الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: في أنه هل يصح حكم الحاكم بسقوط القتل عنه مع بقائه على الكفر
؟
والجواب: إن كان الحاكم شافعيًا أو مالكيًا أو حنبليًا لم يصح حكمه بذلك، لأنه خلاف مذهبه، وفي هذا الزمان الحكام مقلدون، والسلطان يوليهم على مذاهب معروفة، فكأنه بلسان الحال يقول للشافعي: أذنت لك أن تحكم بمذهب الشافعي، وللمالكي: احكم بمذهب مالك، وللحنفي: احكم بمذهب أبي حنيفة، وللحنبلي: احكم بمذهب أحمد، فلا يجوز لأحدٍ منهم أن يتجاوز مذهبه في الحكم.
ولو فرضنا أن واحدًا منهم ظهر له في مسألة بالدليل خلاف مذهبه، أو قلد غير إمامه فيها: لا يجوز له أن يحكم في تلك المسألة بما اعتقده من اجتهاد أو تقليد، لأنه غير مأذون له فيه، ولا بمذهبه لأنه لا يعتقده وإن كان مأذونًا له فيه.
فطريقه أن يراجع السلطان إن شاء حتى يأذن له أن يحكم بما يعتقده.
وفيه أيضًا خلاف في أن الشافعي هل له أن يولي غير شافعي؟ والتقيد بهذه المذاهب في هذا الزمان بحسب تولية السلطان لا بد منه،/ إلا أن يولي السلطان رجلاً مجتهدًا ويعلم منه ذلك، فيكون إذنًا له أن يحكم بما يراه، وبدون ذلك لا يجوز أن يخرج عن مذهبه.
فإن كان مقلدًا ـ كما هو الغالب في قضاة الزمان ـ فليس له أن يخرج عن مشهور مذهبه الذي عليه الفتوى في ذلك المذهب.
وإن كان مجتهدًا في المذهب فيجوز له أن يخالف ذلك إذا رأى غيره أولى بمذهب الشافعي واقتضت عنده قواعد الشافعي ترجيحه، وكان قاصدًا للحق والدليل لا للهوى، ويكون ذلك غير خارج عن مذهب الشافعي، ولا يفترق الحال عنده بين ذي الجاه وغيره، والسلطان والرعية، فإن حكم الله واحد في الجميع.
فأي حاكم حكم من حكام الزمان من غير الحنفية ببقاء هذا الكافر نقض حكمه وأبطل وحكم بخلافه.
ثم إن كان إقدام الحاكم على ذلك لجهل منه بأن اعتقد أنه مذهب إمامه فتبين له ذلك فيستغفر الله تعالى من تقصيره في السؤال ممن هو أعلم منه، وهو باقٍ على ولايته.
وإن كان إقدامه على ذلك مع علمه بأن مذهب إمامه خلافه وقلد فيه أبا حنيفة لاعتقاده قوة مذهبه فكذلك يبين له أنه لم يكن يجوز له أن يحكم بغير مذهب إمامه وإن اعتقده، ويستغفر الله تعالى من الحكم بذلك، وهو باق على ولايته.
وإن كان إقدامه على ذلك عالمًا بمخالفته لمذهب إمامه أو للمشهور منه، والحامل له على ذلك محاباة ذي جاه أو طمع في شيء من الأمور الدنيوية فقد خان الله تعالى ورسوله والمؤمنين، وانعزل من جميع ما بيده من المناصب الدينية، القضاء وغيره، وفسق ولم تحل ولايته بعد ذلك حتى يتوب إلى الله تعالى وينصلح حاله.
ويخشى عليه في دينه إن كان الحامل له على ذلك التهاون بهذا الحق العظيم، لكنا لا نظن بمسلم الوقوع في ذلك.
وأما إن كان الحاكم الذي حكم بسقوط القتل عنه حنيفًا وقد حكم بذلك مقلدًا لأبي حنيفة رضي الله عنه/ فيحتمل أن يقال بنقض حكمه بذلك، لأن الأدلة الدالة على وجوب قتله واضحة جلية، فهي مما ينقض قضاء القاضي بخلافها، ويحتمل أن يتوقف في ذلك لأن الحديث الوارد فيه ليس بذلك القوي، ولا إجماع.
ومحل النظر: في كون مجموع ما ذكرناه من الأدلة واستقراء السير والأقيسة هل تتنزل منزلة الحديث الصحيح الصريح، وفي كون الأقيسة جلية أو لا، والأقرب عندي أنها كذلك حتى ينقض قضاء القاضي الحنفي بخلافها ما لم يقترن به حكم آخر بتنفيذه، فإذ ذاك يمتنع نقضه، لأن جواز نقضه ليس بينا عندنا؛ بل هو في محل الاجتهاد، فإذا قضى به قاض كان كالحكم بالمختلف فيه، فلا ينقض.
هذا كله في حكم الحنفي، أما الشافعي والمالكي والحنبلي فلا ريبة في نقض حكمهم بذلك.