المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأثر الثاني:معاملة الكفار على أساس أنهم يملكون أموالهم ملكا صحيحا،ولا يجوز للمسلم أن يستولي عليها إلا بوجه أذن به الشرع الحنيف - الدخول في أمان غير المسلمين وآثاره في الفقه الإسلامي

[عبد الحق التركماني]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم معالي الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي

- ‌تقريظ سماحة الشيخ العلامة أحمد المرابط الشنقيطي

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتورعبد الله شاكر الجنيدي

- ‌مقدمة المؤلِّف

- ‌الفصل الأول:مقدمة في عقد الأمان

- ‌1 - التعريف:

- ‌2 - مشروعيَّةُ مَنْحِ الكفَّارِ الحربيِّينَ الأمانَ، ووجوبُ الوفاءِ لهم به:

- ‌3 - جواز الدخول في أمان الكفَّار للحاجة

- ‌4 - ما ينعقد به الأمان

- ‌5 - التأسيس الفقهي لمسائل هذا الكتاب ووجه ارتباطها بالواقع المعاصر

- ‌الفصل الثاني:الآثار المترتبة على دخول المسلم في أمان غير المسلمين

- ‌تمهيد

- ‌الأثر الأول:تحريم خيانتهم والغدر بهمفي أنفسهم وأموالهم وأعراضهم

- ‌الأثر الثاني:معاملة الكفار على أساس أنَّهم يملكون أموالهم مِلْكًا صحيحًا،ولا يجوز للمسلم أن يستولي عليها إلا بوجهٍ أذن به الشَّرع الحنيف

- ‌الأثر الثالث:أنَّ المسلم في بلاد الكفَّار يجب عليه الالتزامُبأحكام الدِّين كما يجب عليه في بلاد الإسلام

- ‌الأثر الرَّابع:جوازُ معاملَتِهم بالبَيْعِ والشِّراءِ والهِبَةِوالقَرْضِ والرَّهْنِ وسائرِ المعاملاتِ المباحة

- ‌الأثر الخامس:أنَّ المسلمَ إذا دَخَلَ بلادَ الكفَّار الحربيِّينَ وكان يقصِدُ القيامَ بعمليَّاتٍ عسكريَّةٍ ضدَّهم، فأَظْهَرَ لهم طلبَ الدُّخولِ في أمانِهم، فأَعْطَوهُ الأمانَ، وسَمَحُوا له بدخول بلادهم؛ وَجَبَ عليهِ ـ ديانةً وأخلاقًا ـ الالتزامُ بعقد

- ‌الأثر السادس:إذا دَخَلَ جماعةٌ من المسلمين في أَمانِ قومٍ من الكفَّارِ الحربيِّينَ، ثم قامتِ الحربُ بينهم وبين جماعةٍ أُخرَى من المسلمين؛ لم يَجُزْ لأولئك المسلمينَ المستأمَنِين نصرةُ إخوانِهم المسلمينَ إلا بعدَ أَنْ يُلْغُوا عَقْدَ الأَمانِ

- ‌الأثر السابع:جواز السَّفَر بالقرآن حال العهد والأمان

- ‌الأثر الثَّامن:أنَّ المسلمينَ المستأمَنينَ في بلاد الكفَّار لا يقيمونَ الحدودَ بينهم، لعَدَمِ وُجودِ وِلايةٍ إسلاميَّةٍ عليهم، لكنَّهم يلتزمون بما يترتَّب على ارتكابِ المعاصي الموجِبَة للحدود من توبةٍ وصومٍ وكفارةٍ ودِيَةٍ، ونحو ذلك

- ‌الأثر التاسع:أنَّ المسلمَ المقيمَ في بلاد الكفَّار ينبغي عليه أَنْ يُعاملهم بالحسنَى ويَدْعُوَهم إلى الإسلام، ويتألَّفَهم بموافقتهم في غيرِ ما حرَّمه الله تعالى

- ‌الأثر العاشر:يجبُ على المسلم أَنْ يحفَظَ لمن أحسن إليه من الكفَّار جميلَه، ويشكرَه على إِحسانِه، ويقابلَه بالوفاء وجميل الذِّكْر وإِرادة الخير

- ‌الخاتمة

- ‌أولًا:في محور النتائج

- ‌ثانيًا:في محور التوصيات

- ‌مصادر الكتاب

الفصل: ‌الأثر الثاني:معاملة الكفار على أساس أنهم يملكون أموالهم ملكا صحيحا،ولا يجوز للمسلم أن يستولي عليها إلا بوجه أذن به الشرع الحنيف

‌الأثر الثاني:

معاملة الكفار على أساس أنَّهم يملكون أموالهم مِلْكًا صحيحًا،

ولا يجوز للمسلم أن يستولي عليها إلا بوجهٍ أذن به الشَّرع الحنيف

إنَّ النَّاظر في القرآن الكريم والسنة النبوية يجدُ أنَّ ما يحوزه ابنُ آدم حيازةً صحيحةً؛ يُضاف إليه إضافة مِلْكٍ، ويُعامل على أساس ذلك، لا فرقَ في ذلك بين مسلم وكافرٍ، ولا بين صالحٍ وطالحٍ.

فقد أضاف الله تعالى في مواضع كثيرة أموال المسلمين إليهم، وأضاف في مواضع أخرى أموال الكفَّار إليهم، وأخبر أنَّ كلَّ فريقٍ يُنفقُ من «ماله» ، وأنَّه سيحاسَبُ يومَ القيامة على أساس ذلك، فقال تعالى في الفريق الأول:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. وقال عز وجل في الفريق الثاني: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38].

(1)

وبهذا جاءت السنَّة النبويَّة؛ فقد عُلم علمًا يقينيًّا لا شكَّ فيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه الكرام كانوا يعاملون الكفار على هذا الأساس، فلا يستحلُّون

(1)

وراجع أمثلة أخرى في القرآن الكريم: [البقرة: 261، 262، 265، وآل عمران: 10، 116، والنساء: 2، 6، 34، والأنفال: 36، التوبة: 55، 85، 103، ويونس: 88، والذاريات: 19، والمجادلة: 17، والمعارج: 24]

ص: 90

أموالهم بمجرَّد كفرهم، بل كانوا يعتقدون أنَّهم مالكون لها، فيعاملونهم على أساس ذلك في البيوع والقروض والأمانات والهبات وغيرها.

وجملة ذلك أنَّ الكافر لا يخلو أن يكون واحدًا من هذه الأصناف الأربعة:

الأول: أهل الذِّمَّة الذين يقيمون في بلاد الإسلام بعقد أمانٍ مؤبَّدٍ.

الثَّاني: أهل الأمان الذين دخلوا بلاد الإسلام بأمان خاصٍّ لمدَّةٍ معيَّنةٍ.

الثَّالث: أهل عهدٍ وسِلْمٍ وهم في دارهم، وهؤلاء قسمان:

الأول: بينهم وبين أهل الإسلام هدنة ومسالمة، فدارهم دار عهد بالنسبة للدولة الإسلامية ورعاياها.

الثاني: بينهم وبين أهل الإسلام حرب، فدارهم دار حرب للدولة الإسلامية ورعاياها، لكن يدخل إليهم بعض الأفراد أو الجماعات من المسلمين بعقد أمانٍ خاصٍّ، فتكون تلك الدار ـ بالنسبة إليهم ـ دارَ سِلْمٍ وأمانٍ لهم

(1)

.

الرَّابع: أهل الحرب، سواء كانوا في دارهم، أو دخلوا في دار الإسلام من غير عهدٍ ولا أمانٍ.

فمن كان من الصنفين الأولين فهو معصوم الدَّم والمال؛ باتفاق الفقهاء.

ومن كان من الصنف الرابع فلا عصمة لدينه وماله، باتفاق الفقهاء أيضًا، وكيف يكون لنفس العدوِّ المحارب ولماله حُرمَة، وقد انتهك كلَّ حُرمةٍ بمحاربته لأهل الإسلام، وسعيه في النيل من أنفسهم وأموالهم وأعراضهم؟!

ومن كان من الصنف الثالث ـ من أيِّ قسميه كان ـ فالواجب على المسلم الالتزام بموجبات عقد الأمان، فيحرم عليه التعدي على دمائهم وأموالهم،

(1)

قارن بما سلف في مبحث التعريف بدار الكفر ودار الحرب.

ص: 91

سواء قلنا: إنَّ موجب ذلك عقد الأمان فقط؛ كما هو رأي أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله. أو قلنا: إنَّ المسلم لا يجوز له التعدي على دم الكافر ولا الاستيلاء على ماله إلا بسببٍ مشروعٍ، حتَّى إن كان حربيًّا، فأموال الكفار الحربيين لا تحلُّ إلا في ميدان الحرب والقتال غنيمةً للمسلمين. وهذا الذي يُفهم من أقوال جماهير الفقهاء، وهو الصواب الذي تؤيِّده الأدلة الشرعية والسيرة النبوية مع المخالفين، فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يلقون أعداءهم المشركين الحربيِّين في غير ميدان القتال، فلا يبادرون إلى سفك دمائهم ولا مصادرة أموالهم، بل يعاملونهم على أساس أنَّهم يملكون ما تحت أيديهم، فيشترون منهم، ويقبلون هديَّتهم.

وقد كان أهل مكَّة يُودِعونَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أماناتهم، لما يعلمون من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم

(1)

، فلم يخيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنَّهم فيه، ولا ضيَّع أماناتهم، رغمَ تلك الظروف الشديدة التي أحاطت به وأهمَّته، فقد اجتمعَتْ كلمةُ أكابر قريش ومجرميها على قتله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن له إلا أن يتعجَّل الخروج من مكة سرًّا ومعه أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، فأمرَ ابنَ عمِّه: عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه؛ أن يقيم بعدَه في مكَّة ثلاث ليالٍ وأيامها، حتَّى يؤدِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للنَّاس، حتَّى إذا فَرَغَ منها لَحِقَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وفي هذا دليلٌ ظاهرٌ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يستحلُّ أموال الكفار لِمُجَرَّدِ كفرهم، ولا يُجيز خيانتهم والغدر بهم؛ وإن كانوا في دار حربٍ

(1)

«السيرة النبويَّة» لابن هشام (3/ 11).

(2)

أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (6/ 289) من طريق محمد بن إسحاق قال: أخبرني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصَّة.

وقال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 98): «رواه ابنُ إسحاق بسندٍ قويٍّ» .

وقال الألباني في «إرواء الغليل» (1546): «هذا إسنادٌ حسنٌ» .

قلت: وهذه القصة مشهورة مذكورة في عامة كتب السيرة النبوية.

ص: 92

وعداوةٍ، ومن قومٍ بالغوا في الاعتداء والإيذاء، وسعوا في السجن والتعذيب أو القتل أو التشريد؛ كما كان حال مشركي قريش معه صلى الله عليه وسلم.

ومن الأحاديث الدَّالة على هذا ـ أيضًا ـ:

حديثُ عبد الرحمن بن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما قال: كُنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثينَ ومئةً، ثم جاء رجلٌ مشركٌ، مُشْعانٌّ طويلٌ

(1)

، بغنمٍ يسوقها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَبَيْعًا أم عطيةً؟» أو قال: «أم هبةً؟» فقال: لا، بل بيعٌ. فاشترى منه شاةً.

(2)

ففي هذا الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم كان في سريَّةٍ مع أصحابه، فلقوا مشركًا فلم يستحلُّوا مالَه ودمَه، مع أنَّهم كانوا في حال حربٍ مع المشركين، كما قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله:«كلُّ موضعٍ ـ سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان ثغرًا، ودار حربٍ، ومغزَى جهادٍ» .

(3)

وبوَّب البخاريُّ رحمه الله على الحديث بقوله: «باب: الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب» .

(4)

وقال ابن بطَّال رحمه الله

(5)

: «الشراء والبيع من الكفَّار

(1)

مشعانٌّ: طويل جدًّا فوق الطول. ومع إفراط الطول شعث الرأس.

(2)

أخرجه البخاريُّ في «الصحيح» (2216، و 2618، و 5382)، ومسلم في «الصحيح» (2056).

(3)

«المحلَّى بالآثار» (7/ 353) المسألة: (969).

(4)

«صحيح البخاري» كتاب البيوع، باب:(99).

(5)

أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطَّال القرطبي (ت: 449/ 1057): من فقهاء المالكية، عالم بالحديث، اشتهر بشرحه القيِّم على «صحيح البخاري» . مترجم في «سير أعلام النبلاء» 18/ 47 (20).

ص: 93

ـ كلِّهم

(1)

ـ جائزٌ، إلا أنَّ أهل الحرب لا يُباع منهم ما يستعينون به على إهلاك المسلمين من العدَّة والسلاح، ولا ما يقْوَوْنَ به عليهم».

(2)

وقال العينيُّ رحمه الله

(3)

: «فيه جواز بيع الكافر، وإثباتُ مِلْكِه على ما في يده» .

(4)

ثم أورد البخاريُّ بابًا آخر فقال: «باب: شراء المملوك من الحربيِّ وهبته وعتقه. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لسلمانَ: «كاتِبْ!»

(5)

وكان حُرًّا فظلموه وباعوه، وسُبِيَ عمَّارٌ وصُهيبٌ وبلالٌ. وقال الله تعالى:{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون} [النحل: 71]».

وأورد البخاري تحته أربعةَ أحاديث، وهي: قصةُ إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وفيها قبولُه هبةَ الملِكِ الكافرِ. وتحاكمُ سعدِ بن أبي وقاصٍ وعَبْدِ بن زَمْعَةَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غلامٍ ولد في الجاهليَّة، وادَّعى ابنُ زَمْعَةَ أنَّه أخاه وُلد على فراش أبيه مِن أَمَته. وخبرُ صهيبٍ رضي الله عنه في سرقته وبيعه وهو صبيٌّ. وحديثُ حكيم بن حزام رضي الله عنه في تحنُّثه في الجاهلية بالصِّلة والعَتَاقَة والصَّدقة، فسأل: هل لي فيها أجْرٌ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أسلَمْتَ على ما أَسلفْتَ مِنَ الخَيْر» .

(6)

(1)

يعني: الكفَّار الحربيِّين، والكفَّار المسالمين.

(2)

«شرح صحيح البخاري» لابن بطال 6/ 338، ونقله ابن حجر في «فتح الباري» 4/ 517 وأقرَّه.

(3)

بدر الدين محمود بن أحمد العيني (ت: 855/ 1451): من فقهاء الحنفية، عالم محدِّث مؤرخ، ترك مؤلفات كثيرة، منها:«عمدة القاري في شرح البخاري» ، و «البناية في شرح الهداية» . مترجم في «الأعلام» (7/ 163).

(4)

«عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (12/ 27).

(5)

كان سلمان الفارسيُّ رضي الله عنه عبدًا مملوكًا، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُكاتب سيِّده حتَّى يُعتَقَ. وقد تقدَّم شرح معنى المكاتبة.

(6)

«صحيح البخاري» الأحاديث: (2217 - 2220).

ص: 94

قال ابنُ بطَّال رحمه الله: «غرض البخاريِّ في هذا الباب ـ والله أعلم ـ إثبات مِلْك الحربيِّ والمشرك، وجواز تصرُّفه في مِلْكه بالبيع والهبة والعتق، وجميع ضروب التَّصرف؛ إذ قد أقرَّ النبيُّ عليه السلام سلمانَ عند مالكه من الكفَّار، فلم يُزِل ملكه عنه، وأمره أن يكاتِبَ، وقد كان حرًّا وأنَّهم ظلموه وباعوه، ولم ينقض ذلك مِلْكَ مالكه، وكذلك كان أمرُ عمَّارٍ وصهيبٍ وبلالٍ، باعهم مالكوهم الكفار من المسلمين، واستحقُّوا أثمانَهم وصارت مِلْكًا لهم، ألا ترى أنَّ إبراهيم عليه السلام قَبِلَ هبةَ المَلِكِ الكافر، وأنَّ عبدَ بنَ زمعة قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: هذا ابنُ أَمَةِ أَبِي، وُلِدَ على فراشه. فأثبتَ لأبيه أمَةً ومِلْكًا عليه في الجاهلية، فلم ينكر ذلك النبيُّ عليه السلام، وسماعه الخصامَ في ذلك دليلٌ على تنفيذ عهد المشرك، والحكم له إنْ تحوكم فيه إلى المسلمين، وكذلك جوَّزَ عليه السلام عِتْقَ حَكيمِ بن حزامٍ وصدقَتَه في الجاهلية» .

(1)

وقال ابن حجر رحمه الله: «موضع الترجمة من الآية قوله تعالى: {عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النَّحل: 71]؛ فأثبت لهم مِلْكَ اليمين، مع كون ملكهم غالبًا كان على غير الأوضاع الشرعية. وقال ابنُ المنَيِّر: مقصودُه صحة ملك الحربيِّ، وملك المسلم عنه. والمخاطب في الآية المشركون، والتَّوبيخ الذي وقع لهم بالنسبة إلى ما عاملوا به أصنامهم من التعظيم، ولم يعاملوا ربَّهم بذلك، وليس هذا من غرض هذا الباب» .

(2)

وفي حديث صُلح الحديبية: أنَّ المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه كان صحِبَ قومًا في الجاهلية، فقتَلَهم، وأخذ أموالَهم، ثم جاء فأسلَم؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أمَّا الإسلامُ فأَقْبَلُ، وأما المالُ فلستُ منه في شيءٍ»

(3)

.

(1)

«شرح صحيح البخاري» لابن بطال (6/ 342).

(2)

«فتح الباري شرح صحيح البخاري» (4/ 520).

(3)

أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 328:18929)، والبخاري في «الصحيح» (2731)، وابن حبَّان في «الصحيح» (4872).

وأخرجه أبو داود في «السنن» (2765) ولفظه: «أَمَّا الإِسلامُ فَقَدْ قَبِلْنَا، وأَمَّا المالُ فإنَّهُ مالُ غَدْرٍ؛ لا حاجةَ لَنَا فيه» .

ص: 95

قال ابن القيِّم رحمه الله

(1)

: «في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمغيرة: «أما الإسلامُ فأقبل، وأما المال فلست منه في شيءٍ» ؛ دليلٌ على أن مال المشرك المعاهد معصومٌ، وأنه لا يُملَكُ، بل يردُّ عليه، فإنَّ المغيرة كان قد صحبهم على الأمان، ثم غدر بهم، وأخذ أموالهم، فلم يتعرَّض النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأموالهم، ولا ذبَّ عنها، ولا ضمِنَها لهم؛ لأنَّ ذلك كان قبل إسلام المغيرة».

(2)

وقال ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وأمَّا المالُ فلست منه في شيءٍ» . أي: لا أتعرَّض له، لكونه أخذه غدرًا، ويستفاد منه: أنه لا يحلُّ أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدرًا، لأنَّ الرِّفْقةَ يُصطَحَبون على الأمانة، والأمانة تؤدَّى إلى أهلها مسلمًا كان أو كافرًا، وأن أموال الكفار إنما تحلُّ بالمحاربة والمغالبة

(3)

، ولعل النبيَّ صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يُسلم قومُه، فيردَّ إليهم أموالَهم. ويستفاد من القصة: أنَّ الحربيَّ إذا أتلف مالَ الحربيِّ لم يكن عليه ضمانٌ، وهذا أحدُ الوجهين للشافعية».

(4)

(1)

العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، الشهير بابن قيم الجوزية (ت: 751/ 1350) من أركان الإصلاح الإسلامي، وأحد الأئمة السائرين على منهج السلف، مولده ووفاته في دمشق، تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية، وترك مصنَّفات قيِّمة تميَّزت بالعلم المحقَّق، منها:«إعلام الموقعين» و «شفاء العليل» ، و «الصواعق المحرقة» ، و «أحكام أهل الذمة» ، و «مدارج السالكين» ، وغيرها كثير. مترجم في «الأعلام» (6/ 56).

(2)

«زاد المعاد في هدي خير العباد» (3/ 304).

(3)

تأمل هذا الكلام، وما فيه من التفريق بين الأمرين، ففي هذه الجملة أن أموالهم لا تحلُّ إلا بالمحاربة، وفي التي قبلها منع الغدر والخيانة.

(4)

«فتح الباري شرح صحيح البخاري» (5/ 418:2731).

ص: 96

ومن دلائل هذا الأصل قولُه تعالى ـ في بني قريظةَ الذين نقضوا العهدَ، وناصروا الأحزابَ على المسلمين، فأمر الله عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم بمقاتلتهم لغدرهم وخيانتهم ـ:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26 - 27]؛ فأضاف الله تعالى الأرضَ والدِّيارَ والأموالَ إليهم، وأخبر أنَّه سبحانَه قد ورَّثها المسلمينَ نتيجةً لتلك الحرب.

قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله: «إذا كاتبَ الحربيُّ عبدَه في دار الحرب، ثم خرَجَا مستأمَنَيْن؛ أُثبتُ الكتابة بينهما، إلا أن يكون السيِّدُ أحدثَ لعبده قهرًا على استعباده وإبطال كتابته، فإِنْ فَعَلَ؛ فالكتابةُ باطلة» .

(1)

فقال العلامة الماورديُّ في شرحه: «وهذا كما قال، وأصلُ ذلك أنَّ أهل الحرب يملكون ملكًا صحيحًا عند الشافعيِّ. وقال مالكٌ: لا يملكون. وقال أبو حنيفة: يملكون ملكًا ضعيفًا. وفي قول الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}؛ دليلٌ كافٍ، لأنَّه أضاف ذلك إليهم إضافةَ مِلْكٍ تامٍّ» .

(2)

وقال الماورديُّ ـ أيضًا ـ: «الكافرُ صحيحُ المِلْكِ كالمسلم لقول الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}؛ فأضافَها إليهم إضافةَ مِلْكٍ» .

(3)

وقال الإمام ابن حزمٍ رحمه الله: «وما وهَبَ أهلُ الحرب للمسلمِ الرَّسولِ إليهم، أو التَّاجرِ عندهم؛ فهو حلالٌ، وهِبَةٌ صحيحةٌ، ما لم يكن مالَ مسلمٍ أو ذمِّيٍّ،

(1)

«الأم» (8/ 37)، وط: دار الوفاء (9/ 356).

(2)

«الحاوي الكبير» (18/ 257)، ومن الواضح أن كلام الشافعي وشرح الماوردي رحمهما الله متعلِّق بالكفار الحربيِّين، أما الكفَّار المسالمون فبالأولى يثبت لهم ملكهم وصحة تصرفهم فيه.

(3)

«الحاوي الكبير» (18/ 134).

ص: 97

وكذلك ما ابتاعه المسلمُ منهم فهو ابتياعٌ صحيحٌ؛ ما لم يكن مالاً لمسلمٍ أو ذميٍّ، لأنَّهم مالكون لأموالِهم ـ ما لم ينتزِعْها المسلمُ منهم ـ بقول الله تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ؛ فجعلَها الله تعالى لهم إلى أَنْ أورَثَنا إيَّاها، والتَّوريثُ لا يكون إلا بالأَخذ والتَّملُّك، وإلا فلم يورِّث بعدَما لم تقدِرْ أيدينا عليه، وإنَّما جعل الله تعالى أموالَهم للغانم لها، لا لكلِّ مَنْ لم يغنمها».

(1)

وقال الإمام ابنُ قدامة المقدسيُّ رحمه الله: «وإنْ أعتق حربيٌّ حربيًّا، فله عليه الولاءُ؛ لأنَّ الولاء مُشَبَّهٌ بالنَّسَب، والنَّسب ثابتٌ بين أهل الحرب، فكذلك الولاءُ. وهذا قولُ عامَّة أهل العلم، إلا أهل العراق، فإنَّهم قالوا: العتق في دار الحرب والكتابة والتَّدبير لا يصحُّ، ولو استولَدَ أمَتَه، لم تصرْ أُمَّ وَلَدٍ؛ مسلمًا كان السيدُ أو ذميًّا أو حربيًّا. ولنا: أنَّ ملكهم ثابتٌ بدليل قول الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فنسبَها إليهم، فصحَّ عتقهم كأهل الإسلام، وإذا صحَّ عتقهم ثبَتَ الولاءُ لهم؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الوَلاءُ لمَنْ أَعتَقَ» .

(2)

فإنْ جاءَنا المعتَقُ مسلمًا، فالولاءُ بحاله»

(3)

.

وقال ابنُ قدامة ـ أيضًا ـ: «وإنْ كاتب الحربيُّ عبدَه؛ صحَّت كتابتُه،

(1)

«المحلَّى بالآثار» (7/ 309:936).

وقوله: (للغانم لها) قيدٌ مهمٌ، فالغنيمة لا تكون إلا في الحرب، وللحرب شروط وأحكام، وساحة وميدان. فإذا وضعت الحرب أوزارها؛ فلا بدَّ للناس من ضوابط أخلاقية يتعايشون بها، وإن كانت في نفوسهم عداوة وبغضاء.

(2)

أخرجه البخاريُّ في «الصحيح» (456)، ومسلم في «الصحيح» (1504) من حديث عائشة رضي الله عنها.

«الولاءُ» : يطلق على الملك والقرب والقرابة والنصرة والمحبة. والمقصود هنا: أنَّ من أنعم على عبده بالحريَّة يكون عصَبةً له وكأنَّه يتَّصل به بالنَّسب، فللسيِّد ميراثُ عتيقه إن مات ولم يُخلِّف وارثًا سواه. انظر:«المغني» (9/ 214)، و «بداية المجتهد» (4/ 1594).

(3)

«المغني» (9/ 218:1050).

ص: 98

سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام. وبهذا قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ؛ لأنَّ ملكه ناقص. وحُكي عن مالكٍ أنه لا يملكُ؛ بدليل أنَّ للمسلم تملُّكه عليه. ولنا: قولُ الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ؛ وهذه الإضافةُ إليهم تقتضي صحَّةَ أملاكِهم، فتقتضي صحةَ تصرفاتِهم».

(1)

(1)

«المغني» (14/ 446:1977).

ص: 99