الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشهد السابع: استشعار المعانى الإيجابية للصوم:
بعض الناس يظن أن الصيام كبت وحرمان، ولكني أقول لهم: إن الهدف من الصيام ليس الكبت والحرمان، وإنما الصيام وسيلة إلى غاية نبيلة، إنه التدريب على السيادة والقيادة، قيادة النفس وضبط زمامها، وكلها عن أهوائها ونزواتها، بل إنه التسامي بتلك القيادة إلى أعلى مراتبها، فلقد كنت في بحبوحة الإفطار إنما تحمي جوفك عن تناول السحت والخبيث، فأصبحت في حظيرة الصيام تفطمه حتى عن الحلال الطيب.
ولقد كنتَ بالأمس تكف لسانك عن الشتم والإيذاء، فأصبحت اليوم تصونه حتى عن رد الإساءة وعن إجابة التحريش والاستفزاز، فإن خاصمك أحد أو شاتمك، لم تزد على أن تقول: إني صائم، هكذا ملكت بالصيام زمامي شهوتك وغضبك.
وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقول إلى نصر، فلئن كان الصيام قد علمك أن تصبر اليوم طائعًا مختارًا في وقت الأمن والرخاء، فأنت غدًا أقدرُ على الصبر والمصابرة في البأساء والضراء وحين البأس، ولئن كان الصيام قد علمك كيف تنتصر اليوم على نفسك، فلقد أصبحت به أجدر أن تنتصر غدًا على عدوك، وتلك عاقبة التقوى، التي أراد الله أن يرشحك لها بالصيام.
إن هذا الهدف الذي صورناه وحددناه، إنما يقوم في منتصف الطريق الذي رسمه الله للصائمين، وإن في نهاية هذا الطريق هدفًا آخر، بل أهدافًا أخرى أهم وأعظم.
وفي الحق أنه لو كان كل ما يطلب من الصائم هو أن يكف نفسه عن شهواتها وانفعالاتها، ولم يكن أمامه عمل إيجابي جديد يسد به هذا الفراغ، إذًا لكانت تجربة الصيام انتقاصًا للطاقة العاملة من ناحية، دون إمداد لها من ناحية
أخرى، وإذًا لكانت على حد تعبير العلماء "تخلية" بلا "تحلية"، أو تجارة مأمونة الخسارة، ولكنها لا ربح فيها ولا غنيمة.
فهل شريعة الصيام في الإِسلام هى تلك الصور العارية الجرداء؟
كلا .. إنها عبادة ذات شطرين، وليس شطرها الأول إلا تمهيدًا وإعدادًا لشطرها الثاني، إنها شجرة جذعها الصبر، ولكن الله لا يريد للصائم أن يترك هذا الجذع قاحلًا ماحلًا، بل يريد أن ينبت على جوانبه أغصانًا من الشكر، وأن يتوج هامته بأوراق وثمار من الذكر والفكر، وإن من تأمل كلمة التقوى التي عبر بها القرآن الكريم في حكمة الصيام، يجدها منطوية على هذين الشطرين.
فهي في شطرها الأول: كف وانتهاء، وابتعاد واجتناب.
لكنها في شطرها الثاني: إقبال واقتراب، وإنشاء وبناء.
وإذًا فليس الشأن كل الشأن في أن يغلق الصائم منافذ حسه، ويسكت صوت الهوى في نفسه؛ فذلك إنما يمثل إغلاق أبواب النيران؛ ولكن الشأن الأعظم في أن يكون إغلاق منافذ الحس فتحًا لمسالك الروح، وأن يكون إسكات صوت الهوى تمكينًا لكلمة الحق والهدى، فتلك هي مفاتيح أبواب الجنان.
ومن كان في شك من أن هذا الجانب الإيجابي، هو الهدف الأخير لشريعة الصوم، فليقرأ كتاب الله يجد دلائله مبثوثة في تضاعيف آيات الصيام، وليطالع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد معالمه مبسوطة في هديه النبوي قولًا وفعلًا، والعجيب في هذا التوجيه أن الإِسلام لم يترك الأمر بالصيام دعوة مرسلة، بل وضع له مناهج معينة، ورسم له خططًا مفصلة؛ ذلك أنه لمَّا جعل شهر الصيام موسمًا لانطلاق الروح من عقالها؛ فتح فيه للأرواح بابين تتدفق منهما: بابًا إنسانيًّا، وبابًا ربانيًا.
فأما انطلاق الروح الباب الإنساني: فذلك أنه أرشدنا إلى أن يكون
زهدنا في الطعام والشراب ليس قبضًا وإمساكًا بالحفظ والادخار، بل بسطًا وسخاء بالبذل والإيثار: لا تسد أيها الصائم جوعتك، ولا تنقع غلتك فحسب، ولكن أطعم الجائع واسق الظمآن، وهذا هو الصوم كما فهمه إمامنا الأعظم صلوات الله عليه، فقد كان أجود ما يكون في رمضان، حتى إنه كان فيه أجود من الريح المرسلة.
وما زكاة الفطر في آخر رمضان إلا الحلقة الختامية، والمظهر العلني الجماعي لهذه الحركات النفسية الفردية، التي تحولت فيها فضيلة الصبر، إلى فضيلة الشكر، اتباعا لإرشاد القرآن الكريم حين يقول:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الرباني؛ فذلك أن الإِسلام فتح فيه للطاعة مسالك مسلوكة، ورسم لها سُبُلًا ذُلُلًا، تسبيح وتحميد، تكبير وتمجيد:{لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، تضرع وابتهال، ودعاء وسؤال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، ركوع وسجود، وقيام وتشمير ونهوض:"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"(1)، وما الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان إلا نهاية الشوط في السير، إقبالا على الله وانقطاعا بالكلية إليه:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
ألا وإن ذِروة الأمر وسِنامُه في هذا الجانب الرباني، إنما هو في مناجاة الله بكلامه، وفي مدارسة كتابه، كما كان يفعل الرسول المصطفى من البشر، والرسول المصطفى من الملائكة، إذ كانا يتدارسان القرآن في رمضان في كل عام، ولأمر ما نَوَّه الله بهذه الصلة الوثيقة بين رمضان وبين القرآن، وجعلها
(1) متفق عليه البخاري (38)، مسلم (760).
أولى المناقب والمزايا التي اختص بها هذا الشهر المعظم، فقال جلت حكمته:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]؛ فكان ذلك إيماء لنا بأن نجعل حظ رمضان من القرآن أوفر الحظوظ.
لما كان الأصل العمل والجهاد في سبيل الله؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهد في رمضان ليصل إلى أعلى درجة في العبادة، دائمًا في المركز الأعلى، فكان عند الموت يقول:"بل الرفيق الأعلى"(1)، شرط بشرط، ولكل سلعة ثمن.
أما صوم النُّوَّم .. أما صوم البطالين .. فمال هؤلاء والجنة؟!
مالك أنت والمحبة وأنت أسيرُ الحبة، تعلقتَ بها تعلقَ الرضيع بالظِئر، والقوم ما أعاروها الطرف .. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ويجاهد .. يصوم ويقوم .. يصوم ويتلو .. يصوم ويدعو .. يصوم ويصلي .. يصوم ويعلِّم .. يصوم ويتلقى القرآن ويعلمه ويدعو به وإليه .. بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذلك إخوتاه فإن الصيام ليس موسمًا للنوم، إنك مسلم، فلابد أن تكون عالي الهمة تطلب القمة؛ لأنك صاحب دين قيِّم .. في هذه الآية:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} ، توجد قراءة أخرى وهي دينًا قيِّمًا، وذلك الدين القيِّم يجعلك حين تسلم وتستسلم: تصوم وتبذل جهدك وتستعين بالله جل جلاله، قال الله سبحانه:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، أيها الناس .. أيها الإخوة .. أيها الأخوات .. إذا أردتم النجاح؛ فاستعينوا بالصبر والصلاة .. والتزموا العبودية أينما حلَّت ركائبها.
(1) متفق عليه، البخاري (4176)، مسلم (2444).