الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قولَه تعالى: [النّحل: 68]{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *} .
ثالثًا: الكيُّ
، وهو: التداوي بقطع عرقٍ، ثم حسم نزيفه بلذعةٍ من نار. (والكيّ بالنار من العلاج المعروف في كثير من الأمراض)(73) ، وهو إنما يستعمل في الخلط الباغي، الذي لا تنحسم مادته إلا به، فهو يقع آخرًا لاستخراج ما يتعسر إخراجُه من الفضلات، وهو خاص بالمرض المزمن؛ لأنه يكون عن مادة باردة قد تُفسِد مزاج العضو، فإذا كُوي خرجت منه (74) .
(73)"النهاية" لابن الأثير (4/212) ، [كوي] .
(74)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/145) . و"الطب النبوي" لابن القيم ص51.
وقد كوى النبيُّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ وأبيَّ بن كعب رضي الله عنهما، يوم الأحزاب، كما اكتوى غيرُ واحد من الصحابة رضي الله عنهم. «فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه طبيبًا - لما رُمِي يوم الأحزاب في أَكْحَله - فقطع منه عِرْقًا، ثم كواه عليه» (75) ، وقد «حَسَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ في أكحله - لما رمي يوم الأحزاب أيضًا - بمِشْقَصٍ (76) بيده، ثم وَرِمت أَكْحَلُه، فحسمه الثانية» (77) . وقال أنسُ ابنُ مالكٍ رضي الله عنه: (كُوِيت من ذات الجَنْب (78) ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ، وشَهِدني أبو طلحةَ، وأنسُ بنُ النَّضْر، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو طلحةَ كواني) (79) .
(75) أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء، برقم (2207) .
(76)
المِشْقَص: نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض. "النهاية" لابن الأثير (2/490) ، [شقص] .
(77)
سبق تخريجه آنفًا بالهامش ذي الرقم (75) .
(78)
ذات الجَنْب: مرض خطير، وهو عبارة عن دُبَيْلة ودُمَّلٍ كبيرة تظهر في باطن الجنب، وتنفجر إلى داخل، وقلَّما يَسْلَمُ صاحبُها] . "النهاية" لابن الأثير (1/304)[جنب] .
(79)
أثر أنسٍ رضي الله عنه أخرجه البخاري؛ كتاب: الطب، باب: ذات الجنب، برقم (5719) وبرقم (5721) .
مسألة: قد كوى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضًا من الصحابة، واكتوى بعضُهم في حياته - كما ذُكر آنفًا -، وقد صحَّ في الحديث قولُه صلى الله عليه وسلم:«وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» (80)، وقوله عليه الصلاة والسلام:«وَأَنْهى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» (81) ، فكيف يُجمَع بين ظاهر هذه الأدلة؟
وصفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكيَّ ثم نهى عنه لأمور، منها (82) :
* إرشاد الأمة إلى تجنب الكيِّ ما أمكن، لما فيه من الألم الشديد، والخطر العظيم على حياة المتداوي به.
* تنبيه الأمة إلى ضرورة ترك تعظيم
(80) جزء من حديث متفق عليه من حديث جابرٍ رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: الطب، باب: الدواء بالعسل، برقم (5683)، ومسلم؛ كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء، برقم (2205) .
(81)
جزء من حديث أخرجه البخاري؛ كتاب: الطب، باب: الشفاء في ثلاث، برقم (5680) ، عن جابرٍ رضي الله عنه.
(82)
انظر في أَوْجُه الجمع: "الفتحَ" لابن حجر (10/145) ، و"النهايةَ" لابن الأثير (4/212) .
أمر التداوي بالكيِّ؛ ولزوم التوكل على الله تعالى، فقد كانوا في الجاهلية يَرَوْن أن الكي يحسِم الداء، وإذا لم يُكو العضوُ عَطِب وبَطَل جزمًا، فنهاهم صلى الله عليه وسلم إذا كان على هذا الوجه من الاعتقاد، وأباحه لهم إذا جعلوه سببًا للشفاء - وحسب - لا عِلَّةً له، فإن الله هو الذي يبرئه ويشفيه، لا الكيُّ والدواء.
* ويحتمل أن يكون النهي عن الكيِّ إذا استُعمل على سبيل الاحتراز والتحوُّط من حدوث المرض وقبل الاحتياج إليه، وذلك مكروه، وإنما أبيح للتداوي والعلاج عند الحاجة إليه.
هذا، وقد جاء في الحديث ما يشير إلى جميع ما سبق؛ وذلك في تقييد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فائدة الكيِّ، بما إذا وافق الكيُّ علاجَ داءٍ بعينه، ولم يكن ثمة معالجة لهذا الداء إلا الكيّ، فقال صلى الله عليه وسلم:«أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوافِقُ الدَّاءَ» (83) .
كلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله (84) في تعليل جَعْلِه صلى الله عليه وسلم الشفاءَ في ثلاث، وأن القصد التمثيلُ في ذلك لا حصر الشفاء في هذه الأدوية:
إن أصل الأمراض المِزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط، التي هي: الحرارة والبرودة، فجاء كلام النبوَّةِ في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارّة
(83) أخرجه البخاري؛ كتاب: الطب، باب: الدواء بالعسل، برقم (5683) ، عن جابر رضي الله عنه، ومسلم - دون قوله:«تُوافِقُ الدَّاءَ» ، كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء، برقم (2205) .
(84)
انظر: "الطب النبوي" ص 51. وقد نقلت منه بتصرُّفٍ يسير.
والباردة على طريق التمثيل؛ فإن كان المرض حارًا عالجناه بإخراج الدم، بالفصد كان أو بالحجامة، لأن في ذلك استفراغًا للمادة، وتبريدًا للمزاج، وإن كان باردًا عالجناه بالتسخين، وذلك موجود بالعسل، وأما الكيُّ فإن كان المرض مزمنًا وقد استقرت المادة الباردة الغليظة في العضو وأفسدت مِزاجه، فيُستخرَج بالكيِّ تلك المادة من ذلك المكان؛ وذلك بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة الباردة.