الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلِّف
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أَن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، إلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالمين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(1)
أما بعدُ: فإنَّ الله عز وجل قد أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم بالدِّين الحقِّ، وقضَى بحكمته ورحمته أن يختم به أنبياءَه ورسله، ويتكفَّل بحفظ كتابه الذي أنزله عليه، ويُكمِّل بشريعته الشرائعَ السابقة، فهي مصدِّقةٌ لها، ومهيمنةٌ عليها، صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وعامَّةٌ للناس جميعًا ما بقيتْ على هذه الأرض حياةٌ.
ومن كمال الشَّريعة اشتمالُها على كلِّ ما فيه هدايةُ النَّاس واستقامَتُهم وتوفيقُهم وسعادتُهم في الحياة الدنيا، وفوزُهم ونجاتُهم في الحياة الأُخرَى، ففيها بيانُ الاعتقاد الصَّحيح في الله تعالى وأسمائه وصفاته، وما أمرهم به من عبادته وطاعته والإحسان إلى خَلْقِه، وما نهاهم عنه مِنَ الشِّرك والظُّلم والفواحش وسائر المحرَّمات، وما أرشدهم إليه من الأخلاق الفاضلة، والآداب الرَّفيعة، والسلوك القويم؛ الذي فيه صلاح الفرد والمجتمع.
فالشريعةُ جامعةٌ لكلِّ ما فيه إصلاحُ علاقة العبد بربِّه، وعلاقته بغيره، وأوَّلُ ذلك وأعلاه: توحيدُ الله تعالى بالعبادة، فلا يتَّخِذُ من دونه الأندادَ، ولا يُشرِكُ به أحدًا، وهو حقُّ الله تعالى عليه، فإن أدَّاهُ فأوَّل ما يأمره الله تعالى به، ويسأله عنه: حقوق العباد، لهذا نهاه عن ظلمهم والاعتداء عليهم، وذلك ـ أيضًا ـ وصيَّة الله تعالى للنَّاس أجمعين، كما قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام].
فهذه أهمُّ المحرَّماتِ التي جاءتْ بها الشريعةُ، وهي تتضمَّنُ الأمرَ بأضدادها مما يُحبِّهُ الله ويرضاه، فالنَّهيُ عن الشرك أَمْرٌ بالتوحيد، والنَّهيُ عن عقوق الوالدين أَمْرٌ بالإحسان إليهما، والنَّهيُ عن القتل أمرٌ بحفظ الحياة البشرية، وهكذا في سائر المحرمات.
وقد تكرَّرت هذه الأحكام في مواضعَ من القرآن الكريم؛ إمَّا بصيغة الأمر بالواجبات، وإما بصيغة النَّهي عن المحرَّمات، ووردتْ بسياقٍ قريبٍ وببعض الزِّيادة في سورة الإسراء (23 - 39)، وهي مصدِّقة للأحكام التي وردتْ في «التَّوراة» ، واشتهرت باسم:«الوصايا العشر» ، وهذه هي كما وردت في «سفر الخروج» (20/ 3 - 17)، وفي «سفر التَّثْنية» (5/ 6 - 21) ـ باستثناء تعظيم يوم السَّبْتِ ودعوى أنَّه يومُ الرَّاحة لأنَّ الله تعالى استراح فيه، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا ـ:
1 -
«لا يَكُنْ لكَ آلهةٌ أُخرَى أمامي» .
2 -
3 -
«لا تَنْطِقْ باسم الرَّبِّ إلهكَ باطلاً، لأنَّ الربَّ لا يُبْرِئُ من نطقَ باسمه باطلاً» .
4 -
«أَكْرِمْ أباكَ وأُمَّكَ لكي تطولَ أيَّامُكَ على الأرض التي يُعطيكَ الربُّ إلهك» .
5 -
«لا تقتلْ» .
6 -
«لا تزنِ» .
7 -
«لا تسرقْ» .
8 -
9 -
«لا تَشْتَهِ بيتَ قريبكَ، ولا امرأتَه، ولا عَبْدَه، ولا أمَتَه، ولا ثَوْرَه، ولا حماره» .
إذن هذا هو المفهوم العامُّ لشريعة الله ووصاياه، فهو يشمل كلَّ ما شرعه الله تعالى ووصَّى به عباده من العقائد والعبادات والأحكام التي تنظِّمُ علاقةَ الإنسان بربِّه، وجميعَ تصرُّفاته في نفسه ومع غيره، في شؤون الحياة كلها. ويشملُ ـ أيضًا ـ كلَّ ما أوصاه الله تعالى بتَرْكِهِ واجتنابِهِ.
وتُطلق «الشريعةُ» على بعض ما تدلُّ عليه، وهو الأحكام العمليَّة من الأوامر والنَّواهي، وهي بهذا الإطلاق قسيمٌ لما يتعلَّق بالجانب الاعتقاديِّ، وبهما جِماعُ أَمْرِ الدِّين، لهذا يقال:«العقيدة والشريعة» ، ويقال:«العلم والعمل» ، ويقال:«التوحيد والفقه» ، ونحو ذلك من العبارات التي يراد بها
التَّمييزُ بين الجانب الاعتقاديِّ والجانب العمَلِيِّ من الدِّين، وإن كان الجانبان متلازمَيْن متداخلَيْن، لا يقومُ الدِّينُ بأحدهما دونَ الآخر.
وجاءتِ الشريعةُ بهذا المعنى الخاصِّ في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]؛ فالمقصود في هذه الآية الشَّرائعُ دونَ العقائد، لأنَّ العقيدةَ واحدةٌ في كلِّ أُمَّةٍ، وعلى لسانِ كلِّ نبيٍّ ورسولٍ، وأساسُها: التوحيدُ والإِخلاصُ لله وحده، وهو الدِّينُ الواحدُ الذي لا يُقبل غيرُه، أما الأحكامُ الشَّرعيَّةُ العمليَّةُ فأصولُها واحدةٌ، لكنَّها تختلف في تفاصيلها وجزئيَّاتِها بما يناسبُ كلَّ أمَّةٍ.
ومما تقدَّم يظهر لنا أنَّ «الشريعةَ» تتضمَّن ـ سواء أطلقت بمعناها العامِّ أو بمعناها الخاصِّ ـ كلَّ ما يتعلق بالعبادات، وبالمعاملات مثل أحكام البيوع والشركة والإجارة والقَرْض والرَّهن والهبة والوكالة وغيرها، وبما يسمَّى بالأحوال الشخصيَّة مثل النِّكاح والطلاق والحضانة والوصايا والمواريث وغيرها، وبأحكام السِّلْم والحرب، وبالعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وكذلك تشمل الأخلاق والسلوك والآداب الاجتماعية. وهذه الأحكام ـ وغيرُها كثيرٌ ـ مقرَّرةٌ في كتب التفسير والحديث والفقه والآداب الشرعية وغيرها من كتب الإسلام.
ورغم وضوح هذا كلِّه؛ فإنَّ من المؤسف أن مفهوم: «الشريعة» قد أصابه في هذا العصر كثير من التَّقْزِيم والتَّحْجِيم، فأصبحَ في أذهان كثيرٍ من النَّاس قاصرًا على أحكام:«القصاص والحدود والعقوبات» التي هي جزءٌ يسيرٌ من تلك الأحكام الشَّاملة والواسعة التي تتضمَّنُها الشريعةُ الإسلامية. وكان للحركاتِ الإسلاميَّةِ أثرٌ سيِّءٌ في ترسيخ هذا المفهوم الجزئيِّ للشَّريعة، حيث اتَّخذته شعارًا للتغيير السياسيِّ، وتجاهلتِ الجوانبَ الأُخرَى من الشريعة، وهي أكثرُ أهميَّةً، وأعظمُ أثرًا، والانحراف فيها أشدُّ وأخطرُ، خاصَّةً ما يتعلَّق بتحقيق إفراد الله تعالى بالعبادة، حيثُ ينتشر في العالم الإسلامي أسوأُ
الممارسات الشركيَّة من دعاء الأمواتِ وتعظيمِ قبورهم، والبناءِ عليها، وشدِّ الرِّحال إليها، والطَّواف والسُّجود إليها، والذَّبحِ لها، إلى جانب الانحرافات الخطيرة في أصول الدِّين والاعتقاد، وكذلك الإخلالُ بكثير من العبادات ـ خاصَّةً الصَّلاة التي هي أهمُّ أركان الدِّين العملية ـ، وارتكاب المحرَّمات، وسوء الأخلاق، والبعد عن الممارسة الصحيحة لأحكام الدِّين وآدابه في واقع الحياة. لهذا أخفقت أكثر الحركات الإسلامية في مشروعها المبنيِّ على هذا الفهم الجزئيِّ، وانتهى ببعضها إلى العُنْفِ والإرهاب، وببعضها الآخر إلى التَّخَلِّي عن المطالبة بتنفيذ أحكام الشريعة والاتجاه إلى ممارسة اللعبة الدِّيمقراطيَّة من خلال عرض الإسلام كمرجعيَّةٍ فكريَّةٍ مجمَلَةٍ. وكان لوسائل الإعلام ـ أيضًا ـ تأثيرٌ في تنمية هذا المفهوم السيِّئ من خلال استغلال صنائع تلك الحركات الإسلامية، حتَّى صار مفهوم الشريعة في ذِهْنِ أكثر النَّاس ـ خاصَّةً في العالم الغربيِّ ـ لا يتجاوزُ أحكام العقوبات؛ كقطع يد السَّارق وجلد الزَّاني أو شارب الخمر، وأحكام حجاب المرأة، ونحو ذلك!
(2)
لقد سألني مرَّةً مثقَّفٌ سويديٌّ عن مدى تأييدي لتنفيذ أحكام الشريعة؟ فقلتُ له: إنَّ الشريعةَ بالمفهوم الذي تقصِدُه ـ أي: أحكام القصاص والحدود ـ لا يجوز العمل بها ـ حسَبَ حُكْمِ الشريعة نفسِها ـ إلا في بلاد المسلمين، ولا يجوزُ تنفيذُها ـ حسب حكم الشريعة أيضًا ـ إلا مِنْ قِبَلِ وَلِيِّ الأَمْرِ الذي له نفوذٌ وسلطانٌ وجهازٌ قضائيٌّ، وبالتالي فإنَّني أؤيِّدُ تنفيذَ أحكامِ الشريعة في ضوء انتمائي للدَّولة والمجتمع اللَّذَينِ يتمتَّعان بالخصوصيَّة الدينيَّة عقيدةً وشريعةً، وهذه قضيَّةٌ داخليَّةٌ تمسُّ سيادةَ الدَّولةِ واستقلالَها، وليسَ من حقِّ الدُّول أو الجهاتِ الخارجيَّةِ التدخُّلُ فيها.
واسترسلتُ قائلاً: لكنَّ هذا المفهومَ الذي تحملُه عن الشريعة؛ مفهومٌ قاصرٌ وناقصٌ، وهو لذلك يحملك على نظرةٍ خاطئةٍ إليها، تنتهي بخوفٍ
لا مسوِّغ له، وبأحكامٍ جائرةٍ، خاصَّةً عندما يتعلَّقُ الأمرُ بتأييد الشَّريعةِ مِن قِبَلِ مسلمٍ مقيمٍ في الغرب.
فقال لي: فما هو المفهومُ الكاملُ والصَّحيحُ للشَّريعة؟
قلتُ: إنَّ الشريعة هي دينُ الإسلام كلُّه، وأهمُّ أحكامها أصولُ الإيمان، وهي الإيمان بالله تعالى وحدَه لا شريك له، وبأسمائه الحسنَى وصفاته العليا، وأنَّه الربُّ الخالقُ المالكُ المتصرِّفُ، المستحقُّ وحده للعبادة. والعبادةُ هي الغايةُ التي من أجلها خَلَقَ الله تعالى الجنَّ والإنسَ؛ فلا ندعو إلا الله، ولا نستعينُ إلا به، ولا نتوكَّل إلا عليه، ولا نصلي ونسجدُ إلا له وحده. والإيمانُ بملائكة الله تعالى، وبكتبه التي أنزلَها على رُسُله، وبأنبيائه ورُسُلِه أجمعين، وباليوم الآخر والجنَّةِ والنَّارِ، وبقضاء الله تعالى وقَدَرِه.
ومن الشريعة: إقامةُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ البيتِ لمن استطاعَ إليه سبيلاً.
ومن الشريعة: برُّ الوالدين، وصلةُ الأرحام، وكفالةُ الأيتام، ومعونةُ الفقراء، ونُصرَةُ المظلوم، وإغاثةُ الملهوف، وحُسْنُ الجوار، وإكرامُ الضَّيف، والرِّفقُ بالحيوان، وصِدْقُ الحديث، وحُسْنُ العِشْرَةِ، وكرَمُ الأخلاق، والصَّبرُ الجميلُ، والعفوُ والسَّماحةُ، والإحسانُ إلى القريب والبعيد، وإلى المسلم والكافر.
ومن الشريعة: الصِّدْق في المعاملة، وأداءُ الأمانة، والوفاءُ بالعهود والعقود.
ومن الشريعة: تحريمُ الظُّلمِ والبَغْي، والغَدْرِ والخيانةِ، والاعتداءِ على الأنفس والأموال والأعراض، وتعظيمُ أمرِ الدماء، وتحريمُ الزِّنَى والسرقةِ والخمرِ والمخدِّرات، وسائرِ الفواحش والمنكَرات.
فإذا تجلَّى لك هذا المفهومُ الواسعُ والشَّاملُ للشريعة؛ علمتَ أنَّ المسلمَ يستطيعُ الالتزام بأهمِّ أحكامِ الشَّريعة وأكثرِها، والعمل بها، وإن كان مقيمًا في بلدٍ لغير المسلمين، ولا تفوته من الشَّريعة إلا الأحكامُ الخاصَّة بمجتمع المسلمين ودولتهم.
ثم إنَّ في القانون السويديِّ جملةً كبيرةً من الأحكام الموافقة للشريعة؛ مثل احترام النفس البشرية بغضِّ النظر عن الدِّين والجنس والعرق واللَّون؛ فالاعتداء عليها بالقتلِ أو بما دونَهُ جريمةٌ تستلزمُ العقوبةَ، وإيجابِ نفقةِ الأولاد على والدهم تُدفع للأمِّ الحاضنة، ومنعِ البغاءِ والمخدِّراتِ ومنها القاتُ ـ الذي يُستباح في بعض دول المسلمين! ـ، وتكفُّلِ الدولةِ بالتعليم والخدماتِ الصحية، وضمانِها للحدِّ الضروريِّ من المسكن والمأكل والملبس لجميع مواطنيها.
وفي القانون السويديِّ ـ أيضًا ـ جملةٌ كبيرةٌ من الأحكام غير المنافية للشريعة؛ مثل أنظمةِ المرور والأعمالِ والصَّنائعِ، وأغلبِ ما يتعلَّق بتنظيم الحياة المدنيَّة التي تحقِّقُ مصالحَ للفرد والمجتمع، وتعمل على سَيْرُورةِ حركتهما وتطورهما.
وبهذا ندركُ أنَّ «الشريعةَ» هي المنظومةُ الكاملةُ التي تحمل المسلمَ على الاعتقاد الصَّحيح، والعبادة الخالصة لله تعالى وحده، والتزام الحقِّ والعدل والصِّدق والوفاء والرحمة والإحسان في معاملة الخلق، وتوجِّهُهُ إلى الأخلاق الحسنة والسلوك القويم. فكلُّ ما في المسلمين من خيرٍ وحقٍّ وصوابٍ فهو من بركة علمهم بهذه الشريعة وعملهم بها، وكلُّ ما فيهم من شرٍّ وباطلٍ وخطإٍ فهو من شُؤْم جهلهم بهذه الشريعة أو عدم عملهم بها. فلا عجبَ أنْ تَصْدُرَ بين الحينِ والآخر دعواتٌ إلى الاستفادة من الشريعة الإسلامية يُطلقُها بعضُ كبار علماء السياسة والقانون والاقتصاد والاجتماع من غير المسلمين.
(3)
إنَّ هذا البحثَ يهدف إلى بيان جانبٍ من عظمة شريعة الإسلام من خلال استحضار بعض ما ورد فيها من قواعد وأحكام تتعلَّق بدخول المسلم في أمان غير المسلمين.
إنَّ إقامة غير المسلمين في بلاد الإسلام كانت أمرًا شائعًا منذ العهد الأول، أمَّا إقامةُ المسلمين في بلاد غيرهم؛ فكانت حدثًا نادرًا وعارضًا في القرون الماضية وحتَّى عهدٍ قريبٍ، فليس من المستغرب ـ إذَنْ ـ أن تزخر كتبُ الفقه ببحوثٍ مطوَّلةٍ عن أحكام إقامة غير المسلمين في بلاد الإسلام، سواء كانت الإقامة مؤقتةً أو دائمةً، ولكن قد يكون مستغربًا أن تزخر تلك الكتب ببحوث وافية عن أحكام إقامة المسلمين في بلاد غيرهم؛ ولكنَّ هذا الاستغرابَ ينبغي أن يتلاشى بعدَ ما ذكرناه من سَعَةِ الشَّريعة وشمولها وصلاحها لكلِّ زمانٍ ومكانٍ.
ومن هنا فإنَّ هذا البحثَ يهدفُ إلى تعريف المسلم المقيم في بلدٍ لغير المسلمين ببعض الأحكام الشرعيَّة التي يجبُ عليه معرفتُها والالتزامُ بها ومراعاتُها قَدْرَ استطاعته، كما أنَّه يهدف إلى تعريف غير المسلم ببعض ما تضمنته الشريعة السَّمْحَة من أحكام رائعة مبنيَّة على قاعدة الصِّدق والعدل والوفاء والإحسان.
ومن أجل تقديم مادَّة علميَّة موثَّقة؛ فقد حرصتُ على نقل كلام فقهاء الإسلام من الكتب المعتمدة، وذكرت تعريفًا موجزًا بكلِّ واحدٍ منهم، مع ذكر سنة الوفاة بالتاريخين الهجري والميلادي، ليكون لدى القارئ تصوُّرٌ واضحٌ عن صاحب النصِّ وعصره، ويُدركَ أنَّ هذه النصوص صدرتْ عن أشهر علماء الإسلام في وقتٍ كانت دولتهم فيه أعظمَ دول العالم وأقواها، ومع ذلك لم يُخرجهم شعُورهم بالفَخْرِ والعزَّة والغَلَبَة عن موجبات الحقِّ والعدل والرحمة، لأنَّهم كانوا يتقيَّدون في آرائهم بأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية.
لهذا فإنَّ المسلم عندما يتقيَّدُ بهذه الأحكام؛ فإنَّه يتقيَّدُ بها لا لضَعْفِه أو خوفه أو لغرضِ نَيْلِ بعض المكاسبِ، بل لطاعته لربِّه عز وجل والتزامه بشَرعه.
(4)
ولم يكن بخافٍ على الباحث أنَّ الدُّوَلَ الغربيَّةَ اليوم لا تُعامل المسلمين المقيمين على أرضها ـ ولا غيرهم ـ على أساس أنَّهم داخلون معها في عقد الأمان؛ إلا في المدَّة الأولى من إِقامتهم فيها، وهي مدَّة قصيرة يحصل طالب اللجوء بعدها على الإقامة الدائمة، أو على الجنسية الوطنية، وبذلك يصبح مواطنًا؛ له ما للمواطنين الأصليين، وعليه ما عليهم. ومنح اللجوء ثم الإقامة الدائمة والتجنيس؛ كلُّ ذلك لا يخضع لأيِّ اعتبارٍ دينيٍّ، وإنَّما يجري وفق سياقات القوانين المدنيَّة الوضعيَّة. ومع هذا كلِّه يبقى الموقفُ الدينيُّ والأخلاقيُّ من هذه الصُّور واحدًا، وإن اختلف التَّكييف الشرعيُّ والقانونيُّ لتلك الصور حسب ما يتعلق بها من شروط وواجبات وحقوق وآثار، وبعضها أشدُّ من بعض، فالحصول على «الجنسية» بمثابة الدخول في عقد الأمان المؤبَّد، فلا شكَّ أنَّه من أقوى صُوَرِ الأمان وأشدِّها إلزامًا، وأعلَى منه: أن يكون مواطنًا أصليًّا، ثم يُسْلِمُ؛ فلا يزيدُ الإسلام ما كان بينه وبين أهلِ بلده من رحِمٍ وواجباتٍ وحقوقٍ مشروعةٍ إلا ثباتًا ورسوخًا، فالإسلامُ يأمُرُه بأن يكونَ أعظمَ وفاءً لهم، وأكرمَ معاملةً معهم، وأعرفَ بحقوقهم، وأبعدَ عن غدرهم وخيانتهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (2/ 381:8939)، والبخاري في «الأدب المفرد» (273)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال ابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 333): «هذا الحديث يتصل من طرق صحاحٍ عن أبي هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدخل في هذا المعنى: الصلاحُ والخيرُ كلُّه، والدِّينُ، والفضلُ، والمروءةُ، والإحسانُ، والعدلُ، فبذلك بُعِثَ ليتمِّمه صلى الله عليه وسلم» .
ومن نظر في النصوص الكثيرة التي ذكرناها في ثنايا بحثنا هذا؛ سيجد أنَّ الفقهاء يعدُّون عَقْدَ الأمان حكمًا دينيًّا ملزمًا للمسلم، بغضِّ النظر عن كون الطرف الآخر في العقد متديِّنًا بذلك أم لا، وبغضِّ النظر ـ أيضًا ـ عن كونه من أهل الكتاب ـ اليهود أو النَّصارى ـ، أو من المشركين الوثنيِّين.
إنَّ لهذه الرؤية الدِّينيَّة أثرًا بالغًا على سلوك المسلم المتديِّنِ وتصرُّفه وهو يقيم في بلاد المخالفين له في الدِّين، فقد تدفعه الحماسةُ الإيمانيَّة، والمفاصلةُ الدينيَّة إلى استحلالِ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وإلى الاعتقاد بأنَّه غير ملزمٍ بأيِّ ضابطٍ دينيٍّ أو أخلاقيٍّ في التعامل معهم، وبالتالي يجوز له نقض العهود معهم، وغشهم وخيانتهم والغدر بهم كلَّما وجد إلى ذلك سبيلاً! لكنَّه إذا علم بهذه التفاصيل التي قرَّرها العلماء في كتبهم؛ تبيَّن له أنَّ التزامه بشروط الدخول في أمان الكفار واجبٌ شرعيُّ وأخلاقيٌّ، وأنَّ نقضه للعقد القانونيِّ الذي لم يُبنَ على أصل دينيٍّ، ولم يقصد به التعبُّد لله تعالى، أو الموافقة لشرعه؛ هو بالنسبة إليه مخالفةٌ لشرع الله، ومعصيةٌ يحاسبه الله تعالى عليها يوم القيامة؛ وإن استطاع بمكره ودهائه التملُّص من المسؤولية القانونية، أو التخلُّص من العقوبة الجزائية في هذه الحياة الدنيا.
(5)
وأصل هذا البحث محاضرة ألقيتُها في المؤتمر الذي أقامه مركز البحوث الإسلامية في السويد بالتعاون مع مسجد مريم محمد جبر المسلِّم بمدينة أوربرو، في غرَّة محرَّم: 1430 هـ/كانون الثاني 2009 م، تحت شعار:«هكذا علَّم محمد صلى الله عليه وسلم» .
وقد لقيتْ تلك المحاضرة ـ بفضل الله ـ استحسان واهتمام أكثر الحاضرين، وألحَّ عليَّ كثيرٌ منهم في التوسُّع فيها لتخرج في بحث موثَّق، وصرَّح كثيرٌ منهم بأنَّه لم يخطر ببالهم قطُّ أنَّ كتب الأئمة المتقدِّمين يمكن أن تزخر بهذه النصوص الرائعة، ولا سمعوا من يتحدَّث في هذا الموضوع،
رغم شدَّة حاجتهم إلى معرفته والإلمام بأحكامه، بل ذلك من الواجبات الشرعيَّة المتعيِّنة على كلِّ مسلمٍ مقيمٍ في بلاد غير المسلمين، لأنَّ من تلبَّس بأمرٍ وجب عليه ـ باتِّفاق أهل العلم ـ تعلُّم أحكام الله تعالى المتعلِّقة بذلك الأمر.
إنَّ تجنُّبَ كثيرٍ من طلاب العلم والدُّعاة ـ بَلْهَ غيرهم من الجهلة بالشَّريعة المتصدِّرين للدَّعوة! ـ التطرُّقَ إلى هذا الموضوع في دعوتهم وتوجيههم لعامَّة المسلمين ـ رغم توفُّر المادة العلمية في المصادر الفقهية، وفي كتابات المعاصرين في فقه الأقليات المسلمة ـ له أسباب عديدة:
فبعضهم: لا عِلْمَ له بهذه الأحكام أصلاً! فنذكِّر هذا الصِّنفَ بقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وبعضهم: قد عَلِمَ بها، لكنَّه وجدَها مخالِفَةً لأهوائه وانتماءاته الحزبية والحركية؛ فهو لذلك يتجاهلها ويُعْرِضُ عنها، ويخشَى أن يتعلَّمها المسلمون فتفُوته أغراضٌ ومصالحُ! فنُذَكِّرُ هذا الصِّنفَ ـ منبِّهين محذِّرين ـ بمثل قول الحقِّ عز وجل:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النُّور].
وبعضهم: يعلم بها، ويرضى بها بإيمانٍ وخضوعٍ لدين الله تعالى، لكنَّه يُؤثرُ السَّلامةَ، ويلتزمُ الصَّمتَ؛ خشيةَ أَنْ يثورَ عليه الجهلةُ والغوغاءُ! فنذكِّر هذا الصِّنفَ ـ ناصحين مُشْفِقينَ ـ بقول ربِّنَا سبحانه:{أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
أسأل الله تعالى أن يعلِّمنا جميعًا ما ينفعنا، وينفعنا بما علَّمنا، ويجعله حجَّة لنا لا علينا، ويوفِّقنا به إلى العمل الصالح، والخُلُق الحسَن. آمين، آمين. والحمد لله ربِّ العالمين.
غوطبورغ/ السويد: في 15/ 3 /1430 هـ
…
كتبه:
الموافق لـ: 13/ 3 /2009 م