الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر
نسائم الأسحار
اقعد على جانب وادي السحر؛ فلعل إبل القوم تمر بك .. منهم تعلمتِ الحمام النَّوْح والإبلُ الحنينا .. وآسفَ المتقاعدِ عنهم، واحسرةَ البعيدِ منهم.
نسائم الأسحار
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
في وسط سياق الآيات التي تتحدث عن الصوم، نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة، نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله، نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء، تصوره ألفاظ شفافة تكاد تنير:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .
فإني قريب .. أجيب دعوة الداع إذا دعان .. آية رقة؟!، وأي انعطاف؟!، وأية شفافية؟!، وأي إيناس.
وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب؟!! وظل هذا الإيناس.
وفي كل لفظ في الآية كلِّها تلك النداوة الحبيبة: إضافة العباد إليه سبحانه، والرد المباشر عليه منهم سبحانه، لم يقل لهم: فقل لهم إني قريب، إنما
تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال .. قريب .. ولم يقل: أسمع الدعاء .. إنما عجل بإجابة الدعاء: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ..
إنها آية عجيبة .. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين .. ويعيش منها المؤمن في جنابٍ رَضَىٍّ وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين.
وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة السريعة من الله يوجه الله تعالى عباده للاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح، فالثمرة الأخيرة من الاستجابة هي لهم كذلك، وهي الرشد والهدى والصلاح، فالله غني عن العالمين.
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد المطلوب للحياة السعيدة التي ترضي الله، واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له وهم يرشدون، وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه، فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم، فسبحان من أطمع المطيع والعاصي، والداني والقاصي في الانبساط إلى حضرة جلاله برفع الحاجات والأماني بقوله تعالى:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ..
تدل هذه الآية على تعظيم حال الدعاء من وجوه:
الأول: كأنه سبحانه وتعالى يقول: عبدي .. أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك.
الثاني: أن قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} يدل على أن العبد له، وقوله:{فَإِنِّي قَرِيبٌ} يدل على أن الرب للعبد.
والثالث: لم يقل: فالعبد مني قريب؛ بل قال: أنا منه قريب ..
وانظر إلى كرم الجواد الذي إذا لم يُسأل يغضب، قال تعالى:{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وقال تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لم يسأل الله يغضب عليه"(1).
فالدعاء تذلل وخضوع، وإخبات وانطراح على سُدَّةِ الكريم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفرًا خائبتين"(2).
وإن لم يكن رمضان وقت الدعاء المستجاب، ففي أي شهر يكون الدعاء؟، وهو وقت الشفاة الذابلة والطاعة الكاملة، والبطون الضامرة، وقت نزول الملائكة، وقت فتح أبواب الرحمة وأبواب السماء.
ولكن أبواب السماء تحتاج إلى مفاتيح تنفتح بها؛ فإن الله جل جلاله بحكمته ورحمته جعل لكل شيءٍ سببًا، وأمرنا بالأخذ بالأسباب لنصل إلى مراده سبحانه وتعالى من غير أن نتعلق بها؛ فهو سبحانه غنيٌّ عن الأسباب، ولكنها من سنن الله الربانية أن تكون البداية من العبد في إظهار الافتقار والحاجة والله يتمم له ويعطيه أكثر من مراده.
ولذلك جمع العلماء للدعاء آدابًا وأسبابًا يُرجى لمن التزمها أن يحوز دعاؤه القبول، أحب قبل أن ندعو وقبل أن أذكر لك طرفًا من عيون دعاء الصالحين؛ أن أسردها لك ابتداءً.
(1) أخرجه أحمد (2/ 442)، وصححه الألباني (2418) في "صحيح الجامع".
(2)
أخرجه أبو داود (1488) وصححه الألباني (1757) في "صحيح الجامع".