المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثانية: في أن قتل الساب للكفر أو للحد - السيف المسلول على من سب الرسول

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول: في حكم الساب من المسلمين

- ‌الفصل الأول: في وجوب قتله

- ‌المسألة الأولى: في نقل كلام العلماء ودليله

- ‌المسألة الثانية: في أن قتل الساب للكفر أو للحد

- ‌الفصل الثاني: في توبته واستتابته

- ‌المسألة الأولى: في قبوله توبته

- ‌خاتمة لهذه المسألة

- ‌المسألة الثانية: في استتابة الساب

- ‌الباب الثاني: في حكم الساب من أهل الذمة

- ‌الفصل الأول: في نقل كلام العلماء في قتله

- ‌الفصل الثاني: في نقل كلام العلماء في انتقاض عهده

- ‌الفصل الثالث: في بيان أن لا يلزم من القول بانتقاض عهده ولا بعدم انتقاضه عدم قتله

- ‌الفصل الرابع: في الأدلة الدالة على قتل الساب الذمي

- ‌الدليل الثاني: قصة قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي

- ‌الدليل الثالث: قصة قتل أبي عفك اليهودي

- ‌الدليل الرابع: قصة أنس بن زنيم الديلي

- ‌الدليل الخامس

- ‌الدليل السادس

- ‌الدليل السابع: قصة العصماء بنت مروان اليهودية

- ‌الدليل الثامن: قصة قينته ابن خطل وسارة مولاه بني عبد المطلب

- ‌الدليل التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أمن أكثر الكفار وأهدر دم ابن الزبعري ونحوه ممن كان يهجو، حتى لحق ابن الزبعري بكل وجه ثم جاء وأسلم

- ‌الدليل العاشر

- ‌الدليل الحادي عشر

- ‌الدليل الثاني عشر

- ‌الدليل الثالث عشر

- ‌الدليل الرابع عشر

- ‌الفصل الخامس: في أنه لا تصح توبته مع بقائه على الكفر

- ‌الفصل السادس: فيما إذا أسلم

- ‌الفصل السابع: في أنه هل يستتاب بالإسلام ويدعى إليه

- ‌الفصل الثامن: في أنه هل يصح حكم الحاكم بسقوط القتل عنه مع بقائه على الكفر

- ‌الباب الثالث: في بيان ما هو سب من المسلمين والكفار

- ‌الفصل الأول: في المسلمين

- ‌فرع: [في سب أم النبي صلى الله عليه وسلم]:

- ‌فرع: [في سب عائشة رضي الله عنها]:

- ‌فرع: [في سب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة]:

- ‌فرع: [في سب سائر الصحابة رضي الله عنهم]:

- ‌فرع: من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل الثاني: فيما هو سب من الكافر

- ‌‌‌فرع:

- ‌فرع:

- ‌فرع: في ميراث الساب إذا قتل أو مات على سبه:

- ‌الباب الرابع: في شيء من شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: في تعظيم الله له وثنائه عليه في القرآن

- ‌الفصل الثاني: في أنه صلى الله عليه وسلم جمع المحاسن كلها

- ‌الفصل الثالث: فيما ورد في الأحاديث من تعظيم الله تعالى

- ‌الفصل الرابع: فيما يجب على الأنام من حقوقه صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌المسألة الثانية: في أن قتل الساب للكفر أو للحد

‌المسألة الثانية: في أن قتل الساب للكفر أو للحد

وأقدم عليه مقدمة، وهي: أن المرتد يقتل للنص والإجماع كما سبق، وتوبته مقبولة بإجماع أكثر العلماء إذا لم يكن زنديقًا، وقال الحسن في رواية: لا تقبل توبته ويُقتل وإن أسلم كالزاني، وقاله أحمد فيمن ولد في الإسلام، وهو قول عطاء وإسحاق. والمشهور من مذاهب الصحابة والتابعين: قبول توبته، ولعل الذي روي عن الحسن لا يثبت، أو يكون في واقعة خاصة.

ولا شك أن قتله إذا لم يتب ليس كقتل الكافر الأصلي، لأن الكافر الأصلي الحربي إذا أسر يتخير الإمام فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، وإن كان كتابيًا يقر بالجزية ويهادن ويؤمن، وإن كانت امرأة لم

ص: 152

تقتل إلا إن قاتلت، والمرتد بخلاف ذلك في جميع هذه الأحكام، ويجبر على الإسلام رجلاً كان أو امرأة، ولا يقبل منه غيره، فإن لم يسلم قتل.

فعلمنا بهذا أن العلة في هذا الحكم ليس هو مطلق الكفر، بل خصوص الردة، ولذلك جعلها الغزالي من الجنايات الموجبة للعقوبة، وهي سبع: البغي، والردة، والزنا، والقذف، والسرقة، وقطع الطريق، والشرب. وفسرها بأنها عبارة عن قطع الإسلام من مكلف، وقال: احترزنا بالقطع عن الكفر الأصلي، وهكذا وقع في كلام القاضي حسين في "تعليقته"، والروياني في "البحر"، حيث حكيا ما سنذكره عن أبي بكر الفارسي أن قتل المرتد حد يسقط بإسلامه، وهكذا في كلام غيرهما، وهذا هو التحقيق، وهو أن القتل عقوبة خاصة رتبها الشرع على خصوص الردة كما رتب الرجم على زنا المحصن.

ص: 153

وبهذا يظهر لك أن قتل المرتد حد، والردة كفر خاص يوجب القتل الذي لا خيرة فيه إلا الإسلام، بخلاف غيرها من أنواع الكفر.

وليس يلزم من كون قتل المرتد حدًا أن لا يسقط بالإسلام، ألا ترى أنا اختلفنا في حد الزنا هل يسقط بالتوبة أو لا؟ مع الإجماع على تسميته حدًا، فلا يمتنع أن يكون قتل المرتد حدًا وإن سقط بالإسلام، ومن ظن أنه متى سميناه حدًا لا يسقط بالإسلام فهو غالط.

والحد هو: العقوبة المقدرة من جهة الشارع، ولك أن تجعل المعاقب عليه في الردة خصوص الكفر بعد الإسلام، ولك أن تجعله قطع الإسلام بالكفر كما تشير إليه عبارة الغزالي، وهو معنى غير الأول، وهو أحسن.

فرتب الشارع/ على قطع الإسلام القتل، ثم يسقط بالإسلام، لقوله:(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)[الأنفال: 38]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"الإسلام يجب ما قبله"، ولا يلزم من التردد في سقوط الحد بالتوبة التردد في سقوطه بالإسلام، لأن الإسلام أعلى.

إذا عرفت هذا فنقول:

الساب المسلم مرتد، فالكلام فيه كالكلام في قتل المرتد، فيكون حدًا أيضًا وإن كان كافرًا كالمرتد، وفي هذا بحث زائد، وهو أن القتل هل هو لعموم الردة أو لخصوص السب؟ أو لهما معًا؟ هذا محل نظر الفقيه.

ص: 154

أما عموم الكفر فلا، لما قدمناه من اختلاف الآثار، لأن هذا لا يسترق ولا يؤمن ولا يفادي به ولا يقر بجزية، ولا يفترق الحال بين أن يكون رجلاً وامرأة، ولكن النظر: هل هو لعموم الردة أو لخصوص السب؟ أو لمجموعهما؟

ولا شك أن الردة موجبة للقتل بالإجماع والنصوص، وخصوص السب موجب للقتل بحديث:"من سب نبيًا فاقتلوه" وبترتيب الحكم على الأذى، وترتيب الحكم على خصوص الوصف يشعر بأنه هو العلة، وقد وجد في الساب المسلم المعنيان جميعًا، أعنى: الردة والسب، فيكون قد اجتمع على قتله علتان، كل منهما موجبة للقتل، والقتل حد لكل منهما، وقد تجتمع علتان شرعيتان على معلول واحد، ولهذا البحث أثر يظهر فيما إذا صدر السب من كافر، فإنه انفرد فيه السب عن الارتداد، وفيما إذا تاب الساب وأسلم، وسنذكره إن شاء الله تعالى. هذا تحرير البحث في قتل الساب والمرتد.

وقد قال القاضي عياض رحمه الله بعد أن حكى قتله عن جماعة ثم قال: ولا تُقبل توبته عند هؤلاء، وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، وأهل الكوفة، والأوزاعي، في المسلم، كلهم قالوا: هي ردة. وروى مثله الوليد بن مسلم عن مالك.

ص: 155

وقال بعد ذلك: ذكرنا الإجماع على قتله،/ ومشهور مذهب مالك وأصحابه وقول السلف وجمهور العلماء قتله حدًا لا كفرًا إن أظهر التوبة، ولهذا لا تقبل التوبة عندهم.

فأشار القاضي في هذا الكلام إلى أن مأخذ قبول التوبة جعل قتله للكفر، ومأخذ عدم قبولها جعله للحد، وقد بينا أن ذلك غير لازم.

ويمكن تأويل كلام القاضي على فرض الخلاف فيما إذا أسلم لا فيما قبل ذلك.

وقد نقل القاضي حسين من الشافعية عن أبي بكر الفارسي أنه قال: أجمعت الأمة على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل حدًا. قال: وإنما ذاك لأن من سب النبي صلى الله عليه وسلم فقد خرج عن الإيمان، والمرتد يقتل حدًا، فإن تاب يجب أن تقبل توبته.

وقال الروياني: ذكر أبو بكر الفارسي أن الأمة أجمعت على أن من شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدة القتل، بخلاف ما لو قذف غيره يحد ثمانين.

قال الروياني: قال أصحابنا: معناه أن بقذفه يكفر فيقتل بالردة، وقتل المرتد حد يسقط بإسلامه، وإذا أسلم هنا بقي حد القذف عليه ثمانون، لأن من قذف غيره ثم ارتد ثم أسلم فحد القذف عليه باقٍ، وقيل: أراد به أنه

ص: 156

يُقتل حدًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل، وهذا الاستدلال لا يصح، لأن ذاك كان مشركًا لا أمان له، فلهذا قتل، بخلاف هذا. انتهى كلام الروياني.

وسنعود إلى كلام الفارسي، وإنما قصدنا بذكره هنا قوله: إنه يقتل حدًا، وحكايته الإجماع على ذلك، وموافقة القاضي حسين والروياني والأصحاب له على تسميته حدًا، وإن خالفوه في شيء آخر نذكره في سب الكافر إن شاء الله.

فقد تحرر من هذه المسألة أن الساب يُقتل إن لم يتب حدًا مع كفره، والخلاف هنا في كونه حدًا أو كفرًا لفظي لا يكاد يظهر له فائدة في هذا المحل، وإنما تظهر فائدة في البحث وفي سب الكافر، وقد أشرنا إلى أنه لا يظهر له أثر في قبول إسلامه، بل قد يكون حدًا ويقبل/ إسلامه.

نعم، إذا أخذ بالنسبة إلى ما قاله الناس وأفهمه كلامهم وإشارة بعضهم إلى أن قتله حدًا مستلزم لعدم سقوطه بالإسلام فقد يظهر أثره، ومحل الكلام على ذلك عند الكلام في قبول توبته، ويظهر أيضًا أثره في هذا المحل في شيء آخر، وهو أنا لا نعلم أحدًا قال فيما إذا كان السب قذفًا إنه يجمع فيه بين الجلد والقتل، وقد يُقال: لِمَ لا جمع بينهما كما لو وجب عليه لشخص قصاص وحد قذف؟

وتحقيق الجواب عن هذا يرجع إلى تحرير ما كنا فيه، فنقول: إن قلنا: القتل لخصوص السب، وإن خصوص السب موجب للقتل من حيث هو سب،

ص: 157

فيكون وجوب حد القذف به مخرجًا على قاعدة، وهي: أن ما أوجب أعظم الأثرين بخصوصه هل يوجب أهونهما بعمومه؟، وعلى قاعدة أخرى، وهي: إذا اجتمع أمران من جنس واحد هل يدخل أحدهما في الآخر؟.

وعلى هاتين القاعدتين تتخرج مسائل:

- منها: أن المني يوجب خروجه الغسل، فهل يوجب مع ذلك الوضوء؟ فيه خلاف، المشهور في المذهب أنه لا يجب للقاعدة الأولى.

- ومنها: زنا المحصن يوجب الرجم، ولا خلاف عندنا أنه لا يوجب الجلد، عملاً بالقاعدة الأولى أيضًا، وقد قال به بعض العلماء، ويمكن أن يقال بأن موجب الجلد زنا البكر لا عموم الزنا.

ص: 158

- ومنها: خروج الحيض يوجب الغسل والوضوء معًا، وهو يرد على القاعدة الأولى.

- ومنها: إذا وجب عليه وضوء وغسل أجزأه الغسل على ظاهر المذهب للقاعدة الثانية.

ومنها: إذا أحرم قارنًا بالحج والعمرة دخلت أعمال العمرة في أعمال الحج عندنا وعند جمهور العلماء للقاعدة الثانية.

جئنا إلى مسألتنا:

يمكن تخريجها على القاعدتين فيُقال:

يجب القتل وحده، ويسقط الحد. أما للقاعدة الأولى فإن هذا القذف الخاص أوجب القتل، وهو أعظم الأثرين بخصوص كونه في هذا المحل الخاص، فلا يوجب أهونهما وهو الجلد بعموم كونه قذفًا.

أو يقال: إنهما وجبا، ولكن دخل الأصغر في الأكبر كما/ دخل الوضوء في الغسل، وكما دخلت العمرة في الحج.

ص: 159

أو يُقال: إن القذف في هذا المحل الخاص حده القتل، فلا حاجة للتمسك بشيء من القاعدتين في إسقاط الجلد، لكن هذا يوجب تخصيص أنه القذف، ولا دليل عليه.

هذا كله إذا قلنا: القتل لخصوص السب من حيث كونه سبًا، وإن قلنا: القتل به لكونه ردة فيحتمل أن تسلك المباحث المذكورة.

ويحتمل أن يقال: لا وجه حينئذ لسقوط الجلد، لأن المحذور على القاعدة الأولى أن يكون الشيء الواحد موجبًا لشيئين، وهذا مفقود هنا على هذا التقدير، وإنما الموجب للجلد القذف، والموجب للقتل ما اشتمل عليه من الكفر.

ومع هذا كله فلا أعلم أحدًا يوجب الجمع بين القتل والجلد في مسألتنا، وإنما الواجب قبل التوبة القتل وحده، وبعد التوبة، قال بعض أصحابنا: سقط القتل وبقي حد القذف، وهذا كأنه أعرض عن القاعدة الأولى ولاحظ الثانية، فيجعل القذف موجبًا لهما، فإن استوفي الأعظم دخل فيه الأصغر، وإلا انفرد الأصغر، والمذهب سقوط الحد، وكأنه نظر إلى القاعدة الأولى وأنه لم يجب من أصله إلا القتل، فتخريج الوجهين على هذين المأخذين.

وأما الوجه الثالث القائل بأنه يقتل بعد الإسلام فسنذكر، وحينئذٍ لا يُجلد معه كما قبل التوبة، ولم يقل أحد بإلغاء القاعدتين جميعًا في هذا المحل، لأنه يلزم منه أن يجلد ويقتل قبل التوبة وكذا بعدها على وجه.

ص: 160