الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الرابع: قصة أنس بن زنيم الديلي
ذكرها أهل السير أن أنس بن زنيم الديلي ـ وكان ممن دخل في عهد قريش وهدنتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعه غلام من خزاعة فشجعه، فثار الشر مع ما/ كان بين الحيين، وجاءت خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنثرونه، وأنشدوه القصيدة المشهورة التي أولها:
لاهم إني ناشد محمدا
…
حلف أبينا وأبيك الأتلدا
فلما فرغ الركب قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك. فندر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فبلغ ذلك أنس بن زنيم فقدم معتذرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدحه بقصيدة أولها:
ءأنت الذي تهدي معد بأمره
…
بل الله يهديها وقال لك أشهد
وفيها:
فما حملت من ناقة فوق رحلها
…
أبر وأوفى ذمة من محمد
تعلم رسول الله أنك قادر
…
على كل سكن من تهام ومنجد
تعلم رسول الله أنك مدركي
…
وأن وعيدًا منك كالأخذ باليد
ونبي رسول الله أني هجوته
…
فلا رفعت سوطي إلى إذا يدي
سوى أنني قد قلت يا ويح فتية
…
أصيبوا بنحس يوم طلق وأسعد
فإني لا عرضًا خرقت ولا دمًا
…
هرقت ففكر ـ عالم الحق ـ وأقصد
وتعلم أن الركب ركب عويمر
…
هم الكاذبون المخلفو كل موعد
وبلغت قصيدته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمه نوفل بن معاوية الديلي، فقال: يا رسول الله، أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ويؤذك، ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بك من الهلك، وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك، فقال:"دع الركب عنك، فإنا لم نجد بتهامة أحدًا من ذي رحم ولا بعيد الرحم كان أبر من خزاعة".
فأسكت نوفل، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد عفوت عنه"، قال نوفل: فِداك أبي وأمي.
وهذه القصة ـ إذا صحت ـ من أقوى الأدلة ـ بل فيها دليل على أن القتل لا يسقط بالإسلام حتى يعفو، فإن ظاهر القصيدة يدل على إسلام أنس بن زنيم، وكان حين هجائه مهادنًا، ونوفل الذي شفع فيه كان ممن نقض العهد ثم أسلم وصار يشفع فيه، فدل على أن السب أعظم من نقض العهد، وأن/ ناقض العهد إذا أسلم سلم، والساب إذا أسلم لا يسلم، ولهذا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهدر دم أحد من بني بكر الذين أغاروا على خزاعة، وإنما سلط خزاعة على قتالهم، وأهدر دم هذا بعينه حتى أسلم واعتذر، هذا مع أن العهد عهد موادعة وهدنة لا عقد جزية وذمة، والمهادن في بلده لا يتوقف فيما شاء من المنكرات، فإذا أخذ بذلك فالذمي أولى.
فهذه القصة لا شك في دلالتها على قتل الساب المعاهد، وأما إذا أسلم فنحن نختار سقوط القتل عنه، ونحمل ما صدر في هذه القصة من سؤال العفو على قبول توبته كما في قبول توبة كعب بن مالك حين تخلف عن تبوك، حيث تأخرت خمسين ليلة مع ندمه وصدقه كما نبهنا عليه من قبل، ليتحقق رضى الله تعالى عنه وقبوله توبته، كذلك هنا المقصود
رضى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وهو أمر مقصود، فليس نصًا في أنه لو لم يعف عنه لقتله بعد إسلامه، بل لعلة كان له أن يعاقبه بغير القتل أو مجرد إعراضه عنه عقوبة، وكيف يطيب قلب المسلم إذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم راضيًا عنه، بخلاف الكافر الحربي أو المعاهد الذي نقض العهد بغير ذلك، كالقتال ونحوه، فإنه بمجرد الإسلام لا يبقى عليه تبعة أخرى، لأن دينه الذي كان: هو الكفر والمحاربة، وقد زال بالإسلام، وذنب الساب زائد على الكفر.