام الدَّعوة إلى الله تعالى بذل الجهد في تبليغ دين الله تعالى بالحجة والبرهان، وبالرِّفق والإحسان، وحُسْن الخطاب، والحرص على هداية المخالفين وإرشادهم إلى الدِّين الحقِّ، والصَّبر الجميل على أذاهم، ومقابلة إساءتهم بالعفو والصَّفح والسَّماحة والدُّعاء لهم بالهداية والإصلاح.
هكذا كانت سنةُ المرسلين عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، وبها أمر الله تعالى خاتَمَهم وإمامَهم محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقام في قومه والنَّاس جميعًا بخير ما قامَ نبيٌّ في قومه من الدَّعوة والبيان والرِّفق والرَّحمة والإحسان.
قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85].
وقال سبحانه: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 88 - 89].
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
وقال جلَّ ذِكْرُه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
ونهى الله تعالى المؤمنين عن سبِّ آلهة المشركين الباطلة ممَّا يثير حميَّتهم وعصبيَّتهم فيحملهم على سبِّ الإله الحقِّ، فقال عز وجل:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وقد اشتدَّت عداوة المشركين في مكَّة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوغلوا في إيذائه والتضييق على دعوته، وتعذيب أصحابه، فأرسل الله تعالى إليه مَلَكَ الجبال فقال له: يا محمدُ! إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا مَلَكُ الجبال، وقد بعثني ربُّك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئتَ؟ إِنْ شئتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهم الأخشبَيْن
(1)
؟ فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بل أَرجُو أنْ يُخرِجَ الله مِنْ أصلابِهم مَن يعبُدُ الله وحدَه لا يشركُ به شيئًا» .
(2)
وقال عبدُ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: كأنِّي أَنظرُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضرَبَه قومُه فأَدموه، وهو يمسح الدَّمَ عن وجهه، ويقول:«اللَّهمَّ اغْفِرْ لقومي، فإنَّهم لا يعلمون» .
(3)
(1)
الأخشبان: جبلا مكَّة، أبو قُبَيس، والذي يقابله.
(2)
أخرجه البخاري في «الصحيح» (3231)، ومسلم في «الصحيح» (1795)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه البخاري في «الصحيح» (3477)، ومسلم في «الصحيح» (1792).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قيل: يا رسولَ الله ادْعُ على المشركين! فقال: «إِنِّي لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنَّما بُعثْتُ رَحْمَةً» .
(1)
وقد ذهب بعضُ العلماء إلى أنَّ هذه الآيات والأحاديث ـ ومثيلاتها في الأمر بحسن الدَّعوة والمجادلة وبالصَّبر والصَّفح والعفو ـ منسوخة بآيات الأمر بالقتال. والصَّحيحُ الذي عليه المحقِّقون من العلماء أنَّها غير منسوخةٍ
(2)
، وأنَّ لكلٍّ من الحكمين سببَه وموضعَه ومناسبته.
ولا تكون الدَّعوة بالحسنى إلا بالإحسان إليهم، والبرِّ بهم، ومصاحبتهم بالمعروف، وتألُّفِ قلوبهم وَلَوْ بالموافقة في الأَنْماطِ العامَّة للحياة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وفي العلاقات الإنسانيَّة في الدِّراسة والعمل والصِّناعة، وفي الآداب الاجتماعية في التقيُّد بالمواعيد، والاهتمام بالنَّظافة، والانضباط بالنِّظام العام وقواعد النَّشاط الاجتماعيِّ، وسائر ما تتحقَّق فيه المصلحة، ويُجلب به الخيرُ.
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية النميريُّ رحمه الله: «إنَّ المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدِّين وعلوُّه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصَّغَار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تُشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدِّين، وظهر وعلا؛ شرع ذلك. ومثل ذلك اليوم: لو أنَّ المسلم بدار حربٍ، أو دار كفرٍ غيرِ حربٍ؛ لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظَّاهر، لما عليه في ذلك من الضَّرر، بل قد يستحبُّ للرَّجُل ـ أو يجب عليه ـ أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظَّاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدِّين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن
(1)
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (321)، ومسلم في «الصحيح» (2599).
(2)
انظر: «الصارم المسلول» لابن تيمية (2/ 413)، و «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (2/ 42)، و «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي (3/ 57).
المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصَّالحة».
(1)
والضَّابط الكليُّ لمسألة الموافقة في الهدي الظَّاهر وسائر ما ذكرناه: هو أن لا تؤدِّيَ تلك الموافقةُ بالمسلم إلى: «ترك مأمور» ، أو:«فعل محظور» ، فلا يجوز للمسلم تألُّفهم ولا مداراتهم بارتكاب ما يخالف أحكام الإسلام بوجهٍ من الوجوه، سواء في باب الاعتقاد القلبيِّ، أو في باب القول، أو في باب الفعل: إتيانًا أو تركًا.
وقد مكث النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثَ عشرةَ سنة بعد البعثة؛ يدعو أهلها المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده، فلم يستجب له من أهلها إلا الأقلُّون، ومع ذلك فقد كان يخالطهم، ويحضر مجالسهم، ويعاملهم بالبيع والشراء والقرض والرَّهن والوديعة وغيرها، ويوافقهم في المأكل والملبس والمسكن؛ ولا يخالفهم إلا فيما يوجبه عليه التَّوحيد لله تعالى، والانقيادُ لشرعه سبحانه، والتعظيم لدينه وأمره ونهيه. و
كان صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي وورود التَّشريع لا يخالفهم إلا فيما تأباه فطرتُه السَّليمة القويمة، ويرفضه عقلُه الصَّحيح، وتنفر منه نفسه الطيِّبة الزكيِّة؛ فقد حفظ الله سبحانه تعالى نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم مِن قبائح الجاهلية وموبقاتِها وأدرانِها.
وكان المشركون ليقينهم ـ في قرارة أنفسهم ـ بصدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته ونُبُل أخلاقه يودعون عنده أماناتِهم، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظًّا غليظًا، ولا مستكبرًا عنيدًا، بل كان صلى الله عليه وسلم ليِّن الجانبِ، رقيقَ القَلْبِ، كريمَ الخُلُقِ، نقيَّ الطَّبْعِ، رفيقًا رحيمًا في أموره كلِّها، وبذلك وصفه ربُّه بقوله سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقوله عزَّ شأنه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46].
(1)
«اقتضاء الصراط المستقيم» ط: الفقي، (ص 177)، وط: العقل (1/ 471).
وهكذا كانت صفته صلى الله عليه وسلم في «التوراة» : «يا أيها النبيُّ إنَّا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا، وحِرْزًا للأُميِّين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتُك المتوكِّلَ، ليس بفَظٍّ، ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ بالأسواق، ولا يدفع السيئةَ بالسيئةِ، ولكن يعفو ويصفحُ، ولن يقبضه الله حتَّى يُقيم به الملَّة العوجاءَ، بأنْ يقولوا: «لا إله إلا الله» فيفتح بها أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا».
(1)
وقد كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأسوةَ والقدوةَ في الصَّبر على الأذى، والدَّفع بالتي هي أحسن، وسيرته الشريفة زاخرة بالأمثلة الكثيرة، أكتفي منها بمثالٍ واحدٍ:
(1)
أخرجه البخاري (2125) و (4838)، من نقل الصحابيِّ الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن التوراة.
«وحِرزًا» أي: حافظًا، والمعنَى: حافظًا لدين الأميين، وهم: العرب، لأنَّ الكتابة كانت عندهم قليلة.
«سميتك المتوكل» يعني: لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله تعالى في الرزق والنصر والصبر على انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق واليقين بتمام وعد الله، فتوكَّل عليه فسمِّيَ المتوكِّل.
«ليس بفظٍّ» أي: سيء الخلق.
«ولا غليظ» أي: شديد في القول.
«ولا سخَّاب» من السَّخب، بالسين لغةٌ في الصَّخب: كثير اللَّغَط والجَلَبَة.
«ولا يدفع بالسيئة السيئةَ» أي: لا يسيء إلى من أساء إليه، على سبيل المجازاة المباحة ما لم تنتهك حرمةُ الله تعالى، لكن يأخذ بالفضل.
«حتَّى يقيم به» أي: حتى ينفيَ به الشرك ويثبت التوحيد عن «الملة العوجاء» وهي ملَّة العرب، ووصفها بالعوج لما دخل فيها من عبادة الأصنام وتغييرهم ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن استقامتها، وإمالتهم بعد قوامها.
«وقلوبًا غُلفًا» الغُلفُ: كلُّ شيءٍ في غلافٍ. فالقلب الأغلف لا يعي، لعدم فهمه، كأنه حجب عن الفهم كما يحجب السكين ونحوه بالغلاف.
انظر: «فتح الباري» (4/ 433 و 8/ 744)، و «عمدة القاري» (11/ 244).
عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ اليهودَ أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّامُ عليكَ؟ قال: «وعليكم» . فقالت عائشةُ: السَّامُ عليكم، ولعنَكُم الله، وغضب عليكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَهْلاً يا عائشةُ! عليكِ بالرِّفقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ أو الفُحْشَ» . قالت: أَوَلَمْ تسمع ما قالوا؟ قال: «أَوَلَم تسمعي ما قلتُ، رددتُ عليهم؛ فيستجابُ لي فيهم، ولا يُستجاب لهم فِيَّ» .
(1)
ففي هذا الحديث أدبٌ نبويٌّ كريم في الردِّ على من أساء في السلام عليه حقدًا منه وحسدًا، فأرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الاكتفاء في الجواب بكلمة «وعليكم!» ، فيرتدُّ على القائل ما أراد الإساءة به.
قال ابن بطال القرطبيُّ رحمه الله: «في الحديث أدب عظيم من أدب الإسلام، وحضٌّ على الرفق بالجاهل والصفح والإغضاء عنه؛ لأنَّ الرسولَ عليه السلام تركَ مقابلةَ اليهود بمثل قولهم، ونَهَى عائشةَ عن الإغلاظ في ردِّها، وقال: مهلاً يا عائشةُ! إنَّ الله يحبُّ الرِّفقَ في جميع الأمور؛ لعموم قوله: «إنَّ الله يحبُّ الرِّفقَ في الأمر كلِّه»
(2)
، وإن كان الانتصارُ بمثل ما قوبل به المرء جائزًا، لقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]، فالصبر أعظم أجرًا وأعلَى درجةً لقوله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، والصَّبْرُ أخلاقُ النبيين والصالحين، فيجبُ امتثال طريقتهم والتأسِّي بهم، وقَرْعُ النَّفْسِ عن المغالبة، رجاءَ ثواب الله على ذلك».
(3)
(1)
أخرجه البخاري في «الصحيح» (2935)، وفي «الأدب المفرد» (311). والسَّامُ: الموتُ.
(2)
هذا في لفظ آخر من ألفاظ حديث عائشة المذكور: أخرجه البخاري في «الصحيح» (6024)، وفي «الأدب المفرد» (462)، ومسلم في «الصحيح» (2165).
(3)
«شرح صحيح البخاري» (9/ 226).
أمثلة على الموافقة
وأرى من المفيد أن أذكر هنا ثلاثة أمثلة عمليَّة لمسألة الموافقة في بعض الأمور التي يظنُّ كثيرٌ من المسلمين أنَّها تدخلُ في الموافقة المحرَّمة، وهي عند التحقيق من الأمور المباحة، لعدم تعلُّقها بالخصائص الدينيَّة:
المثال الأول: قبول هدية غير المسلمين في أعيادهم:
فقد صحَّ عن الخليفة الراشد عليِّ بن أبي طالبٍ، وعن غيره؛ أنَّهم قبلوا هديَّة المجوس بمناسبة عيدهم:
عن محمد بن سيرين قال: أُتيَ عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه بهديَّة النَّيْرُوز، فقال: ما هذه؟ قالوا: يا أميرَ المؤمنين! هذا يوم النَّيروز. قال: فاصنعوا كلَّ يومٍ فيروزَ
(1)
.
وعن أبِي برزةَ: أنَّه كانَ له سُكَّانٌ مجوسٌ، فكانوا يُهدُون له في النَّيْروز،
(1)
أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (9/ 234)؛ من طريق الحافظِ الثقةِ أبي أسامة حماد بن أسامة الكوفي، عن حماد بن زيد، عن هشام بن حسان الأزدي، عن محمد بن سيرين، فذكره.
وإسناده صحيح جدًّا، رجاله ثقات، معروفون.
وأخرجه أبو عبيد في «الأموال» (674)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (42/ 477 - 478)، بإسنادٍ آخرَ.
وقوله: «فاصنعوا كلَّ يوم فيروز» هكذا ورد، فعلَّق عليه أبو أسامة بقوله:«كره أن يقول: نيروز» . وقال البيهقيُّ: وفي هذا كالكراهة لتخصيص يومٍ بذلك لم يجعله الشرع مخصوصًا به.
قلت: نيروز، أو نوروز ـ بالفارسيَّة ـ، ومعناها: اليوم الجديد ـ: هو أول يوم من أيام السنة الشمسية الإيرانية، يكون في أول فصل الربيع من كل سنة في الحادي والعشرين من شهر آذار/مارس من السنة الميلادية، وهو أكبر الأعياد القوميَّة للفرس المجوس. انظر:«المعجم الوسيط» (مادة: نوروز).
والمِهْرجان
(1)
، فكان يقول لأهله: ما كان من فاكهةٍ فكُلُوه، وما كان مِنْ غير ذلك فردُّوه.
(2)
وعن أبي ظَبْيانَ حصين بن جندب الجنَبِيِّ: أنَّ امرأةً سألت عائشةَ رضي الله عنها، قالت: إنَّ لنا أَظآرًا
(3)
من المجوس، وإنَّه يكون لهم العيدُ فيهدون لنا، فقالت: أمَّا ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكنْ كلُوا من أَشجارهم.
(4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فهذا كلُّه يدلُّ على أنَّه لا تأثيرَ للعيد في المنع من قبول هديَّتهم، بل حكمُها في العيد وغيره سواء، لأنَّه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم، لكنَّ قبولَ هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمَّة مسألةٌ مستقلةٌ بنفسها فيها خلافٌ وتفصيلٌ ـ ليس هذا موضعه ـ، وإنَّما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم ـ بابتياعٍ أو هديةٍ أو غير ذلك ـ مما لم يذبحوه للعيد، فأما ذبائح المجوس فالحكم فيها معلومٌ فإنَّها حرامٌ عند العامَّة
(5)
. وأما ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم، وما يتقرَّبون بذبحه إلى غير الله، نظير ما يذبح المسلمون هداياهم وضحاياهم متقربين بها إلى الله تعالى، وذلك مثل ما يذبحون للمسيح والزهرة؛ فعن أحمد فيها روايتان،
(1)
المهرجان عيدٌ آخر من أعياد الفرس، وهو احتفال الاعتدال الخريفي، والمهرجان كلمة فارسية مركبة من كلمتين الأولى «مهر» ومن معانيها الشمس، والثانية «جان» ومن معانيها الحياة أو الروح. «المعجم الوسيط» (مادة: المهرجان). وراجع عن النيروز والمهرجان: «نهاية الأرب في فنون الأدب» (1/ 185).
(2)
أخرجه أبو بكر ابن أبي شيبة في «المصنف» (24857 و 33342)، ولا بأس بإسناده. وأبو برزة هو نضلة بن عبيد الأسلمي، صحابيٌّ معروف، رضي الله عنه.
(3)
أظآر جمع ظئر: وهي المرضعة لغير ولدها، ويطلق على زوجها أيضًا. «المعجم الوسيط» (مادة: ظئر).
(4)
أخرجه أبو بكر ابن أبي شيبة في «المصنف» (24856 و 33341). وإسناده حسنٌ.
(5)
يعني: عامة أهل العلم، لأنَّهم لا يعدُّون المجوسَ من أهل الكتاب الذين أحلَّ الله تعالى لنا نساءهم وذبائحهم.
أشهرهما في نصوصه: أنه لا يباح أكله، وإن لم يسمَّ عليه غير الله تعالى. ونقل النهي عن ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر»
(1)
.
المثال الثاني: حَسْرُ الرأس للرِّجال:
فمن المعلوم أنَّ تغطية الرأس بالعمامة أو غيرها من عُرف المسلمين في بعض البلدان، أما غير المسلمين فالغالب عليهم عدم تغطية الرأس، فلا بأس لمن أقام من المسلمين بينهم أن يوافقهم في ذلك، وإن كانت عادة قومه في بلده الأصلي التغطية، ذلك لأنَّ ستر الرأس ليس من السُّنن التعبُّديَّة لا في أثناء الصلاة ولا في خارجها.
سُئل العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن إمامٍ يصلي بالنَّاس وليس على رأسه غطاءٌ؛ فما الحكم في هذا؟ فأجاب رحمه الله: «لا حرَجَ في ذلك؛ لأنَّ الرأسَ ليس من العورة، وإنَّما الواجب أن يصلي بالإزار والرِّداء؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا يصلِّي أحدُكم في الثَّوب الواحدِ ليس على عاتِقَيْه منه شيءٌ» .
(2)
لكن إذا أخذ زينته، واستكمل لباسَه؛ كان ذلك أفضل، لقول الله جل وعلا:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، أمَّا إِنْ كان في بلادٍ ليسَ من عادتِهم تغطيةُ الرَّأس؛ فلا بأسَ عليه في كشفه».
(3)
وقال العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: «إذا طبَّقنا هذه المسألةَ على قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ تبيَّن لنا أنَّ ستر الرَّأس أفضلُ في قومٍ يُعتَبَرُ ستر الرَّأْس عندهم من أخذ الزِّينة،
(1)
«اقتضاء الصراط المستقيم» ط: الفقي 251، وط: العقل 1/ 514.
(2)
أخرجه البخاريُّ في «الصحيح» (359)، ومسلم في «الصحيح» (516) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
«مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز» 10/ 405.
أمَّا إذا كُنَّا في قومٍ لا يُعتبر ذلك من أخذ الزِّينة، فإنَّا لا نقول: إنَّ ستره أفضلُ، ولا إنَّ كشفه أفضل».
(1)
فبيَّن هذان العالمان الجليلان ـ رحمهما الله تعالى ـ أنَّ تغطية الرَّأس من عادات المسلمين التي تختلف من بلدٍ إلى آخر، فكيف إذا كان المسلمُ في بلدٍ لغير المسلمين؟ لا شكَّ أنَّ الحرجَ مرفوعٌ عنه في موافقته لأهل البلد في هذه المسألة، وهو إلى ذلك موافقٌ لإحدَى الطائفتين من المسلمين.
وهذه المسألة تخفَى على كثيرٍ من طلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى في بلاد الغرب ـ بَلْهَ غيرهم ـ، وربَّما شدَّد فيها بعضُهم فوقعَ في حرجٍ شديدٍ، واطَّلعنا من ذلك في واقع الشَّباب الملتزم، المحبِّ لدينه ـ من غير فقهٍ ـ على أمورٍ عجيبةٍ، والله المستعان.
المثال الثالث: لُبس البنطلون (البنطلون) والمعطف (الجاكيت) وغيرهما من الألبسة للرِّجال؛ إنْ استوفتْ الشروطَ الشرعيَّة لستر العورة:
وقد أفتَى بجواز ذلك جماعة من كبار العلماء في هذا العصر، فقالوا: «الأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ لأنه من أمور العادات، قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]، ويُستثنَى من ذلك ما دلَّ الدَّليل الشرعيُّ على تحريمه أو كراهته كالحرير للرِّجال، والذي يصف العورةَ لكونه شفَّافًا يُرَى من ورائه لونُ الجلد، أو ككونه ضيِّقًا يحدِّد العورةَ، لأنَّه حينئذٍ في حكم كشفها، وكشفُها لا يجوزُ، وكالملابس التي هي من سِيمَا الكفَّار الخاصَّة بهم، فلا يجوز لبسها لا للرِّجال ولا للنِّساء، لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن التشبُّه بهم، وكلبس الرِّجال ملابسَ النساء، ولبس النِّساء ملابس الرِّجال، لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن تشبُّه الرِّجال بالنِّساء والنِّساء بالرِّجال. ولَيْسَ اللِّباس المسمَّى بالبنطلون
(1)
«الشرح الممتع على زاد المستقنع» 2/ 166.
مِمَّا يختصُّ بالكفار، بل هو لباسٌ عامٌّ في المسلمين والكافرين في كثيرٍ من البلاد والدُّول، وإنَّما تنفر النُّفوس من لبس ذلك في بعض البلاد لعدم الإِلْفِ، ومخالفة عادة سكَّانها في اللِّباس، وإن كان ذلك موافقًا لعادة غيرهم من المسلمين. لكن الأَولى بالمسلم إذا كان في بلدٍ لم يعتدْ أهلُها ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة، ولا في المجامع العامة، ولا في الطرقات».
(1)
(2)
وجميع ما ذكرناه في هذا المبحث: متعلِّق بالموافقة في الحال الراتبة المستقرة، أما حال الإكراه والضرورة الملجئة، وخوف الأذى، والموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فلها أحكامها التفصيلية الخاصة، وهي مقرَّرة في كتب الأصول والفقه، والفتوى في الواقعة المعيَّنة منوطٌ بأهل العلم الثقات، المعروفين بسلامة المعتقد، وصحة الأصول، وتعظيم الكتاب والسنة، والبراءة من الترخص والتشدد على حدٍّ سواء، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
«فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» (24/ 38) الفتوى رقم: (1620)، وهي بتوقيع العلماء: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله بن قعود، وعبد الله بن غديَّان؛ رحمهم الله تعالى.
(2)
«فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» (24/ 40) الفتوى رقم: (4257)، وهي بتوقيع العلماء المذكورين في الفتوى السابقة.