الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في أنه صلى الله عليه وسلم جمع المحاسن كلها
خلقًا وخلقا، وكمله الله تعالى صورة ومعنى، وما من خصلة من خصال الخير يتفاضل الخلائق بها ويفتخرون بشيء منها إلا قد جمعها الله له في: كمال خلقته، وجمال صورته، ووفرة/ عقله، وصحة فهمه، وفصاحة لسانه، وقوة جنانه وحواسه وأعضائه، واعتدال حركاته، وشرف نسبه، وعزة قومه، وكرم أرضه، وأحوال بدنه في غذائه ونومه وملبسه ومنكحه ومسكنه وماله وجاهه، وأخلاقه العلية، وآدابه الشرعية، في دينه، وعلمه، وحلمه، وصبره، وشكره، وعدله، وزهده، وتواضعه، وعفوه، وعفته، وجوده، وشجاعته، وحيائه، ومروءته، وصمته وتؤدته، ووفائه، وصدق لهجته، ورحمته وحسن أدبه ومعاشرته، وغير ذلك مما لا يحصى من صفات الكمال التي إذا وجدت واحدة منها في واحد في عصر من الأعصار ضرب به المثل، وصار يعظم بها على ممر الدهور والأعصار، فكيف بممن اجتمعت فيه كلها على أقصى درجات الكمال؟!
هذا مع الخصال التي لا مطمع لبشر في شيء منها، من فضيلة النبوة، والرسالة، والمحبة، والنخلة، والاصطفاء، والإسراء، والرؤية، والقرب، والدنو، والوحي، والشفاعة، والوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق، والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد والسيادة، والنذارة، والمكانة عند ذي العرش،
والطاعة ثم، والإمامة، والهداية، ورحمة للعالمين، وإعطاء الرضا والسؤل، والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة، والمغفرة لما تقدم وما تأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وعزة النصر، ونزول السكينة والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة والسبع المثاني والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة
الله والملائكة، والحكم بين الناس بما أراه الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم، والقسم باسمه وعلى رسالته، وإجابة دعوته، وتكليم الجمادات والعجم، وإحياء الموتى، وإسماع الصم،/ ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل، وانشقاق .....................................
القمر، ورد الشمس، وقلب الأعيان، والنصر بالرعب، والإطلاع على الغيب، وظل الغمام، وتسبيح الحصا، وإبراء ....................
الأكمه، والعصمة من الناس، ورؤيته من خلفه كما يرى أمامه، وأنه لا ينام قلبه، وحل الغنائم لأمته وجعل الأرض كلها لهم مسجدًا وطهورًا.
وإلى غير ذلك من صفات الكمال التي لا يحيط بها إلا الله تعالى الذي آتاه إياها وفضله بها، لا إله غيره، مع ما أعد له في الدار الأخرة من منازل الكرامة، ودرجات القدس، ومراتب السعادة، والحسنى والزيادة، التي تقف دونها العقول، ويحار دون أدائها الوهم.
وهذا الذي أجملناه وأشرنا إليه مفصل مشروح كله في السير والشمائل ودلائل النبوة و"الشفا" للقاضي عياض شكر الله سعيه، وغيرها.
ولنشر إلى شيءٍ منها:
أما صفته صلى الله عليه وسلم فكان أزهر اللون، أبيض مشربًا حمرة، عظيم الهامة، أغر، رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، وقالت أم معبد: أقرن،
فلعله قرن خفي أدعج عظيم العينين، أشكل، وهو حمرة في بياض العين، أهدب الأشفار، سهل الخد، مستدير الوجه، فخمًا مفخمًا، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر.
ليس بالمطهم، ولا المكلثم، أحسن الناس لونا، وجهه مثل الشمس والقمر، بل أحسن منهما، كأن الشمس تجري في وجهه، كث اللحية تملأ صدره، تام الأذنين، ضليع الفم حسنه، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، مفلج الأسنان، أشنب، كأن عرقه من وجهه اللؤلؤ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء
الفضة، طويل المسربة رقيقها، وهو شعر من لبته إلى سرته يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، واسع الصدر، سواء البطن والصدر، عظيم المنكبين/ ضخمهما، بعيد ما بينهما، عظيم الساعدين، ضخم العضدين، أشعر الذراعين والمنكبين، طويل الزندين، رحب الراحتين، سبط القصب، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، ضخم العظام، أنور المتجرد، معتدل الخلق، بادن
متماسك، أبيض الكشحين، شثن الأطراف، جليل المشاش والكتد، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، وقيل: ليس بأخمص، وهو محمول على أنه ليس بشديد الخمص بل معتدله، يخطو تكفيا، ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت
جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة.
ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وإذا مشى مع طويل طاله، ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تبعه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في صوته صحل، شديد سواد الشعر، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأنه منطقه خرازات نظم [يتحدرن]، لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة
منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإن أمر ابتدروا أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
يسوق أصحابه، يبدر من لقي بالسلام، متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم.
ليس بالجافي ولا المهين، لا يضحك إلا تبسمًا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين.
أجود الناس كفًا، وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس بذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه.
لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، يعظم/ النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئا، لا يذم ذواقا ولا يمدحه، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وإنما ينتصر لله.
إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث فصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضن طرفه، يفتر عن مثل حب الغمام.
إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله، وجزءًا لأهله، وجزءًا لنسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئًا، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة وذو الحاجتين وذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: "يبلغ الشاهد
الغائب"، و"أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة"، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا، ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة، يخزن لسانه إلا مما يعنيهم، ويؤلفهم، ولا يفرقهم، ولا ينفرهم، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، يتفقد أصحابه، يسأل الناس عما في الناس، يحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة، لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، لا يوطن الأماكن، وينهى عن/ إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف،
ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته، متعادلين، يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
وكان صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فخاش، ولا عابس، ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه [راجيه]، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، ومما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحدًا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه.
إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما
يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول:"إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه"، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يكون هو الذي يقطع بانتهاء أو قيام.
وكان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم، والحذر، والتدبر، والتفكر، فأما تدبره ففي تسوية النظر، والاستماع من الناس، وأما تفكره: ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه الحسن ليقتدي به، وتركه القبيح/ لينتهي عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم من أمر الدنيا والآخرة.
لا يأخذ أحدًا بقول أحد، ولا يصدق أحدًا على أحد، وكان أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئًا من أطرافه، وكان أكثر جلوسه
محتبيا، وربما تربع، وربما جلس القرفصاء.
لا يتكلم في غير حاجة، ويعرض عمن تكلم بغير جميل، في كلامه ترسل أو ترسيل، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث في بسط صفته مشهورة كثيرة، فلا نطول بذكرها.
وقد اتفق الحكماء على أن الصفات التي نقلت في خلقته صلى الله عليه وسلم تقتضي أن يكون أعدل الناس مزاجًا، وأكملهم اعتدالاً.
وقال وهب بن منبه: قرآن في أحد وسبعين كتابًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأيًا. وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها أن
الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا. انتهى.
وهذه نبذة ذكرناها يستدل بها على كمال خلقته صورة ومعنى، وأن بشريته زائدة على من سواه من البشر، مع ما زاده الله على ذلك من خواص النبوة والرسالة، والمعارف الربانية، والأنوار الإلهية.
ومما خصه الله به قوة حواسه، حتى قيل إنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجما.
واختلف في ولادته مختونًا، فمن الناس من أنكره، ومنهم من قال: ولد مختونًا مقطوع السرة.
وكانت رائحته وعرقه أطيب من المسك، يضع يد على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها، ولم يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه.
وكان إذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيبة، وهذا يؤيد قول أبي جعفر الترمذي ـ من
أصحابنا ـ بطهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم، وورد حديث مرفوع أن الأرض تبلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شيء، وأنا أختار في هذه المسألة قول أبي جعفر الترمذي بالطهارة وإن كان المشهور عند أصحابنا خلافه،
لحديث التي شربت بوله، وهو صحيح ألزم الدارقطني الشيخين
إخراجه، ولم يأمرها بغسل فمها، فدل على طهارته.
وكان تنام عيناه ولا ينام قلبه، فلا ينتقض وضوؤه بالنوم،
وكذلك الأنبياء، وقيل إنه كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.
وكان بالمحل الأقصى/ في فصاحة اللسان، وجزالة القول، وصحة المعاني، وقلة التكلف، مخصوصًا ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها، قال له أصحابه: ما رأينا أفصح منك، قال:"ما يمنعني وأنزل القرآن بلساني؟ "، وفي رواية:"بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد"، فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها،
ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، وهذه إحدى الحكم والفوائد في رضاعته صلى الله عليه وسلم في البادية.
ومن فوائدها أيضًا تفحيل المولود وتقويته، وقد كان صلى الله عليه وسلم أوتي قوة أربعين رجلاً، صارع ركانة فصرعة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في وقت واحد، وكان ركانة من أشد الناس قوة.
ولأجل قوته صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة واحدة، وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة مات عنهن، واللاتي دخل بهن غيرهن، واللاتي عقد عليهن ولم يدخل بهن أكثر من ذلك، وفي كثرة تزوجه حكم وفوائد، منها:
- معرفة كماله في طور البشرية كما هو كامل في خصائص الرسالة.
ومنها:
- أنه صلى الله عليه وسلم شديد التعلق بجانب الربوبية والملكوت الأعلى، وكل وقت يترقى في ذلك، ومخاطبته للبشر تقتضي ـ لأجل المناسبة ـ التفاتًا إليهم، وفي معاشرة النساء جذب إلى ذلك. ومنها:
- أنه صلى الله عليه وسلم كامل في ظاهره وباطنه وجلوته وخلوته، والرجال علموا ذلك ونقلوه في أوقات الجلوة الظاهرة، فأريد كثرة نسائه ليعلمن وينقلن كماله وأحواله في الخلوة الباطنة، وما يحصل فيها من الأحكام. ومنها:
- أن في النسوة من قتل أباها أو أخاها وعادي أهلها، والطباع البشرية تقتضي ميل المرأة إلى أهلها وإطلاعهم على أحوال زوجها، ومع ذلك كانت الواحدة منهن لا تعدل برسول الله أحدًا، حتى طوت أم حبيبة فراش رسول الله لا يجلس عليه أبوها، وهذا إنما يصدر عن اطلاع على كمال عظيم لا يقدر قدره، فسبحان من كمله ظاهرًا وباطنًا صلى الله عليه وسلم./
ومما خصه الله تعالى به شرف نسبه، فلم يزل يتقلب من آدم إلى عبد الله إلى بطن أمه في نكاح صحيح كنكاح الإسلام لم يشبه شيء من سفاح ولا من أنكحة الجاهلية، بل منتقلا الكريمة إلى الأرحام الطاهرة.
وهو أشرف الخلق، فإنه خيار بني هاشم، وبنو هاشم خيار قريش، وقريش خيار كنانة، وكنانة خيار العرب، والعرب خيار بني آدم، وجميع الأنبياء كاملون في أنسابهم وصفاتهم، وإنما بعث الله نبيًا في ذروة قومه.
وأما زهده صلى الله عليه وسلم، واجتهاده في العبادة، وخشيته من الله تعالى وتوكله عليه؛ وصبره ورضاه وشفقته على الخلق، وسائر صفاته القلبية التي ما اطلع الناس إلا على بعضها، وحسن شمائله، وبدائع سيره، وحكم حديثه، وعلمه بما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة وحكم الحكماء وسير الأمم الخالية وأيامها وضرب الأمثال وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع، وتأصيل الآداب النفيسة والشيم الحميدة، وفنون العلوم التي اتخذ أهلها كلامه عليه السلام قدوة، وإشاراته حجة، كالعبارة والطب
والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك: فذلك قد ملأ الدواوين والدفاتر، واستفرغ الأقلام والمحابر، ولم يبلغ الناس منه معشار عشره، على كثرة ما اغترفوه من در بحره، هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ما طالع كتابًا ولا جالس عالمًا، بل نبي أمي لم يعرف بشيء من ذلك حتى شرح الله صدره بالقرآن، وآتاه الوحي والنبوة بقاطع البرهان، وهذا بحر لا ساحل له، فلنقتصر منه على هذا القدر اليسير.