الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأثر الثالث:
أنَّ المسلم في بلاد الكفَّار يجب عليه الالتزامُ
بأحكام الدِّين كما يجب عليه في بلاد الإسلام
إنَّ الله تعالى لم يخلقنا عبثًا، ولا تركنا هملاً، بل جعل لوجودنا غرضًا محدَّدًا واضحًا، وهو إقامة العبودية لله عز وجل بتوحيده في الاعتقاد والقول والعمل، وطاعَتِه بامتثال ما أَمَرَ، والانتهاء عمَّا نَهَى عنه وزَجَرَ، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة]
وهذه العبودية تستوعبُ حياةَ الإنسان كلَّها، منذ أن يبلغ سنَّ التَّكليف حتَّى آخر لحظةٍ من حياته، فبهذا أمرَ الله تعالى نبيَّه الكريمَ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أمرٌ له ولأتباعه مِن بعده ـ فقال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. وبه أيضًا أوصَى الأنبياءَ السابقينَ، كما قال المسيحُ عيسى ابنُ مريم صلى الله عليه وسلم:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30 - 31].
وهي عبوديَّة تلازم العبدَ المسلم في جميع الأزمان والأماكن والأحوال، فلا تقتصر على أوقاتٍ دون غيرها، ولا تتحدَّد بمواضعَ دون سواها، ولا تتعلَّق بأحوالٍ عدا سائر الأحوال، فالله تعالَى ربُّ الأزمان والأماكن والأحوال كلِّها، والعبدُ خاضعٌ لربوبيَّته دائمًا وأبدًا، ليس بخارجٍ عنها، فكذلك لا يجوز له الخروج عن عبادة ربِّه وطاعته، ولا التقصيرُ فيهما بأيِّ وجهٍ من الوجوه؛ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208 - 209].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله
(1)
(2)
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله
(3)
: «هذا أمرٌ من الله تعالى للمؤمنين أنْ يدخلوا {في السِّلْمِ كَافَّةً} أي: في جميع شرائع الدِّين، ولا يتركوا منها شيئًا، وأن لا يكونوا مِمَّن اتَّخذ إلَهه هواه، إن وافق الأمرُ المشروعُ هواه فعلَه، وإن خالَفَه تركَه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعًا للدِّين، وأن يفعل كلَّ ما يقْدِرُ عليه من أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتَزِمُه وينوِيه، فيُدرِكُه بنيَّتِه. ولما كان الدُّخول في السِّلم كافَّةً لا يُمكِنُ ولا يُتصوَّر إلا بمخالفة طُرُق الشَّيطان قال:{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: في العمل بمعاصي الله {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} والعدوُّ المبين لا يأمر إلا بالسُّوء والفحشاء، وما به الضَّرر عليكم.
(1)
عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمرو الدِّمشقي الشافعيُّ (ت: 774/ 1373): إمام كبير في التفسير والحديث والفقه والتاريخ، ترك مؤلفات كثيرة قيمة أبرزها:«جامع المسانيد والسنن» في الحديث، و «البداية والنهاية» في السيرة والتاريخ، وكتاب «تفسير القرآن العظيم» ، وهو من أفضل كتب التفسير لما امتاز به من عناية بالمأثور، وتجنب للأقوال الباطلة والروايات المنكرة. مترجم في:«الأعلام» (1/ 320).
(2)
«تفسير القرآن العظيم» [البقرة: 208].
(3)
عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السَّعدي (ت: 1376/ 1956): عالم ومفسِّر وفقيه، من أبرز علماء عصره، ولد في القصيم بالمملكة العربية السعودية. صنَّف كتبًا قيِّمة في العقيدة والأصول والفقه والإصلاح، أبرزها تفسيره الشهير:«تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» . مترجم في «الأعلام» (3/ 340).
ولما كان العبدُ لا بدَّ أن يقع منه خلَلٌ وزلَلٌ، قال تعالى:{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: على علمٍ ويقينٍ {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وفيه من الوعيد الشَّديد والتَّخويف ما يوجب ترك الزَّلل، فإنَّ العزيزَ القاهرَ الحكيمَ إذا عصاه العاصي قهَرَه بقوَّته، وعذَّبه بمقتضى حكمته، فإنَّ من حكمته تعذيبَ العصاةِ والجناةِ».
(1)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]؛ فمن اتَّقى الله تعالَى بكلِّ استطاعته، وبذل الجهد في ذلك حتَّى مماته؛ فقد اتَّقى ربَّه العظيمَ حقَّ تُقاته.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله سبحانه: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} : «أنْ يُطاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر» .
(2)
(1)
«تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان» [البقرة: 208].
(2)
أخرجه ابن المبارك في «الزُّهد» (22)، وعبد الرزاق في «التَّفسير» (1/ 129)، والطبريُّ في «جامع البيان» (7536 - 7543)، وابن أبي حاتم في «التَّفسير» (3908)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 294:3159)، وأبو نُعيم في «حِلْية الأولياء» (7/ 238).
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» .
وقال ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» [آل عمران: 102]: «هذا إسناد صحيح موقوف» .
وقال الفخر الرازي في «التفسير الكبير» [آل عمران: 102]: «أما الذين قالوا: إن المراد هو «أن يُطاع فلا يعصى» فهذا صحيح، والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السَّهو والنسيان فغير قادح فيه، لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات، وكذلك قوله:«أن يشكر فلا يكفر» لأن ذلك واجب عليه عند خُطور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله:«أن يذكر فلا ينسى» فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق، فلا وجه لما ظنَّوه أنه منسوخ».
قلتُ: والقول بأنَّ الآية محكمةٌ لا نسخَ فيها مرويٌّ عن ابن عباس وطاووس، ووافقهما المحقِّقُون من العلماء، انظر:«النَّاسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ص 86)، و «نواسخ القرآن» لابن الجوزي (1/ 328)، و «المحرَّر الوجيز» لابن عطيَّة [آل عمران: 102].
والأدلة من الكتاب والسنة على هذا الأصل كثيرةٌ جدًّا، وهو ـ في الجملة ـ أمرٌ معلومٌ من دين الإسلام بالضَّرورة، فكلُّ من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا ورسولاً؛ يعلم ـ علمَ يقينٍ ـ أنَّه مكلَّفٌ بدين الله تعالى وشرعه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وعلى أحواله كلِّها، في خاصَّة نفسه ومع النَّاس جميعًا، ومن هنا قال الإمام الشافعيُّ رحمه الله:«ومِمَّا يعقِلُه المسلمون، ويجتمعون عليه: أنَّ الحلالَ في دار الإسلام حلالٌ في بلاد الكفر، والحرامَ في بلاد الإسلام حرامٌ في بلاد الكفر، فمن أصاب حرامًا فقد حدَّه الله على ما شاء منه، ولا تضعُ عنه بلادُ الكفر شيئًا» .
(1)
تحقيق القول في مذهب الحنفية في إباحة الربَّا وغيره في دار الحرب
وبعد تقرير ما تقدَّم؛ لا بدَّ أن نحقِّق القول في مسألة إباحة الحنفيَّة لبعض المعاملات المالية المحرَّمة للمسلم المقيم في بلاد الكفَّار، فإنَّ بعض من رقَّ دينهم، وتمكَّن حبُّ الدنيا من قلوبهم فجعلوا تتبُّع الرُّخص والأقوال الشاذَّة ديدنهم؛ قد استخرجوا رأي الحنفيَّة من بطون الكتب، واستعملوه على غير وجهه، واستغلوه أسوأ استغلال، فأفتوا من أقام من المسلمين في بلاد الكفَّار بجواز معاملتهم بالربَّا المحرَّم! فأقول ـ وبالله تعالى التوفيق ـ:
على الباحث المنصف أن ينظر أولاً في كلام الحنفيَّة في هذه المسألة، ثم يجتهد في فهمها وَفْقَ مقصِدهم ومرادهم، لينتهي بذلك إلى التصور الصحيح، والحكم العادل.
(1)
«الأم» (7/ 355)، وط: دار الوفاء (9/ 237).
وها أنا أورد بعض نصوصهم، ثم أعقبها بالتلخيص والمناقشة:
قال السَّرَخْسِيُّ رحمه الله: «وإنْ بايعهم المستأمَن إليهم الدِّرهم بالدِّرهمين نقدًا أو نسيئةً، أو بايعهم في الخمر والخنزير والميتة؛ فلا بأسَ بذلك في قول أبي حنيفة ومحمَّدٍ رحمهما الله تعالى. ولا يجوز شيءٌ من ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله
(1)
؛ لأنَّ المسلم ملتزم أحكام الإسلام حيثُما يكون، ومن حكم الإسلام حرمةُ هذا النوع من المعاملة، ألا ترى أنه لو فعله مع المستأمَنين منهم في دارنا لم يجزْ فكذلك في دار الحرب. وهُمَا يقولان: هذا أخذ مال الكافر بطِيبَةِ نفسه. ومعنى هذا: أنَّ أموالهم على أصل الإباحة، إلا أنه ضمِنَ أن لا يخونهم فهو يسترضيهم بهذه الأسباب للتحرُّز عن الغدر، ثم يأخذ أموالهم بأصل الإباحة، لا باعتبار العقد، وبه فارَقَ المستأمنين في دارنا؛ لأنَّ أموالَهم صارتْ معصومةً بعقد الأمان، فلا يمكنه أخذُها بحكم الإباحة، والأخذُ بهذه العقود الباطلة حرامٌ».
(2)
(1)
أبو حنيفة: هو النُّعمان بن ثابت الكوفي (ت: 150/ 767): الإمام الفقيه صاحب المذهب، عُرف بذكائه وتعمُّقه في بحث المسائل الفقهية ومناقشتها في حلقاته العلمية، فتخرَّج عليه كثير من التلاميذ، من أشهرهم: أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وزُفَر بن الهذيل (ت: 158/ 775)، فانتشرت آراؤه واتُّبع مذهبه في كثير من البلاد. مترجم في «سير أعلام النبلاء» (6/ 390:163).
ومحمد: هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقَد الشَّيبانيُّ (ت: 189/ 804): إمام بالفقه والأصول، من تلاميذ أبي حنيفة وهو الذي نشر علمه. من كتبه:«الجامع الكبير» و «الجامع الصغير» ، و «الآثار» ، و «الحجة على أهل المدينة». مترجم في «سير أعلام النبلاء» (9/ 134:45).
وأبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي البغدادي (ت: 182/ 798): صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيهًا علامة، من حفاظ الحديث. وَلِيَ القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد. من كتبه «الخراج» و «الآثار». مترجم في:«سير أعلام النبلاء» (8/ 535:141).
(2)
«المبسوط» (10/ 95)، وبحَثَ المسألةَ بأدلتها في:(14/ 56) منه.
وقال الكاسانيُّ رحمه الله
(1)
: «وأما شرائط جريان الرِّبا: فمنها: أن يكون البَدَلان معصُومين، فإن كان أحدهما غير معصومٍ لا يتحقَّق الرِّبا عندنا.
(2)
وعند أبي يوسفٍ: هذا ليس بشرطٍ، ويتحقَّق الربا.
وعلى هذا الأصل يُخرَّج ما إذا دخل مسلمٌ دار الحرب تاجرًا، فباع حربيًّا درهمًا بدرهمين ـ أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة في حكم الإسلام
(3)
ـ: أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمدٍ. وعند أبي يوسف: لا يجوز.
وعلى هذا الخلافِ: المسلمُ الأسيرُ في دار الحرب أو الحربيُّ الذي أسلم هناك، ولم يهاجر إلينا فبايع أحدًا من أهل الحرب.
وَجْهُ قول أبي يوسف: أنَّ حرمة الربا كما هي ثابتةٌ في حقِّ المسلمين فهي ثابتةٌ في حقِّ الكفَّار؛ لأنَّهم مخاطبون بالحُرُمات في الصَّحيح من الأقوال
(4)
، فاشتراطه في البيع يوجب فسادَه، كما إذا بايع المسلمُ الحربيَّ المستأمَنَ في دار الإسلام.
(1)
علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني ـ أو: الكاشاني ـ الحلبيُّ (ت: 587/ 1191): عالم فقيه حنفيٌّ بارز، يعدُّ كتابه الكبير «بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» من المصادر المهمة للفقه الحنفي. مترجم في «الأعلام» (2/ 70).
(2)
يقصد عند أبي حنيفة وعامَّة أصحابه، وهو المعتمد في مذهبهم، خلافًا لأبي يوسف القاضي.
(3)
مثل أن يبيع المسلمُ للحربيِّ الخنزيرَ أو الميتة أو الدم.
(4)
يعني: أنَّ الكفَّار مخاطبون بالأحكام الشرعية التفصيلية، فإذا علموا بدين الإسلام وقامت عليهم الحجةُ به؛ يحاسبون على ترك الواجبات، وارتكاب المحرَّمات، كما يحاسبون على ترك أصل الإسلام، وإن كانت العبادات لا تصحُّ منهم إلا بالإيمان، مثلما أنَّ الجُنُبَ من المسلمين مخاطبٌ بإقامة الصَّلاة التي دخل وقتها، ومحاسب على تركها، وإن كانت لا تصحُّ منه إلا بعد أن يتطهَّر. وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة، وهو مذهب أكثر العلماء.
انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» (5/ 716)، و «المستصفى من علم الأصول» (1/ 171)، و «روضة النَّاظر» (1/ 170)، و «البحر المحيط» (1/ 397).
ولهما: أنَّ مال الحربيِّ ليس بمعصومٍ بل هو مباحٌ في نفسه، إلا أنَّ المسلمَ المستأمَنَ مُنِعَ من تملُّكه من غير رضاه لما فيه مِنَ الغدر والخيانة، فإذا بَذَلَه باختياره ورضاه؛ فقد زال هذا المعنَى، فكان الأخذُ استيلاءً على مالٍ مباحٍ غير مملوكٍ. وأنَّه مشروعٌ مفيدٌ للمِلْكِ، كالاستيلاء على الحطَبِ والحشيش. وبه تبيَّن أنَّ العقد هاهنا ليس بتملُّكٍ، بل هو تحصيلُ شرط التملُّك، وهو الرِّضَى. لأنَّ ملك الحربيِّ لا يزول بدونه، وما لم يَزُلْ مِلْكُه لا يقع الأخذُ تملكًا، لكنَّه إذا زال فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد، فلا يتحقَّق الرِّبا، لأنَّ الربا اسمٌ لفضلٍ يُستفاد بالعقد. بخلاف المسلم إذا باع حربيًّا دخل دار الإسلام بأمانٍ؛ لأنه استفاد العصمةَ بدخوله دار الإسلام بأمانٍ، والمال المعصوم لا يكون محلاً للاستيلاء، فتعيَّن التملكُ فيه بالعقد، وشرط الربا في العقد مفسدٌ»
(1)
.
وبالنظر والتأمُّل في هذين النَّصَّين نخلُص إلى ما يلي:
أولاً: إنَّ الحنفيَّةَ قد بنَوا رأيهم هذا على مبدإِ أنَّ أصل علاقة الدولة الإسلامية بغيرها قائمٌ على الحرب والمدافعة، وكان هذا رأي عامَّة الفقهاء في زمانه حيث كانت العلاقة بين الدول قائمة على الحرب والمدافعة والمغالبة، والمهادنة العارضة لم تكن لتزيل ذلك الأصل في العلاقة
(2)
، لهذا قال
(1)
«بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» (5/ 192).
(2)
راجع ما سبق في مبحث (دار الحرب)، (ص 61)، ولسنا نقصد بهذا المسألةَ المعروفةَ في علاقة الدولة المسلمة بغيرها: هل هي قائمة على الحرب أم السلام؟ بل نقصد الإِخبارَ عن الواقع الذي كان موجودًا، ومن نظر في كتب التاريخ تأكد من صحة ما ذكرناه، ومن أوسعها وأعجبها:«قصة الحضارة» للمؤرخ الفيلسوف ول ديورانت (1885 - 1981 م). لهذا نجد جوزيف فرانكل يقول في كتابه: «العلاقات الدولية» ص 16: «إن الفتح العسكري هو الطريقة الأسهل، ويبدو أنه كان هو «الأصل» على مدى التاريخ». وأرَّخ (ص: 20) لظهور نظام الدول الإقليمية ذات السيادة في أوروبا بمعاهدة وستفاليا (Westphalia) سنة (1648 م).
(1)
.
ومن هنا فمن دخل تلك الدار بأمانٍ ترتَّب على دخوله ـ عند الحنفية ـ أمران:
الأول: الالتزام بموجبات عقد الأمان، فلا يخونُهم، ولا يغدر بهم. وقد ذكرنا نصوص أئمة الحنفيَّة في تقرير هذا، وهم أكثر الفقهاء توثُّقًا في هذه المسألة.
الثاني: أنَّ أهل دار الحربِ وإن أعطوا الأمان لمسلمٍ أو لجماعةٍ من المسلمين؛ فهم لا يزالون حربيِّين في أصل علاقتهم مع المسلمين، وقد تقدَّم أن العدوَّ المحاربَ لا حرمةَ له في دمه ولا في ماله، لهذا فإنَّ المسلم الذي يدخل ديار أهل الحرب؛ لا يرى لهم أيَّ حرمةٍ، ويودُّ لو تمكَّن من أنفسهم وأموالهم، لكن يمنعه من ذلك التزامه بعقد الأمان، فلو قُدِّر تمكُّنه من أخذ بعض مالهم بوسيلةٍ لا تنافي موجبات الأَمان؛ لبادر إلى ذلك!
ثانيًا: إنَّ رأي الحنفيَّة في جواز التعامل بالربا ونحوه في دار الحرب مبنيٌّ على التأصيل السابق، أي: جواز استيلاء المسلم على مال عدوِّه المحارب له، وبما أنَّه مقيَّد بعقد الأمان فلا يمكنه الاستيلاء عليه بالغدر والخيانة؛ فإنَّه يجوز له أن يستولي عليه بطرقٍ يرتضيها عدوُّه الذي أمَّنه، ومن ذلك: أن يبذل له بعض ماله بعقدٍ يرتضيه؛ لكنَّه في حكم الشريعة محرَّم. والمسلمُ حينما يباشر ذلك العقد فإنَّه لا يستحلُّه، بل لا يعدُّه عقدًا صحيحًا ملزمًا، وإنَّما وسيلةً للاستيلاء
(1)
«شرح السير الكبير» (4/ 1493).
على مالٍ، يجوز له الاستيلاء عليه بالقَهْرِ والغَصْبِ؛ لولا عقد الأمان.
ثالثًا: أمَّا إذا كان مال الكافر معصومًا، لا يحلُّ للمسلم الاستيلاء عليه؛ فلا يحلُّ له معاملته بالربَّا ولا بغيره من العقود المحرَّمة، لأنَّه إذا نال منه بذلك بعض ماله؛ فقد ناله بعقدٍ محرَّمٍ، وليس لكونه مستباحًا له. فهذا فرقٌ مهم بين الحالتين، نورد توضيحه من كلام أحد فقهاء الحنفية.
قال الكرابيسيُّ رحمه الله
(1)
(2)
رابعًا: وممَّا تقدَّم يتبيَّن أن البحث عند الحنفيَّة منحصِرٌ في استيلاء المسلم على مال الكافر الحربيِّ بوجهٍ من الوجوه المحرَّمة، بخلاف بذل المسلم مالَه
(1)
أبو المظفَّر أسعد بن محمد بن الحسين الكرابيسيُّ (ت: 570/ 1174): فقيهٌ حنفيٌّ أديبٌ. من كتبه: «الفروق» و «الموجز» في الفقه. مترجم في: «الأعلام» (1/ 301).
(2)
«الفروق» (1/ 326).
للكافر، فإنَّهم يصرِّحون بتحريمه، لأنَّ مال المسلم معصومٌ، فلا يجوز له بذله ـ ولو برضاه ـ في وجهٍ محرَّمٍ.
قال ابنُ الهُمَام رحمه الله
(1)
: «إلا أنَّه لا يخفى أنَّه إنَّما يقتضي حلَّ مباشرة العقد إذا كانت الزيادة ينالُها المسلمُ، والرِّبا أعمُّ من ذلك إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان من جهة المسلم ومن جهة الكافر، وجواب المسألة بالحلِّ عامٌّ في الوجهين، وكذا القمارُ قد يفضي إلى أن يكون مال الخَطَرِ للكافر بأن يكونُ الغَلَبُ له. فالظَّاهر أنَّ الإباحة تفيد نيل المسلم الزيادةَ، وقد التزم الأصحاب في الدَّرْسِ
(2)
: أنَّ مرادَهم من حلِّ الرِّبا والقمار ما إذا حصلت الزيادةُ للمسلم نظرًا إلى العلة، وإن كان إطلاق الجواب خلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب».
(3)
ونقله ابنُ عابدين الدمشقيُّ رحمه الله
(4)
وأيَّده بقوله: «ويدلُّ على ذلك ما في «السِّير الكبير» وشرحه حيث قال: «وإذا دخل المسلمُ دار الحرب بأمانٍ؛ فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم، بأيِّ وجهٍ كان، لأنَّه إنَّما أخذ المباح على وجه عَريَ عن الغدر، فيكون ذلك طيِّبًا له، والأسير والمستأمن سواء، حتى لو باعهم درهمًا بدرهمين، أو باعهم ميتةً بدراهم، أو أخذ مالاً
(1)
كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي ثم الإسكندري المعروف بابن الهُمام (ت: 861/ 1457): من كبار علماء الحنفية، عارف بأصول الديانات والتفسير والفرائض والفقه والحساب واللغة والمنطق. أشهر كتبه:«فتح القدير» في شرح «الهداية» للمرغيناني. مترجم في: «الأعلام» (6/ 255).
(2)
يعني: أنَّ فقهاء الحنفيَّة التزموا في تدريسهم هذه المسألة لطلاب العلم بيان القيد الذي سيذكره.
(3)
«فتح القدير» (7/ 39).
(4)
محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي (ت: 1252/ 1836): فقيه الدِّيار الشامية وإمام الحنفية في عصره، من مؤلفاته:«رد المحتار على الدر المختار» يعرف بحاشية ابن عابدين، و «مجموعة رسائل» . مترجم في «الأعلام» (6/ 42).
منهم بطريق القمار؛ فذلك كلُّه طيِّبٌ له». انتهى ملخصًا
(1)
. فانظر كيف جعل موضوع المسألة الأخذ من أموالهم برضاهم، فعُلمَ أن المراد من الربا والقمار ـ في كلامهم ـ ما كان على هذا الوجه، وإن كان اللفظ عامًّا، لأن الحكم يدور مع علته غالبًا».
(2)
خامسًا: ويتبيَّن بما تقدَّم أنَّ الحنفيَّة لم يقولوا باستحلال المحرَّمات في دار الكفر، ولا خطر ببالهم أنَّ المسلم المقيم فيها يجوز له التحلُّل من الشريعة، وانتهاك الحرمات، بل صرَّحوا بتحريم الربَّا بين المسلمين في تلك الدِّيار، لأنَّ العبرة بعصمة المال، لا بالدَّار:
(3)
وبهذه النقاط الخمس تتجلَّى لنا حقيقةُ مذهب الحنفيَّة في هذه المسألة، فمن زعم أنَّهم يستحلُّون المحرمات في دار الكفر؛ فقد أعظمَ الفريةَ عليهم، ومن أفتَى بجواز شراء المسلم دارًا فيها، يدفع ثمنها بأقساط ربويَّة، وزعم أن ذلك مذهب الحنفية؛ فقد أعظم الفرية عليهم، وخان أمانةَ العلم والفتوى.
(4)
(1)
من كتاب: «شرح كتاب السِّير الكبير» للسَّرخسيِّ (4/ 1410:2734).
(2)
«رد المحتار على الدر المختار» (5/ 186).
(3)
«المبسوط» (14/ 58).
(4)
فقد تبيَّن أنَّ الحنفيَّة أجازوا في الصورة السابقة أن يكون المسلم قابضًا للزيادة الربويَّة لا دافعًا لها، كما أنَّهم أجازوا تلك الزيادة بغير الرِّبا كبيع الخمر والخنزير والميتة والقمار وغير ذلك، والذين يُفْتُون المسلمين في الغرب ويَفْتنونَهم بجواز شراء المساكن بالربا لا يفتونهم بجواز جميع هذه المعاملات، فيقعون في التناقض، وهو ممَّا يبيِّنُ فسادَ قولهم.
تفنيدُ قولِ الحنفيَّة:
لقد تبيَّن لنا أنَّ رأي الحنفيَّة واردٌ في صورةٍ محدَّدةٍ، قد تكون موضع اجتهادٍ ونظرٍ، ومع ذلك فإنَّ عامَّة الفقهاء من السَّلف والخلف لم يسلِّموا به، بل ردُّوه ونقضوه، لخلوِّه من الدَّليل والبرهان، ومخالفته لأصول الشريعة وقواعدها الكليَّة:
قال الإمام عبدُ الرَّحمن بن عمرٍو الأوزاعيُّ رحمه الله
(1)
: «الرِّبا عليه حرامٌ في أرض الحرب وغيرها، لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد وضع من ربا أهل الجاهلية ما أدركه الإسلامُ من ذلك، وكان أول ربًا وضعَهُ ربا العبَّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه
(2)
. فكيف يستحلُّ المسلمُ أكلَ الرِّبا في قومٍ قد حرَّم الله عليه دماءَهم وأموالَهم
(3)
، وقد كان المسلم يُبايع الكافرَ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يستحلُّ ذلك
(4)
».
(1)
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت: 157/ 774): من أئمة الإسلام الكبار كان محدِّثًا ثقةً حافظًا، زاهدًا ورعًا، عالمًا بالسنة وأقوال السلف، فقيهًا مجتهدًا، وكان أهل الشام والأندلس قديمًا على مذهبه في الفقه. مترجم في «سير أعلام النبلاء» (7/ 107:48).
(2)
وذلك في خطبته الشَّهيرة في حجَّة الوداع سنةَ عشرٍ من الهجرة (632 م)، أخرجها مسلمٌ في «الصحيح» (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(3)
يعني: أن الله حرَّم على المسلم دماء وأموال الكفار المستأمِنينَ له.
(4)
هذا برهانٌ قويٌّ في نقض قول الحنفيَّة، خاصَّة أنَّهم لا يفرقون في هذه المسألة بين الكفار الموادعين والكفار الحربيِّين، والكفَّار الذين كانوا في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا من أحد الصنفين ولا بدَّ، ومع ذلك لم يرد أنَّ أحدًا من المسلمين استحلَّ الربا معهم، بل لم يرد إلا ما يدلُّ على التزامهم بالأحكام الشرعية التفصيلية في معاملاتهم مع كلا الصِّنفين.
هذا النصُّ نقلَه الإمامُ أبو يوسف القاضي رحمه الله تلميذُ أبي حنيفة وصاحبه ـ، وقال:«القول ما قال الأوزاعيُّ، لا يحلُّ هذا عندَنا، ولا يجوزُ. وقد بلغتنا الآثارُ التي ذكر الأوزاعيُّ في الرِّبا، وإنَّما أَحلَّ أبو حنيفة هذا لأنَّ بعض المشيخة حدَّثنا عن مكحولٍ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا ربا بين أهل الحرب» قال أبو يوسف: «وأهل الإسلام» .».
(1)
ونقل الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله كلامَ الأوزاعيِّ وتعليقَ أبي يوسف، ثم قال:«القولُ كما قال الأوزاعيُّ وأبو يوسف، والحُجَّةُ كما احتجَّ الأوزاعيُّ. وما احتجَّ به أبو يوسف لأبي حنيفةَ ليس بثابتٍ، ولا حُجَّةَ فيه» .
(2)
وقال الماورديُّ رحمه الله: «فإذا تقرَّر أنَّ الربا حرامٌ؛ فلا فرقَ في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب. فكلُّ عقدٍ كان ربًا حرامًا بين مسلمين في دار الإسلام؛ كان ربًا حرامًا بين مسلم وحربيٍّ في دار الحرب، سواء دخل المسلم إليها بأمان أو بغير أمان
…
والدلالةُ على أنَّ الربا في دار الحرب حرام كتحريمه في دار الإسلام: عمومُ ما ذكرنا من الكتاب والسنة، ثم من طريق المعنَى والعِبْرَة: أنَّ كل ما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار
(1)
«الردُّ على سير الأوزاعي» (1/ 97). وقد وقع لأبي يوسف تردُّدٌ في متن الحديث، فقال هنا:«لا ربا بين أهل الحرب. قال أبو يوسف: وأهل الإسلام» . ووقع في نقل البيهقيِّ: «أظنُّه قال: وأهل الإسلام» .
(2)
«الأم» (7/ 358)، وط: دار الوفاء (9/ 248). ونقله البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (7/ 97)، وعنه الزيلعي الحنفي في «نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية» (4/ 44)، ولم يجد الزيلعيُّ لحديث مكحولٍ سندًا ولا مخرجًا، فقال فيه:«غريبٌ» . يعني: «لا أصل له بهذا اللفظ» ؛ كما بيَّنه الألبانيُّ في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (6533). ومكحول الشاميُّ فقيه ثقة، من صغار التابعين، فحديثه مرسلٌ، لا تُعرفُ الواسطة فيه بينه وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا حجَّة فيه كما قال الأئمة، كذلك لا يُعرف رواته عن مكحول، وأول من ذكره أبو يوسف القاضي، وقد شكَّ في متنه.
الشرك؛ كسائر الفواحش والمعاصي، ولأنَّ كل عقد حَرُمَ بين المسلم والذميِّ حَرُمَ بين المسلم والحربيِّ كدار الإسلام، ولأنَّه عقدٌ فاسدٌ فوجب ألا يستباح به المعقود عليه كالنِّكاح. فأمَّا احتجاجُه بحديث مكحولٍ فهو مرسلٌ، والمراسيل عندنا ليست حجةً. فلو سُلِّمَ لهم لكان قوله:«لا ربا» يحتمل أن يكون نفيًا لتحريم الرِّبا، ويحتمل أن يكون نفيًا لجواز الرِّبا. فلم يكن لهم حَمْلُهُ على نفي التَّحريم إلا ولنا حَمْلُه على نفي الجواز، ثم حملُنا أولَى لمعاضدة العموم له. وأمَّا احتجاجُه بأنَّ أموالَهم يجوز استباحتها بغير عقدٍ فكان أولى أن تستباح بعقدٍ؛ فلا نُسلِّم إذا كانت المسألةُ مفروضةً في دخوله إليهم بأمانٍ، لأنَّ أموالهم لا تستباح بغير عقدٍ، فكذا لا يستبيحها بعقدٍ فاسدٍ. ولو فرضت المسألة مع ارتفاع الأمان لما صحَّ الاستدلالُ من وجهٍ آخرَ، وهو أنَّ الحربيَّ إذا دخل دار الإسلام جاز استباحةُ ماله بغير عقدٍ، ولا يجوز استباحته بعقدٍ فاسدٍ. ثم نقول: ليس كل ما استبيح منهم بغير عقدٍ جاز أن يُستباح منهم بالعقد الفاسد، ألا ترى أن الفروج يجوز استباحتها منهم بالفيء من غير عقدٍ ولا يجوز استباحتها بعقد فاسد؟! فكذا الأموال، وإن جاز أن تُستباح منهم بغير عقد لم يجز أن تُستباح بالعقد الفاسد».
(1)
وقال أبو بكر ابنُ العربيِّ المالكيُّ رحمه الله: «إنَّ ما يجوز أخذه بوجهٍ جائزٍ في الشرع من غلَّة وسرقة في سَريَّة، فأمَّا إذا أعطى من نفسه الأمانَ، ودخل دارهم؛ فقد تعيَّن عليه أَنْ يفيَ بألا يخونَ عهدَهم، ولا يتعرَّض لمالهم، ولا لشيءٍ من أمرهم، فإنْ جوَّز القومُ
(2)
الرِّبا؛ فالشَّرع لا يُجوِّزه. فإن قال أحدٌ: إنَّهم لا يخاطبون بفروع الشريعة؛ فالمسلمُ مخاطبٌ بها».
(3)
(1)
«الحاوي الكبير» 5/ 75.
(2)
يعني: الكفار.
(3)
«أحكام القرآن» [النساء: 161] 1/ 514.
وقال ابنُ قدامة رحمه الله: «ويحرُمُ الرِّبا في دار الحرب، كتحريمه في دار الإسلام. وبه قال مالكٌ
(1)
، والأوزاعيُّ، وأبو يوسف، والشافعيُّ، وإسحاق
(2)
. وقال أبو حنيفة: لا يجري الرِّبا بين مسلمٍ وحربيٍّ في دار الحرب. وعنه: في مسلمَيْن أسلما في دار الحرب لا ربا بينهما. لما روَى مكحولٌ: عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلمينَ وأهل الحرب في دار الحرب» . ولأنَّ أموالَهم مباحةٌ، وإنَّما حظَرَها الأمانُ في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحًا. ولنا: قولُ الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، وقولُه:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279]. وعمومُ الأخبار يقتضي تحريم التَّفاضُل، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ زادَ أو ازْدَادَ فقد أَرْبَى» .
(3)
عامٌّ، وكذلك سائرُ الأحاديث. ولأنَّ ما كان محرَّمًا في دار الإسلام كان محرَّمًا في دار الحرب، كالربا بين المسلمين. وخبرُهم مرسلٌ لا نعرف صحَّته، ويحتمل أنه أراد النَّهي عن ذلك، ولا يجوز تركُ ما ورد
(1)
مالك بن أنس الأصبحي المدني (ت: 179/ 795): إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأعلام، أجمع العلماء على أمانته ودينه وورعه وعلوِّ منزلته، ومذهبه في الفقه أحد المذاهب الأربعة الشهيرة. له كتاب «الموطَّأ» ، كما حفظ بعض تلاميذه وأصحابه كثيرًا من آرائه واجتهاداته في كتاب:«المدوَّنة» . مترجم في «سير أعلام النبلاء» (8/ 48:10).
(2)
أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي الشهير بابن راهويه (ت: 238/ 853): أحد كبار الأئمة، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد، وله تصانيف، منها:«المسند» . مترجم في «سير أعلام النبلاء» (11/ 358:79).
(3)
أخرجه مسلم في «الصحيح» (1587) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قال البغويُّ في «شرح السنة» (8/ 60): «قوله: «من زاد أو ازداد فقد أربَى» يعني: من أعطَى الزيادة أو أخذها، كما رُوي أنَّه لعن آكل الرِّبا وموكله». وحديثُ:«لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَه» .؛ أخرجه البخاريُّ في «الصحيح» (5962) من حديث أبي جُحَيْفَة. وأخرجه مسلم في «الصحيح» (1597) من حديث عبد الله بن مسعودٍ، وأخرجه أيضًا (1598) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاريِّ رضي الله عنهم.
بتحريمه القرآنُ، وتظاهرت به السنَّة، وانعقد الإجماعُ على تحريمه؛ بخبرٍ مجهولٍ، لم يردْ في صحيحٍ، ولا مسندٍ، ولا كتابٍ موثوقٍ به، وهو مع ذلك مرسَلٌ محتمَلٌ. ويحتمل أنَّ المراد بقوله:«لا ربا» النهي عن الربا، كقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ في الْحَجِّ} [البقرة: 197]. وما ذكروه من الإباحة منتقَضٌ بالحربيِّ إذا دَخَلَ دارَ الإسلامِ، فإنَّ مالَه مباحٌ، إلا فيما حظَرَهُ الأمانُ، ويمكن حمله بين المسلمين على هيئة التَّفاضُل، وهو محرَّمٌ بالإجماع، فكذا هاهنا».
(1)
تنبيه
وأختم هذا المبحث بالتنبيه على أمرين مكمِّلَين وموضِّحَين لما سبق:
الأَوَّلُ: أنَّ هذه المسألة مبنيَّة على ما سبق شرحه من اتفاق الفقهاء على لزوم صفة الحرب لكلِّ دارِ كفرٍ
(2)
؛ فهذه الصفة موجبةٌ ـ عندهم ـ لاستباحة تلك الدار. وقد اتَّفقُوا ـ هنا ـ على أنَّ العهد مزيلٌ لتلك الاستباحة بقَدْرِ نُفُوذِهِ، ثم اختلفوا فيما لم يكن للعهد نفوذٌ فيه، وهو صفة الحرب. وقد شرحنا وجه عدم تصوِّرهم إمكان زوالها، وبيَّنا أنَّ زوالها قد تحقَّق في هذا العصر بما التزمتْ به الدُّوَلُ من عهودٍ ومواثيقَ في أن تكون العلاقات بينها على أساس السِّلْم ابتداءً وأصالةً. وهذا مستوجِبٌ لنفوذِ أثَرِ العهدِ بإطلاقٍ، ويحقِّقُ زوالَ صفة الحرب ابتداءً وأصالةً. ويؤكِّد هذا ما بعده.
(1)
«المغني» (6/ 98:713).
(2)
راجع ما سلف في مبحث التعريف بدار الكفر ودار الحرب.
الثاني: أنَّ مَنْ أخذ مِنَ المعاصرين بقول الحنفية في جواز بعضِ صُوَرِ الرِّبا خارجَ دار الإسلام؛ لم يلتزمْ بقولهم في دار الحرب، بل صرَّح بأنَّ:«العالَمَ كلَّه بالنِّسبة لنا ـ نحنُ المسلمينَ ـ يعتبر: دارَ عهدٍ؛ فيما عدا دولة الكيان الصهيونيِّ: «إسرائيل» ، فنحن نرتبط مع هذا العالم مِنْ حولنا بميثاق الأمم المتحدة، بوصفنا نحن المسلمين جميعًا أعضاءً في هذه الهيئة»
(1)
.
وهذا كافٍ في نقضِ أيِّ تعلُّقٍ بقول الحنفية لتسويغ ما ينافي موجب العهد والأمان بأيِّ وجهٍ من الوجوه، وبه يتأكَّد مرادنا من هذا المبحث، وبالله التوفيق.
(1)
من كلام الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الجديد: «فقه الجهاد» (2/ 900).