الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض الكلام؛ يشمّ ولا يفرك
!
"إنّ عدم التكلف، يجمع ويؤلف". (مقالةٌ اشتُهرت)
إذا اعتبرنا أن الأمثال ليست على إطلاقها فالمقولة صحيحة، أمّا على الإطلاق .. كلاّ!
فلقد علمتنا التجربة أن اطّراح الكُلفة بين الأب وأبنائه جعلتهم من أزهد الناس فيه - لو كان عالما، "فالعالم من بعيد تجده محتشماً - يعني - في الغالب عليه السمت، أمّا الأبُ فتراه على هيئات فيها شيء من ترك الحشمة، وذلك لوجوده بينهم في كل وقت وفي كل حين، فهم يشاهدون تصرفاته وتصرفاته تصرفات بشرية لا شك أنه يعتريها ما يعتريها من النقص"(العلامة عبد الكريم الخضير). ولئنْ كانت الجملة المشتهرة يراد بها التكلف في الكرم، فإن التكلف في سائر الشؤون يدخل فيه دخولا أولياً، ومتى كانت الكلفة في المحاورة مطّرحة بين الصديقين فذلك مظنة الوقوع في الزلل والخطأ.
والواجب تجاه تلك الزلات أن تشمها ولا تفركها، تماما كما يفعل معاوية رضي الله عنه.
قرأتُ في كتب أحد المعاصرين (1)، أنّ سفيهاً
(1) وهو الكاتب المصري عبد الوهاب مطاوع، في مقاله الممتع (قل لي من فضلك).
تراهن مع صديقٍ له على أن يستثير غضب الداهية الأمير؛ معاوية بن أبي سفيان، وهو المعروف بحلمه وعبقريته، لكن السفيه قد أعد لذلك من الطيش وسوء الأدب ما يفوق حدود الحلم، فقد اتّجه إلى الأمير بعد أن فرغ من الصلاة ووضع يده على لحمه وسط ذهول الجميع ثمّ قال له بكل وقاحة:"مرحى يا معاوية لقد ضاهيت أمّك هنداً في لحمها وشحمها! "
وحبس الحاضرون أنفاسهم انتظاراً لما سيفعل به الخليفة! لكنه فاجأهم بقوله وبصوتٍ هادئ: "رحمها الله رحمة واسعة .. لم تكن كذلك في أخريات أيامها! "
ثمّ انصرف، وباخ السفيه.
إنك في حال ما استوقفت الآخرين عند كل صغيرة وكبيرة، تضطرُّهم ليعاملوك بنفس تلك الطريقة، ولات حين مناص من الإدانة. وإذا ما أصبح التلاوم والعتاب صدر كل صالة، وفوق كل موقف، وجرس كل مجلس، تتصرمُ حبال الود، وتنسلّ لآلئ الحب من العقد، وليس يعود إلا الوبال حينها والندامة!
أنا لا أقترح عليك في هذا السياق انتظارَ مثل ذلك السفيه - الذي قاده سوء الطالع للعبث مع الخليفة - حتى تُجيبه بهذا الأسلوب الذكي، فأحيانا ما تصدر مثل
هذه الحماقات عن الأصدقاء! - هل قال لك أحد إنّ الصديق لا يكون أحمق أحياناً؟ خذ على ذلك مثالاً:
كان مصطفى النحاس أحد كبراء رجال السياسة في مصر، وهو الذي ساهم في تأسيس جامعة الدول العربية، وخلال أيام تزعمه لحزب الوفد أجرى عدة جولات على بعض القرى المصرية، وكان من عادته أن يلقي في كل مناسبة خطبةً يكتبها صديق له شاعرٌ وصحفيٌ معروفٌ بخفة دَمِه وحلمه، إلا أنه فوجئ بالجماهير في إحدى الجولات يطلبون منه أن يلقي عليهم خطبة - لم تكن مرسومة في الخطّة ولا مُعَدّاً لها - وبتلقائية كانت معروفةً في النحّاس قال وهو على شرفة القصر:"لا مانع من ذلك"، ثم همس لمن حوله في شرفة القصر:"قولوا للحمار الذي يكتب لنا الخطب أن يكتب خطبة جديدة وبسرعة! ".
ففوجئ بالشاعر الصحفي بين الواقفين حوله وقد سمع مقالته يجيبه: "الحمار جاهز يا دولة الباشا!! ".
هل تعلم ماذا حصل؟
لقد أُغرق الجميع في الضحك وكان دولة الباشا والشاعر الصحفيّ أعلاهم ضحكاً، وانتهى ذلك الموقف بأن اعتذر إليه - أمام الجميع - وقبّل رأسه.
إن التعامل مع هفوات الأصدقاء - خصوصا تلك التي يكون فيها إخلال بجوانب الأدب العام - بمثل هذه العبارات (جزاك الله خيرا)، (سامحك الله)، (هذا من حسن تعاملك)، (مقبولة منك)، يساعد على حفظ حق النفس وجانب الصداقة في آن واحد، فهي تحمل في طيّاتها رسائل معبّرةً تختصر كل عتاب.
"الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ أَنْتَ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُك"
(الْكِنْدِيُّ)