المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الأولى: في نقل كلام العلماء ودليله - السيف المسلول على من سب الرسول

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول: في حكم الساب من المسلمين

- ‌الفصل الأول: في وجوب قتله

- ‌المسألة الأولى: في نقل كلام العلماء ودليله

- ‌المسألة الثانية: في أن قتل الساب للكفر أو للحد

- ‌الفصل الثاني: في توبته واستتابته

- ‌المسألة الأولى: في قبوله توبته

- ‌خاتمة لهذه المسألة

- ‌المسألة الثانية: في استتابة الساب

- ‌الباب الثاني: في حكم الساب من أهل الذمة

- ‌الفصل الأول: في نقل كلام العلماء في قتله

- ‌الفصل الثاني: في نقل كلام العلماء في انتقاض عهده

- ‌الفصل الثالث: في بيان أن لا يلزم من القول بانتقاض عهده ولا بعدم انتقاضه عدم قتله

- ‌الفصل الرابع: في الأدلة الدالة على قتل الساب الذمي

- ‌الدليل الثاني: قصة قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي

- ‌الدليل الثالث: قصة قتل أبي عفك اليهودي

- ‌الدليل الرابع: قصة أنس بن زنيم الديلي

- ‌الدليل الخامس

- ‌الدليل السادس

- ‌الدليل السابع: قصة العصماء بنت مروان اليهودية

- ‌الدليل الثامن: قصة قينته ابن خطل وسارة مولاه بني عبد المطلب

- ‌الدليل التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أمن أكثر الكفار وأهدر دم ابن الزبعري ونحوه ممن كان يهجو، حتى لحق ابن الزبعري بكل وجه ثم جاء وأسلم

- ‌الدليل العاشر

- ‌الدليل الحادي عشر

- ‌الدليل الثاني عشر

- ‌الدليل الثالث عشر

- ‌الدليل الرابع عشر

- ‌الفصل الخامس: في أنه لا تصح توبته مع بقائه على الكفر

- ‌الفصل السادس: فيما إذا أسلم

- ‌الفصل السابع: في أنه هل يستتاب بالإسلام ويدعى إليه

- ‌الفصل الثامن: في أنه هل يصح حكم الحاكم بسقوط القتل عنه مع بقائه على الكفر

- ‌الباب الثالث: في بيان ما هو سب من المسلمين والكفار

- ‌الفصل الأول: في المسلمين

- ‌فرع: [في سب أم النبي صلى الله عليه وسلم]:

- ‌فرع: [في سب عائشة رضي الله عنها]:

- ‌فرع: [في سب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة]:

- ‌فرع: [في سب سائر الصحابة رضي الله عنهم]:

- ‌فرع: من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل الثاني: فيما هو سب من الكافر

- ‌‌‌فرع:

- ‌فرع:

- ‌فرع: في ميراث الساب إذا قتل أو مات على سبه:

- ‌الباب الرابع: في شيء من شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: في تعظيم الله له وثنائه عليه في القرآن

- ‌الفصل الثاني: في أنه صلى الله عليه وسلم جمع المحاسن كلها

- ‌الفصل الثالث: فيما ورد في الأحاديث من تعظيم الله تعالى

- ‌الفصل الرابع: فيما يجب على الأنام من حقوقه صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌المسألة الأولى: في نقل كلام العلماء ودليله

‌الفصل الأول: في وجوب قتله

وذلك مجمع عليه، والكلام في مسألتين، إحداهما: في نقل كلام العلماء في ذلك ودليله، والثانية: في أنه: يُقتل كفرًا أو حدًا مع الكفر؟

‌المسألة الأولى: في نقل كلام العلماء ودليله

أما النقل: فقال القاضي عياض: "أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه".

وقال أبو بكر بن المنذر: "أجمع عوام أهل العلم على أن على من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل. وممن قال ذلك مالك بن/ أنس، والليث، وأحمد،

ص: 119

وإسحاق، وهو مذهب الشافعي".

قال عياض: "وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري وأهل الكوفة، والأوزاعي، في المسلم".

وقال محمد بن سحنون: "أجمع العلماء أن شاتم النبي عليه السلام المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر".

ص: 120

وقال أبو سليمان الخطابي: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا".

وعن إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام قال: "أجمع المسلمون أن من سبَّ الله أو سبَّ رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئًا مما أنزل الله أو قتل نبيًا من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله".

وهذه نقول معتضدة بدليلها، وهو الإجماع، ولا عبرة بما أشار إليه ابن حزم الظاهري من الخلاف في تكفير المستخف به، فإنه شيء لا يعرف

ص: 121

لأحد من العلماء، ومن استقرأ سير الصحابة تحقق إجماعهم على ذلك، فإنه نقل عنهم في قضايا مختلفة منتشرة يستفيض مثلها، ولم ينكره أحد.

روى أبو داود والنسائي عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر رضي الله عنه، فتغيظ على رجل ـ وفي رواية: من أصحابه ـ فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إلىَّ فقال: ما الذي قلت آنفًا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه. [فقال:] أكنت فاعلاً لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله، ما كانت لبشرٍ بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 122

فهذا الكلام من أبي بكر رضي الله عنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يقتل من تغيظ عليه، بخلاف غيره من البشر، ولا شك أن سبه يغيظه.

وروى سيف وغيره أن المهاجر بن أبي أمية ـ وكان أميرًا على اليمامة أو نواحيها ـ رفعت إليه امرأتان غنت إحداهما باسم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع يدها ونزع ثناياها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتها/، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت باسم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقلتها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر.

ص: 123

فإن قيل: لِمَ لا كتب إليه أبو بكر بقتلها؟ قلنا: لعلها أسلمت، أو لأن المهاجر حدها باجتهاده فلم ير أبو بكر أن يجمع بين حدين.

وعن عمر رضي الله عنه أنه أتى برجل سب النبي صلى الله عليه وسلم فقلته، ثم قال عمر: من سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقاتلوه.

وعن ابن عباس قال: أيما مسلم سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ردة، يستتاب فإن رجع وإلا قتل، وأيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدًا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه.

وعن خليد أن رجلاً سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر: أنه لا يقتل إلا من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 124

والإكثار من ذلك لا حاجة إليه مع العلم بقيام الإجماع عليه.

وهكذا ورد عن الشافعي رضي الله عنه أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى، فقال: هو كافر، واستدل بقوله تعالى:(قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) [التوبة: 56 ـ 66].

ونقل القاضي عياض عن إبراهيم بن حسين بن خالد الفقيه أنه احتج بقتل خالد بن الوليد بن نويرة لقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: صاحبكم.

ص: 125

قال: وقال ابن القاسم عن مالك ـ في "كتاب ابن سحنون"، و"المبسوط"، و"العتبية"، وحكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب ـ: من سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب. وقال ابن القاسم في

ص: 126

"العُتبية": أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل، وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق. وفي "المبسوط": عن عثمان بن كنانة: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل أو صلب حيًا/ ولم يستتب، والإمام مخير في صلبه حيًا أو قتله. ومن رواية أبي مصعب وابن أبي أويس: سمعنا مالكًا يقول: منسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلمًا كان أو كافرًا ولا يستتاب. وفي "كتاب محمد": أخبرنا أصحاب مالك أنه قال: من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب. وقال

ص: 127

أصبغ: يقتل على حال أسر ذلك أو أظهره، ولا يستتاب، لأن توبته لا تعرف. وقال عبد الله بن عبد الحكم: من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب. وحكى الطبري مثله عن أشهب عن مالك. وروى ابن وهب عن مالك: من قال: إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم ويروى: زر النبي صلى الله عليه وسلم وسخ، أراد به عيبه، قتل.

قال القاضي عياض: وقال بعض علمائنا: أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة، وأفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه وسلم، يتيم أبي طالب،

ص: 128

بالقتل. وأفتى فقهاء الأندلس بقتل [ابن] حاتم المتفقه الطليطلي وصلبه باستخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم، وزعمه أن زهده لم يكن قصدًا، ولو قدر على الطيبات أكلها.

وقال حبيب بن ربيع القروي: مذهب مالك وأصحابه أن من قال فيه عليه السلام ما فيه نقص قتل دون استتابة.

وقال ابن عتاب: الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بأذى أو نقص معرضًا أو مصرحًا وإن قل فقلته واجب.

قال القاضي عياض: وكذلك أقول حكم من غمصه أو عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر، أو ما أصابه من جرح أو أصاب

ص: 129

بعض جيوشه، أو شدة من زمنه أو عدوه، أو بالميل إلى نسائه، فحكم هذا كله لمن قصد به: القتل./

وقال أحمد بن حنبل في رواية عبد الله: من شتم النبي قُتل، وذلك أنه شتم فقد ارتد عن الإسلام، ولا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال في رواية حنبل: كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه مسلمًا كان أو كافرًا فعليه القتل، وأرى أن يُقتل ولا يستتاب.

وقال في رواية أخرى: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا كان أو كافرًا يُقتل.

وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم: يُستتاب؟ قال: قد وجب عليه القتل ولا يستتاب؛ خالد بن الوليد قتل رجلاً شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه.

وهكذا قال أصحاب أحمد: إن من سب الله كفر سواء أكان مازحًا أم جادًا للآية التي استدل بها الشافعي.

ص: 130

وقال أبو يعلى من الحنابلة: من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أم لم يستحله، فإن قال: لم أستحل ذلك لم يقبل منه في ظاهر الحكم، رواية واحدة، وكان مرتدا. قال: وليس كالقاتل والشارب والسارق إذا قال: أنا غير مستحل، حيث يصدق، لأن له غرضا في فعل هذه الأشياء مع التحريم، وهو اللذة. قال: وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في الظاهر، فأما في الباطن فإن كان صادقًا فيما قال فهو مسلم كما في الزنديق.

وذكر أبو يعلي عن بعض الفقهاء: إن كان مستحيلاً كفر، وإن لم يكن مستحيلاً فسق ولم يكفر كساب الصحابة.

ص: 131

وهذا نظير ما يُحكى أن بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارون الرشيد فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلدا، حتى أنكر ذلك مالك رضي الله عنه ورد هذه الفتيا.

وهذا نظير ما حكاه ابن حزم، وقد ذكر القاضي عياض بعد أن رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي أشار إليه ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد، وحمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممن شهر بالعلم، أو لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به، أو أن الفتيا كانت في كلمة اختلف/ في كونها سبًا أو كانت فيمن تاب.

وما حكي عن بعض الفقهاء من أنه إذا لم يستحل لا يكفر: زلة عظيمة وخطأ صريح لا يثبت عن أحد من العلماء المعتبرين، ولا يقوم عليه دليل صحيح.

ص: 132

وأما الدليل: فالكتاب والسنة والإجماع والقياس.

أما الكتاب: فقوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والأخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا)[الأحزاب: 57].

وقوله تعالى: (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)[التوبة: 61].

وقال تعالى: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا)[الأحزاب: 61].

فهذه الآيات كلها تدل على كفره وقتله.

والأذى هو: الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررًا، كذا قال الخطابي وغيره، ويدل له قول الله تعالى فيما حكى عنه نبيه:"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني" مع إثباته الأذى في هذه الآيات، وفي ذلك تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن نيله بشيء يسير من الشر كفر، والضرر في حق الله تعالى محال، والأذى في حقه وحق رسوله كفر، لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار، وكذلك القطع بالعذاب في الدنيا والأخرة إنما يكون للكفار، وكذا العذاب الأليم.

وكذلك قوله بعد ذلك: (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله

) [التوبة: 63]، الآية، فإنه مع الآية قبله يدل على أن الأذى محادة، وقد قال تعالى:(إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا)[المجادلة: 5]، وقوله: (أولئك في

ص: 133

الأذلين (20) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) [المجادلة: 20 - 21]، وقوله:(ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52)) [النساء: 52].

وإذا علم هذا فنركب دليلاً، وهو: أن الساب مؤذٍ، والمؤذي محاد، والمحاد مكبوت أذل مغلوب، ومن كان كذلك لا يكون منصورًا، فلو لم يجز قتله لوجب على المسلمين نصرته، وقد ثبت بطلانه.

وأيضًا نقول: الساب مؤذ، والمؤذي كافر بالآيات الأول، وغير ذلك من وجوه تركيب الاستدلال.

وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في "الصحيحين" لما خطب في قضية الإفك واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول فقال: "من يعذرني من رجل بلغني/ أذاه في أهلي"، فقال سعد بن معاذ سيد الأوس: أنا يا رسول الله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

فقول سعد بن معاذ هذا دليل على أن قتل مؤذيه كان معلوما عندهم، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره ولا قال له إنه لا يجوز قتله، والمستعذر منه ابن أبي، وكان ظاهره الإسلام، ولم يكن قصد سعد قتله لنفاق، وإنما كان لأذاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قلت: قد كان من جملة من خاض في الإفك مسطح وجماعة من خيار المسلمين ممن يقطع بأنهم لا يحكم عليهم بكفر ولا قتل، ولو كان ما استدللت به على ظاهره لوجب إجراء ذلك عليهم، ولكان سب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موجبًا للكفر أو للقتل.

ص: 134

قلت: الأذى على قسمين: أذى مقصود، وأذى غير مقصود، فمسطح وحمنة وحسان لم يكن مقصودهم أذى النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا يجري عليهم كفر ولا قتل، وأما ابن أبي فكان مقصوده بالأذى النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك يستحق القتل، ولكن الحق للنبي صلى الله عليه وسلم، فله تركه.

وهذه القاعدة واعتبار القصد فيما يحصل به الأذى مما يجب التنبيه له، فإن الشخص قد يفعل فعلاً أو يقول قولاً فيحصل لآخر منه أذى لا يكون ذلك الفاعل أو القائل قصد أذاه ألبتة، وإنما قصد أمرًا آخر ولم يحضر عنده أن ذلك يستلزم الأذى لذلك الشخص ولا كان لزومه له بينا، فهذا لا يترتب عليه حكم الإيذاء.

وهذا قد وقع لجماعة من جفاة الأعراب ومن لم يتأمل مواقع الكلام، فلم يؤاخذهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحال مسطح ورفقته يحتمل أن يكون من هذا الضرب، ويحتمل أنه قبل أن يتبين لهم أنها زوجته في الدنيا والأخرة وأن زوجات الأنبياء تجب براءتهن، وجوزوا أنه سيفارقها.

ص: 135

ومما يدلك على هذا قوله تعالى في شأن الذين قعدوا في وليمة زينب: (يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذالكم كان يؤذي النبي ..)[الأحزاب: 53]، فهؤلاء من خيار الصحابة لم يقصدوا الأذى، فلذلك لم يترتب عليه حكمه، وأما/ عبد الله بن أبي فيما حمله على ذلك إلى نفاقه وبغضه للنبي صلى الله عليه وسلم وقصده الإيذاء، فلذلك كان يستحق القتل، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم حلم عليه.

ولهذا قال جماعة من المفسرين: إن قولك تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والأخرة)[النور: 23] خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليس فيها توبة لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف قذف غيرهن حيث استثنى منه الذين تابوا، وإن كان المختار خلاف هذا القول، وأن الآية التي في أول السورة لبيان الأحكام الدنيوية، وهذه لبيان الأحكام الأخروية، وكلاهما يسقط بالتوبة، وقد أطلنا في هذا الدليل.

ومن السنة أيضًا حديث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو في

ص: 136

"سنن أبو داود" من حديث أسباط بن نصر عن السُدى عن مصعب بن سعد عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وسماهم وابن أبي سرح .. فذكر الحديث، قال: وأما ابن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال:"ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ "، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال:"إنه لا ينبغي لنبي أن تكون خائنة الأعين".

ص: 137

وأخره النسائي أيضًا. وإسماعيل السدي وأسباط بن نصر روى لهما مسلم، وفيهما كلام، لكن الحديث مشهور جدًا عند أهل السير كلهم.

وكان ابن أبي سرح يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم/ ثم ارتد مشركًا وصار إلى قريش بمكة فقال لهم: إني كنت أصرف محمدًا حيث أريد، كان يملي علي:(عزيز حكيم) فأقول: أو (عليم حكيم)، فيقول: نعم كل صواب. فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلته وقتل عبد الله بن هلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وكذلك أمر بقتل الحويرث بن نقيد، وهبار بن الأسود، وابن الزبعري، وعكرمة بن أبي جهل، ووحشي، وقينتي ابن خطل، وهما فرتنا وأرنب، كان يقول الشعر يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهما تغنيان به، وسارة

ص: 138

مولاة عمرو بن هاشم، مغنية نواحة بمكة، كانت يُلقى عليها هجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتغني به، وقتلوا إلا ابن أبي سراح وهبار بن الأسود وابن الزبعرى

ص: 139

وعكرمة ووحشي وفرتنا إحدى القينتين، فأسلموا.

وقيل إن ابن خطل كان قتل أنصاريًا كان رفيقه، وذكر الواقدي أن ابن أبي سرح لما جاء مع عثمان جاء تائبًا، وظاهر حاله يقتضي ذلك.

وهؤلاء الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمهم منهم من كان مسلمًا فارتد كابن أبي سرح، وانضاف إلى ردته ما حصل منه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، حتى جاء به عثمان واستحيا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه، وهو بلا شك دليل على قتل الساب قبل التوبة، أما بعد التوبة فسنتكلم عليه، ونتكلم أيضًا هناك ـ إن شاء الله ـ على قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أما كان منكم رجل رشيد يقول إلى هذا فيقتله".

ومنهم مقيس بن صبابة، ارتد وقتل نفسًا، ومنهم ابن خطل أيضا،

ص: 140

ارتد وقتل نفسًا، فقتلهما الله، ومنهم عكرمة بن أبي جهل انضاف إلى كفره الأصلي شدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم هل صدر منه سب أو لا، وصار بعد ذلك من سادات المسلمين.

ومنهم من كان كافرًا أصليًا ولكن ما كان إهدار دمه لكفره ولا لشدة عداوة بل بما صدر منه من السب، ألا ترى أن النساء لا يقتلن بالكفر! فلم يكن الأمر بقتلهن إلا للوقيعة، ولم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أحدًا لمجرد الكفر، لكن قيل: إنه أذن لخزاعة أن تنتقم من بني بكر الذين أغاروا عليهم، فقتلوا منهم، ثم حرم النبي صلى الله عليه وسلم كله بعد ذلك.

وقيل: إن الأنصار قاتلوا، وللكلام في تحقيق ذلك محل غير هذا، وأما إذنه لخزاعة فروى أبو عبيد في كتاب "الأموال": ثنا عبد الوهاب

ص: 141

- يعني: ابن عطاء ـ عن حسين المعلم: عن عمرو بن شعيب: عن أبيه: عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر فإن لهم حقا"، حتى صلى العصر، ثم قال:"كفوا السلاح"، فلقي رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد قام خطيبا مسنداً ظهره إلى الكعبة، فقال:"إن أعتى الناس على الله من عدا في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحل الجاهلية".

وأبو عبيد يرى أن مكة فتحت عنوة، والشافعي رحمه الله مع قوله:"فتحت صلحا" قال: إن الذين قاتلوا بها بنو نفاثة فأذن في قتلهم، ولا مال لهم ولا سبي لهم بها فيؤخذ، إنما هم قوم من غير أهلها لجؤوا إليها،

ص: 142

ذكر ذلك في "الأم" جوابًا عن قول أبي يوسف: إن السبي لا يجري على أهل مكة، في الجزء السابع عشر من "الأم".

والاستدلال بحديث ابن أبي سرح هذا قوي عند من يرى أن/ استتاببة المرتد واجبة، فإن قتله لو كان للردة لاستتابه على قول هؤلاء، ولم يقع ذلك، وليس بكافر أصلي حتى يقول إن الإمام مخير فيه قبل الإسلام، فلا محمل لقتله إلا السب، وأن الساب يقتل بغير استتابة، أعني: لا نعرض عليه التوبة، أما إذا أنذر فأسلم فسيأتي حكمه.

ومن لا يرى الاستتابة واجبة يقول: إنها سنة، فتترك النبي صلى الله عليه وسلم إياها يدل على أن هذا القتل عن السب، وأنه أعظم من قتل الردة، إذ يستتاب في ذلك وجوبًا أو استحبابًا ولا يستتاب في هذا.

ومما يدل على أن جُرْمَ الساب أعظم من جُرْمِ المرتد ما روى البخاري عن أنس قال: كان رجل نصرانيا فأسلم، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فِعْلُ محمدٍ وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له وأعمقوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعملوا أنه ليس من الناس فألقوه.

ص: 143

فانظر عناية الله بإظهار كذب من افترى على نبيه، وعدم قبول الأرض له، حتى يظهر للناس أمره، وإلا فكثير من المرتدين ماتوا ولم تلفظهم الأرض، ولكن الله أراد أن يفضح هذا المعلون ويبين كذبه للناس، ولو لم يسلم ابن أبي سرح لكان كذلك.

وقد اختلف الناس فيما قاله ابن أبي سرح وهذا النصراني، فقيل: إن ذلك كذب وافتراء لم يكن منه شيء، وقيل: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ثم نسخت الستة وثبت السابع في العرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، وكان في الأول يجوز:(سميع عليم) ونحوه موضع: (عليم حكيم) ونحوه ما لم يختم آية رحمة بعذاب، ولا آية عذاب برحمة، وقيل غير ذلك من التأويلات الصحيحة التي لم يفهمها ابن أبي

ص: 144

سرح ولا النصراني حيث أضلهما الله تعالى، وكان ذلك من أعظم الجُرم، لأنه يؤثر في القلوب المريضة ريبا، فكانت عقوبته أشد.

وابن خطل أيضًا كان مسلمًا واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، وأصحبه رجلاً من الأنصار يخدمه، فغضب عليه لكونه لم يصنع له طعامًا فقتله، ثم خاف أن يُقتل فارتد، وكان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر جاريتيه أن تغنيا به، وقتله لو كان قصاصًا لسُلم إلى أولياء المقتول، ولو كان ردة لاستتيب، فلم يكن إلا للسب.

فإن قلت: الهجاء بالشعر من أفحش السب، فلم يعم السب بالكلمة الواحدة؟

قلت: سيأتي عموم الحكم في السب بغير الشعر والتعليل بالأذى، وهو مقتضى العموم، وأيضًا فالمبيح للدم لا فرق في الجنس الواحد منه بين قليله وكثيره.

ومن السنة أيضًا: ما اشتهر أن بجير بن زهير بن أبي سلمى كتب إلى أخيه كعب بن زهير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه.

ص: 145

ومن السنة أيضًا: حديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه: ما أحسنت ولا أجملت، فأراد المسلمون قتله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تركتم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار".

ولما قسم غنائم حنين قال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال:"معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي". وفي هذا إشارة إلى أنه كان مستحقًا للقتل بإذن النبي صلى الله عليه وسلم لو أذن.

ص: 146

ولما قال ابن أبي: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل": استأمر عمر في قتله، فقال:"إذن ترعد له آنف كثيرة بالمدينة"، وقال "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه".

وفي مغازي سعيد بن يحيى بن سعيد: عن أبيه: عن أبي المجالد: عن الشعبي قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودعا بمال

ص: 147

العزى فنثره بين يديه، ثم دعا رجلاً قد سماه فأعطاه، ثم دعا رهطا من قريش فأعطاهم، فقام رجل فقال: إنك لبصير حيث تضع التبر. ثم قام الثانية فقال مثله، فأعرض/ عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام الثالثة فقال: إنك لتحكم وما نرى عدلاً، قال:"ويحك! إذا لا يعدل أحد بعدي". ثم دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال: اذهب فاقتله، فذهب فلم يجده، فقال:"لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم".

ومن السنة أيضًا: ما روى القاضي عياض: ثنا ابن غلبون: عن أبي ذر إجازة قال: ثنا أبو الحسن الدارقطني وأبو عمر بن حيويه: ثنا محمد ابن نوح: ثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة: ثنا عبد الله بن موسى [بن جعفر: عن علي بن موسى]: عن أبيه: عن جده: عن محمد بن علي بن الحسين: عن أبيه: عن الحسين بن علي: عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سب نبيًا فاقتلوه، ومن سب أصحابي فاضربوه".

ص: 148

في هذا الحديث نظر من جهة الراوي عن أهل البيت فيه، وعبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة، جرحه ابن حبان وغيره.

ص: 149

وقد رواه أيضًا الخلال والأزجي من حديث علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سب نبيًا قتل، ومن سب أصحابه جلد".

وابن الصلاح قال في كلامه على "الوسيط": "هذا حديث لا يعرف"، وهذا الكلام من ابن الصلاح لأنه لم يقف على إسناده، فينبغي

ص: 150

النظر فيه، فإن كان محفوظًا فهو عمدة قوية في المسلم والكافر، وقد أطلنا في الاستدلال في هذا المكان، ولا ضرورة إليه لأنه حكم مجمع عليه.

وأما الإجماع: فقد تقدم نقله.

وأما القياس: فلأن المرتد ثبت قتله بالإجماع والنصوص المتظاهرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"، والساب مرتد مبدل لدينه، فلك أن تدخله في عموم قوله:"من بدل دينه" فيكون ثابتًا بالنص، ولك أن تجعل السب مقيسًا على الردة بطريق الأولى لأنه أفحش.

ص: 151