الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: في استتابة الساب
لا شك أن من قال: لا تقبل توبته يقول: إنه لا يستتاب، وأما من قال بقبول توبته فظاهر كلامهم أنهم يقولون باستتابته كما يستتاب المرتد، بل هو فرد من أفراد المرتدين.
قال القاضي عياض: إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح فالاختلاف فيها على الاختلاف في توبة المرتد، إذ لا فرق، وقد اختلف السلف في وجوبها وصورتها ومدتها، فذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن المرتد يستتاب، وحكى ابن القصار أنه إجماع من الصحابة على تصويب قول عمر في الاستتابة، ولم ينكره أحد منهم، وهو قول عثمان وعلي وابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح والنخعي والثوري ومالك وأصحابه، والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وذهب طاوس وعبيد بن عمير والحسن في إحدى الروايتين عنه إلى أنه لا يستتاب، وقاله عبد العزيز ابن أبي سلمة، وذكره عن معاذ، وأنكره سحنون عن معاذ، وحكاه
الطحاوي عن أبي يوسف، وهو قول أهل الظاهر، قالوا: تنفعه توبته عند الله، ولكن لا تدرأ القتل عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "
…
فاقتلوه"، وحكي أيضًا عن عطاء أن من ولد في الإسلام لم يستتب.
وأما مدتها: فمذهب الجمهور/ ـ وروي عن عمر ـ أنه يستتاب ثلاثة أيام، وأحد قولي الشافعي، واستحسنه مالك، وقال: لا يأتي الاستظهار إلا بخبر، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال مالك أيضًا: الذي آخذ به في المرتد قول عمر: يحبس ثلاثة أيام ويعرض عليه كل يوم فإن تاب وإلا قتل. وقال ابن القصار: في تأخيره ثلاثًا روايتان عن مالك: هل ذلك واجب أو مستحب. واستحسن الاستتابة ثلاثًا
أصحاب الرأي، وروي عن أبي بكر الصديق أنه استتاب امرأة فلم تتب فقتلها، وقاله الشافعي مرة، فقال: إن لم يتب قتل مكانه، واستحسنه المزني.
وقال الزهري: يدعى إلى الإسلام ثلاث مرات، فإن أبي قتل. وروي عن علي بن أبي طالب أنه يستتاب شهرين. وقال النخعي: يستتاب أبدًا. وبه أخذ الثوري ما رجيت توبته.
وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة أنه يستتاب ثلاث مرات في ثلاثة أيام أو ثلاث جمع، كل يوم أو جمعة مرة.
وفي كتاب محمد عن ابن القاسم: يدعى المرتد إلى الإسلام ثلاث مرات، فإن أبى ضرب عنقه.
واختلف على هذا: هل يهدد أو يشدد عليه أيام الاستتابة ليتوب أم لا؟ فقال مالك: ما علمت في الاستتابة تخويفًا ولا تعطيشًا، ويؤتى من الطعام بما لا يضره.
وقال أصبغ: يخوف أيام الاستتابة بالقتل ويعرض عليه الإسلام. وفي كتاب أبي الحسن الطابثي: يوعظ في تلك الأيام ويذكر بالجنة ويخوف بالنار، وكذلك يستتاب أبدًا كلما رجع وارتد، وقد استتاب النبي صلى الله عليه وسلم نبهان الذي ارتد أربع مرات أو خمسًا.
قال ابن وهب عن مالك: يستتاب أبدًا كلما رجع. وهو قول الشافعي وأحمد، وقاله ابن القاسم.
وقال إسحاق: يقتل في الرابعة. وقال أصحاب الرأي: إن لم يتب في الرابعة قتل دون استتابة، وإن تاب ضرب ضربًا وجيعًا ولم يخرج من السجن حتى يظهر عليه خشوع التوبة.
وقال ابن المنذر:/ لا نعلم أحدًا أوجب على المرتد في المرة الأولى أدبًا إذا رجع، وهو على مذهب مالك والشافعي والكوفي. انتهى ما حكاه القاضي عياض.
وما ذكره عن عطاء أن من ولد في الإسلام لا يستتاب هي رواية عن أحمد أيضًا، والمشهور عن عطاء وأحمد خلافها، واتفقا على أن من كان مشركًا وأسلم يستتاب.
ثم هؤلاء الذين حكى القاضي عنهم القول بعدم الاستتابة يقولون: لو تاب لا تقبل توبته، وقد قلنا: إنه لا شك في أن من منع قبول التوبة لا يستتب، وإنما الكلام عند من يقبلها.
ومنع قبول توبة المرتد بعيد، وما روي عن الحسن وغيره لعله في الزنديق، فإن المعلوم من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر قبول توبة المرتدين.
وفي «مسند أحمد» : "لا يقبل الله توبة عبدٍ كفر بعد إسلامه"، وفي ابن ماجه: "لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد إسلامه عملاً حتى يفارق
المشركين إلى المسلمين".
ومعنى الحديثين أنه ما دام بين المشركين وهو قادر على الخروج إلى المسلمين لا يقبل إسلامه، وأنه يقبل بعد ذلك.
وقصدنا بنقل كلام القاضي عياض ما صرح به أن المرتد والساب سواء في ذلك، وإطلاق أصحابنا يقتضي ذلك أيضًا، فإنهم مثلوا الردة بألفاظ منها السب، ثم تكلموا في استتابة المرتد وجزموا بها، واختلفوا هل هي واجبة أو مستحبة على قولين:
أحدهما - وهو الأصح على ما ذكره القاضيان الطبري والروياني وغايرهما -: أنها واجبة، لأنه كان محترمًا بالإسلام، وربما عرضت له شبهة فيسعى في إزالتها، ورده إلى ما كان.
هكذا عبارة الرافعي في تعليله، وعبارة الشيخ أبي إسحاق في «النكت»: لأنه لا يرتد إلا لشبهة عرضت له، فوجبت استتابته لإزالة شبهته.
ومن حجة هذا القول ـ بل هو أقوى حجته ـ ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قدم عليه رجل من قبل أبي موسى، فسأله عن
الناس فأخبره، ثم قال: هل كان فيكم من مغربة خير؟ فقال: نعم، رجل كفر بالله بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال عمر: هلا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟! اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني.
وقد تقدم ما حكاه ابن القصار المالكي من إجماع الصحابة على تصويب قول عمر، ولم ينكره أحد.
وعن ابن عمر قال: يستتاب المرتد ثلاثًا.
وروى الدارقطني من حديث عائشة قالت: ارتدت امرأة يوم أحد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت. في إسناده محمد بن عبد الملك الأنصاري، قال أحمد: كان يضع الحديث ويكذب.
ومن حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام، فإن رجعت وإلا قتلت. في إسناده معمر بن بكار، قال العقيلي: في حديثه وهم.
وعن جابر قال: ارتدت امرأة عن الإسلام، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرضوا عليها الإسلام فإن أسلمت وإلا قتلت. في سنده عبد الله بن أذينة، جرحه ابن حبان.
والقول/ الثاني ـ وبه قال أبو حنيفة واختاره ابن أبي هريرة ـ أنها مستحبة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"، ولأن الكافر الأصلي الذي ظهر عناده لا تجب استتابته.
والجواب عن الحديث أنه لا يمنع الاستتابة إذا دل عليها دليل، وهو قول الصحابة.
وعن الثاني: ما قاله الشيخ أبو إسحاق وغيره أن الكافر الأصلي الحربي كفره ليس عن شبهة، والمرتد بخلافه.
ولهذا لو طلب المرتد التأجيل لأجل، ولو طلب الحربي لم يؤجل، ومسألة تأجيل المرتد فيها خلاف، قولان:
أحدهما ـ وبه قال أبو حنيفة: يجب تأجيله ثلاثًا إذا طلب لأثر عمر.
والثاني: لا، وهو المنصور في الخلاف، كما لو طلب التأجيل بعد الثلاث.
والمراد بالتأجيل إمهاله ثلاثًا، فإن الخلاف الأول في الاستتابة من أصلها.
وسواء أقلنا هي واجبة أو مستحبة ففي مدتها ـ وهو المراد بالتأجيل ـ قولان: أحدهما: أنه يستتاب ثلاثًا للأثر، وأصحهما ـ وهو اختيار المزني ـ يستتاب في حاله، فإن تاب وإلا قتل ولم يمهل، ومذهب
مالك وأحمد مثل القول الأول، وعن أبي حنيفة مثله، وقد تقدم النقل عنه في كلام القاضي عياض.
ولا خلاف أنه لا يخلى في هذا الإمهال، بل يحبس، وفي أنه لو قتل قبل الاستتابة أو قبل مضي المهلة لم يجب بقتله شيء، لا قصاص ولا دية ولا كفارة، وإن كان القاتل مسيئًا بما فعل على قول الوجوب.
ولو جرحه أجنبي قبل الاستتابة ثم أسلم ومات فلا ضمان، لأنه قطع مباح فلم تضمن سرايته، كقطع السارق، قاله الشافعي والأصحاب.
ولو قال: حلوا شبهتي، فهل نناظره؟ أصحهما عند الغزالي المنع، والمختار عندي أن يناظر ما لم يظهر أنه يقصد التسويف والمماطلة، وإن كان الأصحاب أطلقوا على أحد الوجهين أنه يناظر.
ومن حجة القول بأن الاستتابة لا تجب ما صح عن معاذ بن جبل أنه قدم على أبي موسى فإذا عنده رجل موثق، فقال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديًا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود، فقال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله. قاله ثلاثًا، قال: فأمر به فقتل. رواه ..... .
لكن في "سنن أبي داود" في بعض طرقه أنه كان قد استتيب قبل ذلك، وفي طريق أخرى: فلم ينزل حتى ضرب عنقه وما استتابه، وفي طريق أخرى قال أبو داود: لم تذكر الاستتابة.
وذكر البيهقي حديث عمر في الاستتابة ثلاثًا، ثم قال: وكان الشافعي يقول بهذا في القديم، ثم قال في القول الآخر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم/ أنه قال: "يحل الدم بثلاث: كفر بعد إيمان .. " ولم يأمر فيه بأناةٍ مؤقتة تتبع، ولم يثبت حديث عمر لانقطاعه، ثم حمله على الاستحباب، فإنه لم يجعل على من قتله قبل ثلاث شيئًا.
وهذا الكلام من البيهقي يقتضي أن القول بوجوب الاستتابة ثلاثة أيام قديم، والجديد أنه مستحب، وساكت عن وجوب الاستتابة في الحال الذي اقتضى كلام الرافعي أنه الأصح، ويقتضي أن جواز التأخير إلى ثلاثة أيام مجزوم به، وكلام الرافعي ساكت عن ذلك، بل يشير إلى أنه لا يجوز على الأصح، لأنه قال: يستتاب في الحال، فإن تاب وإلا قُتل ولا يهمل.
وقال ابن المنذر: اختلف قول الشافعي في هذا الباب، فقال في كتاب المرتد: يقتل مكانه، وقال في مكان آخر قولاً ثانيًا: يحبس ثلاثًا، ومال المزني إلى القول الأول.
قال ابن المنذر: وقد اختلفت الأخبار عن عمر في هذا الباب، واستعمال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يجب، وهو قوله:"من بدل دينه فاقتلوه"، وحسن أن يستتاب، فإن تاب مكانه وإلا قتل.
وروى البيهقي عن أبي بكر وعثمان وعلي الاستتابة من غير توقيت. وقال ابن الصباغ: إن الشافعي نصر القول بأنه يستتاب في الحال، فإن تاب وإلا قتل.
والمتلخص في هذه المسألة من مذهب الشافعي أن الاستتابة ثلاثة أيام جائزة قطعًا على ما اقتضاه كلام/ البيهقي، وهل هي واجبة أو مستحبة؟ قولان، الجديد الصحيح: الثاني، ومستند الجواز إما وجوبًا وإما استحبابًا: قضايا الصحابة، فيتعين القطع به، بخلاف ما بعد الثلاث، فلم يرد إلا شاذًا مع ما فيه من تأخير الواجب إلى مدة لا نهاية لها.
وهل يجوز قتله بدون استتابة أصلاً أو لا بد من استتابته في الحال؟ قولان، أصحهما عند جماعة: الثاني، والمختار عندي الأول، لأن الأحاديث التي ذكرناها مما يدل على الوجوب ضعيفة، وأثر عمر مختلف في ثبوته،
وبقية قضايا الصحابة تدل على الجواز لا على الوجوب، نعم لا شك في استحبابها، وإذا كنا نقول في الكافر الأصلي الذي بلغته الدعوة وعلم القتال: يجوز اغتياله، فهذا أولى، لأن شبهته أضعف، وعلمه بتوجه القتل عليه أتم، وكفره أغلظ.
ولهذا إذا تعارض قتال المرتدين وقتال الكفار الأصليين بدأنا بقتال المرتدين، نص عليه الشافعي والأصحاب، ونقل الشيخ أبو حامد الإجماع عليه.
هذا حكم استتابة المرتد غير الساب، والساب قد علمت أن القاضي عياض بن موسى قال: إنه مثله، وكذلك يقتضيه كلام أصحابنا وغيرهم.
ويمكن أن يقال إنه أولى بعدم الاستتابة لما تقدم أن كفره أغلظ وأفحش ولا شبهة فيه، وربما يؤيد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتب ابن خطل ومقيس بن صبابة وابن أبي سرح ومن أهدر دمه معهم ذلك اليوم.
ولا يقال بأنه لا يستتاب إلا من هو في قبضة الإمام وهؤلاء التحقوا بدار الحرب، لأنا نقول: قد نص أصحابنا أن المرتدين إذا اجتمعوا وكانت لهم شوكة يقاتلون، فإذا قدر عليهم استتيبوا، وهؤلاء قدر عليهم بفتح مكة، وقد حضر إليه ابن أبي سرح.
وإنما الجواب الصحيح أحد ثلاثة أجوبة:
إما أن الاستتابة مستحبة ليست بواجبة، وهؤلاء قد طالت مدتهم، وربما ظهر/ من حالهم ما يبعد رجوعهم، وذلك كافٍ في ترك المستحب.
وإما أنهم كانوا محاربين، كما ورد أن مقيس بن صبابة قتل واستاق المال والتحق بدار الحرب، وكذلك ابن خطل، لكن هذا لم يكن في جميعهم.
وإما أن الساب لا يستتاب لفحش كفره، سواء أقلنا إذا بادر بالتوبة صحت توبته أم لا، فإن هذا محتمل.
والذي أراه أنه حيث قبلنا التوبة نستحب الاستتابة، ونتأكد ولا نغتال، لأنه قد يكون تاب فيما بينه وبين الله تعالى فنقتل مسلمًا، وأما متى شهر السيف عليه وهو عالم ولم يتلفظ بالإسلام فإنه يعلم أنه مصر على كفره.
وأعلم أنا حكينا عن بعض التابعين أن المرتد لا يستتاب وأنه لا تقبل توبته، وأنا أخشى أن تكون رواية من منع قبول التوبة غلطًا، وأنه روى:"لا يستتاب" فظن أنه يلزم منها منع قبول التوبة، وقد عرفت أنه ليس بلازم، فالصواب القطع في المرتد الذي ليس بساب ولا زنديق بقبول توبته، ولا يثبت فيه خلاف عن أحد إلا بيقين، إلا الرواية المنقولة عن أحمد في الفرق بين من ولد في الإسلام وغيره، فإن أصحابه العارفين بمذهبه نقلوها عنه.