الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني عشر: معرفة التدليس وحكم المدلس
التدليس قسمان:
أحدهما تدليس الإسناد وهو ان يروى عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه منه او عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه ثم قد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر.
ومن شأنه ألا يقول في ذلك أخبرنا فلان ولا حدثنا وما أشبههما وإنما يقول قال: فلان أو عن فلان ونحو ذلك.
مثال ذلك: ما روينا عن علي بن خشرم قال: كنا عند ابن عيينة فقال1 الزهري2 فقيل له حدثكم الزهري فسكت ثم قال: الزهري فقيل له سمعته من الزهري فقال لا لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري.
القسم الثاني: تدليس الشيوخ وهو ان يروى عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف.
مثاله ما روي لنا عن أبي بكر بن مجاهد الإمام المقرئ أنه روى عن أبي بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني3 فقال حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله وروى عن أبي بكر محمد بن الحسن النقاش المفسر المقرئ فقال حدثنا محمد بن سند فنسبه إلى جد له انتهى.
1 في ش وع: "فقال: قال.." والمثبت من خط و "الكفاية""ص/512" وغيرهما.
2 في حاشية خط: "كذا "الزهري" ابتداؤ كلام ليس يريد الإستفهام".
3 في حاشية خط: "السين والجيم مفتوحتان ومكسورتان".
وقد ترك المصنف قسما ثالثا وهو أشر الأقسام يسمونه تدليس التسوية سماه بذلك ابن القطان وغيره وهو ان يسمع المدلس حديثا من شيخ ثقة والثقة سمعه من شيخ ضعيف وذلك الضعيف يرويه عن ثقة فيسقط المدلس شيخ شيخه الضعيف ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني: بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها فيصير الإسناد كله ثقات ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه لأنه قد سمعه منه فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل1.
مثال ذلك ما ذكره أبو محمد بن أبي حاتم في كتاب العلل قال: سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه عن بقية قال: حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر مرفوعا لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه فقال أبي إن هذا الحديث له أمر قل من يفهمه روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي فكناه بقية ونسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن له حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى له وكان بقية من أفعل الناس لهذا".
وممن كان يصنع هذا النوع من التدليس الوليد بن مسلم وحكي أيضا عن الأعمش وسفيان الثوري.
فأما الوليد بن مسلم فحكى الدارقطني عنه أنه كان يفعله وروى عن أبي مسهر قال: كان الوليد بن مسلم2 يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين ثم يدلسها عنهم.
1 في تأريخ الدارمي عن ابن معين؛ قال الدارمي "952": "وسمعت يحي وسئل عن الرجل يلقي الرجل الضعيف من بين ثقتين يوصل الحديث ثقة عن ثقة ويقول:
"أنقص من الحديث وأصل ثقة عن ثقة يحسن الحديث بذلك؟ فقال: لا يفعل؛ لعل الحديث عن كذاب ليس بشئ، فإذا هو قد حسنه وثبته ولكن يحدث به كما روي.
قال عثمان: "وكان الأعمش ربما فعل ذلك" أهـ.
2 ما بين الأقواس تكرر في خط.
وروى عن صالح جزرة قال: سمعت الهيثم بن خارجة يقول قلت للوليد بن مسلم قد أفسدت حديث الأوزاعي قال: كيف قلت تروي عن الأوزاعي عن نافع وعن الأوزاعي عن الزهري وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبد الله بن عامر الأسلمي وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة.
قال: أنبل الأوزاعي أن يروى عن مثل هؤلاء.
قلت فإذا روى عن هؤلاء وهم ضعفاء أحاديث مناكير فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي فلم يلتفت إلى قولي.
وأما الأعمش والثوري فقال الخطيب في الكفاية كانا هما وبقية يفعلون ذلك.
قال شيخنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتابه جامع التحصيل وبالجملة فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقا وأشرها انتهى.
ومما يلزم عليه من الغرور الشديد أن الثقة الأول قد لا يكون معروفا بالتدليس ويكون المدلس قد صرح بسماعه عن هذا الشيخ الثقة وهو كذلك فتزول تهمة تدليسه فيقف الواقف على هذا السند فلا يرى فيه موضع علة لأن المدلس صرح باتصاله والثقة الأول ليس مدلسا وقد رواه عن ثقة آخر فيحكم له بالصحة وفيه ما فيه من الآفة المتقدمة وهذا قادح فيمن تعمده.
قوله في حد القسم الأول: "هو أن يروى عمن لقيه ما لم يسمعه منه إلى آخره" هذا الحد هو المشهور عندهم وقد حده الحافظ أبو بكر البزار وغيره بما هو أخص من هذا وهو أن يروى عمن قد سمع منه ما لم يسمعه منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه وكذا حده الحافظ أبو الحسن بن القطان قال: والفرق بينه وبين الإرسال أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه انتهى.
ويقابل هذا القول في تضييق حد التدليس قول آخر حكاه ابن عبد البر في التمهيد1 ان التدليس أن يحدث الرجل بما لم يسمعه منه بلفظ لا يقتضي
1 راجع: "التمهيد""1/15، 27".
تصريحا بالسماع وإلا كان كذبا.
قال وعلى هذا فما سلم أحد من التدليس لا مالك ولا غيره.
لكنه قال: وأئمة الحديث يقبلون تدليس ابن عيينة لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظرائهما.
وهذا ما رحجه ابن حبان وقال وهذا الشيء ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة مثل ثقته.
ثم مثل ذلك بمراسيل كبار الصحابة1 فإنهم لا يرسلون إلا عن صحابي.
قال الحافظ أبو بكر البزار من كان يدلس عن الثقات كان تدليسه مقبولا عند أهل العلم وإن كان مدلسا.
قال أما القسم الأول فمكروه جداذمه أكثر العلماء وكان شعبة لمن2 أشدهم ذما له فروينا عن الشافعي أنه3 قال: التدليس أخو الكذب وروينا عنه أنه قال: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير.
ثم اختلفوا في قبول رواية من عرف بهذا التدليس4 فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحا بذلك وقالوا لا تقبل روايته بحال بين السماع او لم يبين.
والصحيح التفصيل وأن ما رواه المدلس بلفظ مبين5 للاتصال نحو
1 في خط: "أصحابه" والصواب ما أثبته وراجع: "صحيح ابن حبان""1/161 - 162 - ط: الرسالة".
2 في ش وع: "من".
3 يعني: شعبة رحمه الله.
4 في حاشية خط: "ذكرالبيهقي: أن من عرف "بالتدليس" لم يقبل منه حتي يبين السماع ثم وجدته نصا للشافعي". وما بين الأقواس واضح في حاشية خط. وراجع: الرسالة للشافعي "ص/369 - 382" والمعرفة "1/132 - 133"، والدلائل "1/29 - 30" كلاهما للبيهقي رحمه الله.
5 في ش وع: "بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والإتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه وما رواه بلفظ مبين..".
سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها فهو مقبول محتج به.
وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جدا كقتادة والأعمش والسفيانين وهشيم بن بشير وغيرهم.
وهذا لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإبهام بلفظ محتمل.
والحكم بأنه لا يقبل من المدلس حتى يبين قد أجازه1 الشافعي فيمن عرفناه دلس مرة.
وأما القسم الثاني: فأمره أخف وفيه تضييع للمروي عنه وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله وأهليته.
ويختلف الحال في كراهة ذلك بحسب الغرض الحامل عليه.
فقد يحمله على ذلك كون شيخه الذي غير سمته غير ثقة او كونه متأخر الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعة دونه او كونه أصغر سنا من الراوي عنه او كونه كثير الرواية عنه فلا يحب الإكثار من ذكر شخص واحد على صورة واحدة.
وتسمح بذلك جماعة من الرواة المصنفين منهم الخطيب أبو بكر فقد كان لهجا به في تصانيفه. انتهى.
في كلامه أمور منها:
أنه أجرى الخلاف في الثقة المدلس وهو كذلك كما حكاه الخطيب في الكفاية وادعى أبو الحسن بن القطان أنه لا خلاف فيه قال: في كتابه الوهم والإيهام إن يحيى بن أبي كثير كان يدلس وأنه ينبغي أن يجري في معنعنه الخلاف أما إذا صرح بالسماع فإنه يقبل بلا خلاف لأنه ثقة حافظ صدوق.
الثاني: أنه ذكر أن ما لم يبين فيه المدلس الاتصال حكمه حكم المرسل فاقتضى كلامه ان من يقبل المرسل يقبل معنعن المدلس وليس ذلك قول جميع من يحتج بالمرسل بل بعض من يحتج بالمرسل يرد معنعن المدلس لما فيه من
1 في ش وع: "أجراه".
التهمة كما حكاه الخطيب في الكفاية فقال إن جمهور من يحتج بالمرسل لا يقبل خبر المدلس.
بل زاد النووي على هذا فحكى في شرح المهذب الاتفاق على أن المدلس لا يحتج بخبره إذا عنعن وكأنه تبع البيهقي في المدخل وابن عبد البر في التمهيد فحكى البيهقي عن الشافعي وسائر أهل العلم أنهم لا يقبلون عنعنة المدلس وحكى ابن عبد البر في مقدمة التمهيد ان المعنعن يقبل بثلاثة شروط إلا أن يكون معروفا بالتدليس فلا يقبل حديثه حتى يقول حدثنا او: "سمعت".
وهذا ما لا أعلم فيه أيضا خلافا وما ذكر من الاتفاق محمول على اتفاق من لا يحتج بالمرسل وإلا فالخلاف مشهور1 وممن حكاه الحاكم في المدخل فإنه قسم الصحيح إلى عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها فذكر من المختلف فيه المراسيل واحاديث المدلس إذا لم يذكر سماعه وحكى الخطيب عن كثير من أهل العلم أن خبر المدلس مقبول لأن نهاية أمره أن يكون مرسلا.
وفي السؤال من أصله نظر فإن قوله ما لم يبين فيه المدلس الاتصال حكمه حكم المرسل يلزم منه ان كل من يقبل المرسل يقبل معنعن المدلس وهذا الإلزام ليس بلازم لما تقرر في موضعه.
الثالث: أنه لم يبين قال: القسم الثاني2 بل قال: هو أخف وقد ذكر
1 ينبغي أن يقيد ذلك "بالخلاف بين المحدثين والفقهاء" وإلا فلا خلاف بين أهل الحديث في رد المرسل وفي كلام ابن رجب رحمه الله في "شرح العلل" ما يشير
إلي ذلك وقد حكي ابن عبد البر وغيره: إجماع المحدثين علي رده وترك العمل به فينبغي التقييد.
واعلم أن أغلب ما يجري من خلاف في قضايا الاصطلاح هو من هذا النوع - أعني: خلاف الفقهاء مع المحدثين وكذلك المتكلمين وإلا فالباحث الفطن يري أن لا
خلاف بين المحدثين في أغلب قضايا الاصطلاح فتنبه. والله الموفق.
2 هكذا في خط وفي ع: "الأمرالثالث: أن المصنف بين الحكم فيمن عرف بالقسم الأول من التدليس ولم يبين الحكم في القسم الثاني وإنما قال: أمره أخف". وكأن
الناسخ ترك سطرا - سهوا.
حكمه أبو نصر بن الصباغ في العدة أن من فعل ذلك لكون من روى عنه غير ثقة فإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره يجب ألا يقبل خبره وإن كان هو يعتقد فيه الثقة فقد غلط في ذلك لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول لا يجب قبول خبره حتى يعرف من روى عنه.