المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مشاهد العبودية في العمرة: - أسرار المحبين في رمضان

[محمد حسين يعقوب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌فضائل رمضانالغنيمة الباردةوفرص لا تعوض

- ‌فضائل رمضان .. وفرص لا تعوض

- ‌الاستعداد لرمضان

- ‌كيف نستعد لرمضان

- ‌تمرينات الاستعداد

- ‌التمرين الأول: التدريب على تجويد التوبة:

- ‌التمرين الثاني: التدريب على تعظيم الشعائر:

- ‌التمرين الثالث: التدريب استقامة القلب:

- ‌التمرين الرابع: تدريب القلب على الأنفة من المعاصي:

- ‌التمرين الخامس: الترويض على الانكسار لله عز وجل:

- ‌التمرين السادس: استئصال الأورام الخبيثة:

- ‌التمرين السابع: إجراء بعض تمارين العزيمة والهمة:

- ‌التمرين الثامن: ترويض الحواس:

- ‌التمرين التاسع: الاستحضار الذهني للعبادات قبل الشروع فيها:

- ‌التمرين العاشر: لزوم جناب الاحتشام ودوام الإطراق:

- ‌التمرين الحادي عشر: ملاحظة المنة:

- ‌التمرين الثاني عشر: تهدئة نمط الحياة:

- ‌كيف نستقبل رمضان

- ‌استقبال رمضان"الوصايا العشر قبل دخول الشهر

- ‌الوصية الأولى: هدنة مع المناقشات والجدال:

- ‌الوصية الثانية: إقامة هدنة في العمل الزملاء والمسؤلين:

- ‌الوصية الثالثة: إقامة هدنة مع نفسك للتخلص من سموم القلب:

- ‌الوصية الخامسة: عمل هدنة النفس لترك الذنوب والمعاصى والسيئات:

- ‌الوصية السادسة: هدنة مع طول الغياب خارج المنزل وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات:

- ‌الوصية السابعة: هدنة مع كثرة النفقات والتبذير:

- ‌الوصية الثامنة: هدنة مع العقول والقلوب من التفكير والتدبير للدنيا:

- ‌الوصية التاسعة. هدنة مع إستهلاك الأعضاء:

- ‌الوصية العاشرة: هدنة مع الهموم:

- ‌كيف تعيش رمضان

- ‌أولًا: تحديد الأهداف:

- ‌ثانيًا: الطريق لتحقيق الأهداف:

- ‌روحانيات صائم

- ‌خطة اليوم في رمضان

- ‌يوم في حياة صائم:

- ‌مشاهد العبودية في رمضان

- ‌المشهد الأول: مشهد التوحيد:

- ‌المشهد الثاني: مشهد الصبر والشكر:

- ‌المشهد الثالث: مشهد القبض والبسط:

- ‌المشهد الرابع: حسن الخلق:

- ‌المشهد الخامس: الزهد في الدنيا:

- ‌المشهد السادس: الإيثار:

- ‌المشهد السابع: استشعار المعانى الإيجابية للصوم:

- ‌المشهد الثامن: الجود والإحسان:

- ‌رمضان والقران

- ‌فضائل القرآن:

- ‌(1) القرآن رحمة:

- ‌(2) القرآن طمأنينة:

- ‌(3) القرآن صانع الرجال:

- ‌(4) القرآن شفاء:

- ‌(5) القرآن حماية بعد الهداية:

- ‌(6) القرآن حياة القلوب:

- ‌تحصيل لذة التلاوة وقراءة القرآن

- ‌أما الآداب الظاهرة:

- ‌وأما الآداب الباطنة:

- ‌استدرك مهم

- ‌قيام رمضان

- ‌صلاة التراويح في رمضان

- ‌الاعتكاف

- ‌هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف:

- ‌مقاصد الاعتكاف:

- ‌حكم الاعتكاف:

- ‌شروط الاعتكاف:

- ‌أركان الاعتكاف:

- ‌زمانه وبداية وقته:

- ‌محظورات الاعتكاف:

- ‌أهداف الاعتكاف:

- ‌كيف نحصل حلاوة الاعتكاف

- ‌برنامج الاعتكاف:

- ‌نصائح الاعتكاف

- ‌عمرة رمضان

- ‌لماذا نعتمر

- ‌كيف تعتمر

- ‌مشاهد العبودية في العمرة:

- ‌نسائم الأسحار

- ‌آداب الدعاء:

- ‌وداع رمضان

- ‌وظائف آخر الشهر:

- ‌ليلة القدر

- ‌وماذا بعد رمضان

- ‌مقتضيات القبول:

- ‌مقتضيات الحرمان:

- ‌وقد يسأل: كيف أعرف أنني من المقبولين

- ‌فوائد صيام ستٍّ من شوال بعد رمضان:

- ‌ومن علامات القبول أيضًا:

- ‌حراسة الطاعات:

الفصل: ‌مشاهد العبودية في العمرة:

إنك أنت الأعز الأكرم" (1)، فلا بأس؛ لثبوته عن ابن مسعود وابن عمر والمسيب بن رافع وعروة بن الزبير.

‌مشاهد العبودية في العمرة:

المشهد الأول: استشعار المنة:

لا بد في البداية من معرفة فضل الله عليك بأن أذن لك بهذه العمرة، فالكعبة حُجَّةٌ لك أو عليك، الملك جل جلاله أدخلك بيته .. أتستحق هذا؟، والله لا أحد من المخلوقين يستحق ذلك ولكنه فضل الله الكريم، ولو عامل الله العباد بما يستحقون؛ فمن ذا الذي يستحق أن يدخله الله بيته؟!، فلذلك ينبغي أن تظل مستشعرًا فصلى الله عليك، أن أكرمك، وأدخلك بيته؛ فاحمده على ذلك.

الكعبة حجةٌ لك أو عليك، فكم من أناسٍ أكثرُ منك مالًا، وأصح منك جسمًا، وأعلى منك همة في طلب الدنيا؛ ولكنه لم يذهب إلى العمرة أليس كذلك؟ .. وكم من أناس معهم المال الكثير ويستطيع أحدهم أن يأتي بتأشيرة العمرة في ساعة واحدة وهو جالسٌ في بيته؛ أو لا يحتاج إلى تأشيرة أصلًا بل هو من أهلها ولكنه حُرِمَ من العمرة؛ لأنه لا يهتم بذلك، لا يعنيه ذلك، لم يقذف الله في قلبه هذه الرغبة، ليس عنده شوق إلى بيت الله؛ لذلك نريد الشوق إلى بيت الله ..

كنتُ جالسًا ذات يوم في الحرم أمام الكعبة وفوجئت ببعض الإخوة يقولون: تعالى يا شيخ من فضلك، قلت: ماذا حدث؟، قالوا: هناك رجل نريد أن تراه، دقيقة واحدة، لن نأخذ من وقتك كثيرًا، فذهبت معهم،

(1) صحيح موقوفًا على ابن مسعود وابن عمر، وصححه الألباني في "مناسك الحج" ص 53.

ص: 297

فوجدت رجلًا كبير السنن يرتدي ملابس الإحرام ويجلس على الأرض فقالوا: هذا الرجل طاف ثلاثة أشواط فقط من طواف العمرة ولا يريد أن يكمل الطواف، فقلت له: لماذا يا حاج؟، هل أديت العمرة؟، قال: لا، قلت: فلابد أن تطوف سبعة أشواط، فقال: لقد تعبت، قلت: إذا نأتيك بكرسي متحرك لتكمل عليه الطواف، فقال: لماذا، وهل أنا مقعد مشلول؟!

فقلت: لا عليك، استرح قليلًا، نم ساعة أو ساعتين في الفندق ثم تعال اعمل عمرة من البداية مرة أخرى، أو تكمل الطواف بعد أن تستريح الآن، يمكن أن تستريح ثلث ساعة ومادام الفاصل لم يطل أكمل الطواف وليس ثمة مشكلة، هيا أكمل أربعة أشواط أخرج؛ فقال: لا، يكفي ذلك!، قلت: إذًا ارجع ولكن احتفظ بثياب الإحرام ثم تعال غدا لتؤدي العمرة، فقال: لا، لقد مللت من هذه الثياب وسوف أخلعها!، عندئذ شعرت أني سأجن .. ماذا حدث؟!، كم من ملايين الناس يتمنون المجيء إلى هنا ولا يستطيعون، وهذا يأتي أمام الكعبة ولا يريد إكمال العمرة!!.

ولما جلست وحدي أخذت أفكر في هذا، فللَّه الحجة البالغة، قلت: هذا من باب إقامة حجة الرب على العبد؛ لأن العبد يظل يقول: يا رب أريد أن أعتمر .. أتمنى عمرة .. لو أديت العمرة فسوف أهتدي وسوف تتحسن أحوالي، وحتى لا يأتي يوم القيامة ويقول: يا رب لو وفقتني لعمرة لاهتديت، فيقول الله له بهذه المواقف: بل هأنذا أعطيك عمرة، وأتيت بك حتى وصلت إلى بيتي، ولكنك لم تهتد ولم تتحسن، فيكون وجود الكعبة وذهابك إلى هناك وأدائك للعمرة من باب إقامة الحجة عليك أو لك.

ص: 298

المشهد الثاني: شعار العمرة .. لبيك لبيك، لا تنس ملازمة الطاعة والعبادة:

أيها الإخوة، إنك إذا ذهبت إلى العمرة، فلابد أن يكون لك برنامج تقوم به، تفاجأ بأن كثيرًا من الناس يضيع وقته في لا شيء، لا يدري أين يذهب، ولا يدري ماذا يصنع، ويبحث عن الشيخ فلان والشيخ فلان فيقول: رأيت الشيخ فلانًا هنا، وتجد من يذهب يتجول في شوارع مكة، ويهتم بالشراء والتليفونات وشراء الملابس والهدايا.

لماذا جئت؟!!، هذا السؤال لا بد أن يحكم تصرفاتنا، لماذا جئت؟.

لا بد من برنامج: ستطوف كم مرة في اليوم؟، ولا تقل لي: كيف أكثر من الطواف مع هذا الزحام؟، بل طف وأكثر من الطواف.

واعلم أن الزحام رحمة، كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يجلس في الحرم، فرأى رجلًا يطوفُ وهو يحمل أُمَّه على رأسه؛ فأسرع وقام وطاف خلفه، ثم بعد أن قضى طوافه قال: والله ما كانت لي رغبةٌ في الطواف غير أني لما رأيت هذا يطوف وهو يحمل أُمه؛ ظننت أن سينزل الله عليه رحمة؛ فأردت أن يصيبني شيءٌ منها.

لذلك أقول لك: قد يكون من بين هؤلاء الطائفين رجلٌ مرحوم فتنزل عليه وعليك رحمة، أنت لا تدري من الذي سيرحم في كل هؤلاء، ولا تدري من هو المخلص في كل هؤلاء الناس، لا تدري من في هؤلاء الناس ينظر الله إليه برحمة، فلا تخف من الزحام.

يوم في حياة معتمر:

رَتِّب لك برنامجًا، ولو أردنا أن نضع برنامجًا يوميًّا ثابتًا فسيكون لأصحاب

ص: 299

الهمة العالية الراغبين في الفردوس الأعلى من الجنة، الذين يريدون أن يرجعوا من العمرة وقد رضي عنهم ربهم؛ فأقترح عليك:

1 -

أن تطوف في اليوم أربع مرات.

2 -

تقرأ كل يوم عشرة أجزاء لتختم كل ثلاثة أيام.

3 -

تصلي مائة ركعة في اليوم.

4 -

استغفر ألف مرة.

ولا أقصد ألف مرة تحديدًا وإنما للتكثير، لا أقصد تحديد العمل وإنما أقصد كثرة العمل، لو عشت حياتك الإيمانية هكذا في مكة أثناء العمرة تكون قد وصلت للهدف من العمرة، وإياك والمشاغل الفارغة هناك.

* وأريدك وأنت تصلي في الحرم أن ترى الكعبة أمامك، دعك من أولئك الذي يصلون على السطوح بحجة أن صحن الطواف مزدحم وفيه نساء، أريد أن تظل الكعبة أمام عينيك طول الوقت؛ لكي تؤثر فيك، وتلهب مشاعرك، وتوقظك، وتفيقك، اقترب منها، فقد تنزل عليها رحمة فتنال منها نصيبًا، والقرب من الكعبة أيضًا يجعلك في وقار واحترام .. يجعلك في هيبة واحتشام على الداوم.

* وأنبهكم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وصلاة في مسجد الكعبة بمائة ألف صلى فيما سواه"(1)، الصلاة في المسجد بمائة ألف صلاة، وخارج باب الحرم بواحدة.

المقصود: اجعل لك برنامجًا ولا تترك نفسك على هواها، والتزم ونافس

(1) أخرجه الطبراني (1/ 700) في "الأوسط"، وصححه ابن عبد الهادي في "التنقيح"(2/ 111).

ص: 300

غيرك، وتابع وحاسب كل ليلة، في هذا البرنامج تنوي أن تطوف أربع مرات في اليوم، هذا على الأقل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من طاف بالبيت أُسبوعًا لا يلغو فيه غفر له ما تقدم من ذنبه"(1)، قف أمام الحجر الأسود وارفع يدك لتشير إليه، وانو بقلبك الطواف، واجعل في نيتك أنك ستطوف ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك.

وتجد من يأتي ليسأل: لو لمست امرأة في الطواف ينتقض وضوئي أم لا؟، إذا أحسست أنك مسستها توضأ، ولكن الأصل أنك تطوف بكل جوارحك فلا تشعر بأي شيء يحدث حولك.

طف حول الكعبة .. حول بيت ربك وعينك على الكعبة، وتخيل كيف كان سيدنا إبراهيم يبني وإسماعيل يساعده .. وكيف كان المشهد عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع الحجر الأسود .. تتذكر عبد الله بن مسعود عندما ضرب وهو يقرأ سورة الرحمن .. تطوف بالكعبة وتذكر سيدنا موسى وهو يطوف حولها.

تتذكر النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم -وهو مضطجع في ظل الكعبة وخباب بن الأرتّ يقول له: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟، ألا تستنصر لنا؟.

تلك هي الحياة وهذا هو الإيمان، تلك هي الطاعات، هذا هو الطعم واللذة الحقيقية.

نحتاج أن نطوف في ذروة الحر ولا نبالي ولو مرة واحدة، وفي ظلمة الليل ولا نبالي بالنوم .. وفي شدة الزحام وتشعر أنك تطوف وحدك .. عيشوا هذه الحياة أيها الإخوة .. عيشوا هذه المعاني، دعوكم من هذه الحياة الكدرة التي نعيشها هنا .. لنتخلص منها قليلًا، ولنعش معاني الإيمان بقلوبنا.

(1) أخرجه ابن حبان (3697)، وصححه الألباني (1143) في "صحيح الترغيب والترهيب".

ص: 301

الركعة هناك بمائة ألف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي:"فأعني على نفسك بكثرة السجود"(1)، وقال لثوبان:"عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة"(2).

صل ألف ركعة .. صل ألفي ركعة .. صل عشرة آلاف، وهناك يستحب عدم إطالة الصلاة بل تُكْثِرُ الركعات، فليس من الفقه أن تمسك المصحف وتظل طوال الليل في ركعتين، بل زد عدد الركعات.

ومن عجيب أن ترى من يجلس والإمام في الصلاة، الإِمام يصلي القيام وهو يجلس يتكلم في الدنيا، قم يا بني صَلِّ، يقول لك: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزد في رمضان ولا غيره على أحد عشرة ركعة، ويظل يناقش ويخرج بغير فائدة.

دعك منه.

أكثِرْ الصلاة، صلِّ صلاة الضحى من بعد الشروق حتى قبل الظهر بثلث ساعة، صل خمسين أو ستين ركعة من الظهر إلى العصر، ومن المغرب إلى العشاء، ومن العشاء إلى الفجر، صل ركعات كثيرة .. الركعة بمائة ألف، ولا تدري ماذا سيقبل؟، ربما تقبل سجدة فترحم بها، صَلِّ وزِد في الصلاة واستشعر معانيها.

المشهد الثالث: أنت هنا في بيته، فاطلب وأنت قريب:

ومن العجيب أنك تجد في الطواف مجموعة من الناس يمشون خلف واحد منهم يمسك كتابًا ويقرأ أدعية الطواف: دعاء الشوط الأول، وهم يرددون

(1) أخرجه مسلم (489).

(2)

أخرجه مسلم (488).

ص: 302

خلفه بغير أي فهم لما يقول: هل هو يقرأ أم يدعو؟، هل هم يرددون فقط أم يدعون ويطلبون من الله جل جلاله؟ .. دعك من هذا الكلام الرسمي.

أريدك أن تدعو من قلبك .. قل ما في قلبك .. اطلب من الله ما تريده .. اُشكُ لربك .. قل:

يا رب، أنا متعب .. أنا ضعيف .. ومفتون.

يا رب .. هذه المعاصي التي ارتكبتها لا أدري كيف تجرأت على فعلها! ..

يا رب، خذ بيدي .. يا رب تب عليَّ ..

يا رب اصرف عني السوء والفحشاء والمعاصي .. يا رب نجني .. يا رب لو تركتني سأضيع ..

يا رب ليس لي غيرك، قل ما في نفسك وادع الله بما في قلبك ودعك من التكلف، واستشعر عظمة الطواف، واستشعر وأنت تطوف وعينك على الكعبة أنك تكلم الله من جوار بيته .. يا رب .. جئتُ إليكَ في بيتك فهل ستطردني؟!

يا رب، إن كل مزور يكرم زائره، وقد جئتُ إليك، فهل تتركني أرجع بذنوبي كما جئت بها؟!، يا رب، أنت أكرم .. أنت أعظم .. أنت أحلم ..

يا رب، اغفر لي .. لن أرجع مرة أخرى إلى داري محملًا بالذنوب، وإلا فالموت هنا أفضل لي .. يا رب، اقبض روحي أمتني، لكن لن أرجع كما جئت .. يا رب، جئت إليك وأنت الطبيب تعالجني ..

هكذا كلِّم ربك، ناجه واطلب منه .. اشك إليه ..

ابدأ دعاءك بحمد الله ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع

ص: 303

رجلًا يدعو في صلاته فلم يحمد الله ولم يصلِّ على نبيِّه فقال: "لقد عَجَّل هذا"(1)، قبل أن تطلب أي شيء من الله ابدأ بالحمد والثناء عليه سبحانه، واشكره على نعمه، ثم صل على النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، ثم بعد ذلك اطلب.

النبي صلى الله عليه وسلم علمنا في دعاء القنوت أن نقول: "اللَّهم اهدني فيمن هديت"(2)، فهو الذي هدى سحرة فرعون يملك أن يهدينا ..

سبحان الملك!!، فلانة الممثلة وفلان المطرب؛ الله هداهم، فتقول: يا رب، اهدني فيمن هديت، يا رب، كما هديت هؤلاء اهدني، وكما تبت عليهم تب علي، وكما أصلحتهم أصلحني .. تضرع إلى الله واخفض صوتك وابك له.

اقترب من الكعبة وقف تحت الباب في الملتزم وتعلق، وتكلم من تحت عتبة الباب، باب الكعبة، بث همك لربك، أدخل رأسك في الحجر الأسود وقبله وابك، ثم صل ركعتين في حجر إسماعيل كأنك داخل الكعبة، وارتكن على الكعبة وقل: يا رب، أسلمت ظهري إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك.

هكذا عش حياتك الإيمانية؛ طواف وصلاة، وقراءة قرآن وذكر ودعاء، هناك في عمرة رمضان أعمال فذة تمثل طفرات في الإيمان، انفردت وحدك، تركت زوجتك وأولادك وأهلك وجئت هنا في الحرم فلابد أن تنظم وقتك، لا سيما مع عدم وجود المشاكل عندك الآن.

وهنا يبدو للبعض أن يسأل: أيهما أفضل: حج المرء مع صحبة أو

(1) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والألباني في "صفة الصلاة" ص 86.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 200)، وصححه الألباني (20) في "مشكاة المصابيح".

ص: 304

الاعتمار مع صحبة، أم وحدك؟، لا شك أن الصحبة معينة، والمنافسة نافعة، والمتابعة مشجعة، ولكن الانفراد هو الأولى؛ فلذلك يمكنك أن تجمع بين الأمرين، أن تجلس معهم ساعة الإفطار، أن تراهم في صلاة الجماعة، وفي غير ذلك انفرد بنفسك بعيدا عنهم، اجلس بين أناس لا يرفك فيهم أحد، اجلس وحدك، وابدأ في عمل بل أعمال لم تعملها قبل ذلك في عمرك، كما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ختم القرآن في ركعة واحدة أوتر بها في الحِجْر.

المشهد الرابع: طفرات إيمانية:

لا بد من طفرات إيمانية، وفرصتك هناك في العمرة أفضل لكي تخرج من بئر الحرمان، وتجربة الحسرات، ومن وهدة الغفلة، ومن وادي المعاصي، لا بد من طفرات إيمانية ترفعك عاليًا لتخرج من هذه الغفلات المتتالية.

أولًا: ختم القرآن في ركعة:

في هذه الأوقات والأماكن اختم القرآن في ليلة كما فعل عثمان، قد تقول لي: وهل هذا ممكن؟!، هل يمكن ختم القرآن في ليلة؟!، أقول: نعم، وهذا هو فعل عثمان.

استعن بالله وسوف يوفقك الله لذلك، اقرأ بعد الفجر، وبعد الظهر وبعد العصر، وبعد المغرب، وبعد العشاء ستختم ختمة وأنت مستريح بتؤدة .. قم بعملها مرة، إنك محتاح إلى طفرة كهذه .. طفرة كبيرة في أعمال الإيمان؛ لتتلخص من رق الذنوب التي تعيش فيها.

ثانيًا: طواف وصلاة:

أيضًا من الطفرات المطلوبة أن تطوف سبعة أشواط ثم تصلي ركعتين؛ ثم

ص: 305

تطوف سبعة أخرى وركعتين، ثم سبعة أخرى وركعتين، هكذا طوال الليل من بعد العشاء حتى الفجر، تبقى في الطواف فقط، صحيح ستؤلمك قدماك، وستتألم من ظهرك وقد تصاب بالصداع؛ ولكنها مرة لله عز وجل.

ثالثًا: قيام الليل مئة ركعة:

ومن الطفرات المطلوبة أيضًا أن تصلي من العشاء إلى الفجر ركعتين ركعتين، وتعبر حاجز المائة ركعة لتسجل عند الملك في السابقين الفائزين؛ لأنك ذكرت الله فذكرك.

رابعًا: قلة النوم:

ومن الطفرات الإيمانية أيضًا أن تقلل ساعات نومك ما استطعت .. رحم الله مشايخنا، كنا قديمًا نعيش الثلاثين يومًا من رمضان في الكعبة على التمر وماء زمزم فقط.

طعام خفيف لا تحتاج معه إلى حمام ولا تصاب بمغص في البطن، ولا تشعر بكثرة النوم، بل تجد خفة ورقة، ودائمًا أقول: لو لم يكن في كثرة الأكل آفة إلا كثرة دخول الحمام لكفى.

خامسًا: طفرة حياتية:

نريد طفرة حقيقية في حياتك عمومًا، جرب أن تقلع عن الشاي شهرا، تترك أكل اللحوم شهرًا، لن يحدث لك شيء لن تموت، لا بد من طفرة في حياتك الإيمانية، أصنع أشياء لم تعملها من قبل، صلِّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل؛ صل في الركعة الأولى بالبقرة وآل عمران والنساء، واجعل ركوعك مثل ذلك وسجودك مثل ذلك، ثم تصلي الركعة الثانية بالمائدة والأنعام، فتقضي الليل في ركعتين عملًا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث حذيفة في الصحيحين.

افعلها ولو لمرة واحدة في حياتك.

ص: 306

المشهد الخامس: الأنس بالله:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي"(1)، ليست مجرد حجة، بل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، تستشعر وأنت تقوم بأداء العمرة في رمضان أنك مع النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم، حين تشعر أنك تحج مع النبي صلى الله عليه وسلم تشعر بالأنس، وكثيرًا ما قلت: قال العلماء: إن في معاني الإيمان معالم على الطريق، من لم يرها فإنه لم يسر قط، لم يسلك الطريق.

أول معلم منها: الأنس بالله، من لم يشعر بالأنس فهذا لم يسرِ في الطريق؛ فإن أول معلم في الطريق الأنس بالله، هذا المعلم إذا أحسست به اطمأننت أنك تسير في الطريق، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأنس به، وعلامة الأنس به الاستيحاش من الخلق، فلا تأتنس بالناس، فتحب الخلوة، والانفراد عن الناس؛ لتأنس بالله، وخصوصًا وأنت في بيته عنده سبحانه، جئت إليه فارًّا من الناس، مهاجرًا إليه، طالبًا للجوء الإيماني كي يؤويك، استشعر المعنى ثم اطلبه بإلحاح تجده.

المشهد السادس: تعظيم أمر رمضان:

رمضان شهر عظيم كريم، وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله كتب أجره ورحمته وبركته للناس قبل أن يدخله"(2)، الله كتب رحمته للناس في رمضان قبل دخول رمضان، وكتب إثمه وشقاءه وحرمانه قبل أن يدخله، يكتب الله من هو المرحوم ومن هو المحروم، فمن تعظيم أمر رمضان أن تتحرى مواطن الرحمة، فإذا ذهبت عند الكعبة اجتمع لك شرف

(1) متفق عليه، البخاري (1764)، مسلم (1256).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 374)، وصححه شعيب الأرنؤوط.

ص: 307

المكان وشرف الزعان ومضاعفة الأعمال، فليس الصيام فقط يتضاعف، بل هناك قيام وذكر وتلاوة قرآن وطواف وإطعام طعام، وأعمال بر وتقى لا تعد ولا تحصى، وشرب ماء زمزم، وسعي بين الصفا والمروة وتقبيل الحجر، وصلاة في الحجر.

ومس الركن لليماني، والوقوف في الملتزم، والصلاة خلف المقام، والصلاة في حجر إسماعيل، كل هذه أعمال لا تتيسر إلا هناك؛ فلذلك نعتمر في هذا الشهر التماسًا لبركة تلك الأعمال مجتمعة هناك، فأشعر قلبك أنك أتيت إلى هنا وتفعل كل هذه الأفعال طلبًا لتعظيم هذا الشهر العظيم لأن الله عظمه.

مسألة المكث في مكة أفضل من المكث في المدينة:

تجد بعض الناس يقول: سوف أنتهي من العمرة ثم أذهب إلى المدينة؛ لأن مكة مزدحمة، وأنا أشعر بارتياح قلبي في المدينة أكثر.

وهذه مسألة الترجيح فيها بالهوى، مسألة تقليد الناس واتباع أقوال العامة أن المدينة أكثر راحة عن مكة، وهذا مفهوم خاطئ، ومن تلبيس إبليس.

لا نريد أن ننساق وراء كلام الناس، لا بد لن يكون كلامنا منضبطًا بالشرع: في مكة توجد الكعبة بيت الله، وفي المدينة يوجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن نخلط بين ما لله من حق، وما لرسوله صلى الله عليه وسلم من حق، الرسول صلى الله عليه وسلم دعا للمدينة فقال:"اللَّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:"اللَّهم إن إبراهيم حرَّمَ مكة وأنا أحرِّمُ المدينة"(2)، فالدعاء أن تكون

(1) متفق عليه، للبخاري (1790)، مسلم (1376).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 393)، وصححه شعيب الأرنؤوط.

ص: 308

المدينة مثل مكة، والمقارنة بين مكة والمدينة واضحة، الصلاة في مكة بمائة ألف، وفي المدينة بألف، فأيهما يكون أربح؟

إنك تجد في كتاب الله عز وجل الثناء كل الثناء على مسجد الكعبة، فأين ما يقابله في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؟!، ولست بهذا أهوِّن من أمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عياذًا بالله؛ وإنما نضع الأشياء في موضعها الصحيح، نعطي كل شيء حجمه اللائق به، وهذا من العدل الذي أمرنا الله به، ومن الفقه الذي نريد دلالة الأمة عليه حتى لا يفوتها عظيمُ الأجر، أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة:"واللهِ لأنتِ أحبُّ بلادِ اللهِ إلى الله، وأحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ"(1)، والمسجد الحرام هو أول مسجد وضع على ظهر الأرض، وليس بقعة في الأرض يشترط لدخولها الإحرام والتجرد من الملابس إلا مكة.

إن مكة هي مكة، والمدينة هي المدينة، فحدِّد هدفك من عمرتك ولا تختر ما يوافق هواك، بل اختر ما هو خيرٌ لك في آخرتك، إننا نحب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من أجل النبي صلى الله عليه وسلم فحسب بل نحبه لله ابتداء، هذه الأمور لا بد أن تنضبط انضباطًا صحيحًا لا غلو فيه ولا جفاء.

فاعتكافك في مكة يختلف عن اعتكافك في المدينة، صلاتك في مكة تختلف عن صلاتك في المدينة، لا تظن أني بذلك أنهاك عن الذهاب إلى المدينة، كلا .. بل يستحب زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فاحرص على ذلك .. أسأل الله جل جلاله أن يتابع لنا بين الحج والعمرة، وأن يرزقنا العمرة في رمضان دائمًا ولا يحرمنا منها، وأن يرزقنا الإخلاص فيها.

(1) أخرجه أبو يعلى (5/ 69)، وقال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.

ص: 309