الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الرابع عشر
إجماع العلماء على أن ذلك موجب للعقوبة، إما القتل عند جمهورهم، وإما التعزير عند الحنفية، ولم يقل أحد إن ذلك يجوز التقرير عليه ويسكت لهم عنه، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، وهذا يقدح في تمسك الحنفية بأن ما/ هم عليه من الشرك أقبح، فإنه لو كان كذلك لما تعرضنا لهم بسببه كما لا نتعرض لهم بسبب الشرك إذا بذلوا الجزية.
ومما يبين فساد قولهم في ذلك أن الشرك قبيح للجهل بالله تعالى، والسب كفر قبيح للافتراء على الله ورسله والطعن فيهم، فهو أمر زائد على الجهل، فكان أقبح، ولذلك لا يصبر لهم عليه بخلاف الشرك المجرد، وإذا ثبت أنه أقبح من الشرك المجرد فيكون موجبًا للقتل ضرورة.
وأيضًا فإنه كفر وإساءة على أهل الكمال، فلو أوجب التعزيز فقط لساوى سب غيره من الناس، وهذا باطل بالضرورة، فثبت أنه موجب للقتل.
وقد اعترض بأمور:
أحدها: قوله تعالى: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)) [آل عمران: 186].
وجوابه ـ بعد تسليم أن ذلك في أهل الذمة وأن الصبر ينافي القتل ـ: بأنه منسوخ بآية السيف، فقد ورد أن ذلك كان قبل بدر، وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدر الإمساك عن جميع الكفار، وبعد بدر عز الإسلام فصار لا يمسك عمن يؤذيه وغيرهم بقتل من يؤذيه، وربما عفى عن بعضهم إلى أن نزلت "براءة" وفتحت مكة وكمل الدين، فلم يجسر أحد من المنافقين بعد تبوك ينبز بكلمة.
الاعتراض الثاني: أن اليهود كانوا يقولون: السام عليك ولم يقتلهم.
وجوابه: قيل إن ذلك في حال ضعف الإسلام وخشية الفتنة من الانتقام، وقيل لأنهم أخفوه ولم يظهروه، فكان كالأشياء التي تصدر من المنافقين ويطلع النبي صلى الله عليه وسلم من غير ظهورها للصاحبة، وذلك لا يقتضي القتل كما سبق، وإن كانت عائشة تفطنت لذلك فأكثر الصحابة لم يتفطنوا له حتى تقوم السنة بذلك، وأيضًا فإن الحق له عليه السلام فله أن يتركه.
الاعتراض الثالث: عدم قتل من تعرض لشيء من ذلك من الأعراب يوم حنين وغيره، وقد تقدم شيء منه، وهي وقائع كثيرة وإن كان فيمن ظاهره الإسلام، وإذا جاز ترك المسلم فترك الذمي أولى.
وجوابه: أما في الكفار فلأن الحق للنبي صلى الله عليه وسلم،/ فله أن يعفو وأن يؤخر، وأما في المسلم فلما قدمناه في الباب الأول وجهل من يصدر منه، وكما كان يعفو عن المنافقين الذين يتحقق نفاقهم.
الاعتراض الرابع: أن أهل الذمة أقررناها على دينهم، ومن دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه وسلم.
وجوابه: أن من دينهم استحلال قتال المسلمين، ولو فعلوه انتقض العهد قطعًا، ودعوى أنا أقررناهم على دينهم مطلقًا ممنوعة، لأن من دينهم هدم المساجد، وإحراق المصاحف، وقتل العلماء والصالحين، وأخذ أموال المسلمين، وإظهار الطعن في الدين، والمحاربة، ولا خلاف أنهم لا يقرون على شيء من ذلك، ففي دينهم أن الجزية لا تجب عليهم ولا سائر ما نوجبه عليهم؛ وإنما أقررناهم على اعتاقدهم، ولا نعترض عليهم فيما يخفونه منه ولا فيما يظهرونه مما لا ضرر فيه على المسلمين أو مخالفة لشرطهم، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صحابها، وإذا أعلنت ضرت العامة.
ودعوى أن من دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا ممنوعة، إنما ذلك قبل العهد، أما بعد العهد فلا، كما أن من ديننا استحلال أذاهم قبل العهد لا بعده، لأن الوفاء بالعهد واجب في جميع الملل، فإن قدر أن من دينهم أن الوفاء بالعهد لا يجب ولا يلزم الوفاء بالشرط فلا يصح عقد الهدنة معهم، لأنه لا يوثق بها، ونحن قد عاهدناهم على أن يكفوا عن أذانا بألسنتهم وأيديهم، وأن لا يظهروا شيئًا من أذى الله ورسوله، وأن
يخفوا دينهم الذي هو باطل في حكم الله ورسوله، وإذا عاهدوا على هذا كانت مخالفته حرامًا عليهم في كل الأديان، لأن الغدر والخيانة حرام عند كل أحد، ونحن إنما نتعرض لهم إذا سبوا ظاهرًا بأن ثبت ذلك عليهم، فيكونوا قد خالفوا العهد، أما إذا فرض سب في خفية لم يطلع عليه أحد من المسلمين ولا أقر صاحبه به فلا نقول إن العهد ينتقض به، بل إذا استشعره الإمام له نبذ العهد، كالخيانة إذا خيفت، كما تقدم عن الروياني.
وبهذا يظهر لك أنه لا فرق في السب أن يكون مما يعتقده الكافر أو لا، وهو الصحيح من المذاهب، خلافًا لما قاله بعض أصحابنا./
وكذلك إظهار كلمة التثليث، فإنا إنما نقرهم عليها إذا أخفوها، والعهد والشرط اقتضى تحريم إظهارها، فكان إظهارها نقضًا، على خلاف فيه بين العلماء، ومن لا يقول بأنه نقض يفرق بينه وبين السب بأن الساب منتقص بخلاف معتقد التثليث فإنه متدين به، وإن كان الحق أنه سب أيضًا، لما في البخاري عن الله تعالى:"كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون على الله من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدًا؛ وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد". فيفقر بين هذا السب وذاك السب بما ذكرناه.
وأيضًا فالساب طاعن في الدين، وضرره يسري إلى غيره، فكان كالحرابة، وضرر اعتقاد التثليث ونحوه قاصر عليه.
ومن يفرق بين سب الله وسب الرسول يقول: إن سب الله تعالى لا يدعو إليه طبع أحد من العقلاء، وسب الرسول طبع الكافر يدعو إليه، فناسب أن يرتب عليه زاجرا، على أن الذي فرق إنما فرق في قبول التوبة، وأما إيجاب القتل به فلا فرق بين سب الله وسب الرسول، كل منهما موجب للقتل.
ثم قول الخصم: "إن ما هم عليه من الشرك أقبح" لو سلم إنما يلزم منه أن عقوبته في الأخرة تكون أعظم، أما في الدنيا فنحن نرى الكفار يقرون على الشرك ولا يقرون على الزنا وإن كان الشرك أقبح.
ثم هذه الاعتراضات كلها مخالفة للسنة الصريحة التي بيانها في قتل الساب، وكل قياس في مقابلة النص باطل.
* تنبيهات:
أحدهما: كان المقصود قتل الذمي إذا سب، وقد تبين أن الذمي والمهادن والمستأمن والحربي في ذلك سواء.
الثاني: أن الذي بلغ من اليهود والنصارى في هذه البلاد ولم يعقد له ذمة ـ كما هو الواقع ـ فأحد الوجهين من مذهب الشافعي رحمه الله أن جزيته جزية أبيه، وأن العقد مع أبيه يجري حكمه عليه ولا يحتاج إلى استئناف عقد، وقال أبو حامد الإسفرايني رحمه الله:/ يستأنف معه
عقدها عن مراضاته. ورد عليه ذلك؛ لأنه لم يفعله أحد من الأئمة في عصر من الأعصار، وعلى تقدير صحة قوله فلا شك أنه لا يجوز اغتيالهم، بل يكون حكمهم حكم من دخل دار الإسلام بأمان، وعلى كل تقدير فحكم من سب منهم القتل كما تقرر، والله أعلم.
فائدة: قال ابن حزم في "المحلى":
"من قال من أهل الكفر مما سوى اليهود والنصارى والمجوس: "لا إله إلا الله) أو قال: (محمد رسول الله) كان بذلك مسلمًا، وأما اليهود والنصارى والمجوس فلا يكون مسلمًا بقول:(لا إله إلا الله، محمد رسول الله) حتى يقول: وأنا مسلم، أو: أسلمت، أو: بريء من كل دين حاشى الإسلام".
وذكر أحاديث منها من مسلم عن ثوبان قال: كنت قائمًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن اسمي محمدًا الذي سماني به أهلي"، ثم ذكر الحديث، وفي آخره أن اليهودي قال: لقد صدقت وإنك لنبي، ثم انصرف.
قال: ففي هذا الحديث ضرب ثوبان اليهودي إذ لم يقل: رسول الله، ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصح أنه حق واجب، إذ لو كان غير جائز لأنكره عليه السلام عليه. وفيه أن اليهودي قال: إنك لنبي، ولم يلزمه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ترك دينه.
ومن طريق البخاري عن ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس .. " الحديث. قال: وهذا كله قول الشافعي وداود. قال: ولا يقبل من يهودي ولا نصراني ولا مجوسي جزية إلا بأن يقروا بأن محمدًا رسول الله إلينا، وأن لا يطعنوا فيه ولا في شيء من دين الإسلام، لحديث ثوبان، وهو قول مالك في "المستخرجة": من قال من أهل الذمة: إنما أرسل محمد إليكم لا إلينا؛ فلا شيء عليه، قال: فإن قال: لم يكن نبيًا قتل. انتهى.
وما استدل به من التقرير على أن ضرب اليهودي حق: صحيح، وإذا كان هذا في قوله: يا محمد، فما ظنك بالسب؟!
وما قاله من أنه لا يقر الكتابي بالجزية حتى يعترف بالرسالة إلينا غريب! وكذلك الحكم بعدم الإسلام في غير العيسوي إذا قال: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).