الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلاة التراويح في رمضان
شهر رمضان شهر كله خير وبركة، وسبحان الله الكريم، أعطى فيه من فرص المغفرة للمؤمنين ما يفوق الأمنيات، ولكن وسبحان الملك العليم القدير تجد في شهر رمضان علامة مميزة عجيبة دون غيره من الشهور، كأنها شامة في جبين هذا الشهر ألا وهي قيام رمضان.
ففضلًا عن أن قيام رمضان يستوجب مغفرة الذنوب المتقدمة، فلقيام رمضان لذة وبهجة خاصة عجيبة ليس كمثلها شيء.
سبحان الملك!، قد يقوم الإنسان كثيرًا وطويلًا على مدار السنة؛ ولكن قيام رمضان له مذاق خاص يختلف عن جميع السنة، وسبحان الملك أيضًا القرآن في رمضان له مذاق خاص يختلف عن جميع أيام السنة، وفي القيام: القرآن.
والليل في رمضان له مذاق خاص أيضًا يختلف عن جميع ليالي السنة.
وأيضًا هذه من خصوصيات رمضان، أن تجد القيام سهلًا على جميع الناس، حتى إنك لتجد بعض من لا يصلي الفرائض في غير رمضان يصلي القيام في رمضان، ومن خصوصيات هذا الشهر الكريم أيضًا نداوة الأصوات، فأحلى قرآن تسمعه في حياتك تسمعه في ليالي رمضان.
وإليك أخي الحبيب بعض المنشطات لقيام رمضان أولها فوائد هذه العبادة.
فوائد صلاة التراويح:
(1)
قيام رمضان من الإيمان؛ ومغفرة لسالف الذنوب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"(1)، قال الشيخ الألباني رحمه الله: هذا الترغيب وأمثاله بيان لفضل هذه العبادات، بأنه لو كان على الإنسان ذنوب؛ فإنها تغفر له بسبب هذه العبادات، أما إذا لم يكن للإنسان ذنب، يظهر هذا الفضل في رفع الدرجات كما في حق الأنبياء المعصومين من الذنوب.
(2)
استحقاق قائمه اسم الصديقين والشهداء:
وهذا فيض الكريم وجوده، يسوقه صلى الله عليه وسلم وفيه الغُنْم كل الغنم: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من الصديقين والشهداء"(2).
(3)
من قام مع إمامه كتب له قنوت ليلة:
فقد جاء في حديث أبي ذر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا صلى مع الأمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة"(3)، فاتق الله في عمرك، وأقبل على صلاة التراويح يقبل الله عليك، أن تُحْسبَ لك عند الله ليلة فكل ليالي العمر هَدَر وضياع لا قيمة لها إلا أن تقومها لله عز وجل؛ فعندها يُحْسب لك عند الله قيام ليلة واحتساب هذا الأجر عند الله عظيم؛ فاصبر على إمامك حتى ينصرف ولا تستعجل فتخسر ليلتك.
(1) متفق عليه، البخاري (37)، مسلم (759).
(2)
أخرجه ابن حبان (3438)، وصححه الألباني (993) في "صحيح الترغيب والترهيب".
(3)
أخرجه أحمد (5/ 159)، وصححه الألباني (1615) في "صحيح الجامع".
(4)
اختر لنفسك اسمًا عند الله:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتِبَ من القانتين، ومن قام بألف آية كُتِبَ من المقنطرِين"(1).
إذا علم المسلم اطلاع الله على حاله، وقربه منه، وذِكْرَ الله للعبد، علم أن له إسمًا عند الله يعرف به عند الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"(2)، وفي هذا الحديث الذي معنا أسماء الناس في الليل، فاختر عملًا يكتب لك به أسمًا عند الله.
(5)
القيام شرف:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرف المؤمن قيام الليل"(3)، وسبحان الملك!، هذا سبيلٌ يتشرف به الإنسان ليكون عند الله شريفًا، وإن البحث عن هذه الصفة، والانشغال بالوصول إليها، والانتساب إلى هذا الاسم؛ لواجب حتم على كل من يبتغي الرفعة؛ فهيا إلى قافلة الشرفاء، وواظب على قيام الليل تكن من الشرفاء.
(6)
قافلة الصالحين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم"(4)، نعم .. من أراد أن ينضم إلى قافلة الصديقين والشهداء ثم انضاف إلى قافلة
(1) أخرجه أبو داود (1398) ، وصححه الألباني (6439) في "صحيح الجامع".
(2)
أخرجه مسلم (2607).
(3)
أخرجه الحاكم (4/ 360)، وحسنه الألباني (831) في "السلسلة الصحيحة".
(4)
أخرجه الترمذي (3549)، وحسنه الألباني (2814) في "صحيح الترمذي".
الشرفاء؛ فليجعل قيام الليل دأبه لأنه دأبهم وعلامتهم، وكأنك تستشعر من كلمة الدأب المداومة والصبر والاجتهاد في هذا العمل، فاجتهد فيه كجهدهم تكن منهم.
(7)
القيام شفاء وعافية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد"(1)، سبحان الله العظيم الذي من عرفه لم يبخل عليه بِنَفَسٍ من أنفاس حياته، فإنه نِعْمَ التعامل مع الكريم، إذا ضحيت لله بجزء من راحتك عوضك عن ذلك راحة أكثر وصحة أفضل، بل إنه سبحانه يجعل قيامك له وأنت تغالب شهوة النوم فتطردها، فيجعل الجزاء من جنس العمل، أن يطرد مقابل ذلك: الداءَ عن جسدك، فإلى الباحثين عن الصحة، عليكم بقيام الليل فإن رضى الله وقَبِل؛ طرد الأمراض والأدواء عن أجسادكم.
(8)
عصمة من الذنوب:
مر معنا في الحديث السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر في مناقب قيام الليل أنه منهاة عن الإثم، نعم والله:
كيف لقلبٍ ذاق حلاوة قيام الليل أن يصبح فيعصي ربه:
كيف لقلبٍ استشعر في الليل وهو قائم رؤية الله له ومباهاته، به ثم يصبح فيعصي الله.
كيف لقلب بات يناجي ربه ويتلذذ بكلمات الله، ثم يصبح تاركًا طاعة به، إنها المكافأة.
(1) أخرجه الترمذي (3549)، وحسنه الألباني (2814) في "صحيح الترمذي".
كما قال الحسن: من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله.
(9)
الله يباهي بالقائمين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام الرجل من الليل يصلي فغلبته عيناه فنام في سجوده؛ فإن الله يقول لملائكته: انظروا يا ملائكتي، هذا عبدي روحه عندي وجسده بين يدي، اكتبوا له قيامه، واجعلوا نومه صدقة مني عليه"(1)، سبحان الملك الكريم!، الله يباهي ملائكته بساجد نائم، فما بالك بالمتيقظ المُقَاوِم؟ .. هذا شرف لا يُقَاوَم.
(10)
سبيلٌ لمحبة الله:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يحبهم الله ويستبشر بهم ويضحك إليهم" وذكر منهم "رجلٌ عنده امرأة حسنة، وفراش حسن، ثم قام يصلي، فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا يا ملائكتي، هذا عبدي، عنده فراش حسن، وزوجة حسنة، فتركهما، ثم قام يصلي يتملقني، ويتلو آياتي، ولو شاء رقد"(2)، انظر أيها الحبيب المحب، كيف أن كل ما تبذله لله له قدر عند الله، ويقع عند الله بموقع، والشاهد: قوله سبحانه للملائكة: "ولو شاء رقد"؛ فالله يحفظ لك جميل أنك غالبت الرقود وآثرتَ القيام؛ فأحبك، واستبشر بك، وضحك لك.
(11)
القيام نور الوجوه والقلوب:
قيل للحسن: ما بال القائمين أحسن الناس وجوهًا؟، فقال: إنهم خَلَوْا بالله في السحر فألبسهم من نوره.
(1) أخرجه ابن ماجه (1344)، وصححه الألباني (1105) في "صحيح ابن ماجه".
(2)
أخرجه الحاكم (1/ 77)، وصححه الألباني (3478) في "صحيح الترغيب والترهيب".
نعم نشهد، وقد رأينا أن أهل القيام أحسن ناس وجوهًا ، إذا رأيتهم ذكرت الله، ورعُهم ظاهر، وحلاوتهُم فائقة، وملاحتهم بادية على سرائرهم.
فاعلم يا أخي- هدانا الله وإياك إلى سبيله الأقوم -أن الناصح لنفسه لا تخرج عنه مواسم الطاعات عطلًا؛ لأن الأبرار ما نالوا البر إلا بالبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة-، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"(1).
فهلمَّ يا باغي الخير إلى شهر يُضاعف فيه الأجر للأعمال، فنَصَبُ المجتهدين في خدمة مولاهم في هذا الشهر هو الراحة، هبَّتْ على القلوب نفحةٌ من نفحات نسيم القرب في رمضان، وسعى سمسارُ الوعظ للمهجورين في الصلح، ووصلت البشارةُ فيه للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق، فلم يبق للعاصي عذر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول:"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"(2).
قال الخطابي: إيمانًا واحتسابًا: أي نية وعزيمة، وهو أن يقومه على التصديق والرغبة في ثوابه، طيبة به نفسه، وقال البغوي: احتسابًا: أي طلبًا لوجه الله.
ومن المعلوم أن قيام رمضان يسمى بصلاة التراويح، قال الحافظ ابن حجر: التراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين.
(1) أخرجه مسلم (233).
(2)
متفق عليه، البخاري (37)؛ مسلم (759).
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الجماعة فيها، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في رمضان فرأى ناسًا في ناحية المسجد يصلون، فقال: ما يصنع هؤلاء، قال قائل: يا رسول الله، هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، أبي بن كعب يقرؤهم معه يصلون بصلاته، فقال:"قد أحسنوا، أو قد أصابوا"، ولم يكره ذلك لهم (1).
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم التراويح، فعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح ، قال: وكنا ندعو السحورَ الفلاحَ.
وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء رجلٌ آخر فقام أيضًا حتى كنا رهطًا، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة ، ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا، قال: قلنا له حين أصبحنا: أفطنت لنا الليلة؟ ، فقال:"نعم، ذاك الذي حملني على الذي صنعت"(2).
* إحياء عمر لسنة الجماعة في التراويح:
كان الناس يقوم كل واحد منهم رمضان في بيته منفردًا، حتى انقضى صدر من خلافة عمر.
يقول عبد الرحمن القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى االمسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل
(1) أخرجه البيهقي (4386) ، وحسنه الألباني (1) في "صلاة التراويح".
(2)
أخرجه مسلم (1104).
فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثم خَرَجتُ معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر:"نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله"(1).
* فضل أداء التراويح جماعة:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان، فلم يقم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبع -أي سبع ليال- فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة، فقال:"إن الرجل إذا صلى مع الإِمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة"(2)، فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونسائه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قلت: وما الفلاح؟، قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر.
والشاهد من هذا الحديث قوله: من قام مع الإِمام، فإنه ظاهر الدلالة على فضيلة قيام رمضان مع الإِمام.
قال صاحب "عون المعبود": حصل له ثواب قيام ليلة تامة.
وقيل للإمام أحمد: يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان أو وحده؟، قال: يصلي مع الناس.
وقال: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه، لحديث النبي "إذا قام مع الأمام
…
".
(1) أثر صحيح. الألباني (15) في "صلاة التراويح".
(2)
أخرجه أحمد (5/ 159)، وصححه الألباني (1615) في "صحيح الجامع".
• وبذلك يكون تطور التراويح في العصر النبوي:
أولًا: بدأت بالترغيب فيها دون أن يعزم عليهم.
ثانيًا: انتقلت إلى السنة والندب مقرونه بفريضة الصيام.
ثالثًا: أُدِّيتْ بالفِعل، أداها أوزاعٌ من الناس.
رابعًا: تسلل الناس إلى مصلاه صلى الله عليه وسلم فائتموا به صلى الله عليه وسلم، وهو لا يشعر بهم، ثم أقرهم على ذلك وهو لا يقر على باطل.
خامسًا: تقريره صلى الله عليه وسلم لمن يصلي بالناس سواء في المسجد أو في البيت.
سادسًا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بالفعل بأهل بيته.
سابعًا: صلاته هو صلى الله عليه وسلم بأهل بيته والناس عدة ليال متفرقة.
عدد ركعات قيام رمضان:
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن نفس قيام رمضان لم يوقِّت فيه النبي صلى الله عليه وسلم عددًا معينًا؛ بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد على ثلاث عشرة ركعة؛ لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من عدد الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين؛ فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين أفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشرين وبين الأربعين، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد منه ولا ينقص فقد أخطأ.
وكذلك لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم حدد مقدار القراءة في كل ركعة؛ بل يختلف ذلك بحسب نشاط القوم، فقد أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما بالناس في رمضان، وقال قائلهم:"فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العِصِّيِّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر".
وقال أبو داود: سئل أحمد عن الرجل يقرأ القرآن مرتين في رمضان يؤم الناس؟، قال: هذا عندي على قدر نشاط القوم، وإن فيهم العُمَّال. اهـ كلام ابن تيمية رحمه الله.
أخي الحبيب: لا تنشغل بمناقشة عدد ركعات القيام مع الآخرين ولا تجادل وتضيع رمضان، عليك بالعمل: فاجتهد في أن تقوم أكثر الليل ولا تضيع وقتك مع البطالين.
ويجوز للنساء حضور الجماعة في قيام رمضان، إذا تأدبن بآداب الخروج الشرعية من الحجاب، وعدم التطيب، وعدم رفع أصواتهن أو الاختلاط بالرجال في المواصلات والشوارع ونحو ذلك، وغض البصر، وعدم البقاء لوقت متأخر خارج المنزل دون محرم، وإلا فصلاتهن في بيوتهن أفضل، ويمكن لرجل من أهل. البيت أن يؤمهن للصلاة، فعن جابر قال: جاء أبي ابن كعب في رمضان فقال: يا رسول الله كان مني الليلة شيء، قال:"ما ذاك يا أبي؟ "، قلت: نساء داري قلن: إنا لا نقرأ القرآن، فنصلي خلفك بصلاتك، فصليت بهن ثمان ركعات والوتر، فسكت عنه وكان شبه الرضا (1).
ويمكن أيضًا أن تؤم المرأةُ النساءَ في قيام رمضان، عن أم ورقة الأنصارية:
(1) أخرجه ابن حبان (254)، وحسنه الألباني (79) في "صلاة التراويح".
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة، وكان لها مؤذن.
وإذا لم يكن الإِمام قارئًا، جاز له أن يصلي بالناس ويقرأ من المصحف، فقد كانت السيدة عائشة تأمر مولى لها يؤمها في شهر رمضان في المصحف، وعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: زعم الزبيري أنه إذا ختموا القرآن رفعوا أيديهم ودعوا في الصلاة؟، فقال: هكذا رأيتهم بمكة يفعلون، وسفيان يومئذ حي، يعني في قيام رمضان، وكذلك الاستراحة بعد كل أربع ركعات بجلسة يسيرة فعله السلف، ولا يدعو إذا استراح.
أخي .. وحبيبي:
الصلاة مكيال .. فمن وَفَّى وُفِّيَ له، ومن طَفف؛ فقد علمتم ما قيل في المطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهوته، ويطفف في مكيال قيامه وصلاته؟!، ألا بعدًا لمدين.
إذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا، فكيف حال من طفف في مكيال الدين؟، كيف حال المسيئين في عباداتهم؟، أرحموا من حسناته كلها سيئات، وطاعاته كلها غفلات.
كيف لا تجري للمؤمن على هذه الأيام دموع، وهو لا يدري هل بقي له من عمره رجوع، متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟
من رد في ليلة القدر متى يصلح؟، كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يُقطع.
شهر رمضان شهر المصابيح، شهر التهجد والتراويح، واهًا لأوقاته من
زواهر ما أشرفَها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفَها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حِليتُها الإخلاص والصدق، وثمرتها الخلاص والعتق.
فطوبى لعبدٍ صام نهاره، وقام أسحاره .. يا حُسنه ومصابيح النجوم تزهر، والناس قد ناموا وهو في الخير يسهر، غسلَ وجهَهُ من ماء عينهِ، وعينُ العينِ أطهر وأطهر.
إذا ما الليلُ أظلم .. كابدوه:
حبيبي في الله ..
لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام، والخَلِيُّون هُجَّع، وقد سكن الكون كله، وأرخى الليلُ سدولهَ، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك، وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، ويطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلح في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء، ولا يشغله عن شيء شيء، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، وتسأله لدنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وأمانيك ووطنك وعشيرتك، ونفسك وإخوانك.
الليل سكون وهدوء، وفي الهدوء تركيز وصفاء والناس نيام، وفي ذلك بعد عن الرياء، الليل خَلوة مع الله، وفي الخلوة قرب وأنس ومناجاة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"(1)، وإنما كانت صلاة الليل أفضل؛ لأن
(1) أخرجه مسلم (1163).
القلب فيها يكون أكثر إقبالًا على الله، وابعد عن الشواغل، ولما كان وقت الليل والتهجد فيه أفضل أوقات التطوع بالصلاة، فيها يكون العبد قريبًا من ربه، فيها تفتح أبواب السماء ويستجاب فيها الدعاء، فينبغي عليك أن تواظب عليها خلال شهر رمضان.
قال الأزدي: سمعت الخَوَّاص يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
ولكن لا ينهض إلى قيام الليل إلا أهل المجاهدة والمغالبة وأولو العزم، فالنهوض إلى الله في هذه الساعات أشد وطئًا على النفس وأثقل من النهوض إليه بغيرها؛ ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة وسمات النفوس الكبيرة، فعلينا أن نُدْخِل هذا في حسابنا ولا نغفل عنه؛ حتى لا تخدعك نفسك وتضيِّع عليك عملًا من أفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل في هذا الشهر وغيره، وإنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور، ومن تلمح حلاوة العاقبة هان عليه مرارة الصبر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقربُ ما يكون العبد من الرب في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن"(1).
وصف المتهجدين وليلهم:
في وصف ليلة واحدة من ليالي أهل القرب والصفاء أهل السبق والنقاء أهل الله المخلصين:
يقول ابن القيم -عليه رحمة الله: "أما السابقون المقربون فنستغفر الله
(1) أخرجه الترمذي (3579)، وصححه الألباني (2053) في "صحيح الجامع".
الذي لا إله إلا هو، أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم، فاسمع الآن وصف القوم واحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل، فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح.
فنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنه يطلع على ما يريه إياه القدر المشترك، وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكرًا صفاته العلى وأسمائه الحسنى، مشاهدًا له في أسمائه، وقد تجلت على قلبه أنوارها، فانصبغ قلبهُ بمعرفته ومحبته، فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلًا منكسرًا من كل جهه من جهاته، فيا لها سجدةً ما أشرفَها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
وقيل لبعض السلف: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ ، قال: إي واللهِ، بسجدةٍ لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة، فشتان بين قلب يبيت ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، وخرق حُجُبَ الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه في داره، فشاهد عِزَّ سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأنه وبهاء كماله. فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهدًا لقلبه أَنْسَتْهُ ذِكرَ غيره، وشغلته عن حب من سواه.
وبالجملة: فيبقى قلب العبد -الذي هذا شأنه- عرشًا للمثل الأعلى -أي
عرشًا لمعرفة محبوبه ومحبته. وناهيك بقلبٍ هذا شأنه، فياله من قلب مِنْ ربه ما أدناه!!
فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في فرشهم كما قال أبو الدرداء:"إذا نام العبد المؤمن عُرج بروحه حتى تسجد تحت العرش، فإن كان طاهرًا أُذن لها في السجود، وإنْ كان جُنُبًا لم يؤذن لها بالسجود" وهذا -والله أعلم- هو السر الذي لأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ.
فإذا استيقظ هذا القلب من منامه، صعد إلى الله بهمته وحبه وأشواقه، مشتاقًا إليه، طالبًا له، محتاجًا له، عاكفًا عليه، فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولابد له منه، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النَّفَس والطعام والشراب ، فإذا نام غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه وإلى الشوق الشديد والحب المقلق، فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظة كما قال بعض المحبين لمحبوبه:
وآخِرُ شيءٍ أنتَ في كُلِّ هَجْعَةٍ
…
وأولُّ شيءٍ أنتَ عِنْدَ هُبُوبي
فأُفٍّ لقلبٍ لا يصلح لهذا ولا يُصَدِّق به، لقد صُرف عنه خيرُ الدنيا والآخرة.
فإذا استيقظ أحدهم، وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إليه، واستعطافه والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يُخَلِّي بينه وبين نفسه وألا يكله إليها فيكله إلى ضعفٍ وعجز وذنبٍ وخطيئة، بل يكلأه كَلاءَةَ الوليد الذي لا يملك ضَرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نَشُورًا.
فأول ما يبدأ به: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" متدبرًا
لمعناها؛ من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سَوِيًّا سليمًا محفوظًا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات، التي هو عَرَضٌ وهدف لسهامِه كلِّها، التي تقصده بالهلاك أو الأذى، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن. فمن الذي كلأه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره، قال سبحانه:{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] فإذا تصور العبد ذلك فقال: "الحمد لله" كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك.
ثم تفكر في أن الذي أعاده بعد هذه الإماتة قادرٌ على أن يعيده بعد موتته الكبرى، ثم يقول:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلبٍ حاضرٍ مستصحبِ لما فيه، ثم يصلي ما كتب الله له صلاةَ محبٍّ ناصحٍ لمحبوبه، متذللٍ منكسر بين يديه، لا صلاة مُدِلّ بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهَّلَهُ وحرم غيره، فهو يزداد بذلك محبةً إلى محبته، ويرى أن قُرَّةَ عينه، وحياةَ قلبه، وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله، ويهتمُّ بطلوع الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك، فهو كما قيل:
يَوَدُّ أَنَّ ظلامَ الليلِ دامَ لَهُ
…
وزِيْدَ فيهِ سَوادُ القلبِ والبصرِ
فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطيًّا لكل آية حظها من العبودية.
1 -
فتجذب قلبه وروحه إليه آياتُ المحبة والوِداد، والآيات التي فيها
الأسماء والصفات، والآيات التي تعرَّف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم، وإحسانه إليهم.
2 -
وتُطيِّبُ له السير آياتُ الرجاء والرحمة وسَعة البر والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيب له السير ويهونه.
3 -
وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه.
فتأمل هذه الثلاثة وتفقه فيها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبالجملة: فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلَّى في كلامه، ويعطي كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على مجرد تلاوتها والتصديق بأنها كلام الله، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها.
ثم شأنٌ آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان قبلُ يلعبُ، كما قيل:
وكنتُ أرى أَنْ قَدْ تَناهى بيَ الهوى
…
إلى غايةٍ ما بعدَهَا لي مذهبُ
فلما تلاقَيْنَا وعاينتُ حُسْنَها
…
تيقنتُ أني إنما كنتُ ألعبُ
فوآأسفاه وواحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزًا وموته كمدًا، ومعاده حسرة وأسفًا.
فإذا صلى ما كتب الله له جلس مطرقًا بين يدي ربه هيبةً له وإجلالًا، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه، فإذا قضى من الاستغفار وطرًا وكان عليه بعد ليل، اضطجع على شقه الأيمن مُجِمًا لنفسه مُريحًا لها، مقوِّيًا لها على أداء وظيفة الفرض؛ فيستقبله نشيطًا بجِدِّهِ وهمته
كأنه لم يزل نائمًا طول ليلته لم يعمل شيئًا" (1). انتهى كلام طبيب القلوب وريحانة المتهجدين ابن القيم رحمه الله.
بكاؤهم .. وبحرُ الدُّمُوِع:
ولا يُذكر الليل إلا ويقارنه ذكرُ الدموع، والبكاءُ من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون، ومن أرق من المتهجدين أفئدة حين أتخذوا من الدمع رسولهم لربهم، فالدمعُ ألَحُّ شفعائهم، فقد كاتبوا الله بدموعهم وهم ينتظرون الجواب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار أبدًا: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"(2)، قيل لصفوان بن محرز عند طول بكائه وتذكر أحزانه: إن ذلك يورث العمى، فقال: ذلك شهادة لها فبكى حتى عمي.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما عاشرت رجلًا أرق قلبًا من سفيان الثوري، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض مرعوبا ينادي: النار .. النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثرِ وضوءه: اللَّهم إنك عالمٌ بحاجتي غير مُعَلَّم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي، إن الجزع قد أرقني، وذلك من نعمك السابغة علي، إلهي، لو كان لي عذر في التخلي، ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يُقْبِل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إن كنتُ لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه.
(1) طريق الهجرتين (205 - 211).
(2)
أخرجه أبو يعلى (7/ 307)، وصححهُ الألباني (4113) في "صحيح الجامع".
أما الحسن البصري شيخ البكائين الذي وصفوه بأنه إذا بكى فكأن النار لم تخلق إلا له، لما قيل له: ما يبكيك؟، قال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي.
وفي رواية: وما يؤمنني أن يكون قد اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب فلا غفرت لك.
إذا قمت .. أيقظ أهلك:
إن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا فحسب، بل ويرجون ذريةً تسير على نهجهم، وأن تكون لهم أزواجٌ من نوعيتهم فتقر بهم أعينهم، وتطمئن لهم قلوبهم. قال سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وتأمل معي قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعًا، كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات"(1).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء"(2)، وهذا النضح من باب المداعبة بين الرجل وزوجته، فهما متعاونان على طاعة الله تعالى، ولا يحب أحدهما أن ينفرد بالخير دون الآخر.
(1) أخرجه أبو داود (1451)، وصححه الألباني (1288) في "صحيح أبي داود".
(2)
أخرجه أحمد (2/ 250)، وصححه الألباني (3494) في "صحيح الجامع".
لِمَ كُلَّ هذا الاهتمام بالليل؟
لخمسة أمور:
الأول: أن الإنسان عندما يقوم الليل يكون هذا أخلص لربه جل وعلا؛ لأنه يكون في وقت سر لا يطلع عليه أحد.
الثاني: أنه أشق على النفس ولذلك يكون الأجر أكثر، فالأجر على قدر المشقة.
الثالث: مع خلو البال من مشاغل الحياة وسكون الليل والفراغ من الدنيا والكد فيها يكون القلب أكثر مواطأة وموافقة للسان في الذكر.
الرابع: أن الليل موطن لتنزل الرحمات ولنزول رب الأرض والسموات، فعظمت العبادة فيه.
الخامس: أن قيام الليل عبادة جامعة لطهارة القلب.
وقد قال قتادة: "كان يقال: سَهِرَ الليلَ منافق" يعني في قيام الليل.
ما يعين على التهجد:
الأسباب الظاهرة:
(1)
قلة الطعام وعدم الإكثار منه:
فكما قلت لك سابقًا -أخي الحبيب- حاول أن تقلل من كمية الطعام، فقلة الطعام سحاب، وإذا قل الأكل مُطِرَ القلبُ الحكمةَ، فالواجب على الناصح لنفسه ألا يكثر الأكل، فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام، أما يرعبك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقصر من جُشائك، فإن أكثر الناس شَبعًا في الدنيا أكثرهم جوعًا في الآخرة"(1).
(1) أخرجه الحاكم (4/ 135)، وحسنه الألباني (1179) في "صحيح الجامع".
ْرأى معقل بن حبيب قومًا يأكلون كثيرًا فقال: ما نرى أصحابنا يريدون يصلون الليلة.
وقال وهب بن منبه: ليس من بني آدم أحب إلى شيطانه من الأكول النوام.
وقال أبو سليمان الدارانى: من شبع دخلت عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة، وتعذر عليه حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وإن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباعون يدورون حول المزابل.
(2)
الاقتصاد في الكد نهارًا:
لا تتعب نفسك بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، وتضعف بها الأعصاب، فإن ذلك مجلبة للنوم، وعليك بالقصد في هذه الأعمال، وأن تتجنب فضول الكلام، وفضول المخالطة التي تشتت القلب.
(3)
الاستعانة بالقيلولة نهارًا:
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِيلوا فإن الشياطين لا تقيل"(1).
(4)
ترك المعاصي:
لا تحتقب الأوزار بالنهار فتُفْسِد عليك صيامك، وتُقَسِّي قلبك، وتحول بينك وبين قيام الليل.
قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري؛ فما بالي لا أقوم؟، فقال: ذنوبك قيدتك.
(1) أخرجه الطبراني (1/ 13) في "الأوسط"، وحسنه الألباني (1647) في "السلسلة الصحيحة".
وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل: وما هو؟ ، قال: رأيت رجلًا يبكي فقلت في نفسي: هذا مراء ..
رحمهم الله قَلَّت ذنوبهم فعلموا من أين أُتوا، ونحن كثرت ذنوبنا فلم ندر من أين أتينا.
وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار؛ فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
(5)
طِيب المطعم:
قال بعض العلماء: إذا صمت يا مسكين، فانظر عند من تفطر، وعلى أي شيء تفطر، فإن العبد ليأكل أكلة فينقلب قلبه عما كان عليه ولا يعود إلى حالته الأولى، فالذنوب كلها تورث قساوة القلب، وتمنع من قيام الليل، وأَخَصُّهُ بالتأثير تناول الحرام.
ولذلك قال بعضهم: كم من أكلة منعت قيام ليلة، وإن العبد ليأكل أكلة فيحرم قيام الليل سنة.
(6)
عدم المبالغة في حشو الفراش:
فإن مما يعين على قيام الليل عدم المبالغة في حشو الفراش؛ لأنه سبب لكثرة النوم والغفلة، ومجلبة للكسل والدعة، ولقد كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحصير الذي خَطَّ في جنبه، وكانت وسادته التي ينام عليها بالليل من أَدَم حشوها ليف.
فلا تتدثر بالبطاطين، وتضع المدفأة إلى جوارك، على سرير وثير مريح، فأنت بذلك تستعد لنوم طويل لن تستطيع الاستيقاظ منه أبدًا، تعمد أن يكون نومك غير مريح حتى تستطيع القيام بسهولة.
(7)
النوم على الجانب الأيمن، والوضوء والتسوك قبل النوم وأذكار النوم هذه سنه النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث فيها محفوظة مشهورة فأعمل ولا تكسل.
الأسباب الباطنة:
(1)
الإخلاص:
من صفا صفي له ، ومن كدر كُدِّر عليه، وإنما يكال للعبد كما كال. إذا اطلع الخبير على ما في الضمير فلم يجد غير الخبير أقامك بين يديه في الدياجي، فإن قيامك في الليل علامة من علامات المحبة لله، وهي عبادة عنوانها وتاجها الإخلاص.
يا أخي .. كم من سراج قد أطفأته الريح، وكم من عبادة أفسدها العجب، وساعة يزري العبد فيها على نفسه خير له من عبادة يُدِل فيها بعمله، وأضر الطاعات على العبد ما أنسته مساويه وذكَّرته حسناته.
(2)
يقينك أن الكبير المتعال هو الذي يدعوك للقيام:
إنها دعوة من السماء .. ويكفي أنها من الله لتلبى وتنفذ، كفاك جزاء على الطاعة أن رضيك لها أهلا .. انظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ ، من يسألني فأعطيه؟ ، من يستغفرني فأغفر له"(1) ..
قف بوادي الذل .. وقيل في الدياجي: يا أيها العزيز .. مسنا وأهلنا الضر ..
(3)
نعم الرجل إن كان يقوم من الليل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل عبد الله إن كان يقوم من الليل"(2) ، فمن كان يصلي من الليل يوصف بكونه نعم الرجل، وهذه شهادة غالية عالية من الحبيب محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقد ساق إليك عشرات الأحاديث في فضائل المتهجدين، فكيف تضيع على نفسك أن تكون منهم!!
(1) أخرجه البيهقي، وصححه الألباني (8021) في "صحيح الجامع".
(2)
أخرجه أحمد، وصححه الألباني (6771) في "صحيح الجامع".
(4)
يقينك أنك بعين الله:
الله يسمع ويرى صلاتك بالليل .. هان سهر الحراس لما سمعوا أن أصواتهم بسمع الملك، قال سبحانه تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219].
(5)
نبيك صلى الله عليه وسلم قام، وأنت تنام!!
كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان لا يترك القيام وهو مريض ولا في سفر، وأنه صلى الله عليه وسلم ما ترك القيام في وقت الجهاد، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بك وقد ضج الليل من نومك وضجت الأرض من معاصيك.
(6)
وضع الجنة نُصْبَ عينيك:
ويقينك بأن التهجد يورثك أعلى الجنان .. وتفكرك فيما أعد الله للمتهجدين في الغرف من نعيم الجنة .. ووقوفك طويلًا مع أخبار المتهجدين في ليلهم ونومهم مع الحور العين.
(7)
وضع النار وعذابها وأغلالها وأنكالها نصب عينيك أيضًا:
فمن سهر هنا في طاعة الله متهجدا باكيًا مناجيًا؛ لا يسهر في النار مع الضريع والزقوم والغسلين، وسهر الليل بالقيام أهون من مقطعات الحديد وشرب الصديد.
(8)
النوم على نية القيام للتهجد.
(9)
سؤال المولى عز وجل ودعاؤه أن يمن عليك بالقيام.
(10)
علمك بمدى اجتهاد الصحابة الكرام في القيام.
(11)
معرفة مدى اجتهاد نساء السلف في القيام:
أمالك بالرجال أسوة؟!! .. أتسبقك وأنت رجل نسوة؟!!
(12)
الشيطان يمنعك من القيام، أتطيعه؟!!
(13)
دوام محاسبة النفس:
وتوبيخها على قيام الليل إن فرطت فيه.
(14)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه ويوقظهم للقيام.
(15)
علمك ببكاء السلف وتحسرهم على فوات القيام.
(16)
اتهام النفس:
بالتقصير في القيام، وقولك لها: قومي يا مأوى كل سوء، فلأنت أحق بالضرب من شر الدواب، أيظن أصحاب محمَّد أن يستأثروا به دوننا .. كان الرجل من السلف لا يأتي فراشه إلا زحفًا، ومع هذا يعاتب نفسه على التقصير في حق ربه.
(17)
معاقبة النفس:
على ترك القيام، ومنعها من لذاتها أيامًا، والتصدق بالمال، نام الصحابي تميم الداري ليلةً فلم يقم للتهجد، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع.
(18)
الزهد في الدنيا:
فمن زهد في الدنيا وتقلل منها، وصحب الدنيا ببدنه صارت روحُه معلقةً بالملأ الأعلى، وعَلَق قلبُه بالآخرة، صفى وقته بمناجاة ربه في القيام، واتخذ القرآن دثارًا وشعارًا، ومن عرف قيمة الدنيا وقلة المقام بها، أمات فيها الهوى طلبًا لحياة الأبد، فاستيقظ من نوم الغفلة واسترجع بالقيام ما انتهبه العدو منه في زمن البطالة، ومن لم تبك الدنيا عليه، لم تضحك الآخرة إليه.
(19)
علمك بأن الحيوانات تذكر ربها، وأنت نائم!!
لماذا تسبح الحيوانات ربها في السحر؟ وهي التي لم تقترف ذنبًا ولم ترتكب جناية، وأنت في نومك وغطيطك!!، وتجتهد الديوك في عبادة الله وأنت في لعبك وتفريطك .. أما تستحي!!
(20)
كثرة ذكر الموت:
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه"(1).
(21)
قراءة تراجم المتهجدين والعيش معهم:
والتربية بالقدوة خير وسيلة تعين على القيام، والحكايات عن الصالحين المتهجدين وكيف أنهم ما كانوا يريدون العيش في الدنيا إلا للتهجد ..
لما أتى معاذَ بن جبل الموتُ قال: مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مُغِبّ وحبيبٌ جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللَّهم، إني كنتُ أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللَّهم، إنك تعلم أنني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار، ولا لكري الأنهار، ولا لجني الثمار؛ ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَقِ العلم".
هذه الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب من يريدون سلوك طريق التهجد، فيمقت العبد نفسه، وهو يرى أناسًا مصيرهم ومصيره إلى الله واحد، ومع هذا سهرت عيونهم ونامت عينه!
(1) أخرجه الحكم (4/ 343)، وحسنه الألباني (954) في "السلسلة الصحيحة".
ما ذاقت أعينهم غمضًا وهو ينام وله غطيط! بكوا تحت ستر الليل وهو لاعب! خافوا وهم قد نصبوا أقدامهم حتى تورمت ومالوا في الأسحار إلى الاستغفار وهو الآمن الغافل النائم! فإذا أراد أن يلحق بالمتهجدين السادة .. فليترك مخاللة الفراش والوسادة ..
وأما الميسرات الباطنة لقيام الليل فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول هموم الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل، فإنه إذا تفكر أهوال الآخرة ودركات جهنم طار نومه وعظم حذره.
الثالث: أن يعرف فضلَ قيام الليل بسماع الآيات والأحاديث والآثار، حتى يستحكم به رجاؤه فيهيجه الشوق لطلب المزيد.
الرابع: وهو أشرف البواعث: حب الله وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه وهو سبحانه معه مطلع عليه.
آداب القيام:
1 -
الإخلاص وترك العجب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل تطوعًا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين"(1)، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينام السحر الأعلى ليذهب النوم بصفوة القيام وهو أبعد الناس عن الرياء.
اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) صححه الألباني (3821) في "صحيح الجامع".
2 -
الاغتسال والتطيب ولبس الثياب الحسنة:
فعن مجاهد بن جبير قال: كانوا يكرهون أكل الثوم والكرات والبصل من الليل، وكانوا يستحبون أن يمس الرجل عند قيامه من الليل طيبًا يمسح به شاربه وما أقبل من اللحية.
3 -
التسوك لقيام الليل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي، قام الملك خلفه، فسمع لقراءته، فيدنو منه حتى يضع فاه على فيه، وما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهروا أفواهكم للقرآن"(1)، فانظر رحمك الله إلى حرص الملائكة واعتنائهم باستماع القرآن من البشر، والذي نفسي بيده لو لم يكن في فضيلة السواك ليلًا إلا هذا الحديث لكفى.
4 -
غسل اليد قبل غمسها في إناء الوضوء.
5 -
الحرص على أذكار القيام والاستفتاح والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كيفية صلاته.
6 -
ترديد الآية وتدبر ما فيها.
7 -
ترديد السورة.
8 -
البكاء.
9 -
حسن الصلاة وحضور القلب.
10 -
ترك القيام مع النعاس والفتور:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه"(2).
(1) أخرجه البزار (2/ 214)، وصححه الألباني (213) في "السلسلة الصحيحة".
(2)
متفق عليه، البخاري (209)، مسلم (786).
11 -
النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"(1).
12 -
إيقاظ الأهل والصبية ومن يليه لقيام الليل.
واعلم -أخي- أنه من اعتاد على القيام نُبِّه لذلك إذا غفل عنه، فعن ابن مسعود قال: إذا نام الرجل وهو يريد القيام من الليل أيقظه إما سنور، وإما صبي، وإما شيء فيستيقظ، فيفتح عينيه وقد وكل به قرينان: قرين سوء وقرين صالح، فيقول قرين السوء: افتح بِشَرٍّ، ثم عليك ليلًا طويلًا ما تسمع صوتًا ولا قيام أحد، فإن نام حتى يصبح أتاه الشيطان فبال في أذنه، فأصبح ثقيلًا كسلانًا خبيث النفس مغبونًا، أما الآخر فيقول له الملك: افتح بخير، قم فاذكر ربك وصل، فإن قام فتوضأ ثم دخل المسجد فذكر الله وأثنى عليه، وصلى على النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من صلاته استقبله الملك فقبله، ثم يصبح طيب النفس قد أصاب خيرًا.
أخي في الله ..
ألق نفسك في الدجى على باب الذل.
وقل: إلهي، كم لك سواي ومالي سواك .. عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك.
فبفقري إليك وغناك عني، بقوتك وضعفي، بعزك وذلي إلا رحمتني وعفوت عني، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك.
أسألك مسألة المسكين .. وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل .. وأدعوك
(1) أخرجه مسلم (1144).
دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه ..
إلهي .. أنا الذي كلما طال عمري زادت ذنوبي، أنا الذي كلما هممت بترك خطيئة عرضت لي أخرى ..
واذنوباه! خطيئة لم تبل وصاحبها في أخرى ..
واذنوباه! إن كانت النار لي مقيلا ومأوى ..
واذنوباه! إن كانت المقامع لرأسي تهيأ ..
رب أفحمتني ذنوبي وانقطعت مقالتي فلا حجة لي، فأنا الأسير ببليتى، المرتهن بعملي، المتردد في خطيئتي، المتحير عن قصدي، المنقطع بي، قد أوقفت نفسي موقف الأشقياء المجترئين عليك، المستخفين بوعدك، سبحانك أي جرأة اجترأتها عليك، وأي تغرير غررت بنفسي.
مولاي ارحم كبوتي لحسر وجهي وزلة قدمي، وعد بحلمك على جهلي وبإحسانك على إساءتي، فأنا المقر بذنبي المعترف بخطيئتي ..
وهذه يدي وناصيتى، أستكين بالقوَد من نفسي، ارحم ضعفي ونفاد أيامي واقتراب أجلي، وقلة حيلتي ومسكنتي، مولاي وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري، وانمحى من المخلوقين ذكري، وكنت في المنسيين كمن قد نُسِي، مولاي وارحمني عند تغير صورتي وحالي، إذا بلى جسمي وتفرقت أعضائي وتقطعت أوصالي، يا غفلتي عما يراد بي.
مولاي وارحمني في حشري ونشري، واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي، وفي أحبائك مصدري، وفي جوارك مسكني يا رب العالمين، سبحانك اللَّهم وحنانيك، سبحانك اللَّهم وتعاليت.