الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنصف المعاتَب؛ وتخيّر له الوقت والأسلوب المناسب
.
لا أدري لم يحتفظ كثير من الناس بمشاعره تجاه من يحب في نفسه، وقد نبهنا الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم كتمان شيء من ذلك الشعور، فقال:"إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره". (أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح).
هل اغتروا بمن قال:
لا تظهرنّ مودة لحبيب
…
فترى بعينك منه كل عجيب
أظهرت يوماً للحبيب مودتي
…
فأخذت من هجرانه بنصيبي
مع أن ذلك محمول على الحب الذي تختلجه الشُبَه، كحُبّ كُثير عزّة، ومجنون ليلى، وقيس لُبنى (1)، ومن شاكلهم ونحا نحوهم، وهو بعيد كل البعد عما نحن بصدد حراسته والذود عنه، الحبُّ النّامي في مندوحَةِ الشّرف، المُحتَمَلُ مآلهُ إلى الغُرف، إذْ لا يفيده الكتمان، ولا يصونه الامتنان. (2)
(1) شعراء التصقت أسماءهم بعشيقاتهم لما أفرطوا في التعريض بحبهن في قصائدهم، ومنهم أيضاً: عروة بن حزام وصاحبته عفراء، والصمّة القشيري وصاحبته ريّا، وذو الرمة وصاحبته ميّة، وجميل بن معمر وصاحبته بثينة، كلهم من شعراء العصر الأموي، عدا عروة بن حزام - توفي سنة 30هـ.
(2)
والشيء بالشيء يذكر، فإن معالجة العتاب في هذا النوع من الحب أمنية سحيقة، كيف لا وقد صار العتاب فيهم علامةً لصيقة!؟
علامة ما بين المحبين في الهوى
…
عتابهم في كلّ حقّ وباطلِ
وأثبت أحدهم هذا المعنى فقال:
تواقف عاشقان على ارتقاب
…
أرادا الوصل من بعد اجتنابِ
فلا هذا يملّ عتاب هذا
…
ولا هذا يملّ من الجواب!
إنّ إظهار مشاعر الحب للآخرين مما يساعد في حل الأزمات الاجتماعية على كافّة الأصعدة، فياليت شعري كيف اغتالت الأعرابيّة الجلفة هذه الحاجة الفطرية للتعايش والتكامل حتى أصبحَ القائلُ:(إني أُحبّك)، مجرما في حق الرجولة، منتهكاً لحرمة التقاليد والأعراف، وكأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقلها يوماً لمعاذ وغيره!
ولو أنّ المتمثل بالمقولة الشائعة: "لا يعاتبك إلاّ من يحبك" أنصف حبيبه بإظهار مشاعره تجاهه، إذاً لما رأينا من العتاب ما يستحق الذم، وهذا الأسلوب هو الأسلوب الشرعي الذي له أصل من السنة المطهرة كما جاء في الحديث.
وأمّا الوقت المناسب فبابه واسع، غير أنّه لا بد من تجنّب المعاتبة حال مواقعة الذنب، أو مسايرة الصحب، ووقت المساء أنسب من وقت الصباح، وساعة العشاء
أنسب من ساعة العصر، وربما تفاوتت الأوقات بحسب الظروف والأشخاص.
كما يحسن - بل يوشك أن يجب - على المعاتِب أن لا يلجأ إلى عتاب الصديق إذا ما كان في ضيق من الوقت أو خطبٍ ملمٍ، فإن ذلك طوفانٌ هادم وسيلٌ جرّارٌ يقتلع شجرة الودّ من أصولها، وربما أفسد كل أرض خصبة تصلح لإعادة النماء، قال الأوّل:
خليليّ لو كان الزمان مسالمي
…
وعاتبتماني لم يضق عنكما صدري
فأمّا إذا كان الزمان محاربي
…
فلا تجمعا أن تؤذياني مع الدهر
وباعتبار أحسن الأحوال فإنه سيجيبك كما قال هذا:
أتاني عتاب لم أسغهُ وإن حلا
…
وَكل لَذيذ لا مساغَ لَهُ مُر
وفي الأسلوب تفصيل؛ فعتاب الكتاب أقرب للقبول، والإشارة بالفعل أنسب من القول، والهدية تجعل طريقك للعتْب مريح، والتلميح أنجع من التصريح، قال ابن مشرف السني في نغمة الأغاني:
حافظ على الصديقِ
…
في الوسع والمضيقِ
وإن تردْ عتابهمْ
…
فلا تُسئْ خطابهمْ
عاتبْ أخاك الجاني
…
بالبرِّ والإحسان
وأحسن العتابِ
…
ما كان في كتابِ
والعتْبُ بالمُشافَهة
…
ضرْبٌ منَ المُسافهة
ومتى جعلتَ الآخرين يتوّصلون إلى فكرتك، فمن ثم يتبين للمخطئ خطأه بالتلميح، فإن ذلك أبلغ في قبول العتاب، وأدعى إلى ترك الخطأ بالاجتناب، وكذلك فإنه مؤذن بتعجيل الاعتذار وطلب العفو.
يُذكر أن رجلاً في الهند كان يعادي إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب عداءاً شديداً، ويحارب كتبه ومؤلفاته ويحذر منها، فاحتال أحد الفضلاء حيلة، غيّر بها اسم الشيخ من: محمد بن عبد الوهاب، إلى: محمد بن سليمان التميمي! وأهدى جملة كتب الشيخ لهذا العالم الهندي فلمّا قرأها أعجب بها، ووجدت في قلبه قبولاً وأثراً حسناً؛ فأعلمه هذه الحكيم أن هذه الكتب من مؤلفات محمد بن عبد الوهاب، فما كان من هذا العالم الهندي إلا أن جثا على ركبتيه من البكاء والحسرة والألم على ما كان منه من عداء للإمام، فصار من أكثر الناس دعوة وتوزيعا ونشرا لكتبه في محيطه.
وقد وقعت بين يديّ حكاية تصلح لبعض ما ذكرناه من الأساليب المفيدة من الإشارة وتقديم الهديّة والكتابة، وهي ما حكاه ابن كثير وغيره من المؤرخيّن:
أنّ ابن الزبير كان له مزرعةٌ في المدينة، ولمعاوية مزرعة بجانب مزرعته، فدخل عمّال معاوية على مزرعة ابن الزبير، فغضب وكتب رسالة إلى معاوية يقول فيها:(يا ابن آكلة الأكباد! إمّا أنْ تمنع عمّالك من دخول مزرعتي أو ليكوننّ لي ولك شأن).
فقرأ معاوية الرسالة، وإذا هي حارّة من رجل من الرعيّة وهو الملك. فقال لابنه يزيد: ماذا ترى؟
قال يزيد: أرى أنْ ترسل له جيشاً أوّله في المدينة وآخره عندك، حتى يأتوا لك برأسه.
قال: بل أقرب من ذلك صلةً، وأقرب رحماً، فكتب:
(بسم الله الرحمن الرحيم .. من معاوية بن أبي سفيان إلى ابن حواريّ الرسول صلى الله عليه وسلم وابن ذات النطاقين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لو كانت الدنيا بيني وبينك لهانت عليّ، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ عمّالي إلى عمّالك، ومزرعتي إلى مزرعتك).
فلما قرأها ابن الزبير، بكى حتى بلّها بالدموع، وسار من ساعته إلى دمشق فقبّل رأس معاوية، وقال: لا
أعدمك الله عقلاً أحلّك من قريش هذا المحلّ. فرحم الله معاوية ما كان أحكَمه وأحلَمه.
ومما يحسن الإشارة إليه هاهنا، ونحن في سياق الحديث عن الأسلوب الأنسب للعتاب؛ التحذير من الإلحاح ومجاوزة الحد وإلقاء التهمة، فإنّ ذلك يضّر بالصديق ولا يجدي له شيئا، وفي الأوّل يقول ابن زُرَيق البغدادي في قصيدته اليتيمة:
جاوزتِ في لوْمِهِ حدّاً أضرّ به
…
من حيث قدّرت أنّ اللّومَ ينفعهُ
ومنه قول المتنبي في مرثيّته:
ويزيدني غضب الأعادي قسوة
…
ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع
أمّا توجيه التهمة إذا صاحبه عنف في الخطاب، ونبرةٌ حادّة في الصوت، فهو عين العتَب المذموم، ولربّما اضطره ذلك إلى تبرِئتِ نفسه فيقابل الحجر بالحجر، لتشتعل شرارة اللوم مضرمةً النار في وقود الكبرياء، فتتصعّد القضية وتوغر في صدره، ويتعسر حينها إطفاء الحريق.
"ما كان الرّفْقُ في شيءٍ إلاّ زانه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلاّ شانَه"
(حدِيثٌ شَريف)