المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في نقل كلام العلماء في انتقاض عهده - السيف المسلول على من سب الرسول

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول: في حكم الساب من المسلمين

- ‌الفصل الأول: في وجوب قتله

- ‌المسألة الأولى: في نقل كلام العلماء ودليله

- ‌المسألة الثانية: في أن قتل الساب للكفر أو للحد

- ‌الفصل الثاني: في توبته واستتابته

- ‌المسألة الأولى: في قبوله توبته

- ‌خاتمة لهذه المسألة

- ‌المسألة الثانية: في استتابة الساب

- ‌الباب الثاني: في حكم الساب من أهل الذمة

- ‌الفصل الأول: في نقل كلام العلماء في قتله

- ‌الفصل الثاني: في نقل كلام العلماء في انتقاض عهده

- ‌الفصل الثالث: في بيان أن لا يلزم من القول بانتقاض عهده ولا بعدم انتقاضه عدم قتله

- ‌الفصل الرابع: في الأدلة الدالة على قتل الساب الذمي

- ‌الدليل الثاني: قصة قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي

- ‌الدليل الثالث: قصة قتل أبي عفك اليهودي

- ‌الدليل الرابع: قصة أنس بن زنيم الديلي

- ‌الدليل الخامس

- ‌الدليل السادس

- ‌الدليل السابع: قصة العصماء بنت مروان اليهودية

- ‌الدليل الثامن: قصة قينته ابن خطل وسارة مولاه بني عبد المطلب

- ‌الدليل التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أمن أكثر الكفار وأهدر دم ابن الزبعري ونحوه ممن كان يهجو، حتى لحق ابن الزبعري بكل وجه ثم جاء وأسلم

- ‌الدليل العاشر

- ‌الدليل الحادي عشر

- ‌الدليل الثاني عشر

- ‌الدليل الثالث عشر

- ‌الدليل الرابع عشر

- ‌الفصل الخامس: في أنه لا تصح توبته مع بقائه على الكفر

- ‌الفصل السادس: فيما إذا أسلم

- ‌الفصل السابع: في أنه هل يستتاب بالإسلام ويدعى إليه

- ‌الفصل الثامن: في أنه هل يصح حكم الحاكم بسقوط القتل عنه مع بقائه على الكفر

- ‌الباب الثالث: في بيان ما هو سب من المسلمين والكفار

- ‌الفصل الأول: في المسلمين

- ‌فرع: [في سب أم النبي صلى الله عليه وسلم]:

- ‌فرع: [في سب عائشة رضي الله عنها]:

- ‌فرع: [في سب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة]:

- ‌فرع: [في سب سائر الصحابة رضي الله عنهم]:

- ‌فرع: من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل الثاني: فيما هو سب من الكافر

- ‌‌‌فرع:

- ‌فرع:

- ‌فرع: في ميراث الساب إذا قتل أو مات على سبه:

- ‌الباب الرابع: في شيء من شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: في تعظيم الله له وثنائه عليه في القرآن

- ‌الفصل الثاني: في أنه صلى الله عليه وسلم جمع المحاسن كلها

- ‌الفصل الثالث: فيما ورد في الأحاديث من تعظيم الله تعالى

- ‌الفصل الرابع: فيما يجب على الأنام من حقوقه صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌الفصل الثاني: في نقل كلام العلماء في انتقاض عهده

‌الفصل الثاني: في نقل كلام العلماء في انتقاض عهده

قد تقدمت قطعة صالحة منه في الفصل الأول لاختلاطها بالكلام في القتل، وتقدم من نقل الخطابي عن الشافعي أنه تبرأ منه الذمة.

وقال المارودي: "سب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتقض به الهدنة كالذمة خلافًا لأبي حنيفة فيهما". ونقله الرافعي عن الماوردي.

وقال الروياني في "البحر" في باب نقض العهد:

"قيل: عقد الهدنة موجب لثلاثة أمور:

1 -

الموادعة في الظاهر،

2 -

وترك الخيانة في الباطن،

ص: 263

3 -

والمجاملة في الأقوال والأفعال، فإن عدلوا عن الموادعة انتقضت هدنتهم ولا تفتقر إلى حكم الحاكم بنقضها، وأما ترك الخيانة فأن لا يستسروا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه، فإذا ظهر ذلك حكم الإمام بنقض هدنتهم ولم تنتقض بمجرد خيانتهم، ويجوز أن يبدأ بقتالهم مجاهرة، ولا يشن عليهم الغارة ولا البيات في الابتداء، ويفعل ذلك في الانتهاء، فصار هذا مخالفًا لما قبله.

وأما المجاملة بالأقوال والأفعال فهي في حقوق المسلمين أعظم منها في حقوقهم، فإن عدلوا عنها سألهم الإمام، فإن ذكروا عذراً قبل وكانوا على هدنتهم، وإلا أمرهم بالرجوع، فإن لم يرجعوا نقضها بعد إعلامهم بنقضها، فصارت مخالفة للقسمين.

فأما سب الرسول فمما ينتقض به عقد الهدنة وعقد الذمة، وكذلك سب القرآن، فإن كان جهرًا فهو من القسم الأول، وإن كان سرًا فهو من القسم الثاني، وهكذا". قاله الماوردي أيضًا.

وقال الماوردي أيضًا في باب نقض العهد:

"فأما سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما ينتقض به عقد الهدنة وعقد الذمة، وكذلك سب القرآن، فإن كان جهرًا فهو من القسم الأول، وإن كان سرًا

ص: 264

فهو من القسم الثاني، وقال أبو حنيفة: لا ينتقض بها عقد الهدنة ولا عقد الذمة، لأن اليهود قالوا:"السام عليك .. "، فلم يجعل نقضًا للعهد، ولأن قولهم:"ثالث ثلاثة" أعظم. ودليلنا قول ابن عمر لما قيل له عن راهب سب: "لو سمعته أنا قتلته، إنا لم نعطه الأمان على هذا"، وليس يعرف له من الصحابة مخالف، فكان إجماعًا.

وأما الخبر فعنه جوابان:

أحدهما: أنهم قالوه ذمًا لا شتمًا،

والثاني: أنه كان في ضعف الإسلام.

والجواب عن قولهم: "ثالث ثلاثة"، من وجهين:

أحدهما: أنهم قالوه اعتقادًا للتعظيم، والشتم اعتقاد للتحقير، والثاني: أقررناهم عليه، ولم نقرهم على شتم الرسول".

وذكر الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب ومن بعدهما الخلاف في انتقاض الذمة بذلك، ولا بد من مقدمة، وهي:

أن الأشياء المشترطة عليهم في عقد الذمة منها: ما لا تنتقض الذمة بمخالفتها قطعًا، بل يعزرون عليه، ويُلزمون بعدم المخالفة، كإظهار الخمر

ص: 265

والخنزير، وإسماع المسلمين شركهم واعتقادهم والناقوس وأعيادهم وقراءتهم التوراةَ والإنجيل، وإحداثِهم الكنائس في بلادنا، وإطالتهم البناء وتركهم المخالفة في الغيار: فلا ينتقض عهدهم/ بهذا شرط أم لم يشرط، وفي النفس منه شيء، لأن مُقتَضى الشرط في سائر العقود أن يثبت الخيار بمخالفته كشرط الرهن في البيع ونحوِه، ولعل المدرك هاهنا وجوب قبول الجزية إذا بذلوها مع هذه الأمور وإن منعوا منها وعزروا عليها، ولو قلنا تنتقض بها لأدى إلى أنا لا نقبل الجزية، وذلك مخالف لقوله تعالى:(حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)[التوبة: 29]، ويكون تعاطي هذه الأمور لا ينافي الصغار، وأما المنع عليها والتعزيز عليها فللمبالغة في إهانتهم وإذلالهم.

ومنها: ما تنتقض به قطعًا، هو الامتناع من التزام الجزية وإجراء الأحكام، والمقاتلة.

ومنها: فيه خلاف، وهو قسمان:

أحدهما: الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح، أو تطلع على عورة المسلمين ونقلها إلى دار الحرب، أو فتنة مسلم أو مسلمة عن دينه، أو يقطع الطريق على مسلم أو مسلمة، أو يؤوي عينًا للمشركين، أو يعين على المسلمين بدلالة، أو يقتل مسلمًا أو مسلمة، ففي هذه الخصال طرق، أصحها ـ وهي التي قالها الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب

ص: 266

والأكثرون ـ أنه إن لم يجر لها ذكر في العقد لم ينتقض، وإن جرى فوجهان، ويقال قولان:

أحدهما: ينتقض لمخالفة المشروط ولما فيه من الضرر الظاهر على المسلمين، ولقصة أبي عبيدة ابن الجراح، ولم ينكر عليه، وبالقياس على منع الجزية. وهذا قال ابن الصباغ إنه الذي نص عليه، وقال القاضي الحسين: إنه المذهب. وممن رجحه الفوراني، وصاحب "الكافي"، وابن أبي عصرون، وقال الرافعي في "المحرر": إنه الأقرب، وصححه النووي في "المنهاج" و"تصحيح التنبيه"، وهو اختيار القفال.

ص: 267

والثاني: لا ينتقض، لأن ما لم ينتقض العهد إذا لم يشرط لم ينتقض مع الشرط، كإظهار الخمر، ولأن هذه الأمور بالإضافة إلى عقد الذمة كالكبائر بالإضافة إلى الإسلام. قال الرافعي: وينسب هذا إلى اختيار القاضي أبي الطيب، ورجحه صاحب/ "التهذيب" وجماعة. واغتر النووي في "الروضة" بهذا، فقال: إنه الأصح، وليس كما قال.

والطريق الثاني عن الشيخ أبي محمد: إن جرى الشرط انتقض، وإلا فوجهان.

والطريق الثالث: حكى القاضي ابن كج عن بعضهم القطع بأنه لا ينتقض العهد بهذه الأسباب.

ص: 268

ويخرج من الطرق ثلاثة أوجه، ذكرها صاحب "الإفصاح" وصاحب "التقريب" والغزالي، ثالثها: الفرق بين أن يجري شرط في الابتداء فينتقض بمخالفته وبين أن لا يجري فلا ينتقض، وهو الأصح، والقول بعدم الانتقاض مطلقًا اقتضى كلام "الروضة" تصحيحه، وليس بجيد.

وذكر القاضي أبو الطيب إيواء عيون الكفار من جملة هذه الخصال، وقال الرافعي: إنه ملحق بالخصال الثلاث، وذكر في قطع الطريق طريقين أظهرهما أنه كالزنا.

القسم الثاني: ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بسوء، فيه طريقان:

أحدهما: ينتقض العهد به بلا خلاف كالقتال، وأظهرهما عند الرافعي أنه كالزنا بالمسلمة ونحوه، فيجيء فيه الخلاف، هكذا قال الرافعي.

ص: 269

وقال الشيخ أبو إسحاق في "النكت":

"إذا ذكر الذمي كتاب الله بما لا ينبغي أو شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقضت ذمته، ومن أصحابنا من قال: إن شرط أن لا يذكر ولا يسب انتقض وإلا فلا، وقال أبو حنيفة: لا ينتقض".

فخرج من هذا أن في السب أيضًا ثلاثة أوجه:

أحدها: ينتقض العهد به مطلقًا، وهو قول أبي إسحاق المروزي والشيخ أبي إسحاق الشيرازي في "النكت".

والثاني: لا ينتقض به مطلقًا، وكلا الوجهين موجود في كلام الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب والرافعي وغيرهم.

والثالث: أنه إن شرط انتقض وإلا فلا.

وقد نظرت كلام الشافعي رحمه الله في "الأم" فوجدته على ما أحكيه لك، فقال في باب تحديد الإمام مما يأخذ من أهل الذمة في الأمصار:

"ينبغي للإمام أن يحدد بينه وبين أهل الذمة جميع ما يعطيهم ويأخذ منهم، ويرى أنه ينوبه وينوب الناس منهم، ويسمى الجزية، وأن يؤديها على ما وصفت، ويسمى شهرًا تؤخذ منهم فيه، وعلى أن يجري عليهم إذا طلبهم طالب حكم الإسلام أو أظهروا ظلمًا لأحد، وعلى أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما هو أهله، ولا يطعنوا في دين الإسلام ولا يعيبوا من حكمه شيئا، فإن فعلوه فلا ذمة لهم، ويأخذ عليهم أن لا يسمعوا

ص: 270

المسلمين شركهم وقولهم في عزير وعيسى، فإن وجدهم فعلوا بعد التقدم إليهم عاقبهم على ذلك عقوبة لا تبلغ حدًا".

ثم ذكر الشافعي الشروط كلها ولم يذكر في شيء منها أنهم إذا فعلوه كان نقضًا للعهد، وذكر قطع الطريق وغيره ولم يذكر الزنا بالمسلمة في هذا الباب، فانظر كيف لم ينص على الانتقاض إلا في ذكر الرسول والطعن في الدين، وهو يدل لأبي إسحاق في أنه لا بد من شرطه، وفي أن بالمخالفة ينقض العهد.

وقال في باب ما أحدث أهل الذمة الموادعون مما لا يكون نقضًا:

"إذا أخذت الجزية من قوم فقطع قوم منهم الطريق أو قاتلوا رجلاً مسلمًا فضربوه، أو ظلموا مسلمًا أو معاهدًا، أو زنا منهم زانٍ أو أظهر فسادًا في مسلم أو معاهد: حد فيما فيه الحد، وعوقب عقوبة منكلة فيما فيه عقوبة، ولم يقتل إلا بأن يجب عليه القتل، ولم يكن هذا نقضًا للعهد يحل دمه، ولا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكم بعد الإقرار والامتناع بذلك".

وهذا الكلام من الشافعي يحتمل أن يكون محله إذا لم يشرط، ويدل له أنه في هذا الباب لم يذكر شرطًا وإنما ذكر الموادعة وإعطاء الجزية، فيصح الكلام حينئذ، وليس فيه تعرض لما إذا ذكروا الله ورسوله بسوء، فمن أين يؤخذ أنه لا ينتقض عهدهم بذلك لا عند الشرط ولا عند عدمه؟!

ص: 271

وقال في باب إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب، فذكر الشافعي شروطًا ثم/ قال:

"وعلى أن أحدًا منكم إن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله عز وجل أو دينه بما لا ينبغي أن يذكر به فقد برئت منه ذمة الله، ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين، ونقض ما أعطى [عليه] الأمان، وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما تحل أموال أهل الحرب ودماؤهم، وعلى أن أحدًا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنا أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلمًا عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورة المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده وأحل دمه وماله".

ثم ذكر باقي الشروط ولم يذكر في شيء منها نقض العهد إلا فيما تقدم، ثم قال في آخر هذا الكتاب:

"وأيهم قال أو فعل شيئًا مما وصفته نقضًا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان قولاً، وكذلك إذا كان فعلاً لم يقتل، إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدًا أو قصاصًا، فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد، وإن فعل ما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلاً يوجب القصاص أو القود، فأما ما دون هذا من الفعل أو القول: فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل".

ص: 272

قال الشافعي: "فإن فعل أو قال ما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول: "أسلم أو أعطي جزية" قتل وأخذ ماله فيئا". انتهى.

وهذا الكلام أيضًا صريح في انتقاض العهد بذلك عند الشرط، وكذلك في الزنا بالمسلمة ونحوه، وأنه بعد انتقاض العهد إن أسلم سقط ما ليس بقصاص، ويعاقب على غيره إن أذعن لإعطاء الجزية، وإلا فيقتل ويؤخذ ماله فيئًا، وإطلاقه في القول:"إنه يعاقب عليه ولا يقتل": عام قابل للتخصيص، فينبغي أن يخص منه سب النبي صلى الله عليه وسلم للنقل الصريح عنه أنه يقتل، ولعل ما أشار إليه الغزالي في "الخلاصة" راجع إلى ذلك وأنه تقبل توبتهم على وجه ضعيف قبل الإسلام ويعزرون،/ ولست أثق بهذا، والتمسك بنقل الخطابي الصريح وابن المنذر أولى من التعلق بهذا الإطلاق.

والتصريح بأن حد السب القتل قاض على ذلك، ومقتض لأن يلحق بالقصاص الذي نص الشافعي عليه، يخرج عنه فيما بعد الإسلام لما سيأتي، فيبقى قتله على مقتضاه.

هذا بالنسبة إلى القتل، أما انتقاض العهد بذلك فنصوص الشافعي متفقة عليه إذا كان مشروطًا كما نقلناه من باب "تحديد الإمام ما يأخذ من أهل الذمة"، ومن باب "إذا أن يكتب كتاب صلح"، وساكتة عنه إذا لم يشرط كما اقتضاه نصه في باب "ما أحدث أهل الذمة الموادعون"، وكذلك قول المزني في "المختصر"، فإنه قال:

"ويشرط عليهم أن من ذكر كتاب الله أو محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دين الله بما لا ينبغي أو زنا بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلمًا عن

ص: 273

دينه أو قطع عليه الطرق أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينًا لهم: فقد نقض عهده، وأحل دمه، وبرئت منه ذمة الله وذمة محمد صلى الله عليه وسلم".

ثم ذكر الشروط بعدها، ولم يذكر فيها نقض العهد، ولكن كلام "الأم" أصرح، فإنه ظاهر في الحكم بانتقاض العهد بذلك ومؤيد لقول ابن الصباغ:"إنه المنصوص"، وقول القاضي الحسين في الزنا بالمسلمة ونحوه:"إنه المذهب"، ومبطل لقول البغوي:"إن الأصح أنه لا يكون نقضًا شرط أو لم يشرط".

وجعل البغوي ذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه كالزنا بالمسلمة وأن الأصح عدم الانتقاض به شرط أو لم يشرط: في غاية البعد، ولم أر من صرح بهذا غيره، حتى شيخه القاضي حسين، فقد تقدم عنه خلاف ذلك، ولقد تعجبت من البغوي فإنه رجل كبير وما عادته أن يسقط هذا السقوط! ثم ظهر لي جواب عنه وأنه ليس مخالفًا لكلام الشافعي،

ص: 274

والحق ما قاله الشافعي من غير خلاف، وبيان ذلك بمقدمة/ نبه عليها الرافعي، وهو أن المعتبر هل هو شرط الامتناع عن هذه الأفعال أو شرط انتقاض العهد بها إذا ارتكبها؟ صرح الإمام بأن المعتبر الثاني، وعلى ذلك جرى الغزالي، وكثير من الأصحاب لم يتعرضوا إلا للأول.

قال الرافعي في الزنا بمسلمة ونحوه:

"ولا يبعد أن يتوسط فيقال: إن شرط الانتقاض فالظاهر الانتقاض كما حُكي عن اختيار القفال، وإلا فالظاهر خلافه كما نسب إلى اختيار القاضي أبي الطيب".

وقال ابن الرفعة:

"إن كلام غير الإمام طافح بأن المراد بالشرط شرط الانكفاف لا شرط الانتقاض، وذلك ظاهر من كلام الماوردي وغيره، وبه صرح صاحب "المرشد" والبندنيجي وابن ...................................

ص: 275

داود وغيرهم، حتى صاحب "الإبانة"، فإنه حيث حكى الأوجه الثلاثة قال في الوجه الثالث: إن كنا شرطنا عليهم أن لا يفعلوا ذلك كان نقضًا وإلا فلا".

قلت: إذا عرفت هذه المقدمة فالبغوي رحمه الله إنما صحح عدم الانتفاض شرط أم لم يشرط، لأنه صرح بشرط الامتناع فقال هكذا:

ص: 276

"إن لم يكن شرط الإمام عليهم في العقد الامتناع عنها لم ينقض ذلك عهدهم، وإن شرط فعلى قولين: الأصح لا ينتقض".

والذي دلت عليه نصوص الشافعي بالانتقاض هو إذا شرط الانتقاض بها، فهما مسألتان، وهذا شاهد للتوسط الذي قاله الرافعي.

لكني أقول: إذا شرط الانتقاض بذكر الله أو رسوله أو كتابه أو دينه انتقض بارتكابه قولاً واحدًا لدلالة نصوص الشافعي على ذلك، ولم يوجد في كلام الأصحاب ما يخالفه، والأدلة تقتضيه، وإذا شرط الامتناع ولم يشرط الانتقاض فهذا محل الخلاف وترتيب الأصحاب المراتب الثلاثة، ولهذا أكثر الأصحاب ذكروا شرط الامتناع، ولعل الحامل للإمام على شرط الانتقاض ما رآه في "المختصر"، ولكن الشافعي لم يعله محل خلاف، وبهذا يزول اللوم عن البغوي وإن كان الأصح خلاف ما قاله، لكنه محل خلاف في الجملة.

وأما عند شرط/ الانتقاض فلا يعرف فيه خلاف صريح، وقد رأينا الذي شرط الشافعي الامتناع عنه فقط دون الانتقاض به في كلام الشافعي لم يحكم بالنقض به كالغيار ونحوه، فلا يبعد جريان خلاف في الزنا بمسلمة ونحوه أيضًا عند شرط الامتناع وإن أمكن الفرق بزيادة الضرر.

هذا في الزنا بمسلمة ونحوه، أما ذكر الله ورسوله ودينه وكتابه ففيه زيادة أخرى، وهو أن الأصحاب اختلفوا في وجوب اشتراط ذلك في العقد، ولم يختلفوا في أنه لا يشترط ذكر الانكفاف عن الزنا ونحوه فكان

ص: 277

أقوى، فلا يلزم من جريان الخلاف في الزنا بمسلمة إذا شرط: جريانه في السب إذا شرط، وإما إذا لم يشرط فالخلاف في الزنا ونحوه يتجه.

وأما في السب فإن قلنا يجب شرط الانكفاف عنه فللأصحاب خلاف إذا لم يشرط: هل يفسد العقد أو يتأبد ويكون كما لو شرط لأنه مشروط شرعًا؟ وإن قلنا لا يجب شرط الانكفاف عنه في العقد فلا شك أنه أعظم من الزنا، فلا يلزم من جريان الخلاف في الزنا الخلاف فيه، إلا أن الأصحاب ذكروه، فيحتمل على هذا التقدير، وأما تصحيحه فبعيد، وهذا إذا تحققنا عدم الشرط، ونحن في مسألتنا هذه لا ندري أشرط أم لا.

وقد نبه ابن أبي عصرون في "الانتصار" على فائدة عظيمة حيث تكلم في الزنا بالمسلمة ونحوه والفرق بين ما إذا شرط تركه وما لم يشرط، فقال إنه إذا لم يعلم كيف عقد معه وجب تنزيله على أنه مشروط، لأن مطلق العقد يحمل على المتعارف، وهذا العقد في مطلق الشرع كان مشتملاً على هذه الشرائط، ولهذا قال ابن عمر:"ما على هذا أعطيناكم الأمان"، وقال أبو عبيدة:"ما على هذا صالحناكم" حين وجد منهم الزنا بالمسلمة والسب، فإذا كان هذا قولهم في الزنا فما ظنك بالسب؟!

ثم إن الأصحاب لما ذكروا الخلاف في الانتقاض بذكر الله ورسوله اختلفوا في محل الخلاف على طريقين:

ص: 278

إحداهما: أن الخلاف فيما إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم/ بسوء يعتقده ويتدين به، فأما إذا ذكره بما لا يعتقده ولا يتدين به فهو كما إذا نسبه إلى الزنا أو طعن في نسبه، فيلحق ذلك بالقتال وينتقض به العهد شرط عليهم الكف عنه أو لا.

قال الرافعي: وهذا قضية ما في تعليقة إبراهيم المروروذي وما حكاه القاضي الروياني عن بعض أئمة خراسان.

قلت: ويشهد له أن الشافعي إنما ذكر ذكر النبي والدين والكتاب ولم يتعرض لذكر الله، لأن أحدًا لا يتدين بذكر الله بسوء.

والطريقة الثانية ـ قال الرافعي: وهي أظهر عند الصيدلاني وغيره ـ: أن الخلاف فيما إذا طعنوا بما لا يتدينون به، أما ما هو من قضية دينهم فلا ينتقض العهد بإظهاره بلا خلاف، كقولهم في القرآن: إنه ليس من عند الله، وهذا الذي أورده الغزالي.

قلت: وهذه الطريق وإن رجحها الصيدلاني وغيره فهي ضعيفة، وكلام الشافعي الذي حكيناه يشير إلى خلافها، وأي ضرورة تدعو إلى

ص: 279

احتمال إظهارهم لذلك وقد شرط عليهم الصغار، وفي إظهار ذلك استعلاء وامتهان للمسلمين.

فتلخص أن هذا الشخص الذي سب بصريح اللعن منتقض العهد حلال الدم، وأن الخلاف في انتقاض عهده بعيد، وأما الخلاف في حل دمه سواء انتقض عهده أم لم ينتقض فلا يعرف محققًا في مذهب الشافعي ولا في مذهب أحمد ولا هو في مذهب مالك.

ومما نذكره هنا أن شرط الامتناع يصح العقد معه قطعًا، وشرط الانتقاض مقتضى كلام الشافعي الذي ذكرناه صحة العقد معه، وهو الصوابب.

وقد ذكر الإمام فيما إذا شرط عليهم في إظهار الخمر ونحوه أنهم إذا فعلوها انتقض عهدهم فقال: إنه يبني على أن عقد الذمة هل يصح مؤقتًا؟ إن صححناه صح العقد وينتقض إذا أظهروا، وإن لم نصححه فسد العقد من أصله، والحكاية عن الأصحاب أنه لا ينتقض، بل يفسد الشرط ويتأبد العقد، ويحمل ماجرى على تخويفهم وإذلالهم، ووجه ذلك بأن الربط بوقت/ معين هو الذي ينافي التأبيد، والفعل قد لا يوجد، فيتم العقد، وإذا لم يكن التوقيت بالفعل منافيًا للتأبيد فيلغى ويؤبد العقد. انتهى كلامه.

ص: 280

جئنا إلى هذه الصورة: إذا شرط فيها الانتقاض بالسب فعلى ما قاله الإمام لا ذمة لهم إذا سبوا، لأنا إن صححناه مؤقتًا فقد انقضى، وإلا فهو فاسد، وعلى ما حكى عن الأصحاب من فساد الشرط وتأبد العقد في تلك الصور لا يجري هنا، لأن تلك الصور من إظهار الخمر وغيره لم يشرع شرط الانتقاض بها في العقد، فلذلك يُلغى ويتأبد العقد، وأما هنا فشرط الانتقاض بالسب مشروع فلا يجوز إلغاؤه، والأولى الحكم بصحة العقد مؤقتًا وإن كان الوقت مجهولاً كما اقتضاه كلام الشافعي، ويحتمل أن يجري فيه خلاف بعيد أنه يفسد.

وأما القول بتأبيده ولا ينتقض بالسب فهذا يستحيل القول به من فقيه يتأمل ما يقول.

وينبغي أن نذكر هنا شروط عمر رضي الله عنه، فإنه العمدة في هذا الباب، فإنه الذي أجلى اليهود إلى أراضي الشام وأخذ العهد عليهم وعلى النصارى بمحضر من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ الذين هم صدر الأمة وسلفها، وليس لأحدٍ من الأئمة بعده أن يصالحهم بدون شيء من الشروط التي شرط عمر رضي الله عنه، وجميع أهل الذمة إنما هم جارون على شروط عمر رضي الله عنه، لأنا لا نعرف أحدًا بعده من الأئمة عقد لهم عقدًا يخالف عقده، بل كل الأئمة يعتمدون شروطه ويجرون عليها، ولهذا نقول: إنا متى جهلنا الحال في تلك الشروط هل شرطت أو لا: يحمل الأمر على أنها شرطت؛ لأن العرف الشرعي صار قاضيًا في ذلك بالحمل على شروط، وجميع أهل الذمة اليوم لا يعرف أن إمامًا عقد لهم، فهم إما أن نقول: إنهم جارون على عقد آبائهم الذين تناقلوه من عهد عمر إليهم، وإما أن نقول: لا ذمة لهم، ولم يكن لغير عمر من الأئمة شرط يعرف ولا عقد يعتمد.

ص: 281

وشروط عمر رضي الله عنه مروية بالإسناد المتصل الصحيح،/ وذكرها العلماء في كتبهم بأسانيد صحيحة إلى عبد الرحمن بن غنم الصحابي قال:

كتبنا لعمر حين صالح نصارى أهل الشام:

بسم الله الرحمن الرحيم

"هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا: إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث على مدائننا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها .. "، وذكر شروطًا إلى أن قال:

" .. ولا نظهر شركًا ولا ندعو إليه أحدًا .. "، وقال في آخره:

" .. شرطنا ذلك على أنفسنا وأهلينا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن

ص: 282

خالفنا عن شيءٍ شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما حل من أهل المعاندة والشقاق".

وفيه أن هذا الكلام الأخير كان بأمر عمر رضي الله عنه.

وفي هذا دليل على صحة هذا الشرط، وأن القول بأن العقد لا يصح مؤقتًا بذلك: ضعيف، وفيه دليل على انتقاض العهد بإظهار الشرط، ولا شك أن السب أقبح.

ص: 283

وعن أبي مشجعة ابن ربعي قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام قام قسطنطين بطريق الشام، وذكر معاهدة عمر له وشروطه عليهم، قال: أكتب بذلك كتابًا؟ قال عمر: "نعم"، فبينما هو يكتب الكتاب إذ ذكر عمر فقال: إني استثني عليك معرة الجيش مرتين، قال:"لك ثنياك". فلما فرغ من الكتاب قال: يا أمير المؤمنين، قم في الناس فأخبرهم الذي جعلت لي وفرضت علي ليتناهوا عن ظلمي، قال عمر:"نعم". فقال في الناس فحمد الله وأثنى عليه فقال:

"الحمد لله أحمده وأستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له"، فقال النبطي: إن الله لا يضل أحدًا، فقال عمر:"ما يقول؟ " قالوا: لا شيء. وعاد النبطي، فقال:"أخبروني ما يقول"، قالوا: يزعم أن الله لا يضل أحدًا، قال عمر:"إنا لم نعطك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا، والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك".

ص: 284

فهذا/ من عمر بمحضر المهاجرين والأنصار من غير إنكار يدل على أن الاعتراض في الدين موجب للقتل وانتقاض العهد، فالسب أولى بذلك.

وروى حرب في "مسائله" عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: أتي عمر برجل سب النبي صلى الله عليه وسلم، فقتله، ثم قال عمر:"من سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فاقتلوه".

قال ليث: وحدثني عن ابن عباس قال: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ردة، يستتاب، فإن رجع وإلا قتل، وإيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدًا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه".

فإن قلت: لم لا قتل عمر ذلك النبطي؟

قلت: لأن الكلام الذي قاله قد يكون قاله على سبيل الجهل ولم يقصد به الطعن في الدين، فكثير من الجهال يقع في ذلك، فأراد عمر أن يبين له ذلك، حتى إن عاد وهو يعلم أنه طعن في الدين انتقض عهده.

وقول ابن عمر في راهب قيل له إنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا"؛ فهذا وغيره من كلام الصحابة يدل على أن عليهم من الشروط أن لا يذكروا نبينا صلى الله عليه وسلم بسوء، فمن خالف ذلك فقد خالف شرط الذمة، فلا ذمة له.

ص: 285

ومن الدليل على انتقاض العهد بذلك قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر)[التوبة: 12]، ولا شك أن الساب ناكث لأيمانه طاعن في الدين.

وقوله تعالى: (ألا تقتلون قومًا نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول)[التوبة: 13]، فجعل الهم بإخراج الرسول محرضًا على القتال المقتضى انتقاض العهد، فالسب بطريق الأولى.

وتسميتهم أئمة الكفر لأنهم يقتدى بهم فيه، والطاعن الساب كذلك.

وقوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم) [التوبة: 14 - 15]، وهذه صفات تقتضي أنه صدر منهم زيادة على الكفر، وهو الطعن والسب،/ ولذلك ضمن النصرة عليهم، وغيرهم من الكفار الحرب بينهم وبينهم سجال كما جاء:"ندال عليهم ويدالون علينا".

وقوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ..) إلى قوله: (.. حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون (29)) [التوبة: 29]، والصغار: الذل والضيم، وحال الساب ليس كذلك.

ص: 286