الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
احتدام القتال حول رسول الله- صلى الله عليه وسلم
-:
وبينما كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، تطحن بين شقي رحى المشركين، كان العراك محتدما حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدأوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين: هلم إليّ، أنا رسول الله، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف، ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه- أي القرشيين- ما أنصفنا أصحابنا «1» .
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط «2» .
أحرج ساعة في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم
-:
وبعد سقوط بن السكن بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد (بن أبي وقاص)«3» وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمت شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري، فشجه في
(1) صحيح مسلم، باب غزوة أحد 2/ 107.
(2)
وبعد لحظة فاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فئة من المسلمين فأجهضوا الكفار عن عمارة، وأدنوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ابن هشام 2/ 81) .
(3)
صحيح البخاري 1/ 527، 2/ 581.
جبهته. وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قمئة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، شكا لأجلها أكثر من شهر، إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له وهو يمسح الدم عن وجهه: أقمأك الله «1» .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول:
كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله عز وجل:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» .
وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ: اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله، ثم مكث ساعة ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون «3» . وكذا في صحيح مسلم أنه كان يقول:
رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون «4» ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون «5» .
ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا- وهما اثنان فحسب- سبيلا إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب، فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال: ارم فداك أبي وأمي «6» . ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد 7.
(1) وقد سمع الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عائذ أن ابن قمئة «انصرف إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذروة جبل، فدخل فيها، فشد عليه تيسها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع (فتح الباري 7/ 373) وعند الطبراني فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة (فتح الباري 7/ 366) .
(2)
صحيح البخاري 2/ 582، وصحيح مسلم 2/ 108.
(3)
فتح الباري 7/ 373.
(4)
صحيح مسلم باب غزوة أحد 2/ 108.
(5)
كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 81.
(6- 7) صحيح البخاري 1/ 407، 2/ 580، 581.
وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار. قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من للقوم، فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحدا بعد واحد بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة، قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، قال: ثم رد الله المشركين «1» . ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعا وثلاثين، أو خمسا وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها «2» .
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد «3» .
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: «من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» «4» .
وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة «5» .
وقال فيه أبو بكر أيضا:
يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت
…
لك الجنان وبوأت المها العينا «6»
وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي الصحيحين عن سعد. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي رواية يعني جبريل وميكائيل «7» .
(1) فتح الباري 7/ 361، وسنن النسائي 2/ 52، 53.
(2)
نفس المصدر الأول 7/ 361.
(3)
صحيح البخاري 1/ 527، 2/ 581.
(4)
مشكاة المصابيح 2/ 566، ابن هشام 2/ 86.
(5)
فتح الباري 7/ 361.
(6)
مختصر تاريخ دمشق 7/ 82 (من هامش شرح شذور الذهب ص 114) .
(7)
صحيح البخاري 2/ 580.