الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال الثاني: [استرشاد رجل بعض العلماء إلى أمر يطمئن له في أمر القدر]
رجل جاء لبعض العلماء، فقال له:"أحب أن ترشدني إلى أمر يطمئن له قلبي. وتقنع به نفسي، من جهة القضاء والقدر. فإني لا أشك الله جميع الحوادث بقضاء الله وقدره: وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وأعلم مع ذلك أن أفعالي كلها باختياري وإرادتي، وأنا الذي عملتها. هذا أمر ضروري، لاشك فيه، وأعتقد أنه لا يشك فيه أحد ولكن: أحب طريقة تهديني إلى كيفية الجمع بين الأمرين".
فقال العالم: الجواب المقنع في هذه المسألة: أنك إذا علمت أن الله خلقك وخلق أعضاءك الظاهرة والباطنة: هذا أمر لا تشك فيه ولا يشك فيه مسلم. ومن أعظم الأعضاء الباطنة: أن الله جعلك مريدا لكل ما تحبه كارها لما تبغضه، إجمالا وتفصيلا، وأن الله أعطاك قدرة، توقع بها جميع ما تريد فعله، وتنكف بها عما تريد تركه، فأنت تعترف بذلك ولا تستريب فيه، وتعرف مع ذلك أنك إذا أردت أمرا من الأمور إرادة جازمة، وأنت تقدر عليه، فعلته من دون توقف.
حتى إن الأمور المستقبلة التي تريد فعلها إرادة جازمة تقول فيها: سأفعل إن شاء الله كذا، كما قال تعالى:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] .
فإذا اعترفت بذلك كله يعني: اعترفت بأنه تعالى خلقك وخلق قولك
الظاهرة والباطنة، ومكنك من كل ما تريد بما أعطاك من قدرة ومشيئة وأنت الذي تختار وتفعل أو تترك.
فقد جمعت بين الأصلين:
1-
الاعتراف بعموم قدر الله
2-
وأن أفعالك كلها من كسبك.
وأنه إن وفقك للخير فبفضله وتيسيره، وإن لم يوفقك بل وكذلك إلى نفسك فلا تولمن إلا نفسك.
ومعرفة هذه المقدمات سهلة بسيطة، وبها يحصل لك الاقتناع التام.
ففعلك داخل في عموم قدرة الله وخلقه، لأن خالق السبب التام، هو الخالق للمسبب، والسبب التام: قدرتك وإرادتك، والله هو الذي خلقهما، وأنت الذي تفعل بهما.
وإنما الإشكال الذي لا يمكن حله لبطلان أحد أصليه اعتقادك أنك مجبور على أفعالك، فهذا الذي لا يمكن العبد أن يعرف معه: أن الأفعال أفعاله. وهذا يعلم بطلانه بالضرورة، كما سبق بيانه.
فقال الرجل السائل المسترشد: لقد وضحت المسألة وضوحا لا أشك فيه، علمت بأن الله خلقني، وخلق جميع أوصافي، وخلق الأسباب التي أتمكن بها من الأفعال، وأنا الذي أفعل وأطيع، إن ساعدني الله بتوفيقه. أعصي وأغفل، إن وكلني إلى نفسي.
فقال العالم: وأزيدك إيضاحا وبيانا لهذا السؤال:
قال الله لخيار المؤمنين: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] .
فلم يقل: فإن الله أجبرهم على الإيمان إلى آخره.
ولكنه تعالى لما علم حالة النفس وأنها ظالمة جاهلة أمارة بالسوء، لطف بالمؤمنين وحبب إليهم قلوبهم الإيمان وزينه فيها فانقادت إلى الخيرات باختيارها؛ لما جعل الله في قلوبهم من الأوصاف الجليلة.
ولما كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، انصرفوا عنها؛ لكراهتهم لها وكان هذا لطفا وكرما منه.
وأما الآخرون: فلم يجعل لهم نصيبا من هذا اللطف، فانحرفوا باختيارهم وكانوا هم السبب لأنفسهم.
حيث كانت مقاصدهم فاسدة؛ وحيث عرض عليهم الخير فرفضوه واعترض لهم الشر والغي فاختاروه؛ فولاهم الله ما تولوا لأنفسهم: واللوم كله عليهم، والحجة البالغة لله على العباد كلهم:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] .
وأزيدك إيضاحا وبيانا: أليس تفرق ويفرق كل أحد بين حركة المرتعش بغير اختياره؛ وبين حركة الباطش والكاتب باختياره؛ وتعلم أن الأخير فعل العبد حقيقة، والأول مقسور عليه، وما أشبه ذلك من الحركات التي من هذا النوع تفرق بين الحركة الاختيارية، والحركة الاضطرارية؟!
فمن ألحق أحد القسمين بالأخر، وساواه به؛ فهو مختل الشعور.
فقال الرجل: جزاك الله خيرا، فلقد أزلت عني كل إشكال، واقتنعت بذلك غاية الاقتناع.