الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: فيما يجب على الأنام من حقوقه صلى الله عليه وسلم
فيجب الإيمان به، والاعتراف بنبوته ورسالته بالقلب واللسان، لا يصح إسلام ولا إيمان إلا بذلك، وأجمع العلماء على أن من وحد الله تعالى ولم يعترف بالرسل فهو كافر غير عارف بالله تعالى، فيجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به بالقلب ونطق اللسان بذلك، واختلف العلماء فيمن لم يتمكن من النطق ولكن آمن بقلبه واخترمته المنية قبل اتساع وقت للشهادة بلسانه، فمنهم من قال: لا يتم الإيمان، ومنهم من قال: يتم ويستوجب الجنة، وهو الصحيح.
أما القادر على النطق فلا بد منه، ونقل القاضي عياض خلافًا غريبًا في أنه كافر أو عاصٍ، وهذا غير المحل الذي/ نقلنا فيه الإجماع أولاً،
فإن ذاك فيمن وحد ولم يعترف بالرسل لا بقلبه ولا بلسانه وقد بلغته دعوتهم، فلا شك أنه كافر بالإجماع، وهذا فيمن اعترف بالله ورسله بقلبه ولم يترك التلفظ عن ريب ولا عناد ولكن إهمالاً، والصحيح أنه كافر.
وتجب طاعته صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به، واتباعه وامتثال سننه، والاقتداء بهديه، والانقياد لحكمه، والتسليم ظاهرًا وباطنًا حتى لا يكون في القلب حرج من قضائه، وترك مخالفته في قول أو فعل، ومحبته ولزوم سنته، ولا يتجاوزها إلى بدعة، وأن يكون أحب إلينا من أنفسنا، والصادق في حبه من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأديب بأدبه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته، وإسخاط العباد في رضى الله، فمن اتصف بهذه الصفة فو كامل المحبة، ومن خالفها في بعض هذه الأمور
فهو ناقص المحبة ولا يخرج عن اسمها، ودليله قوله عليه السلام للذي حده في الخمر:"إنه يحب الله ورسوله".
ومن علامات محبته كثرة ذكره وكثرة شوقه إلى لقائه، وتعظيمه وتوقيره عند ذكرى، وإظهار الخشوع والانكماش مع سماع اسمه، ومحبته لمن أحب، ولمن هو من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، فمن أحب شيئًا أحب من يحب:
حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي
ومحبة القرآن الذي أتى به، ومحبة سنته، والوقوف عند حدودها، والزهد في الدنيا، وإيثار الفقر واتصافه به.
وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق، إما لجمال صورة، وإما لحسن سيرة، وإما لوصول إحسان، والنبي صلى الله عليه وسلم جامع لذلك كله، لما عرف من
جمال صورته، وحسن سيرته، ولا أعظم من إحسانه إلينا ومنته علينا لأحدٍ من الخلق.
وتجب مناصحته صلى الله عليه وسلم، فالدين النصيحة لله/: بصحة الاعتقاد، والرغبة في محابه، والبعد من مساخطه، والإخلاص في عبادته، والنصيحة لكتابه: بالإيمان به، والعمل بما فيه، وتحسين تلاوته، والتخشع عنده، والتعظيم له، وتفهمه والتفقه فيه، والذب عنه من تأويل الغالين وطعن الملحدين.
والنصيحة لرسوله: بالتصديق بنبوته، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، ومؤازرته ونصرته وحمايته حيًا وميتًا، وإحيائه سنته بالطلب والذب عنها ونشرها، والتخلق بأخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة، والدعوة إلى
الله وإلى كتابه وإلى رسوله، والعمل بها، وبذلك النفوس والأموال دونه، ومجانبة من رغب عن سنته وبغضه والتحذير منه، والشفقة على أمته، والبحث عن تعرف أخلاقه وسيره وآدابه، والصبر على ذلك.
ومما يجب له صلى الله عليه وسلم: توقيره وبره، وأن لا يتقدم بين يديه، ولا ترفع الأصوات فوق صوته، وبغض الصوت عنده، ولا نجعل دعاءه كدعاء بعضنا بعضا، وتعزيزه بالمبالغة في تعظيمه ونصرته وإعانته، وعاده الصحابة في ذلك المبالغة، ولو استقصينا ما ورد عنهم في ذلك لطال، وهم وإن بالغوا في ذلك فلم يبلغوا ما هو حقه صلى الله عليه وسلم، وما أحد من البشر يطيق القيام بحقه على التمام، لكن بحسب طاقته.
وحرمته صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان في حياته، وذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، ومعاملة آله وعترته.
فواجب على كل مؤمن متى ذاكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به، وهذه كانت سيرة السلف الصالح والأئمة الماضين رضي الله عنهم.
وكان صفوان بن سليم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه. وكان مالك بن أنس لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم/ إلا وهو على وضوء لإجلاله. وروي أنه كان يغتسل ويتطيب ويلبس ثيابًا جددًا وساجه، ويتعمم ويضع على رأسه رداءه، وتلقى له منصة فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن توقيره صلى الله عليه وسلم توقير أصحابه والإمساك عما شجر بينهم، وتوقير مشاهده من مكة والمدينة، ومعاهده وما لمسه أو عرف به، وأفتى مالك فيمن قال:"تربة المدينة رديئة" بضرب ثلاثين درة، وأمر بحبسه ـ وكان له قدر ـ وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم يزعم أنها غير طيبة!
ومما يجب له صلى الله عليه وسلم: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، نقل القاضي عياض الإجماع على وجوبها، واختلفوا: هل تكفي في العمر مرة أو كلما ذكر أو في كل صلاة؟ على ما عرف بين العلماء، وقول الطبري إن محمل الآية على الندب بالإجماع محمول على ما زاد على ذلك، وقد جمعنا ألفاظ الصلاة في كتابنا المسمى:"شفاء السقام في زيارة خير الأنام".
ومن حقه صلى الله عليه وسلم: زيارة قبره، وقد جمعنا في ذلك الكتاب ما يتعلق بالزيارة وبلوغ السلام للنبي صلى الله عليه وسلم وسماعه.
واعلم أن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم لا تنتهي، وليس هذا الباب مصنفًا لذلك حتى يستوعب كثيرًا منها، وإنما ذكرنا هذه الفصول فيها: نبذ يسيرة من شرفه وحقه، ليكون خاتمة هذا الكتاب ختم الله لنا بخير، فلنقتصر على ذلك، ويكون هذا آخر كلامنا في هذا الكتاب.
والله أسال أن ينفع من كتبه أو سمعه أو نظر فيه بمنه وكرمه.
فرغت من تصنيفه في يوم الخميس سلخ شعبان المكرم، سنة أربع وثلاثين وسبعمئة، بمنزلي بدرب الطفل من القاهرة.
كتبه مصنفه علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى السبكي، غفر الله لهم.
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حسبنا الله ونعم الوكيل.