الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.
ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملا معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة.
ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقرقرة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود «1» ، وهذا الذي صار سببا ل
غزوة بني النضير
كما سيذكر.
وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة «2» تألما شديدا، وتغلب عليه الحزن والقلق «3» ، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، ففي الصحيح عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول:«عصية عصت الله ورسوله» ، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد «بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قنوته «4» .
غزوة بني النضير:
قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين، إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعا من الحيل، لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال، مع ما كان بينهم وبين
(1) انظر ابن هشام 2/ 183 إلى 188، وزاد المعاد 2/ 109، 110، صحيح البخاري 2/ 584، 586.
(2)
ذكر الواقدي أن خبر أصحاب الرجيع وخبر أصحاب بئر معونة أتى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة.
(3)
روى ابن سعد عن أنس ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة «مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 260» .
(4)
البخاري 2/ 586، 587، 588.
المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع، وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم، فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت.
ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سرا، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين «1» .
وصبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبيان ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري- وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة- فقالوا:
نفعل يا أبا القاسم، اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظرون وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه.
وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟
…
فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، لكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم.
ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعا، وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همت به يهود.
وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم: اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه. ولم يجد يهود مناصا من الخروج، فأقاموا أياما يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين- عبد الله بن أبي- بعث إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان.
وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما
(1) يؤخذ ذلك مما رواه أبو داود في باب خبر النضير 3/ 116، 117 «عون المعبود شرح سنن أبي داود» .
قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
ولا شك أن الموقف كان حرجا بالنسبة إلى المسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كلب العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفا بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفرادا، وضاعفت نقمتهم على مقتر فيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير- بعد همهم باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم مهما تكن النتائج..
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وسار إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار.
والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونا لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان:
وهان على سراة بني لؤي
…
حريق بالبويرة مستطير
البويرة: اسم لنخل بني النضير، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ (59: 5) .
واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرا، أو يدفع عنهم شرا، ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم، وجعل مثلهم:
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ (59: 16) .
ولم يطل الحصار- فقد دام ست ليال فقط، وقيل: خمس عشرة ليلة- حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للاستسلام ولإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح.