الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في توبته واستتابته
وفيه مسألتان، إحداهما: في قبول توبته، والثانية: في استتابته.
المسألة الأولى: في قبوله توبته
ولا خلاف أن توبته لا تكون بغير الإسلام، وحيث أطلقنا توبته فالمراد بها إذا أسلم.
وقد اختلف العلماء في قبولها مع اتفاقهم أو أكثرهم على قبول توبة المرتد غير الزنديق،/ وقد قدمنا عن القاضي عياض أن مشهور مذهب مالك وأصحابه وقول السلف وجمهور العلماء أنه لا تقبل توبته وأنه يقتل حدًا. قال: وحكمه حكم الزنديق ومسر الكفر في هذا القول، سواء أكانت توبته بعد القدرة والشهادة على قوله أما جاء تائبًا من قبل نفسه، لأنه حد وجب لا تسقطه التوبة، كسائر الحدود.
قال القابسي: إذا أقر بالسب وتاب وأظهر التوبة قتل بالسب، إذ هو حده. وقال ابن أبي زيد مثله.
وأما فيما بينه وبين الله تعالى فتوبته تنفعه.
وقال ابن سحنون فيمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم من الموحدين ثم تاب: لم تزل توبته عنه القتل.
وكذلك اختلف في الزنديق إذا جاء تائبًا، فحكى ابن القصار قولين، قال: من شيوخنا من قال: أقتله بإقراره، ومنهم من قال: أقبل توبته، بخلاف من أسرته البينة.
قال القاضي عياض: وهذا قول أصبغ، ومسألة ساب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لا يصور فيها الخلاف على الأصل المتقدم، لأنه حق متعلق للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسببه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين. والزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك والليث وإسحاق وأحمد لا تقبل توبته، وعند الشافعي تقبل، واختلف فيه عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وحكى ابن المنذر عن علي: يستتاب، وقال ابن سحنون: لم يزل القتل عن المسلم
بالتوبة من سبه عليه السلام، لأنه لم ينتقل من دين إلى دين، وإنما فعل شيئًا حده عندنا القتل لا عفو فيه لأحدٍ، كالزنديق، لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر.
وقال القاضي أبو محمد بن نصر محتجًا لسقوط اعتبار توبته: والفرق بينه وبين من سب الله تعالى على مشهور القول باستتابته أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، والبشر جنس تلحقه المعرة إلا من أكرمه الله/ بنبوته، والله تعالى منزه عن جميع المعايب قطعًا، وليس من جنس تلحق المعرة بجنسه، وليس سبه عليه السلام كالارتداد المقبول فيه التوبة، لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد لا حق فيه لغيره من الآدميين فقبلت توبته، ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق فيه حق لآدمي، فكان كالمرتد يقتل حين ارتداده أو يقذف، فإن توبته لا تسقط عنه حد القتل والقذف. وأيضًا فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من زنى وسرقة وغيرها، ولم يقتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم لكفره لكن لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته وزوال المعرة به، وذلك لا تسقطه التوبة.
قال القاضي أبو الفضل: يريد ـ والله أعلم ـ لأن سبه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر، ولكن بمعنى الإزراء والاستخفاف، أو لأن بتوبته وإظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر ظاهرًا، والله أعلم بسريرته، وبقي حكم السب عليه.
وقال أبو عمران الفاسي: من سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد عن الإسلام قتل ولم يستتب، لأن السب من حقوق الآدميين التي لا تسقط عن المرتد.
وكلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله حدًا لا كفرًا، وهو يحتاج إلى تفصيل، وأما على رواية الوليد بن مسلم عن مالك ومن وافقه على ذلك ممن ذكرناه وقال به من أهل العلم فقد صرحوا به أنه ردة، قالوا: ويستتاب منها، فإن تاب نكل، وإن أبي قتل، فحكم له بحكم المرتد مطلقًا في هذا الوجه، والوجه الأول أشهر وأظهر لما قدمناه، ونحن نبسط الكلام فيه فنقول:
من لم يره ردة فهو يوجب القتل فيه حدًا، وإنما يقول ذلك مع فصلين: إما مع إنكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الإقلاع والتوبة عنه، فنقتله حدًا لثبات كلمة الكفر عليه في حق النبي صلى الله عليه وسلم/ وتحقيره ما عظم الله من حقه، وأجبرينا حكمه في ذلك وغيره حكم الزنديق إذا ظهر عليه وأنكر أو تاب.
فإن قيل: كيف تثبتون عليه الكفر ويشهد عليه بكلمة الكفر ولا تحكمون عليه بحكمه من الاستتابة وتوابعها؟
قلنا: نحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد والنبوة وإنكاره ما شهد به عليه، أو زعمه أن ذلك كان منه وهلا ومعصية وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه، ولا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر على بعض الأشخاص وإن لم يثبت له خصائصه، كقتل تارك الصلاة.
وأما من علم أنه سبه معتقدًا لاستحلاله فلا شك في كفره، وكذلك إن كان سبه في نفسه كفرا كتكذيبه أو تكفيره ونحوه فهذا ما لا إشكال فيه، ويقتل وإن تاب منه، لأنا لا نقبل توبته ونقتله بعد التوبة حدًا [لقوله] ومتقدم كفره، وأمره بعد إلى الله، المطلع على صحة إقلاعه، العالم بسريرته، وكذلك من لم يظهر التوبة واعترف بما شهد به عليه وصمم عليه فهذا كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله وحرمة نبيه يقتل كافرًا بلا خلاف، فعلى هذه التفصيلات حمل كلام العلماء.
هذا كلام القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله في كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، وقد تضمن إشارة إلى أن عدم قبول توبته مبني على أنه حد، وقبولها مبني على أنه ردة، وقد بينا أن هذا البناء لا يحتاج إليه، والصواب أن يذكر الحكم المذكور واختلاف العلماء فيه من غير بناء.
وقدم القاضي عياض في أول كلامه أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له: فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب يُقتل/ ولا يمترى فيه، تصريحًا كان أو تلويحًا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزورٍ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه.
وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم وإلى هلم جرا.
قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس، والليث، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي.
قال القاضي عياض: وهو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا تقبل توبته عند هؤلاء، وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، وأهل الكوفة، والأوزاعي، في المسلم، لكنهم قالوا: هي ردة، وروى مثله الوليد بن مسلم عن مالك. انتهى كلام القاضي عياض.
وإنما قصدت بنقله هنا لكونه نقل عن الشافعي موافقة مالك في القتل ثم قال: ولا تقبل توبته عند هؤلاء، ومقتضى ذلك أن الشافعي لا يقبل
توبته، ولم أرد من أصحابه من صرح عنه بذلك على الإطلاق إلا ما سأحكيه، وهو ما حكاه إمام الحرمين عن أبي بكر الفارسي.
قال الإمام في كتاب الجزية بعد أن ذكر حكم الذمي:
"نختم الفصل بأمر يتعلق بالمسلمين، قال الأئمة: من ذكر الله تعالى بسوء ـ وكان ذلك مما يوجب التكفير بالإجماع ـ فالذي صدر منه ردة،
فإذا تاب قبلت توبته. ولو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق الأصحاب. قال الشيخ أبو بكر الفارسي في "كتاب الإجماع": لو تاب لم يسقط القتل عنه، فإن حد من يسب النبي صلى الله عليه وسلم القتل، فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة كذلك لا يسقط القتل الواجب لسب النبي/ صلى الله عليه وسلم بالتوبة. وادعى فيه الإجماع، ووافقه الشيخ أبو بكر القفال، وقال الأستاذ أبو إسحاق: كفر بالسب وتعرض للسيف تعرض المرتد، فإذا تاب سقط القتل عنه. وقال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إذا سب الرسول استوجب القتل للردة لا للسب، فإذا تاب زال القتل الذي هو موجب الردة، وجلد ثمانين".
ثم قال الإمام:
"ولا يتجه عندنا إلا مسلكان، أحدهما: ما قاله الفارسي، وهو في نهاية الحسن، ولكنه مبهم بعد، فإنه أطلق فقال: حد من يسبه القتل،
وهذا فيه نظر، فإن الحدود لا تثبت بالرأي، وقد ورد في الأخبار:"من سب نبيًا فاقتلوه"، ولكن مع هذا لا يمكن القضاء بأنه حد قذف، ولكنه قتل بسب وهو ردة، وهو متعلق بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تصح التوبة عما يتعلق بحق آدمي، وهذا مراد الفارسي.
والثاني: أنه ردة، والتوبة عنها كالتوبة عن الردة، وما ذكر الصيدلاني من بقاء ثمانين جلدة تعرض منهم لقياس جزئي في الفقه، والدليل عليه أنه لو لم يتب للزم أن يجلد ويقتل.
ولو تعرض متعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوقيعة ليست قذفًا صريحًا ولكنها تعريض يوجب مثله التعزيز فالذي أراه أنه كالسب الصريح، فإن الاستهانة بالرسول كفر، ثم ينقدح فيه تحتم القتل حتى لا يسقط بالتوبة".
هذا كلام الإمام، وتكلم في أنه لو عفا بعض بني أعمامه صلى الله عليه وسلم هل يسقط؟ وهذا ليس بشيء، لأن الأنبياء إنما ورثوا العلم، وكذا في أن استيفاء بتوقف على طلب بعضهم.
فهذا الذي قاله الفارسي واستحسنه الإمام من عدم سقوطه بالتوبة وحكاية الإجماع على ذلك قد يشهد لما اقتضاه كلام عياض من عد الشافعي/ مع القائلين بعدم قبول التوبة، ويقرب منه قول الغزالي في "الخلاصة" في أهل الذمة إذا صدر منهم ذلك أن المذهب عدم قبول توبتهم إذا أخذ على إطلاقه، لكن الأقرب أن مراده بالتوبة غير الإسلام.
ولكن المشهور على الألسنة وعند الحُكام ـ وما يزالون يحكمون به ـ أن مذهب الشافعي قبول التوبة، وأما الرافعي، فإنه قال: "المسلم إذا
ذكر الله تعالى بما يقتضي التكفير فهو مرتد مدعو إلى الإسلام، وكذا لو كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عاد وتاب قبلت توبته، ومن قذف النبي صلى الله عليه وسلم وصرح بنسبته إلى الزنا فهو كافر باتفاق الأصحاب، فإن عاد إلى الإسلام ففيه ثلاث أوجه:
أحدها ـ ونظم "الوجيز" يقتضي ترجيحه، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق:- أنه لا يلزمه شيء لأنه صار مرتدًا بذلك وقد عاد إلى الإسلام.
والثاني ـ وبه قال أبو بكر الفارسي ـ: أنه يقتل حدًا، لأن قذف النبي صلى الله عليه وسلم حده القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة.
والثالث: قال الصيدلاني: يجلد ثمانين حدًا، لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر موجب للقتل، فإذا عاد إلى الإسلام سقط القتل الواجب بالردة ويبقى حد القذف على قياس ما إذا قذف إنسانًا وارتد ثم عاد إلى الإسلام".
فصدر كلام الرافعي جازم بقبول توبة المكذب، وآخره متردد في قبول توبة القاذف ترددًا قويًا، بحيث إنه ما نقل ترجيح قبولها إلا عن اقتضاء
نظم "الوجيز"، فيحتمل أن يقال إن هذا التردد خاص بالقذف، فإن حد القذف في غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يسقط بالتوبة، ولا يتخير فيه الحاكم، ويفتقر إلى طلب المقذوف، وينتقل لورثته، كل ذلك مما لا خلاف فيه.
والسب لغير النبي صلى الله عليه وسلم بما سوى القذف إنما يوجب التعزيز، واختلفوا في أن الإمام هل يتخير فيه/ أو لا، فعلمنا بهذا أن الحد أقوى من التعزيز، وموجب الحد أقوى من موجب التعزيز، وهما في حق النبي صلى الله عليه وسلم مقتضيان للتكفير، مستويان في ذلك قبل التوبة والإسلام، أما بعده فيجوز أن يظهر أثر اختلافهما، ويكون حكم الأول أنه لا يسقط كسائر الحدود، أعني حد القذف، في غيره لا يسقط إلا بعفو المقذوف أو وارثه، وهو هنا متعذر، أعني العفو، والحد هنا القتل، فلذلك لا تقبل التوبة على وجه، وعلى وجه تقبل بالنسبة إلى القتل، ويحد حد القذف. وحكم الثاني: السقوط.
ويحتمل أن يُقال: إن كلاً منهما يسقط بالإسلام، لأنا نعلم من شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورحمته لهم ورأفته بهم ورغبته في هدايتهم أنه لو كان حيًا لقبل إسلامهم وعفا عنهم وأن ذلك يرضيه، ولم يصح أن النبي قتل أحدًا بعد التلفظ بالشهادتين بغير الزنا والقصاص، وحينئذ تكون مسألتان:
إحداهما: السب بغير القذف، ولا خلاف بين الشافعية في سقوطه بالإسلام.
والثانية: السب بالقذف، وهو محل الخلاف، والراجح فيه السقوط أيضًا. هذا وجه من البحث بحسب ما يقتضيه كلام الرافعي.
ويحتمل أن يقال: إن الوجه الثالث القائل بجلد ثمانين لا يأتي في غير القذف بلا إشكال، لكن يأتي بدله أنه يعزر، لأن القتل حق الرسالة المتعلقة
بالربوبية، فيسقط بالإسلام، والحد والتعزير كلاهما حق البشرية، ويرد على هذا أن هذا البشر الخاص حده والعزيز لأجله إنما هو القتل.
والوجهان الآخران مطردان سواء أكان السب قذفًا أم غيره، ومستند السقوط أنه ردة، ومستند عدم السقوط أنه حق آدمي. ألا ترى كلام الإمام حيث استعمل لفظ السب تارة ولفظ القذف أخرى وجرى على حكم واحد ولم يفرق بينهما في الحكم وتعليله بتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وأن حق الآدمي لا يسقط بالتوبة!
ولهذا اختلفت عبارات الناقلين لكلام الفارسي، فالإمام ذكره بلفظ القذف، وصرح بعدم قبول التوبة، والقاضي الحسين ذكره بلفظ السب، واقتضاء كلامه قبول التوبة، واضطربت عبارة/ الناقلين لعبارة الفارسي، وسأجمعها عند الكلام في الذمي، والذي يتعلق منها بهذا الموضع قد ذكرته.
فالمتخلص أن القاذف في قبول توبته خلاف قوي، وليس فيها من حيث النقل ترجيح قوي، لكن الدليل يقتضيه لما ذكرته وأذكره إن شاء الله.
والساب غير القاذف أولى بقبول التوبة من القاذف.
وحاصل المنقول عند الشافعية أنه متى لم يسلم قتل قطعا، ومتى أسلم: فإن كان السب قذفًا فالأوجه الثلاثة: هل يقتل، أو يجلد، أو لا شيء. إن كان السب غير قذف فلا أعرف فيه نقلاً للشافعية غير قبول توبته.
ويتجه تخريج وجهين، أحدهما: القتل، والثاني: التعزيز، ولكني لم أجد من صرح بهما من الشافعية، وقد يفرق بأن التعزيز يدخل في الحد كمقدمات الزنا مع الزنا، وأحد الحدين لا يدخل في الآخر، فلذلك لم يدخل حد القذف في القتل، هذا ما حضرني نقلاً وبحثًا.
ولم أجد في مذهب الشافعي شيئًا غير هذا وغير قول الخطابي في "معالم السنن": إذا كان الساب ذميًا قال مالك: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم، وكذا قال أحمد. وقال الشافعي: يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم، وتبرأ منه الذمة. واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف، وحكي عن أبي حنيفة قال: لا يقتل الذمي بشتم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الكلام من الخطابي يشعر بأن الشافعي يقول بقتله ولو أسلم، وإذا كان ذلك في الذمي ففي المرتد أولى، إلا أن كلام الخطابي يمكن حمله على أنه أراد حكاية لفظ الشافعي، وهو ساكت عن حكمه إذا أسلم.
هذا ما وجدته للشافعية في ذلك، والحنفية في قبول التوبة قريب من الشافعية، ولا يوجد للحنفية غير قبول التوبة، وكلتا الطائفتين لم أرهم تكلموا في مسألة السب مستقلة، بل في ضمن نقض الذمي العهد، وكأن
الحامل على ذلك أن المسلم لا يسب، ولم أرد أحدًا من الشافعية صرح بأن الساب مطلقًا لا تقبل توبته، لأن الإمام حيث صرح عن الفارسي بعدم قبول التوبة إنما نقله في القذف وإن كان في غضون كلامه ما يقتضي تعميمه، وغير الإمام نقله في السب واقتصر على قوله:"يقتل حدا"، وقد قدمت أن قتله حدًا لا ينافي قبول توبته.
وأما الحنابلة فكلامهم قريب من كلام المالكية، المشهور عن أحمد عدم قبول توبته، وعنه رواية بقبولها/، فمذهبه كمذهب مالك سواء.
هذا تحرير المنقول في ذلك.
وأما الدليل فمعتمدنا في قبول التوبة قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)[الأنفال: 38]، وقوله تعالى:(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)) [الزمر: 53]، وقوله تعالى:(كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89)) [آل عمران: 86 - 89]، وهذه نص في قبول توبة المرتد، وعمومها يدخل فيه الساب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها"، ولأنا لا نحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل أحدًا بعد إسلامه، والتأسي به واجب.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، وهذا الحديث عمدة في منع القتل إلا بهذه الجهات الثلاثة، وبعد الإسلام ليس بواحد من الثلاثة، فلا يقتل، وبالقياس على سب الله تعالى فإنه يقتل بالإجماع إذا لم يتب، وإن تاب فالصحيح المشهور من مذهب مالك قبول توبته وسقوط القتل عنه.
فإن قلت: قد تقدم الفرق بأن هذا حق آدمي، وحق الآدمي لا يسقط بالتوبة، قلت: صحيح، لكنا علمنا من النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته وشفقته أنه ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله، وهذا الساب قد انتهك حرمات الله بسبه أنبياءه، فيجب قتله ما دام مقيمًا
على كفره بالسب،/ فإذا أسلم وتاب سقط حق الله تعالى، وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لرأفته ورحمته ما انتقم لنفسه، فكيف ينتقم له بعد موته!، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل حقه تابعًا لحق الله تعالى، فإذا سقط المتبوع سقط التابع.
ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له قصد إلا هداية العالم وتعظيم حرمات الله تعالى، وليس قتل الساب متحتمًا لله تعالى بالاتفاق، بل كان له صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه، ألا ترى أنه عفا عن ابن عمه أبي سفيان بن الحارث، وكان بعد ذلك من خيار المسلمين، وعفا عن ابن أبي سرح وجماعة، ولم يقتل أحدًا بعد إسلامه، فلو كان قتل الساب لحق الله حتمًا لم يتركه، فعلمنا أن قتله في حال بقائه على الكفر إنما كان لحق الله تعالى، لأنه لم يكن ينتقم لنفسه، وبعد الإسلام زال هذا المعنى، ولو كان لله حق في أن يقتل ساب نبيه بعد رجوعه إلى الإسلام لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: قتله قبل الإسلام حق لله ورسوله، ولم يترك، وبالإسلام سقط حق الله وبقي حق الرسول صلى الله عليه وسلم فله العفو والقتل، فلذلك عفا عن أبي
سفيان ابن عمه وجماعة منهم ابن أبي سرح بعد مراجعة عثمان فيه، وكان يجوز له قتله، ولهذا قال:"أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إليه فيقتله؟ "، وقد ورد أن ابن أبي سرح أسلم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع عن ردته.
قلت: أما كونه رجع عن الردة وأسلم قبل ذلك فلم يثبت، وإنما رواه بعض أهل السير، والأكثرون لم يذكروه، والأقرب أنه لم يقع ذلك، وقول الواقدي: إنه جاء تائبًا، معناه: راجعًا عن ذنبه، ولا يكفي ذلك في الإسلام حتى يتلفظ بالشهادتين، ولم ينقل قط في طريق صحيح أن أحدًا ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه تلفظ بالإسلام قبل ذلك، ولا أن الذين أسلموا منهم/ قتلوا.
فإن قلت: فلم لا تفطن عثمان رضي الله عنه ولقن أخاه ابن أبي سرح المبادرة بكلمة الشهادة ليعصم دمه ولم يراجع النبي صلى الله عليه وسلم؟
قلت: لأمرين:
أحدهما: أن عثمان كان أعلم بالله تعالى ورسوله من ذلك، فلم يكن ليتقدم بين يديه ولا ليقطع أمرًا دونه، وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتل ابن أبي سرح، فتعليمه ما يدرء عنه القتل افتئات على النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن العادة كانت جرت بالمبايعة، ولعل ذلك كان شرطًا في الإسلام في أول الإسلام، فلذلك أتى به ليبايعه، ولهذا كان أبو سفيان بن الحارث وغيره ممن صدر منه ما صدر لما جاؤوا مسلمين صاروا خائفين إلى أن قبل النبي صلى الله عليه وسلم إسلامهم، فإما أن يكون ذلك لأن المبايعة في ذلك الوقت كانت شرطًا في صحة الإسلام، وإما لأن بها يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم صحة الإسلام وليس بنفاق، وإما لقصد أنه مقبول عند الله تعالى، كما في توبة كعب بن مالك ورفيقيه، فإنهما كانا نادمين تائبين، ومع ذلك لم تنزل توبة الله عليهم إلا بعد خمسين ليلة.
وهذا ذكرناه هنا استطرادًا لقضية أبي سفيان بن الحارث وأضرابه، وأما ابن أبي سرح فلم يكن كذلك، بل لم يصح إسلامه ظاهرًا وباطنًا حتى بايعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتلفظ قبله بكلمة الإسلام إلا على ما ذكره بعض أهل السير، ولم يثبت.
فإن قلت: فإذا كان الحكم أن بالإسلام يسقط القتل وتصح التوبة، وابن أبي سرح قد جاء لذلك، فلم أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه وأراد أن بعض أصحابه يتفطن فيقتله، وهو أعظم الخلق شفقة ولا ينتقم لنفسه وإنما ينتقم لله؟
قلت: نعم هو صلى الله عليه وسلم كذلك أعظم الخلق شفقة ورحمة ورأفة وتحببًا وتعطفًا، ولا ينتقم لنفسه وإنما ينتقم لله، وكان الإعراض عن ابن أبي سرح
ذلك الوقت/ حقًا لله تعالى لاجترائه على أنبياء الله ورسله بأقبح أنواع الكفر، فإن مراتب الكفر ثلاثة:
أحدها: الكفر الأصلي، وصاحبه يتدين به ومفطور عليه.
وثانيها: الرجوع إليه بعد الإسلام، وهو أقبح، ولهذا لم يقبل منه إلا الإسلام بخلاف الأول حيث كان فيه الجزية والاسترقاق والمن والفداء.
وثالثها: السب، وهو أقبح الثلاثة، فإنه لا يتدين به، وفيه إزراء بأنبياء الله تعالى ورسله، وإلقاء للشبهة في القلوب الضعيفة، فلذلك كانت جريمته أقبح الجرائم، ولا تعرض عليه التوبة، بخلاف القسم الثاني، لأن في الثاني قد يكون له شبهة فتحل عنه، واسب لا شبهة فيه، وإذا لم يكن عرض التوبة عليه واجبًا ولا مستحبًا فلا يمتنع الإعراض عنه حتى يقتل
تطهيرًا للأرض عنه، فإن أسلم عصم نفسه، فهذا ما ظهر لي في سب الإعراض مع القول بقبول التوبة.
وقريب من هذا الكفار الأصليون، لا يقاتلون في الأول حتى ينذروا، فإذا بلغتهم الدعوة والنذارة جازت الإغارة عليهم وتبييتهم من غير افتقار إلى الدعاء إلى الإسلام في كل مرة، لأنه قد بلغهم وزال عذرهم، فإن أسلموا عصموا أنفسهم.
وإنما استثنينا المرتد بغير السب لأن الغالب أن الردة إنما تحصل لشبهة، فتزال بالاستتابة، ولهذا تردد العلماء في توبة الزنديق وتوبة من ولد في الإسلام: هل يقتل أو لا؟ لأنه لا شبهة لهما.
فإن قلت: القاعدة أن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة وإنما تسقط بعفو صاحبها ..
قلت: كذلك هو، ولفظ العفو إنما اعتبر للدلالة على الرضا بالسقوط، فإذا علم من كرم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينتقم لنفسه، وأنه أرحم بأمته من أنفسهم: كان ذلك دليلاً على رضاه، فيقوم مقام اللفظ، وبالإسلام يحقق رضاه وسقوط الحقين جميعًا، أعني حق القتل، وأما بقاء عقوبة دون القتل فسأتعرض لذكرها إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: قد ورد أن عثمان قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في ابن أبي سرح: إنه يفر منك كلما لقيك، قال:"ألم أبايعك وأؤمنه؟ " قال: بلى، ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام، فقال:"الإسلام يجب ما قبله". فهذا يبين أن خوف القتل سقط بالبيعة والأمان، وأن الإثم زال بالإسلام.
قلت: بل فيه بيان أن الكل زال بالإسلام، ودفع لما توهمه ابن أبي سرح من بقاء الإثم.
فإن قلت: إن صح أن ابن أبي سرح أسلم قبل ذلك الوقت هل يكون فيه دليل على عدم قبول التوبة وأن القتل متحتم؟
قلت: لا، لأمرين:
أحدهما: ما أشرنا إليه أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان يشترط في الإسلام قبول النبي صلى الله عليه وسلم له ومبايعته، بخلاف ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والفرق أن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ينزل ويطلعه الله على ما لم يطلع عليه غيره.
الثاني: أن فيما قدمناه من حديث أبي بكر ما يقتضي أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من أغضبه، فقد يكون هذا الحكم يستمر ما دام الغضب موجودًا، فإذا رضي زال وإن لم يتوقف على لفظ العفو، ولا القتل على لفظ السب، بل يدور مع الغضب وجودًا وعدمًا.
وابن أبي سرح لما جاء لم يكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم زال، فلما استحيا من عثمان زال الغضب، وكذلك ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وإن لم يرق دمه لما حضر إليه مسلمًا أقام مدة حتى رضي عنه.
فلا مانع من أن يرتب الله على غضب رسوله عقوبة قتلاً أو غيره، والغضب والرضا أمران باطنان لا يطلع عليهما إلا هو، والمعلوم من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه أنه إذا استرضى رضي، فالساب بعد موته إذا رجع إلى الإسلام لا يتحقق غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فكيف يقتل؟! وسنعود إلى الكلام على ابن أبي سرح.
فإن قلت: حديث: "من سب نبيًا فاقتلوه" يكفي في ذلك.
قلت: إن صح فهو مثل: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولم يلزم من ذلك أن لا تقبل توبة المرتد، فكذلك هذا، وقد ارتد الحارث بن سويد ثم تاب، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم/ توبته، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى:(كيف يهدي الله قومًا ..) الآية [آل عمران: 86].
فإن قلت: هل من شيء زائد على هذا؟
قلت: نعم، قال تعالى:(يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا بك خيرًا لهم)[التوبة: 74].
نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق لما قال: ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وكانوا في تبوك إذا خلا بعضهم إلى بعض ـ أعني المنافقين ـ سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد شهدت الآية الكريمة أن المنافقين السابين: (إن يتوبوا بك خيرًا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا والأخرة)[التوبة: 74]، وذلك دليل على أن توبتهم مقبولة رافعة عنهم العذاب في الدنيا والآخرة.
فإن قلت: هل الحكم في توبة الساب كالحكم في توبة الزنديق؟
قلت: في كلام القاضي عياض ما يقتضى التسوية بينهما، ويظهر أن المأخذ مختلف، فإن مأخذ القتل في الساب كونه حق آدمي، حتى لو فرض من يعفو عنه سقط، ومأخذ القتل في الزنديق عدم الوثوق بإسلامه، لكني سأبين بعد ذلك تقارب الحكمين.
فإن قلت: هل لما قاله الإمام والغزالي من عفو بعض أقارب النبي صلى الله عليه وسلم وجه؟
قلت: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم"، فلا شك أن المال لا يورث عنهم، والعلم موروث عنهم، وما سوى ذلك من الحقوق فصدر الحديث ساكت عنها، وآخر الحديث يمنع إرثها، وهو الظاهر عملاً بعموم الحصر، فوجه الذي قاله الإمام النظر إلى صدر الحديث، وإذا قلنا به فيجب النظر إلى الأقرب لا إلى الجميع، وينبغي أيضًا أن يتوقف استيفاؤه على الطلب، وما أظن أحدًا يقول بهذا، والصواب منع الإرث، وأن هذا الحق يقوم فيه/ سائر المسلمين مقامه صلى الله عليه وسلم، أعني في المطالبة، وأما العفو فقد بينا أن القتل يسقط بالإسلام، وقبله ليس لأحد العفو.
فإن قلت: فإذا كان السب قذفًا؟
قلت: المختار أنه كالسب بغير القذف، وأن موجبهما جميعًا القتل، ولا يجب معه الجلد لما نبهنا عليه في القاعدتين المتقدمين، والمختار
منهما الثانية، وهي اندراج الأصغر في الأكبر، فإنه قام الدليل عندنا على الاندراج في مثل ذلك، ولم يقم الدليل عندنا على أن ما أوجب أعظم الأثرين بخصوصه لا يوجب أهونهما بعمومه.
فإن قلت: أيما أقوى: القول بقتل الزنديق أو الساب إذا تاب؟
قلت: القاتل للزنديق يزعم أنه كافر ويتهمه في الإسلام، فلا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث .. "، وأما القاتل للساب التائب مع صحة إسلامه فمخالف لهذا الحديث.
والحاصل أن هذا قبل السب مجمع على عصمة دمه، وبعد السب قبل التوبة مجمع على إهداره، وبعد التوبة مختلف فيه، وليس زانيًا ولا قاتلاً ولا كافرًا، فلا يقتل للحديث المذكور إلا أن يثبت تخصيصه بنص صحيح.
فإن قلت: أجمعنا على قتله قبل التوبة، فمن ادعى سقوطه القتل بالتوبة فعليه الدليل ..
قلت: قد أقمناه، وهو الحديث المذكور، فإنه مسلم غير زان ولا قاتل.
فإن قلت: هذا الحديث يقتضي أنه لا يقتل إلا بإحدى ثلاث: الزنا، أو الكفر، أو القتل، فقتل الساب قبل التوبة إن كان حدًا فقد خالفتم الحديث، وإن كان كفرًا فقد قدمتم خلافه!
قلت: الساب كافر بعد إيمان، ولفظ الحديث: "لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس
بغير نفس"، المراد بالمسلم من تقدم منه الإسلام حتى يصح أن يستثنى منه من كفر بعد إيمان، والسب كفر بعد إيمان، فدخل في الحديث.
يبقى أن يُقال: السب فيه جهتان، إحداهما: خصوصه، والأخرى: عموم كونه كفرًا بعد/ إيمان، والحديث يقتضي أن هذه الجهة هي العلة، فلا يكون خصوص السب علة، وقد قدمنا أنه علة، فنقول وبالله التوفيق:
إن بين السب والكفر عمومًا وخصوصًا من وجه، لأن السب قد يقع من الكافر الأصلي، وذلك زيادة على الكفر لا إنشاء كفرٍ، وقد يقع ممن كان مسلمًا، وذلك إنشاء كفرٍ، وبين السب والكفر بعد الإيمان عموم وخصوص مطلق، فكل سب بعد الإيمان كفر، وليس كل كفر بعد الإيمان سبًا.
ولما كان مورد الحديث النبوي ـ الذي أوتي قائله جوامع الكلم ـ في المسلم أتى بالأعم ليشمل السب وغيره مما هو كفر بعد إيمان، واقتصر في التعليل على المعنى الأعم، وفيه لطيفه وفائدة:
أما اللطيفة: فالأدب مع جانب الربوبية والإعراض عن خصوص حقه، وهو كما صح أنه لم ينتقم لنفسه إنما ينتقم لله.
وأما الفائدة: فالسقوط بالإسلام، ولا ينافي ذلك أن القتل قبله حد، كما يسمى قتل المرتد حدًا، والنزاع في ذلك لفظي، وبحث فيما سبق.
وقولنا: "إن خصوص السب عله" أردنا به ما يشمل السب بعد الإيمان وقبله، حتى ننتفع بذلك الاستدلال في سب الذمي والمعاهد كما سيأتي.
وهذا الحديث الذي فيه حصر أسباب قتل المسلم في ثلاث لم يتعرض لغير المسلم، فلا جرم لم يكن ما ذكرناه مخالفًا للحديث، والله أعلم.
فإن قلت: قوله: "لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس" لا دلالة فيه على سقوط القتل بالإسلام لا عن الساب ولا عن المرتد بغير السب، بل قد يكون فيه دليل على القتل وإن أسلم كما ذهب إليه الحسن والظاهرية في المرتد، وجماعة غيرهم في السب، لأنه صدق أنه حصل منه كفر بعد إيمان سواء أرجع عنها أم لم يرجع، وليس في الحديث أنه كفر موجود حالة القتل، فقد يكون وصف طريان الكفر على الإيمان/ موجبًا للقتل حتمًا لا يسقط بالإسلام، بخلاف الكفر الأصلي.
قلت: صدنا عنه أمور، أقواها: توبة الحارث بن سويد من الردة، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم لها، ونزول القرآن العظيم فيه، وكان بعد ذلك من خيار المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتله، فعلمنا أن المراد كفر موجود حالة القتل، ولا التفات إلى الخلاف في ذلك مع القرآن والسنة الصحيحة، دع ما يرشد إليه المعنى ويفهمه كل عربي صحيح الطبع من أن المراد ذلك، وتقتضيه القواعد الأصولية من ترتيب الحكم على العلة وأنه يوجد
بوجودها ويعدم بعدمها، والمعنى المناسب في ذلك، وهو تلبسه بالكفر والمخالفة لأمر الله تعالى، هذا في المرتد، والكلام في الساب مثله./
فإن قلت: هذا الحديث عام، فيخص بحديث ابن أبي سرح، فإنه إما أن يكون أسلم قبل مجيئه أو لم يسلم ولكن جاء قاصدًا للإسلام، وعلى كلا التقديرين: من يقول بسقوط القتل بالإسلام لا يرى قتل مثله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إليه فيقتله؟ " فدل على أن قتله جائز لا يسقط إلا بعفوه صلى الله عليه وسلم أسلم أو لم يسلم ..
قلت: هذا الآن محل يجب النظر فيه، وقد تمهلت ونظرت وتتبعت روايات هذا الحدث فوجدتها متفقة في أنه ارتد وقال ما قال: وجاء يوم الفتح مع عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لا شك فيه.
وكذلك تضافرت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان فيكم من يقوم إليه فيقتله؟ ".
وأما كونه أسلم قبل مجيئه أو في ذلك الوقت عند النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده فهذا محل النظر:
روي عن عكرمة أنه أسلم قبل ذلك، وهذا لم يثبت كما نبهنا عليه من قبل.
وقول الواقدي: "إنه جاء تائبًا" ليس نصًا في الإسلام، ولا الواقدي
ممن يحتج بحديثه وإن كان إمامًا في السير.
والحديث الذي في "سنن أبي داود" يقتضي أن قول النبي صلى الله عليه وسلم تلك المقالة بعد مبايعته، وقدمنا أن في سنده أسباط بن نصر وإسماعيل السدي، والسُدي فيه كلام كثير وإن كان مسلم روى له، وكذلك أسباط، فبهذا السبب ليس الحديث على شرط الصحيح، فيحتمل أن يكون عثمان لما أتى به قصد الأمان له فأمه النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق كافرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، ثم أسلم بعد ذلك.
ولفظ أبي عمر ابن عبد البر في حكاية قصته في "الاستيعاب" يقتضي ذلك أو يحتمله، فإنه قال:
"فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما اطمأن أهل مكة، فاستأمنه له، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال: "نعم"، فلما انصرف عثمان قال رسول الله/ صلى الله عليه وسلم لمن حوله: "ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه"، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟، فقال: "إن النبي لا ينبغي له أن يكون له خائن عين"، وأسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه".
هذا لفظ ابن عبد البر، وهو محتمل لما قلناه.
ولفظ الواقدي في "مغازيه": جاء ابن أبي سرح إلى عثمان ـ وكان أخاه من الرضاعة ـ فقال: يا أخي، إني والله اخترتك فاحتبسني هاهنا، واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمدًا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي، وإن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائبًا، فقال عثمان: بل اذهب معي، قال عبد الله: والله إن رآني ليضربن عنقي ولا يناظرني، قد أهدر دمي، وأصحابه يطلبوني في كل موضع. فقال عثمان: انطلق معي، فلا يقتلك إن شاء الله، فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعثمان آخذًا بيد ابن أبي سرح واقفين بين يديه، فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمه كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتفطمه، وكانت تلطفني وتتركه، فهبه لي، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل عثمان كلما أعرض
عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله، فيعيد عليه هذا الكلام، وإنما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه، لأنه لم يؤمنه، فلما رأى ألا يقوم أحد؛ وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله، تبايعه فداك أبي وأمي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم". ثم التفت إلى أصحابه فقال: "ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله؟ " أو قال: "الفاسق". فقال عباد بن بشر، ألا أومأت إلى يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه. ويقال: قال هذا أبو اليسر، ويقال: عمر بن الخطاب. فقال: "إني لا أقتل بالإشارة". وقائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم/ قال يومئذٍ: "إن النبي لا تكون له خائنة الأعين"، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا لفظ مغازي الواقدين، وظاهره يقتضي أن المبايعة بعد تلك المقالة، وأن عثمان إنما قال أولاً: هبه لي، ولم يطلب المبايعة، فأعرض عنه، فلما قال عثمان في المرة الأخيرة: تبايعه؟، قال:"نعم"، لأنه طلب الإسلام.
ويشهد لهذا قوله: "ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب .. " أو: "الفاسق .. "، ولو كان قد أسلم لم يطلق هذه العبارة عليه، لأن المسلم الذي كما أسلم ولم يتدنس بمعصية ليس بفاسق بإجماع المسلمين، فالظاهر أن هذه المقالة وقعت قبل إسلامه وبعد تأمينه.
ولو ثبت أنه أسلم قبل هذه المقالة وبايع لكنا نقول إن الله تعلى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أن باطنه خلاف ظاهره، وأنه أسلم نفاقًا ثم حسن إسلامه بعد ذلك حتى يصح إطلاق الكلب والفاسق عليه ويتمنى النبي صلى الله عليه وسلم قتله، والمسلم الصحيح الإيمان لا يحصل فيه ذلك.
وقد روى أبو داود في "سننه" أيضًا عن ابن عباس قال: [كان] عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانظر هذا الحديث ليس فيه أنه أسلم، وإنما فيه أنه استجار له فأجاره، وهو يؤيد ما قلناه.
وعلى الجملة فمعنا حديث مجمع على صحته يقتضي أن لا يحل دم مسلم إلا بزنًا بعد إحصان، أو قتلِ نفسٍ بغير نفس، أو كفرٍ بعد إيمان، فلا نخرج عنه ولا نخصصه بحديث رواه السدي مع ما قيل فيه من الضعف.
فإن قلت: فأنت احتججت به في قتله قبل التوبة!
قلت: ذلك مما لا خلاف فيه، ومما اتفقت طرق الأحاديث وألفاظ حديث ابن أبي سرح/ عليه أنه ارتد وتكلم، فلذلك احتججت به تمسكًا بما اتفقت عليه الطرق لا بتلك الطريق وحدها، ونحن هنا في جواز قتله بعد التوبة ولم تتفق الطرق عليه ولا صح صحة تقاوم صحة حديث التحريم.
فإن قلت: يخص بشيء آخر، وهو قوله تعالى:(إنما جزاؤ الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا ..)[المائدة: 33] الآية، والساب محارب مشاق محاد عدو لله ولرسوله ساع في الأرض بالفساد، قال تعالى في المنافقين:(ألا إنهم هم المفسدون)[البقرة: 12]، بل السب أصل كل فساد، لأنه فساد النبوة التي هي صلاح الدين والدنيا، وإذا كان الساب محاربًا ساعيًا بالفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه، وقد قامت الأدلة على أن عقوبته متعينة بالقتل، وأن السب ذنب مقتطع عن الكفر، وهو من جنس المحاربة، والتوبة التي تحقن دم المرتد هي التوبة عن الكفر، فأما إن ارتد محاربة كما فعل مقيس بن صبابة والعرنيون فلا. ومما يحقق أن السبب كالمحاربة أن مفسدته جناية وقعت في الوجود، ولا يرتفع أثرها، فهي كالمحاربة، والزنا والقتل ذنوب ماضية ليست كالكفر الذي هو عليه الآن حتى تصح التوبة عنها ويسقط أثره بها.
قلت: الآية الكريمة عند أكثر العلماء واردة في قطاع الطريق مسلمين كانوا أو كافرين، واحتجوا على ثبوت معنى الحرابة في المسلم بقوله
تعالى: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)[البقرة: 279]، ومن يقول بأنها واردة في الكفار يريد الذين ضموا إلى كفرهم قطع الطريق، مثل العرنيين الذين نزلت فيهم الآية، فإنهم ارتدوا وقطعوا الطريق، أما الكافر الذي لم يحصل منه قطع طريق فليس مرادًا من الآية وإن كان حربيًا، فإن المحارب صار له معنى خاص غير الحربي.
قال ابن قتيبة: المحاربون لله ورسوله هم الخارجون على الإمام وعلى جماعة المسلمين يخيفون السبيل ويسعون في الأرض بالفساد.
وقال الشيخ أبو حامد الإسفرايني:
"ذهب بعض السلف إلى أنها نزلت في أهل الذمة إذا نقضوا العهد ولحقوا بدار الحرب، فللإمام والمسلمين أن يفعلوا كل ذلك بهم. وعن
ابن عمر أنها نزلت في المرتدين، وذكر قصة العرنيين. وذهب الفقهاء كلهم إلى أن المراد بالآية قطاع الطريق الذين يخيفون السبيل ويشهرون السلاح، ويقاتلون القوافل، وإلى هذا ذهب ابن عباس. والدليل عليه قوله:(إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم)[المائدة: 34]، والذي يختلف حكمه إذا تاب قبل القدرة وبعدها هو قاطع الطريق، أما الحربي فسواء تاب قبل أن يقدر عليه أم بعده حكمه واحد، وكذا المرتد". انتهى.
وقال غيره: (يحاربون الله ورسوله) أي: حزب الله ورسوله، وهم المؤمنون.
وقال البخاري: المحاربة لله: الكفر به.
وقال الواحدي: كل من أظهر السلاح على المسلمين فهو محارب لله ولرسوله.
هذه أقوال العلماء في الآية.
ولو سلم أن المحارب يصدق على الكافر فالآية شرطت معه أن يسعى في الأرض فسادًا، ولا شك أن كل عاصٍ مفسد، وليس بمراد،/ بل المراد فساد خاص، وهو قطع الطريق، يرشد إليه سبب الآية وتفسير العلماء لها.
وكل مرتد فهو ساعٍ في الأرض بالفساد إذا أخذ بعموم اللفظ ولم ينظر إلى سببه وتفسيره وما يرشد السياق إليه، وكل منافق مفسد، لما ذكر في السؤال، وحكم الآية لا يثبت في المرتد والمنافق بالإجماع، وكذلك لا يثبت في الساب سواء أجعلناه داخلاً تحت اسم المحارب أم لم نجعله داخلاً في الاسم ولكن قسناه عليه، لأنه على كلا التقديرين يلزم أن يثبت له حكم الآية، وهو التخيير عند قومٍ والتنويع عند آخرين، فعلى قول
التخيير يجوز أن يعدل عن القتل إلى قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، وعلى قول التنويع لا يُقتل من لم يَقتل، وكلا الحكمين لم يقل به أحد في الساب.
وقول السائل: "إن الأدلة قامت على أن عقوبة الساب القتل" لا يفيده هنا، لأنا إذا أردنا إدراجه في الآية نصًا أو حكمًا لا بُد أن نثبت له حكمها المنصوص، ولا يجوز أن ندرج في الآية أو في حكمها شيئًا ونثبت له حكمًا آخر مغايرًا لحكمها، هذا شيء لا يجوزه أحد من النظار ولا يقتضيه علم، ولا عاقب النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا من الكفار ولا من المرتدين السابين ولا الكفار والمرتدين غير السابين بشيءٍ من العقوبات المذكورة في الآية غير القتل، ثم إن هذا لو كان كحد الحرابة لم يجز العفو عنه بعد القدرة عليه، وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن أبي سرح وغيره.
وقد تقرر في حد الحرابة أنه لا يسقط بعفو صاحب الدم لما فيه من حق الله تعالى، فهاهنا أولى لما قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه وإنما ينتقم لله، فلو كان السب كالحرابة لوجب الانتقام منه قبل الرجوع إلى الإسلام وبعده ولم يجز العفو عنه، ولما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن أبي سرح وقد صار في قبضته، وأسلم وقبل إسلامه وحسنت صحبته واستمر معه إلى آخر حياته.
بل أعرض عن ذي الخويصرة وقد قال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! وكان قادرًا على الانتقام منه، وهذه القضية كانت في غزوة حنين بعد فتح مكة وقد أعز الله الإسلام وقواه، ولو قتله لم يحصل بسببه
فتنة، ولكنه تركه للمصلحة، ولا نقول إن انتقامه وتركه في الحالتين لأن الحق له فله أن يعفو وله أن يترك، صحيح أن له ذلك ولكنا علمنا أنه لم ينتقم لنفسه قط، فعلمنا أنه إنما راعى حق الله في الحالتين، وأنه حيث انتقم انتقم لله وقتل ابن خطل والقينتين ومقيس بن صبابة، وحيث نزل نزل لله في ابن أبي سرح وذي الخويصرة وجماعة كثيرة.
وحال الأئمة بعده كحاله في أنهم يجب عليهم الانتقام لله فيمن لم يسلم، وليس لهم الترك، لأنهم لا يطلعون على المصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يطلع عليه ويخصه الله بما شاء من علمه وحكمه فيها، ولهذا لم يستتب ذا الخويصرة وشبهه، ولو صدر من أحد اليوم ما صدر من ذي الخويصرة لأوجبنا استتابته.
ولعل ترك الاستتابة في ذلك الوقت لأحد أمرين:
إما أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلع على بواطن أولئك القوم وأنهم لا يتوبون كالمنافقين الذين علم نفاقهم، فلم يكن للاستتابة فائدة.
وإما لأن أولئك القوم كانوا جهالاً حديثي عهد بإسلام، لم تتقرر عندهم أحكام الشريعة ولا عرفوا دلائل العصمة ووجوب تعظيم الأنبياء وصيانة منصبهم العلي عن ذلك، فلم يؤاخذهم بذلك، كما قال تعالى:(وأعرض عن الجاهلين)[الأعراف: 199]، فلا يكون ذلك ردة في حقهم، الله أعلم براد رسوله.
فإن قتل: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتقم لنفسه، لكن له أن ينتقم وإن تركه تكرمًا، فبعد موته صلى الله عليه وسلم الحق ثابت له، وليس لغيره أن يترك، فبماذا يسقط الحق؟
قلت: أما قبل العود إلى الإسلام والتوبة فلا يسقط، ويجب القتل،/ وأما بعده فمتى تحقق الإسلام فلا نعدم أدلة على ذلك، منها:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله"، وكما أن هذا خبر عن حكم شرعي فإنه يصلح أن يتمسك بعمومه فيما كان من حقه صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المتكلم بذلك، فكان في ذلك عفو عن حقه بالإسلام، ولو قال:"من أسلم فقد عفوت عنه" صح، فكذلك هذا.
ولا يُقال: إن هذا إبراء قبل ثبوت الحق، لأنا نقول: بل هو حكم شرعي، والحكم الشرعي يصح تعليقه.
ومما يقوي التمسك بقوله: "الإسلام يجب ما قبله" أنه ورد في قصة هبار بن الأسود بن عبد المطلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، ثم جاء فوقف عليه وتلفظ بالشهادتين وقال: قد كنت موضعًا في سبك وأذاك، وكنت محذولاً فاصفح عني، قال الزبير: فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليطأطئ رأسه مما يعتذر هبار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قد عفوت عنك والإسلام يجب ما كان قبله"، فقوله صلى الله عليه وسلم ذلك في هذه الواقعة يقتضي أنه يجب ما كان قبله من السب وغيره، لأن خصوص السبب لا يجوز إخراجه من العموم.
وهبار وإن لم يكن حين السب مسلمًا ولكنا ذكرنا قصته هنا لأجل ورود لفظ الحديث فيها على هذا السبب لنعلم دخوله في العموم.
2 -
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لكل المؤمنين والمؤمنات. قال رجل لعبد الله بن سرجس الصحابي: أستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولك، ثم تلا قوله تعالى:(واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)[محمد: 19]، فهذا الشخص الذي رع وحسنت سريرته وصح إسلامه قد استغفر النبي صلى الله عليه وسلم له، ومن استغفر له النبي صلى الله عليه وسلم غفرت ذنوبه التي بينه وبين الله، [وهي] لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالتي تختص به أولى، لأن الذي يشفع للشخص أول راضٍ عنه.
3 -
ومنها: أنه تحقق أنه من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم اختبأ دعوته شفاعة لأمته، وليس له همة يوم القيامة إلا الشفاعة لهم، فلو كان حقه باقيًا على من مات مسلمًا بحيث أنه يطالبه به في عَرَصاتِ القيامة لتعوق بسببه عن الجنة إذا لم يكن قد أخذ به في الدنيا حتى يعفو عنه في القيامة، ولا نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضى أن يتأخر أحد من أمته عن الجنة لحق غيره فضلاً عن أن يكون لحقه، ولا يطالبه به وهو يجتهد في خلاص أمته.
4 -
ومنها: قوله: "عليكم بسنتي .. "، ومن سننه أنه لم يقتل مسلمًا قط، هذا ما لا شك فيه، ولو كان ذلك جائزًا لبينه.
5 -
ومنها: علمنا برضاه عن كل من حسن إسلامه، وأنه لا يقصد من أمته غير ذلك.
6 -
ومنها: كمال شفقته عليهم.
7 -
ومنها:/ أن الأئمة بعده إنما يقومون مقامه في الأمور العامة المتعلقة بمصلحة الخلق، فاستيفاء هذا الحق إما أن يكون لخصوص النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتاج قيام الإمام بعده فيه مقامه إلى دليل، ولم يوجد، وإما أن يكون لمصلحة الخلق فيلزم أن لا يكون له إسقاطه في حياته، وقد عفا عن ابن أبي سرح، وإما أن يكون لحق الله تعالى لاجترائه على أنبيائه ورسله وأمناء وحيه وما يجر ذلك من الطعن في دينه، وكل ذلك حق لله تعالى،
فيسقط بالإسلام عملاً بقول نبيه المبلغ عنه: "الإسلام يجب ما قبله"، وقوله هو:(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)[الأنفال: 38].
فإن قلت: السب جريمة كالزنا والقتل لا يذهب أثره بالإسلام بخلاف الردة المجردة، فإنها اعتقاد يزول بالإسلام ..
قلت: السب أيضًا إنما قتل به لأنه يدل على خبث باطن وسوء عقيدة، فإذا أسلم زال ذلك.
فإن قلت: أما قلت في المسألة الثانية من الفصل الأول: إن خصوص السب وحده موجب للقتل لا لعموم الكفر؟
قلت: بلى، ولكن فيه مزيد بحث، وهو أن خصوص [السب] كفر خاص، وفيه اعتباران:
أحدهما: من حيث كونه كفرًا، وهذا يزول أثره بالإسلام، كما أن الردة قطع الإسلام، وهو شيء وقع في الوجود لا يمكن زواله، ومع ذلك يذهب أثره بالإسلام نظرًا إلى ما قطعه به وهو الكفر المستمر.
والثاني: من حيث كونه سبًا فقط، مع قطع النظير عن كونه كفرًا، وهذا المعنى لا شك أنه لا يذهب بالإسلام، ولكن ترتيب القتل عليه من جهة هذا المعنى يحتاج إلى دليل، والأدلة التي قدمناها ـ كقوله:"من سب نبيًا فاقتلوه" ـ وغيرها صحيح أنها تقتضي ترتيب الحكم على خصوص السب الخاص، ولكن في السب الخاص معنيان، أحدهما: كونه سبًا هو كفر يزول بالإسلام، والآخر: مطلق السب، وإذا كان في محل النص معنى معتبر لا يجوز إلغاؤه، ولا شك أن جهة كونه كفرًا معنى معتبر صالح لأن يكون علة أو جزء علة، فالإعراض عنه بالكلية وعله لمطلق السب يتوقف على دليل.
وهذا لا ينافي قولنا فيما تقدم: إن القتل لعلتين: إحداهما: عموم الردة، والثانية: خصوص السب، لأنا أردنا به السب الخاص الذي هو كفر، وهو مشتمل على المعنيين اللذين ذكرناهما هنا، وهما: جهة الكفر من حيث هو، وجهة السب من حيث هو، بحيث لو فرض عدم التكفير به اقتضى القتل، وهذا المعنى هو الذي يبقى أثره بعد الإسلام، ولا يتم البحث لمدعي القتل بعد الإسلام إلا بتقريره، وفي تقريره تسكب العبرات أو
تتجاذب الاحتمالات، فالأولى الكف عن الدماء بعد الإسلام، وامتطاء حبل العصمة، وحسبانه على الله.
وقولنا: "لو فرض عدم التكفير به" نعني على سبيل الفرض والتقدير للأمور المستحيلة، فإن التكفير بكل سب لا شك فيه، ولكن فيه جهتان يميز العقل إحداهما عن الأخرى، فأردنا بالفرض تحرير إحدى الجهتين.
فإن قلت: هل ثبوت القتل لمجرد السب من حيث كونه سبًا مع قطع النظر عن كونه سبًا مكفرًا: محتمل أو لا؟
قلت: نعم، هو محتمل، ولكن يحتاج في إثباته إلى دليل بين من الشرع، فإذا لم نجده ووجدنا أدلة قوية عاصمة لكل مسلم فالأولى التمسك بها، والواجب الوقوف عندها.
فإن قلت: هل تقول هذا في كل من تلفظ بكلمتي الشهادتين أو فيمن انضم إلى ذلك قرائن تدل على صدقه وحسن سريرته وصحة إسلامه؟
قلت: هذا هو الذي كنت وعدت بأني أتكلم عليه وأبين تقارب حكم الساب والزنديق، فإن في الساب مأخذين، أحدهما: حق الأدمي، والثاني: الزندقة، والذي أقوله بعون الله تعالى بعد أن قدمت قولي:"اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"، وسألت الله أن يسددني
ويعصمني من الزيغ والهوى، ويحفظ قلبي ولساني وقلمي في هذا المقام العظيم عن الخطأ في حكمه، إنه على كل شيء قدير، لا عاصم إلا هو، فأقول وبالله التوفيق:
إن من ظهرت قرائن تدل على حسن سريرته وصفاء باطنه ومعاملته مع الله تعالى وإخلاصه وندمه وإقلاعه على ما فرط منه فلا شك عندي في سقوط القتل عنه للأدلة التي قدمتها.
وحق الآدمي في هذا المقام لما كان لأشرف الآدميين بل لأشرف الخلق وأكرمهم على الله؛ والجناية عليه جناية على الله باعتبار صفة النبوة والرسالة التي هي أخص من/ البشرية، ولذلك كانت عقوبتها القتل بخلاف غيره من البشر؛ وكان هذا البشر الذي هو سيد ولد آدم لم ينتقم لنفسه قط، ولا يلاحظ بهمته العلية إلا حق الله تعالى: كان حقه في القتل تابعًا لحق الله تعالى في الثبوت والسقوط، فإذا سقط حق الله بالإسلام سقط الآخر تبعًا كما ثبت تبعًا.
وهكذا إذا لم تقم قرائن تدل القاضي على ذلك، ولكن علم الله من حال هذا الشخص ذلك، فحكمه عند الله هذا وإن لم نطلع نحن عليه، بل هو يعرف من نفسه ذلك، ونعلم أنه ليس كمن علم من نفسه أنه زنى وهو محصن، أو قتل ولم يطلع القاضي ولا أولياء المقتول عليه، فإن دمه مستحق مع إسلامه، أما في مسألتنا فالقتل ساقط عنه فيما بينه وبين الله، بخلاف الزاني والقاتل، وكذلك عند القاضي إذا دلت قرائن على صدقه.
أما من لم تقم قرائن على صدقه وقد أتى به إلى القاضي الذي لا يعلم باطن حاله ولا ما في قلبه فهذه فيها شبه من مسالة الزنديق من جهة أن سبه
دل على خبث باطنه، فهو كمن علم منه أنه يخفي الكفر ويظهر الإيمان، وهو الزنديق.
وبهذا الشبه أخذت المالكية والحنابلة فألحقوه بالزنديق، وحكموا بقتله، ومقتضى كلام الشافعية والحنفية أنهم لا يراعون هذا الشبه من جهة أن الساب جاهز بسبه وأظهر ما في نفسه، فهو كالمرتد، وليس كمن قامت البينة عليه بأنه يخفى خلاف ما يظهر، فإن صح هذا الفرق ـ وهو الظاهر ـ قطع بقبول توبته.
وإن روعي الشبه فهذه هي مسألة الزنديق، والخلاف في قبول توبته مشهور، والصحيح قبولها، لقوله صلى الله عليه وسلم:"هلا شققت عن قلبه؟! "، ولقوله:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله".
وإيمان الزنديق ممكن، إذا ادعاه ولا يعلم إلا من جهته يقبل قوله فيه، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي المنصوص في "المختصر" الذي قطع به العراقيون، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
ولنا وجه آخر أنه لا تقبل توبته، وبه قال مالك وأحمد، وربما يستدلون بقول عمر في كثير من المنافقين:"دعني أضرب عنقه"، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم علته، بل علل ترك قتلهم بعلة أخرى.
وجواب هذا الاستدلال: أن عمر ما قال ذلك إلا فيمن ظهر منه قول أو فعل يدل على نفاقه، وكلامنا فيمن ادعى أنه رجع عن ذلك واحتمل صدقه، فكيف نقتله مع احتمال إسلامه؟ وإذا دار الأمر بين تركه مع
احتمال كفره وقتله مع احتمال إسلامه تعين تركه لخطر الدماء، ولأنا رأينا الشارع ترك كثيرًا من الكفار فلم يقتلهم، ولم نره قط قتل مسلمًا، وهذا المعنى/ وحده كافٍ في عدم قتل الزنديق إذا تلفظ بالإسلام.
وقولهم: إنه يتخذ ذلك ذريعة، كلما خشي القتل تلفظ بالإسلام، وإذا رفع عنه القتل عاد، جوابه: بأنا نؤدبه التأديب البليغ، وخوفه من ذلك ومن قيام السيف كل وقت يمنعه من ذلك.
وأيضًا ليس لنا أن ننصب زواجر لم يأذن بها الشرع، ونحن تبع للشرع، حيث قال: اقتلوا، قتلنا، وحيث لم نجد نصًا توقفنا، ولا ننصب سياسات واستصلاحات من أنفسنا.
ولنا وجه ثالث قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: أنه إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل توبته، وإن جاء تائبًا وظهرت عليه مخايل الصدق قبلت، ومأخذه ما تقدم في الحرابة والفرق بين أن يتوب قبل القدرة عليه أو لا، ولكنه لم يسلك به مسلك الحرابة من كل وجه.
وأيضًا فالحرابة جريمة كالزنا يقتل عليها مع الإسلام، وهنا إنما يقتل على الكفر، فلا وجه لإلحاق هذا بالحرابة، لا سيما مع خطر الدماء، فالوجه الكف عنها وأن لا تراق بمثل هذه الأقيسة الضعيفة حتى يأتي نص أو دليل قوي.
إذا عرف هذا فالصحيح من المأخذين في مسألة الساب عند القائلين بقتله أنه ملحق بالزنديق، فإن السب دل على خبث باطنه كما لو شهدت البينة على أنه تلفظ بالكفر في الخفية فإنه ثبت به الزندقة.
فقد بان بهذا أن مأخذ القتل في الساب والزنديق سواء، وأنا قد ذكرت تفصيلاً في الساب أنه إن دلت القرائن على صدقه قبلت توبته، وإلا ففيه تردد، الأصح القبول، وكذلك أقول في الزنديق إنه يجب أن يكون محل الخلاف ما دمنا نتهمه، وإن كان الأصح قبول توبته.
أما إذا اختبر مدة طويلة وظهرت قرائن على حسن إسلامه فينبغي القطع بارتفاع القتل عنه، وقد كان جماعة من المؤلفة قلوبهم حسن إسلامهم بعد ذلك، وصاروا من خيار المسلمين.
فالحاصل أن الساب والزنديق كلاهما متى ظهرت قرائن الريبة أو اتهم بسوء الباطن اتجه الخلاف فيه، والأقوى قبول إسلامه ودرء القتل عنه،/ ومتى ظهرت قرائن حسن سريرته فعندي: القطع بقبول إسلامه ودرء القتل عنه.
والإقدام على قتل مثل هذا جمود على غير نص ولا ظاهر ولا دليل قوي، أخشى أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أول سائل عن دمه يوم القيامة.
وأرى أن مالكًا وغيره من أئمة المسلمين لا يقولون بذلك إلا في محل التهمة، فهو محل قول مالك ومن وافقه.
ولقد أقمت برهة من الدهر متوقفًا في قبول توبته مائلاً إلى عدم قبولها لما قدمته من حكاية الفارسي الإجماع، ولما يقال من التعليل بحق الآدمي، حتى كان الآن نظرت في المسألة حق النظر، واستوفيت الفكر، فكان هذا منتهى نظري، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، والله ورسوله بريء منه، ولكنا متعبدون بما وصل إليه علمنا وفهمنا.
اللهم إنك تعلم أن هذا الذي وصل إليه علمي وفهمي لم أحاب فيه أحدًا، ولا قلدت فيه إمامًا غير ما فهمته من نفس شريعتك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومكارمه ورحمته وشفقته ورأفته، فلم يحصل لنا خير في الدنيا ولا في الأخرة إلا منه، والله يختم لنا بخير في عافية بلا محنة، وكذلك آباؤنا وأمهاتنا وأولادنا وأهلونا، بمنه وكرمه إنه قريب مجيب.
فإن قلت: قد قدمت أن في حديث أبي بكر ما يدل على أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من أغضبه، بل سأله أبو داود أحمد بن حنبل عن حديث أبي بكر فقال أحمد:"لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلاً إلا بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفر بعد إيمان، وزنًا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل"، فإن كان مراد أحمد: كان له أن يقتل من أغضبه، فهو الذي قلته، وإن كان مراده كان له أن يقتل بغير الثلاثة وذلك من خصائصه بمعنى أن له أن يأمر بقتل من لا يعلم الناس له شيئًا يبيح دمه وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك لأنه لا يأمر/ إلا بما أمر الله
به، وهاتان الخصيصتان ليستا لغيره صلى الله عليه وسلم، وبعد موته انسد باب الخصلة الثانية، وأما الخصلة الأولى وهي قتل من أغضبه فلم ينسد، فيقوم الأئمة بعده مقامه في استيفائه.
قلت: من أغضبه بسب أو نحوه مما حكمنا بأنه كفر فلا شك أنه يقتل ما لم يسلم، وأما من أغضبه من الجهال وجفاة الأعراب بشيء لم يقصد قائله التنقيص ولا حكم بكفره فهذا إن ثبت جواز قتله وأن ذلك من خصائصه مع الحكم بإسلامه قائله فإنا نعلم ونتحقق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يقتل مسلمًا قط، فإما أن يحمل خبر أبي بكر على من أغضبه بما يكفر به، وغالب من يغضبه كذلك، وإما أن يحمل على أن ذلك كان له ولم يفعله تكرمًا وإغضاء، وبعده لا يفعل لأمرين، أحدهما: الاقتداء بسنته، والثاني: أن ذلك كان له على جهة الجواز لا على جهة الوجوب، والأئمة لا ينوبون عنه فيما اختص به من الجائزات التي جعلها الله تعظيمًا لقدره العلي.