الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: في أنه لا تصح توبته مع بقائه على الكفر
لا أعلم في ذلك خلافًا بين القائلين بقلته من المذاهب الثلاثة: المالكية والشافعية والحنبلية إلا ما أشار إليه كلام "الخلاصة"، وليس محققًا، بل غايته ـ إن ثبت ـ وجه ضعيف، ومثله في مذهب أحمد وجه مضطرب غير محقق، والمشهور الذي هو كالمقطوع به في المذهب أن توبته مع الكفر لا تفيد.
فإن قلت: أليس له انتقض عهده بالامتناع من الجزية ثم انقاد إليها مع بقائه على الكفر يجاب؟
قلت: الفرق بينهما أن مفسدة الامتناع عن أداء الجزية زال بأدائها والانقياد إليها، ومفسدة السب لا تزول بقوله:"إني تائب" مع كفره، ولا يعجز أحد من الكفار أن يفعل ذلك في كل وقت ويتخذ ذلك ذريعة وملعبة بالمسلمين وإغاظة لقلوبهم، وللطعن في الدين وإغراء غيره من الكفار أن يفعل كفعله، ولا يردهم عن ذلك إلا السيف.
فإن قلت: قال تعالى: (حتى يعطوا الجزية)[التوبة: 29]، فمتى أعطى الجزية حصلت الغاية.
قلت: إعطاء الجزية غاية للمقاتلة، لقوله تعالى:(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله)[التوبة: 29] الآية، ولم يجعل غاية للقتل؛ بل قال تعالى:(اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)[التوبة: 5]، ولم يقيدها، ونحن وإن قلنا إنها مقيدة فلا شك أن القتل بما يصدر منهم من الجرائم ـ كالزنا والقتل والمحاربة ـ لا يرتفع بالجزية، والسب مثله لما تقدم من الأدلة، ولأنه لا بد له من عقوبة زاجرة عنه، ولا يليق بعقوبته غير القتل.
فإن قلت: هل هذا على القول بانتقاض عهده أو مطلقًا؟
قلت: بل مطلقًا، أما إذا لم نقل بانتقاض/ عهده فلأنه حد من الحدود، والحد لا يسقط بالتوبة، ومن قال من الفقهاء إنه يسقط بالتوبة فذاك في حق المسلم، لأنها التوبة الصحيحة، أما الكافر فلا.
وأيضًا فإن السب لا تكون توبته بغير الإسلام، لأنه المضاد له.
وأما إذا قلنا بانتقاض عهده به ـ وهو الحق ـ فيقتل إما حدا على الجريمة السابقة كما يرجم بالزنا السابق، وإما كما يقتل الأسير الذي اقتضت المصلحة قتله، وعلى كلا التقديرين لا تفيد التوبة مع الكفر.
فإن قلت: لم لا يلحق بمأمنه؟
قلت: معاذ الله! فإن الإلحاق بالمأمن ـ وإن قال به بعض الفقهاء على ضعفه ـ إنما يحتمل فيما إذا كان انتقاض العهد بشيء لا ضرر على المسلمين فيه يوجب قتله، فإنه حينئذٍ يصير كغيره من الكفار الحربيين لا يضر إلا نفسه، ولا جريمة له غير الكفر، والكفر الأصلي لا يوجب القتل ولكن يجوزه، ويوجب المقاتلة للدخول في الإسلام لمصلحة من يقاتله.
وأما الانتقاض بما فيه ضرر عام كالسب والزنا بمسلمة ونحوه من المفاسد العامة التي توغر صدور المؤمنين وتغري السفهاء والملحدين وتحصل الشبه في القلوب الضعيفة: فالقتل به من باب الزواجر المشروعة في الحدود، لئلا يسري ضررها ويتشبه غيره به، فلا جزاء له إلا القتل، سواء أكان في مأمنه أم في غير مأمنه، فكيف نمكنه من الرجوع إلى مأمنه مع ذلك وقد تعين علينا قتله وفارقت حالته حالة المحارب الذي لا ضرر علينا منه إلا بامتناعه بشوكته؟! فإذا حصل في أيدينا ضرره؟! وهذا الكلب حصل ضرره علينا وهو في أيدينا.
واستقراء أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في سيره يدل على أنه كان لا يعفو عن الكفار الذين يحصل منهم ضرر عام من سب أو غيره، كقتله النضر بن الحارث، وأبا عزة في المرة الثانية، وغيرهما.
وإنما كان يمن على من لا ذنب له غير الكفر الذي جزاؤه النار يوم القيامة، فإن الدنيا لم تجعل جزاء على الذنوب، وإنما شرع فيها زواجر عن الذنوب التي تحصل بها مفاسد عامة أو/ استجلاب إلى مصالح، وأخرت عقوبة الكفر إلى الدار الآخرة.
فإن قلت: قد أطلق أصحابنا الخلاف في إبلاغ الذمي ـ إذا انتقض عهده ـ المأمن ولم يقيدوه بما قتل!
قلت: نعم، والفقيه يقيد ما يطلقه الأصحاب بحسب ما يقوم الدليل عليه، وغاية الأمر إذا سلم أن يكون فيه قول ضعيف بتبليغه المأمن، والصحيح خلافه، ولنذكر هنا ما قاله الفقهاء فيمن انتقض عهده، وهو على قسمين:
أحدهما: أن يكون في قبضة الإمام ولم ينتصب لقتال ولا شوكة له، فمثل هذا لا ينتقض عهده عند أبي حنيفة، ومذاهب الأئمة الثلاثة أنه ينتقض إذا فعل شيئًا مما قدمنا أنه ناقض، فعلى هذا قال أصحابنا: هل
نبلغه المأمن؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم، لأنه دخل دار الإسلام بأمان فيبلغ المأمن، كمن دخل بأمان صبي.
وأصحهما: المنع: بل يتخير الإمام فيمن انتقض عهده بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، كالأسير الحربي، وهذا هو المشهور عن أحمد أيضًا، وعنه رواية أخرى أنه يقتل، واستدل بأن عمر صلب رجلاً من اليهود فجر بمسلمة. قيل لأحمد: ترى أن عليه الصلب مع القتل؟ قال: إن ذهب رجل إلى حديث عمر. كأنه لم يعب عليه.
وقال مهنا: سألت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بمسلمة؟
قال: يقتل. فأعدت عليه، قال: يقتل. قلت: الناس يقولون غير هذا. قال: كيف يقولون؟ قلت: يقولون عليه الحد. قال: لا، ولكن يقتل. فقلتك له: في هذا شيء؟ قال: نعم، عن عمر أنه أمر بقتله. والمشهور عن أحمد وغيره ما قدمناه من التخيير.
وأما الرد إلى المأمن فضعيف:
- لقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)[التوبة: 5]، وذلك يعم المأمن وغير المأمن، وقوله:(وإن نكثوا أيمانهم ..)[التوبة: 12]، وغير ذلك من الآيات.
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة قتل كعب بن الأشرف: "من وجدتموه من رجال يهود فاقتلوه".
- ولأنه أجلى بني النضير على أن لا ينقلوا إلا ما حملته الإبل إلا الحلقة، وإبلاغ المأمن أن يؤمن على نفسه وأهله وماله حتى يبلغ مأمنه.
- ولأن عمر/ وأبا عبيدة ومعاذًا وعوف بن مالك قتلوا النصراني الذي أراد أن يفجر بمسلمة وصلبوه ولم يردوه إلى مأمنه، ولم ينكره منكر.
- ولقول ابن عمر في الراهب: "لو سمعته لقتلته".
- ولأن مقتضى شروط عمر حل دمهم إذا نقضوا، وعن أبي بكر وابن عباس وخالد أنهم قتلوا ناقض العهد ولم يبلغوه مأمنه.
القسم الثاني: أن ينتصب ناقض العهد للقتال، قال أصحابنا: فلا بد من دفعهم والسعي في استئصالهم، وهذه العبارة توهم أنهم في دار الإسلام إنما يقاتلون للدفع حتى لو أسروا لا يقتلون بل يبلغون المأمن على أحد القولين، وهذا يخالف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، فإنه قتلهم بعد الأسر، فإما أن يجعل هذا دليلاً على ضعف القول بإلحاقهم بالمأمن من أصله، وإما أن يكون هذا القول لا جريان له في هذا القسم.
وحيث صاروا حربًا إما في دار الإسلام وإما بالتحاقهم بدار الحرب؛ فإذا أسروا فيتخير الإمام فيهم كما يتخير في غيرهم من الأسرار بين القتل والمن والمفاداة والاسترقاق، هذا مذهب جمهور العلماء، وإذا بذلوا الجزية جاز قبولها منهم ويردون إلى الذمة، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدوا الذمة لأهل الكتاب من أهل الشام مرة ثانية وثالثة بعد أن نقضوا
العهد، لكن هل نقول إن ذلك واجب كما يجب ابتداء إذا بذلوا الجزية ـ على الأصح ـ أو جائز غير واجب لما حصل من غدرهم؟
فيه نظر، قد يتمسك للثاني بإجلاء النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وبقتل بني قريظة ولم تؤخذ منهم جزية، وجوابه: أنهم لم يعطوها ولا يجب علينا إرشادهم إليها، والمشهور عند المالكية أن من نقض العهد ولحق بدار الحرب ثم أسر كان فيئًا يسترق ولا يرد إلى الذمة، وعن أحمد رواية أن من نقض عهده وقدر عليه بعد أن لحق بدار الحرب يرد إلى الجزية ولا يسترق، وعلى هذه الرواية يجب ردهم إلى الذمة، وهو بعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل أسرى بني قريظة وأسرى خيبر ولم يدعهم إلى إعطاء الجزية،/ والظاهر أنه لو دعاهم إليها لأجابوه، فدل على التخيير.
ومما يدل على جواز المن على الناكث أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب الزبير بن باطا القرظي لثابت بن قيس بن شماس هو وأهله وماله على أن يسكن
الحجاز، وكان من أسرى بني قريظة الناكثين، وذلك قبل أن يحرم إسكانهم في الحجاز ويجب إخراجهم، وقد خرجنا عن المقصود في هذا المحل لتعلقه به.
والمقصود أنه ما دام على الكفر لا تقبل توبته، وحكم القتل بالسب جار عليه، ولا يجوز المن عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمن على من هذا حاله من الأسراء، ولو فعل ذلك كان لحقه، ونحن لا يجوز لنا ترك حقه هذا ما دام على الكفر، ولا حاجة للإطالة في ذلك، فإنه مما لم يقل به أحد إلا إن كان وجهًا ضعيفًا جدًا لا يجوز الأخذ به ولا التعويل عليه.