الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الخامس
استدل به أيضًا جماعة من العلماء منهم أحمد بن حنبل، وذكره أبو داود في "سننه" في باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن الجراح، عن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها.
ورواه أحمد بن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن علي قال: كان رجل من المسلمين أعمى يأوي إلى امرأة يهودية، فكانت/ تطعمه وتحسن إليه، فكانت لا تزال تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتؤذيه، فلما كانت ليلة من الليالي خنقها فماتت، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنشد الناس في أمرها، فقام الأعمى فذكر له أمرها؛ فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها.
وهذا الإسناد لا يرتاب في صحته واتصاله إلا من جهة سماع الشعبي من علي، ولا شك أنه أدركه وأدرك خلائق من الصحابة، فإن مولده ـ على ما ذكره ابن منجويه ـ لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب، فيكون ـ عند وفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه عمره عشرين سنة، وأكثر الأقوال في وفاته تدل على هذا، أعني الشعبي، فإنه قيل إنه توفي سنة ثنتين ومئة وعمره ثنتان وثمانون سنة، وقيل فيه أقوال أخرى، ومن جملتها أنه توفي سنة ست أو سبع ومئة وعمره سبع وسبعون سنة، وعلى هذا يكون أدرك من حياة علي عشر سنين، والمشهور الأول، وعلى كل قول فالإدراك محقق، وكذا إمكان السماع، فإنه كوفي وعلي كان بالكوفة، فلا مانع من لقائه والسماع منه، وروايته عن علي معروفة
مشتهرة، ومن جملة روايته عنه حديث شراحة الهمدانية.
وذكر بعضهم أنه سمع من علي، وهذا تصريح، فإن ثبت ذلك وإلا فالمشهور عند المحدثين الاكتفاء باللقاء والإمكان وحمل الأمر على السماع، فالحديث حينئذ صحيح، وبتقدير أن يكون مرسلاً فإن مرسلات الشعبي من أصح المراسيل، ومع ذلك قد عضده حديث ابن عباس الذي سنذكره في الدليل السادس، فإن القصة إما أن تكون واحدة كما تشعر به رواية أحمد التي ذكرانها، وإما أن يكون المعنى واحدًا.
وعلى تقدير أن لا يكون عاضدًا له فإن أكثر أهل العلم قائلون به، وجاء ما يوافقه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل واحد من هذه الأمور الثلاثة
إذا اعتضد به المرسل كان حجة بلا خلاف، فإن الشافعي يقبله معها، وكذلك من وافقه، وغيرهم يقبله/ مطلقًا معها وبدونها، فقبوله معها مما اتفق عليه العلماء.
وهذا الحديث من أقوى الأدلة، ويصعب على الحنفية الجواب عنه، فإن المرأة لا تقتل بالكفر الأصلي بإجماع العلماء، ولا تقتل بالردة
عندهم، على أن هذه لم تكن مرتدة بل يهودية، وقتلها عندهم ـ سواء أكان من مسلم أم من غيره ـ موجب للقصاص، فإبطال رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها أدل دليل على أن السب أوجب قتلها، وترتيب الراوي الإبطال على الشتم بالفاء دليل على أن الشتم علة للإبطال، وأيضًا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالإبطال عقب ذكر الشتم دليل على أن الشتم علة، وكل واحد من هذين الأمرين دليل العلية على ما هو مقرر في أصول الفقه، وذلك مما يبطل قول الخصم إن المرأة كانت حربية، وإن ذلك هو علة الإبطال لا الشتم.
ومما يبين فساد هذا القول أن الإهدار إنما يكون لما انعقد سبب الضمان فيه، ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة في بعض مغازيه نهى عن قتل النساء والصبيان، ولم يقل إنه أهدر دمها، لأنها لم ينعقد فيها
سبب الضمان، بخلاف هذه، فإنها من أهل العهد، والعهد سبب لكون دمها مضمونًا لولا الشتم.
ومما يبين فساده أيضًا أن هذه اليهودية من يهود المدينة، وقد قدمنا أن يهود المدينة كلهم موادعون وقول الشافعي في ذلك وقول الواقدي: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتابًا، وكذلك قاله ابن إسحاق أيضًا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في أول قدومه المدينة ـ كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار وداع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، وكان عند آل عمر ابن الخطاب مقرونًا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال، كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي بين المسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: أنهم أمة واحدة، يتعاقلون بينهم معاقلهم .. وفيه:
وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم.
وفيه: أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن اليهود/ بني عوف ذمة من المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم مثل ما ليهود بني
عوف، وأن ليهود الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ثعلبة ولجفنة ـ بطن من ثعلبة ـ ولبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنسهم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخشى فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة مع البار المحسن .. "، وفيها أشياء أخر.
وذكر أبو عبيد في كتاب "الأموال" هذا الكتاب أيضًا عن يحيى بن بكير وعبد الله بن صالح قالا: ثنا الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال:"بلغني .. "، وقال أبو عبيد: إنه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
وفسر أبو عبيد قوله: "وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين" قال: فهذه النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له
على عدوه، ونرى أنه إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين لهذا الشرط الذي شرط عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.
وفي كتاب أبي عبيد أن يهود بني عوف أمة من المؤمنين، وفسره بأنه إنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم.
وفي "صحيح مسلم" عن جابر: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله".
ومعنى قوله: "إن كل من تبع المسلمين من اليهود فإن له النصر". معنى الاتباع هنا: المسالمة وترك المحاربة.
ولم يكن أحد بالمدينة من اليهود إلا وله حلف، إما مع الأوس أو بعض بطون الخزرج، وكان بنو قينقاع ـ وهم المجاورون بالمدينة، وهم رهط عبد الله بن سلام ـ حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي، وهم البطن الذي بدئ بهم في هذه الصحيفة.
وكان في المدينة وفيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فبنو قينقاع والنضير حلفاء الخزرج، وقريظة حلفاء الأوس.
وأول من نقض العهد بنو قينقاع، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، وهم الذين كانوا بالمدينة، والنضير وقريظة كانوا خارجًا من المدينة.
وهذه المرأة يظهر أنها من بني قينقاع، لأن الظاهر أنها كانت في المدينة، وسواء أكانت منهم أم من غيرهم فهي مهادنة ولها عهد كسائر يهود المدينة وما حولها.
فإذا كان سبها يقتضي القتل فالذمية التي تلتزم أحكام الإسلام أولى أو مثلها.
ومما يدل على أنها كانت معصومة قبل السب أن النبي صلى الله عليه وسلم/ نشد الناس في أمرها، ولو لم تكن معصومة لما فعل ذلك.
فإن قلت: الساب وإن وجب قتله لا يجوز لآحاد الناس قتله بغير إذن الإمام، وكذا المرتد، فلو كان القتل للسب لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه لكونه فعل ما لا يجوز، فلما لم ينكر دل على أن القتل لغير ذلك.
قلت: أما كون القتل لغير السب فلا يمكن، إذ لا محمل له غيره، لما بيناه من كون المرأة لا تقتل بالكفر الأصلي، فتعين أن يكون للسب.
وأما كون آحاد الناس ليس له ذلك إلا بإذن الإمام وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر: فلعل ترك الإنكار خشية أن يتوهم عدم استحقاق القتل، وللإمام أن يترك الإنكار بمثل ذلك.
أو يقال: بأن ذلك إنما يحرم خوف الفتنة أو حيث يمكن الرفع إلى الإمام، ولم تكن هذه الواقعة كذلك.
أو يقال: بأن الكافر لا يحتاج في قتله إلى إذن الإمام إذا وجد فيه ما يقتضي قتله بغلظ كفره بالسب، ألا ترى أن الغزو بغير إذن الإمام جائز، فالمرأة السابة بمنزلة الرجل المقاتل.
أو يقال إن كانت هذه القصة هي قصة أم الولد وأنها رقيقة: إن للسيد إقامة الحد على عبده كما هو أحد قولي العلماء.
وبالجملة: فالمجاز إهدار دمها، وأما كون المتعاطي لذلك الإمام أو غيره فليس الكلام فيه.
فإن قلت: قد يكون قتلها ولا عهد لها، والكافرة إذا قتلت كذلك دمها هدر.
قلت: الإشكال في عدم الإنكار باق؛ مع إبطال ما دل عليه الحديث من وجوه كثيرة على أن القتل للشتم لا لغيره، مع أن القتل في النساء لأجل الكفر قد تغيظ النبي صلى الله عليه وسلم عليه لما حصل في بعض مغازيه، واشتد إنكاره له، وهاهنا لم يفعل ذلك، فدل على الفرق بين الواقعتين.