المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإشكال السادس: أن الأمة مجمعة على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٥

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌الإشكال السادس: أنَّ الأمة مجمعةٌ على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم

- ‌ حديث أبي بكر الصديق

- ‌ حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ

- ‌ حديث عبد الله بن مسعودٍ

- ‌ حديث علي بن أبي طالب

- ‌ حديث عديِّ بن حاتم

- ‌ حديث أنس بن مالك

- ‌ حديث بريدة بن الحصيب

- ‌ حديث أبي رزين العُقيلي

- ‌ حديث جابر بن عبد الله:

- ‌ حديث أبي أمامة

- ‌ حديث عمار بن ياسر

- ‌ حديث عائشة

- ‌ حديث عبد الله بن عمر

- ‌ حديث عمارة بن رُويبة

- ‌ حديث سلمان الفارسي

- ‌ حديث حذيفة بن اليمان

- ‌ حديث ابن عباس

- ‌ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

- ‌ حديث أُبيِّ بن كعبٍ:

- ‌ حديث كعب بن عجْرَةَ

- ‌ حديث فضالة بن عبيد

- ‌ حديث عبادة بن الصامت:

- ‌الوهم السادس والعشرون: وهم أنهم كفار تصريحٍ

- ‌الوهم السابع والعشرون: وهم أنهم أنكروا القدر الضروري في شكر المنعم

- ‌قول المعتزلة: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ عظيمةٌ على كتاب الله تعالى

- ‌حاصل مذهب أهل السنة على التقريب

- ‌ تصريح أئمة الأشعرية بأن إرادة الله تعالى لأفعال العباد حيث يطلق مجازٌ

الفصل: ‌الإشكال السادس: أن الأمة مجمعة على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم

فإن قلت: إن الرِّواية عنه صحيحة دون الأئمة، وإنك مختصٌّ بالإصابة دون الأمة، فهاتِ الأدلة الصَّحيحة على ذلك، وإلا فأنت هالكٌ متهالكٌ في سُلوك هذه (1) المسالك.

‌الإشكال السادس: أنَّ الأمة مجمعةٌ على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم

مما (2) يحتمل مثل (3) استخراج المعترض لذلك الاحتمال الشنيع، والاستنباط البديع.

ومن أوضح ذلك مع كثرته (4): إطلاق الرحمن الرحيم على الله تعالى، وأنه واسع الرحمة، وخير الراحمين، وأرحم الراحمين على سبيل المدح له، والثناء عليه بذلك كما يُمدح بجميع ذلك في كتابه المبين، وكلامه (5) الحق اليقين، وكما (6) أن ذلك يحتمل في اللغة أن يُفسَّر بمثل رحمة المخلوق المؤلمة لقلبه، المُبكية لعينه، المُنَغِّصة لعيشه عند عجزه اللازمة لكثيرٍ من الآفات لنقصه، ولم يحتمل (7). من أطلقها (8) على الله على شيء من ذلك، لأن الله سبحانه يختصُّ من كل صفةٍ بمحاسنها دون مساوئها، كما أنه لما اتصف بالعلم (9)، لم يجُزْ عليه ما يجوزُ على المخلوق العالم من اكتساب العلم، وحدوثه، وتغيُّره، والشك فيه، والنِّسيان له، والتألم ببعضه، وسائر النقائص.

(1) في (ش): تلك.

(2)

في (ش): ما.

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (ش): كثرة.

(5)

في (ش): وكلام.

(6)

في (ب): فكما.

(7)

في (ب) و (ج) و (د): يحمل.

(8)

في (ش): إطلاقها.

(9)

في (ب) و (ش): بالعليم.

ص: 12

وكذلك كلُّ من صح عنه من المسلمين ماله وجهان، ومَحمِلان: حَسَنٌ وقبيحٌ، فإنه يُحمل على الوجه الحسن، والمَحمِل الجميل، ولا يحِلُّ لأحد التشكيك في إسلامه، والقدح فيه بسبب ذلك الاحتمال، وإنما يبالغ في إنكار ذلك ويستخرج منه الكفر، ولا يُجيز منه شيئاً، من ينفي جميع أسماء الله الحسنى من الباطنية، ويعتذرون لإلحادهم بتنزيه الله تعالى من إطلاق الألفاظ عليه، وتناول العبارات له.

فكما أن المعتزلة ترُدُّ عليهم ذلك (1) بالرُّدود المعروفة في ذلك، فكذلك أهل السنة يرُدُّون على المعتزلة مشاركتهم لهم في بعض ذلك بتلك الردود بعينها.

ألا ترى أن الباطنية يردون حقائق جميع أسماء الله -كالعليم القدير- إلى المجاز، وكذلك المعتزلة (2) تردُّ حقائق بعض أسمائه -كالرحمن الرحيم- إلى المجاز.

وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الوهم الخامس عشر السابق قبل هذا كيفية الرَّد عليهم، وبيانُ تناقضهم في ذلك، وقد يُطلِقُ بعض علماء العِترة وأئمتهم، وأئمة الاعتزال نحو ذلك.

وكذلك رُوِيَ عن الشافعي، فلا يُستخرج لهم منه جرحٌ، ولا يصحُّ به فيهم قدحٌ.

مِنْ ذلك قول الإمام أحمد بن عيسى بن زيدٍ عليه السلام في كتابه " علوم آل محمد " في باب فضل الحج وثوابه بعد رواية حديث النزول ما لفظه: وقال (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أعظمُ من أن يزول عن مكانه، ولكن هبوطه نظره إلى السماء (4) " انتهى بحروفه.

(1) ساقطة من (ش).

(2)

في (ش): جميع المعتزلة.

(3)

في (ش): وقول.

(4)

لم أقف على هذا الحديث في شىء من كتب السنة، وغالب ظني أنه موضوع. وفي =

ص: 13

وقال في " الجامع الكافي ": إن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، وقال ذلك من أئمة العترة: زيد بن علي، وجعفر الصادق، وعبد الله بن موسى، والحسن بن يحيى وغيرهم ممن حكاه عنهم محمد بن منصورٍ، وأبو عبد الله الحسني العلوي مصنِّف " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، كما مرَّ تحقيقه، فلم يحتمل استخراج الكفر لأحدٍ منهم.

وقال الزمخشري في بعض " مقاماته "(1): واستحي من الله، وقلبك قلبُه، ولبُّك لُبُّه (2)، وكُلَّك (3) فهو فاطِره وربُّه.

ولو تتبعنا أمثال ذلك، لطال، وما زال الحمل على السلامة عند الاحتمال شعار العارفين والصالحين والمتَّقين.

الإشكال السابع: أنَّ كثيراً من (4) أهل البيت عليهم السلام ممن أنت له مُعَظِّمٌ، وله في التفضيل مُقدِّم، لا يغلو غُلُوَّك في هذه المسألة وقد بين ذلك محمَّد بن منصور، وصنف فيه كتاب " الألفة والجملة "(5).

وقد قدمنا ما نقل عنهم في الوهم الخامس عشر السابق قبل هذا في مسألة القرآن، فخذه من هنالك، فإنه ذكر عنهم ترحُمَّهم على من خالفهم في الاعتقادات المختلف فيها، حتى نقل عن الإمام القاسم بن إبراهيم أنه رَثَى (6)

= " موضوعات ابن الجوزي " 1/ 123 مرفوعاً بلفظ: " إن نزول الله إلى الشيء إقباله عليه من غير نزول ". قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع لا أصل له

وقال الإمام الذهبي في " الميزان " 2/ 623: إسناد مظلم، ومتنه مختلق.

(1)

في مقامة الولاية ص 113.

(2)

" ولبك لبه " غير موجودة في المطبوع من المقامة.

(3)

في (ب) و (ج): وكلمك.

(4)

سقطت من (أ).

(5)

في (ب) و (ج): الجملة والألفة.

(6)

في (ش): رثاه.

ص: 14

أخاه محمد بن إبراهيم بالترثية المعروفة، وترحَّم عليه، وحُكيَ عنه -مع ذلك- أنه كان يذهب إلى شيءٍ من التشبيه، قال محمد بن منصور: يقال: إن قوله: إن القرآن غير مخلوقٍ. وقد أطال محمد بن منصور في ذلك وأجاد، ولا حاجة إلى إعادته، فراجِعْهُ في موضعه، ونزيد ها هنا ما (1) يختص بالرُّؤية.

وحاصل الكلام: أن القدماء من العِترة عليهم السلام لم يُنقَل عنهم مذهبُ المعتزلة، أن الرؤية من المُحالات التي لا تدخل في مقدور الله تعالى، بل مقتضى عبارتهم: أن الله لا يُرى لعظمته، وعزته، وكبريائه، كما قال أهل السنة: إنه لا يُدرك بالأبصار إدراك الإحاطة لأجل ذلك، كما لا يُحاط به علماً لمثل ذلك.

وأنا أًورِدُ ألفاظهم في ذلك من كتاب الزيدية " الجامع الكافي ".

فأقول: قال السيد الإمام أبو عبد الله الحسني في هذا الكتاب المذكور في كتاب " الزيادات " منه في المجلد السادس في القول في نفي الرؤية ما لفظه: وقال الحسن، يعني: الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام: وقد رُوي في الحديث: أن أهل الجنة تبلغ بهم الكرامة إلى أن ينظروا إلى خالقهم، كما ينظر بعضهم إلى بعض، والله سبحانه أجل وأعظم من أن تدركه الأبصار، أو تحيط به العقول، أو تقع عليه الأوهام، والأمر في ذلك مردودٌ إلى الله يفعل ما يشاء، ويُرِي أولياءه من عظمة نوره، وجلال (2) عظمته ما لم تكن أبصارهم تُطِيقُ النظر إليه في الدنيا.

وقد رُوِيَ عن زيد بن علي عليهما السلام أنه قال: إن بين الله سبحانه يوم القيامة، وبين أدنى خلقه من مَلكٍ مقرَّبٍ، أو نبيِّ مُرسلٍ سبعين ألف حجابٍ من نورٍ، لن يستطيع أدناهم أن يرفع رأسه إلى أدنى حجابٍ من عظمة الله، وقد

(1) سقطت من (ب).

(2)

في (ش): وجلاله.

ص: 15

قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ولا يتأولونهم (1) برأيهم على أهوائهم.

وقال محمد -يعني محمد بن منصور -: إن الله لا تدركهُ الأبصار، ولا تحويه الأوهام. قال: وقال بعض أهل العلم: إن الله يُرى في الآخرة، وليس كرؤية المخلوقين للشيء الذي تحويه أبصارُهم، ولكن لله خفايا ولطائف يلطُفُ فيها لمن يشاء كما يشاء (2)، فهذا كلام الإمام الحسن، واحتجاجه بحديث زيد بن علي في الحُجُب يدلُّ على إمكان الرُّؤية في قدرة الله لمن يشاء، وكذلك ما حكاه محمد بن منصور، وقرَّره من ذلك، ومن نحوه، وكفى فيه بقوله (3) تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] وقوله: {أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] وإلزامك للإمام الشافعي رضي الله عنه لازم لجميع من ذكرنا من السلف الأكرمين من أهل البيت المطهرين الذين كانوا في خير القرون من التابعين وتابعي التابعين كما هو الظاهر من قول الصحابة السابقين، حيث أجمعت (4) الأُمة على أنهم سألوا عن ذلك سيد المرسلين لكونهم له مُجَوِّزين، فلم يكن لِسُؤالهم عنه من المنكرين، أفتجوِّزُ كُفرَ سائر مَن رُوِيَ هذا عنه من سلفنا الطاهرين (5)، والصحابة السابقين، وتشكُّ وتُشكِّك في أنهم من المسلمين، وتجعلهم بذلك من المجروحين، فتكون من الأخسرين؟ فنعوذ من ذلك (6) بأرحم الراحمين.

ولا بد من إشارة مقنعةٍ إلى جملةٍ صالحة من أدلَّة أهل السنة، وأدلَّة (7)

(1) في (ش): يتأولونه.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

في (ب): بقول الله.

(4)

في (أ): اجتمعت.

(5)

في (ش): الصالحين الطاهرين.

(6)

في (ب) و (ج) و (د): من مثل ذلك، وفي (ش): من مثل ذلك بالرحمن الرحيم.

(7)

ساقطة من (ش).

ص: 16

المعتزلة في تجويز الرؤية في الآخرة من المعقول والمنقول، وأقوال سلف الأمة، والاحتجاج بالآيات الصَّادعة (1) والعلوم النافعة إن شاء الله تعالى.

الإشكال الثامن: قال المعترض: والمكيِّفة تُجسِّم لا محالة (2)، هكذا من غير ذكر تفصيل ولا خلافٍ ولا دلالةٍ، وهذا في مثل (3) هذا الموضع مَعيبٌ أشد العيب، إذ كان من أعظم مواضع النزاع والرَّيب.

واعلم أني مقدِّم ها هنا مقدمة مفيدة قبل الخوض في بيان المراد من هذا الإشكال، وذلك أني لا أرد عليه إنكار التشبيه على المشبِّهة فإني موافق في التنزيه، وقائل ببطلان التشبيه، وإن كنت لا أتعرض لبيان المختار عندي في دقائق الكلام الذي أحكيه، وإنما غرضي في هذا: القيام (4) بما يجب من الذبِّ عن السُّنن ومذاهب العترة عليهم السلام، فإن المعترض قد ادعى القطع بأن في (5) كتب الحديث المُسماة بالصحاح أكاذيب معلومةً متعمدة، وادَّعى على كثيرٍ من رواتها تعمُّد الكذب، وحاول بذلك تقبيح الرُّجوع إليها، وقد بيَّنت (6) فيما سلف إجماع الأمة على الرجوع إليها، والنقل منها، وأن ذلك مشهور في كتب الزيدية، وأن المعترض هو بنفسه لم يسلم من ذلك، حيث نقل عنها في تفسيره، وقد بينتُ نصوص العترة في كتبهم على أنهم من أهل التأويل، وذكرت دعوى الإجماع على قبولهم من عشر طرق، وأن ذلك هو المذكور في كتاب " اللُّمع " في كتاب الشهادات منه كما مضى بحروفه في مسألة المتأولين في أوَّل المجلد الأول (7)، وحين تقرَّر ذلك، فإنما أُورِدُ ها هنا أدلتهم

(1) في (د): الساطعة، وفي (ش): الصادقة.

(2)

" لا محالة " ساقطة من (ب).

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (ش): المقام.

(5)

سقطت من (ش).

(6)

في (ب): ثبت.

(7)

انظر 2/ 155.

ص: 17

في مذهبهم، ليعلم المنصف (1) صدق أهل البيت عليهم السلام، في قولهم: إنهم من أهل التأويل، وحسن نظرهم (2) وتحريهم وإنصافهم في قبول أخبارهم مع المخالفة، وخشيت إن لم أذكر أدلتهم في ذلك أن يظن الجاهل من أهل بلدنا وعصرنا، أن المعترض هو الصادق لكبر مَحَلِّه في النفوس، فمن ظن بي غير ذلك، أو نقل عني سواه بعد هذا البيان (3)، كان من المعتدين المتعمدين، والله المستعان.

فأقول: قد تقدم في (4) الإشكال الخامس عشر بيان عقيدة أهل السنة في كلام الطائفة الثانية منهم الذين خاضوا في علم الكلام على جهة الذب عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسله عليهم السلام (5) في مقصدهم. وتقدم ما في معنى الجسم من الاختلاف بين العقلاء من أهل الملل، ثم بين العلماء من أهل الإسلام، والإشارة إلى ذلك فيما تقدم في القاعدة السادسة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان إليه المنتهى في العلوم العقلية والسمعية باتفاق المختلفين، ولذلك سارت بمصنفاته الركبان إلى جميع البلدان، وهي قدر ثلاث مئة مجلد أو أكثر كما ذكر في كتاب " النبلاء"(6) فانظر في كلامه نظر إنصافٍ، ولا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال، وإياك وتقليد الرجال.

وقد ذكر الاختلاف في تفسير الجسم، ثم في تماثل الأجسام، وأن كلام المعتزلة

(1) تحرف في (ب) و (ش) إلى: المصنف.

(2)

في (ج) و (ش): فطرهم.

(3)

عبارة " بعد هذا البيان " سقطت من (ش).

(4)

سقطت من (أ).

(5)

في (ب) و (ش): رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

(6)

والترجمة الكاملة التي سيثبتها المؤلف لابن تيمية من كتاب "النبلاء" تعزِّز رأينا في أن الجزء الرابع عشر الذي لم نظفر به حتى هذه اللحظة هو من صلب الكتاب، وليس ذيلاً له كما توهمه بعضهم.

ص: 18

في هذا مبني على تفسير الجسم بأنه المركب من الجواهر، وعلى إثبات الجوهر الفرد، على تماثل الأجسام وأن من المخالفين لهم من يمنع المقدمة الأولى، ومنهم من يمنع المقدمة الثانية، ومنهم من يمنع المقدمتين معاً، ومنهم من يجيب بالاستفسار.

قلت: بل قد اختلفت المعتزلة فيما بينهم في تفسير الجسم على أربعة أقوالٍ، كما ذكره صاحبهم ابن متويه في " تذكرته " في علم الجواهر (1) والأعراض، إذا تقرر هذا، فلا سبيل إلى نسبة العناد، وتعمُّد القول بالباطل إلى من خالف في معنى الجسم وتفسيره، ولا إلى مَن خالف في تماثل الأجسام وقال باختلافها بعد اعترافه باشتراكها في الجسميَّة.

وممن خالف في تماثلها أبو القاسم البلخي وأصحابه من المعتزلة، والفخر الرازي علي ما أشار إليه في " الملخص "(2) وغيره، وغيرهم من أهل النظر والأثر.

حكاه ابن متوية/المعتزلي، في " تذكرته " عن أبي القاسم، وقد بالغت المعتزلة في دعوى تماثل الأجسام حتى قطعوا أن (3) النور والظلمة جسمان (4) متماثلان، وكذلك الغبار، والدخان، واللهب، والسحاب، والجِن، والإنس، والنجوم، والأحجار، والتراب، والأشجار، ومضغ القلوب اللطيفة الذكية التي هي مَحلُّ (5) المعارف العلمية، وجنادل الحديد الصلبة القوية، والماء، والنار، والفضة، والقارُّ، والأجسام، والأرواح، والأجرام الكثيفة، والرياح، والصخور، والهباء

(1) في (ش): الجوهر.

(2)

هو في الحكمة والمنطق، وسيعرف به المصنف قريباً، وقد شرحه أبو الحسن علي بن عمر القزويني المتوفى سنة 675 هـ، وسماه " المنصص " واختصره نجم الدين اللبودي، وشرحه شمس الدين اللبودي. انظر " كشف الظنون " 2/ 1819.

(3)

في (ب): على أن.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ب): محال.

ص: 19

والأرض، والسماء، بل والموجود من الجواهر والمعدوم، وكذلك من (1) كل جنس معلوم - ذكره ابن متويه في " تذكرته " في الأسئلة الواردة على دليل تماثل الجواهر، وهو يفيد القطع برد قولهم في اللغة التي نزل عليها كتاب الله تعالى، وكيف وقد قال الله تعالى في:{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]، ولو لم يُخالفوا (2) في هذا الأصل (3) إلَاّ هذه الآية الكريمة.

وإلى الردِّ عليهم في ذلك أشار أبو السعود بن زيد المطرفي في أرجوزته المشهورة، حيث قال:

ما نحن قلنا: النار مثلُ الماء

والقارُ مِثلُ الفِضَّة البيضاء

واعلم أنهم لا يخالفون في القدر الضروريِّ من هذا الاختلاف المشاهد المحسوس، ولكنهم يقولون: إن المرجع بهذا الاختلاف المعلوم إلى اختلاف صفات الأجسام، واختلاف الأعراض التي تحلُّها، بحيث لو تجردت الأجسام عن صفاتها، وما حلها من الأعراض، لوجب تماثلها، واستحال اختلافها، وهذا هو محل النزاع، فإن المخالفين لهم في ذلك يقولون: إن الحق أنا لا ندري لو تجردت (4) عن ذلك، هل نشاهدها مختلفة أو لا نشاهدها كذلك؟ وعلى تسليم أنا قد رأيناها متجرِّدة، ولم ندرك اختلافها بالحس، فإنا لا ندري، هل اختلافها (5) من الأمور المحسوسة المُدرَكة أم لا؟ والقطع (6) في موضع الوقف من المحرمات، وإن لم يترتب عليه أمر كبير، فكيف فيما تركب عليه التفسيق والتكفير، بل تركب عليه الكلام في أسماء (7) الملك الكبير؟ وقد قال الله تعالى:

(1) في (ب) و (ش): في.

(2)

في (ج): ولم يخالفوا.

(3)

لم ترد في الأصول ما عدا (أ).

(4)

من قوله: " الأجسام عن صفاتها " إلى هنا ساقط من (ب).

(5)

في (ب): اختلافهما.

(6)

في (ب): وانقطع.

(7)

في (ش): بأسماء.

ص: 20

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

ولهم في هذا أدلة ينبغي ذكرها وما يَرِدُ عليها، منها: أن الأجسام مشتركة في الجسمية، فيجبُ أن تشترك في كل ما يَجِبُ لها، ويمتنع عليها، ويجوز عليها، وهذه مجرد دعوى لا يحل تسليمها لهم حتَّى يأتوا ببرهانٍ قاطعٍ، وقد تقدم في كلام ابن تيمية تقرير أن الماهية المطلقة مُجرد عبارةٍ لا وجود لها في الخارج، مثل الجسميَّة وسائر ما تشترك الأنواع أو الأشخاص فيه من القدر الكلي المشترك، فإنه لا وجود له في الخارج إلَاّ معيناً مقيداً، وأن معنى الاشتراك في ذلك هو التشابه من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يُطلق على هذا وعلى هذا، لا أن (1) الموجودات في الخارج يشارك بعضها بعضاً (2) في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز (3) عن غيره بذاته وصفاته والمعتزلة ظنت أن الاشتراك في ذلك يُوجب حكماً، ولذلك قالوا: أن الله قد شارك خلقه في الذاتية، ثمَّ تميز عنهم بعد المشاركة (4) بالصِّفة الأخص، ونَقَمَ ذلك عليهم غير واحد من العلماء أهل البيت وغيرهم. وقال السيد حميدان (5) في ذلك:

لقَّبُوا الجسمَ بالذوات ليقضُوا

باشتراكٍ في حالةٍ وانفصالِ

وادَّعَوا أن للمُهيمن ذاتاً

شاركت ثُمَّ فارقت في خلالِ

(1) في (ب) و (ج) و (ش): " لأن "، وهو خطأ.

(2)

ساقطة من (ب).

(3)

في (د) و (ش): " يتميز "، وفي (ب):" تميز ".

(4)

في (ش): ذلك.

(5)

تحرَّف في (ج) إلى " حمدان "، وحميدان: وهو ابن يحيى بن حمدان القاسمي صاحب التصانيف في علم الكلام، والمترجم عن أهل البيت المصرح بمذهبهم، وقال عنه المصنف في " ترجيح أساليب القرآن " ص 32: له رسائل كثيرة في مجلد محتوٍ على ترك التعمق في علم الكلام والبدع في الإسلام مما لا مزيد عليه. وهو مترجم في " مطلع البدور " ورقة 85/ 2 - 86/ 1.

ص: 21

ثمَّ قاسوا ما فرَّعوه وخاضُوا

في شروحٍ لهم عِرَاضٍ طِوَالِ

وقال في ذلك أيضاً في أُرجوزته التي سماها الإمام المطهر بن يحيى عليه السلام " المزلزلة لأعضاد المعتزلة "، ومنها في هذا المعنى:

ليس الإله الواحدُ القدوس

كما يظنه الذي يقيسُ

مِن وصفه التشريكُ والتجنيسُ

بل قولُهم مشاركٌ تلبيسُ

إذ كلُّ فكرٍ دُونَه محبوسُ

وكلُّ ما تخالُه النفوسُ

فمدرَكٌ مُكيَّفٌ محسوسُ (1)

وكان كثير من أهل البيت يُصححون ما ذكره السيد حميدان، وكتب غير واحد منهم خطوطهم في مجموعه المعروف أنه اعتقادهم.

وممن أنكر ذلك (2) على المعتزلة وغيرهم فخر الدين الرازي في كتبه، فمن ذلك في كتابه " الملخص في علم اللطيف والجواهر والأعراض "، وهو كتاب جليل في فنه لم يصنف في معناه مثله، قال فيه في الباب الثالث في الأجسام البسيطة من الجملة الثانية في الجواهر في الكلام على أن الكواكب هل تقبل (3) الخرق أم لا؟: إن (4) من قال: إنها تقبله، احتج بتساوي الأجسام بأسرها في الجسمية، إلى قوله في آخر ذلك: وفي هذه الطريقة (5) أبحاثٌ عميقةٌ أصولها مرت في هذا الباب، وتفاصيلها مذكورة في كتاب " النهاية "(6) إلى قوله في ذكر

(1) أوردها في " ترجيح أساليب القرآن " ص 32، مع بيت أخير هو:

فاحذر شيوخاً علمها تلبيسُ

(2)

في الأصول ما عدا (أ): هذا.

(3)

في (ب): " تفيد " وهو تحريف.

(4)

في (أ): إلا.

(5)

في (ش): الطريق.

(6)

هو " نهاية العقول في الكلام في دراية الأصول " رتبه على عشرين أصلاً. انظر " كشف الظنون " 2/ 1988.

ص: 22

سُخُونة الكواكب في هذا الباب: ولِقَائِلٍ أن يقول: الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في تمام (1) الماهية، فلم (2) لا يجوز أن يكون الكوكب والنار مشتركين في غاية السخونة، لكن الكواكب مخالفةٌ في ماهيتها لماهية النار، فلأجل ذلك كانت النار التي عندنا شفافة إلى قوله في القسم الثاني في البسائط العنصرية: إنه لا يلزم من اشتراك الهواء والنار في الحرارة (3) والرِّقة اشتراكهما في تمام الماهية.

وقال في الباب الأول في تجوهر الأجسام من الجملة الثانية في الجواهر، في الرد على من قال: إن اختلاف الأعراض لا بد أن يكون لاختلاف صور (4) مركوزةٍ في تلك الأجسام، لأنها مشتركة في الجسمية

إلى قوله: والاعتراض: لا نسلِّم اشتراك الأجسام بأسرها في الجسمية، إلى آخر كلامه.

قلت: وإنما اكتفي بعدم التَّسليم لذلك في جميع المواضع، لأن الخصم لم يأتِ بحُجَّةٍ بيِّنةٍ يقبُحُ إنكارُها إلَاّ مجرَّد تخيُّلات، والامتناعُ في مثل هذا من التسليم أصحُّ من الاستدلال، لأنه لا مجال للعقل في هذه المضايق، فالممتنع أسعد بالحق من المستدل لسلامته من دعوى ما لا يعلم وصدقه في عدم تسليمه (5) حينئذ، ولأن استدلالهم في ذلك يرجع حاصله على اختلاف عباراتهم إلى أنهم لم يعلموا دليلاً على اختلاف الأجسام، فوجب نفيه، وسيأتي إبطال هذه الطريقة، وأنه لم يَقُمْ عليها دليل، فالامتناع من تسليمها يكفي، إذ كان قولهم: إنها حجة مجرد دعوى.

وقال قبل هذا في هذا الباب في رد الحجة الثالثة من أدلة من زعم أن

(1) في (ب): دليل.

(2)

في (ب): ولم، وفي (ش): وإلا.

(3)

عبارة " في الحرارة " سقطت من (ش).

(4)

في (ش): صورة.

(5)

في (ب): التسليم.

ص: 23

الجسم مركبٌ من الهيولى والصورة.

وأما الثالثة، فهي بعد تسليم أن الفلك يستحيل عليه التغير في المقدار والشكل مبنية (1) على أن الأجسام متحدة في الطبيعة الجسمية، لكن ذلك مما لم (2) يثبت بدلالةٍ قاطعةٍ.

وقال في " نهاية العقول " في الأصل الثالث في حدوث الأجسام في المسلك الأول من المسالك الثلاثة في سبب اختصاص الجسم بحيِّز (3) مخصوص، وهو الحجة الأولى لخصوم أهل الأثر ما لفظه: قولكم: إن الجسمية أمر مشترك بين الأجسام.

قلنا: لا نسلِّم، والذي يدل على ذلك أنها لو كانت مشتركة بين أفراد الأجسام، لكانت شخصية (4) كل واحد من الأجسام زائدة على جسميته، لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز، لكن يستحيل أن تكون شخصية الجسم المشخص زائدة على جسميته، فإن انضمام ذلك الزائد إلى الجسمية (5) في الخارج يتوقف على حصول الجسمية في الخارج، وحصول الجسمية في الخارج يتوقف على (6) شخصه الذي هو عبارة عن انضمام ذلك الزائد إليه، ويلزم من ذلك الدور، فثبت أن القول بكون الجسمية أمراً مشتركاً بين أشخاص الأجسام يؤدي إلى هذا المحال، فيكون مُحالاً.

لا يُقال: المعقول من الجسمية إنما هو شغل الحيز، ومنع الغير أن يكون بحيث هو، وهذا القدر مشتركٌ، لأنا نقول: ليس الشغل والمنع (7) نفس

(1) في (ج): مثبتة.

(2)

في (ش): ما لا.

(3)

في (ب): تحيز.

(4)

في (أ) و (د): شخصيته.

(5)

من قوله: " فإن انضمام " إلى هنا ساقط من (ب).

(6)

من قوله: " حصول الجسمية " إلى هنا ساقط من (ج).

(7)

في (ش): والمنفي.

ص: 24

الجسمية، بل حكمٌ من أحكامها، ولا يلزم من الاشتراك في المؤثِّر الاشتراك في الأثر، ويدل عليه أمور ثلاثة:

أحدها: أن الذات حال الحدوث يجب افتقارها إلى الفاعل، وحالة البقاء يمتنع افتقارها إليه، مع أن الذات واحدة في الحالين، فإذا جاز أن ينقلب الشيء الواحد من الوجوب إلى الامتناع الذاتيين بحسب زمانين، فلأن يجوز (1) ذلك في المثلين أولى. وأيضاً فلأن الجوهر الحادث مثل الباقي، ثم لا يلزم من تماثلهما تساويهما في صحة المقدورية، وامتناعها، فكذا ها هنا، وكذا العَرَضُ الذي لا يبقى يصحُّ أن يحدث في زمان عدمه مثله، ولا يلزم من صحة حدوث مثله في ذلك الزمان صحة وجوده في ذلك الزمان، وكذا (2) ها هنا.

الثالث: أن الممكن المعين يحتاج إلى مؤثِّر معين أو شرط معين، وعلة تلك الحاجة هي الإمكان، لأنا لو رفعنا الإمكان بقي إما الوجوب أو الامتناع، وهما مستغنيان عن المؤثِّر، ثم إن الإمكان (3) مشترك بين الممكنات، ولا يلزم من اشتراكها في الإمكان اشتراكها في الحاجة إلى ذلك المؤثر المعين، أو إلى ذلك الشرط المعين، لأن أكثر الطوائف أثبتوا مؤثراً غير الله تعالى، فإن بعضهم زعم أن العبد مُوجِدُ، وبعضهم أثبث معاني توجب أحوالاً، وبعضهم أثبت طبيعة وعقلاً ونفساً.

ثم إن سلمنا أنه لا مؤثِّر إلَاّ الواحد، ولكن لا نِزَاعَ في كثرة الشروط إذ الجوهر شرط العرض، والحياة شرط العلم، وذلك مما لا خلاف فيه بين

(1) في (أ) و (د) و (ش): " فلأن لا نجوز "، والمثبث من (ب) و (ج) وجاء في هامش (أ) ما نصه: صوابه فلأن نجوز، والتصويب مبني على ثبوت " لا " النافية، وهي غير ثابتة في الأصل، بل مصحح عليها في هامش الأصل والتصويب عليه.

(2)

في (ب) و (د) و (ش): فكذا.

(3)

من قوله: " لأنا لو رفعنا " إلى هنا ساقطة من (ب).

ص: 25

العقلاء. ومعلوم أن حاجة المشروط إلى الشرط لإمكانه، والشرط علة لصحة المشروط، ومع أنه لا (1) يلزم من احتياج صحة ذلك المشروط إلى ذلك الشرط احتياج كل صحة إلى ذلك الشرط، فثبت أنه لا يلزم من الاشتراك في المقتضى الاشتراك في الحكم.

ثم إن سلمنا أن الاشتراك في السبب يقتضي الاشتراك في الحكم (2)، ولكن متى؟ إذا فُقِدَ الشرط، أو إذا (3) وُجِدَ مانعٌ، أو إذا لم يكن كذلك، الأول ممنوع، والثاني مسلم بيانه. وهو أن الأشياء المتماثلة في تمام الماهية لا بد وأن تكون متمايزة تشخيصاتها وتعييناتها (4)، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فإذاً تشخيص كل شخص يكون زائداً على ماهيته (5)، ولأن المتصور من هذا الجسم لا يصح أن يكون محمولاً على كثيرين، مع أنا نعلم بالضرورة أن المتصور من الجسم داخل في المتصور من هذا الجسم، فعلمنا أن المتصور من هذا الجسم (6) دخل (7) فيه مفهوم زائد على المتصور من الجسم، وإذا ثبت ذلك، ظهر أن تعيُّن كل شخص زائد على حقيقته، وإذا كان كذلك، فمن المحتمل أن تكون شخصية الشخص المعين من الأجسام المتماثلة تكون شرطاً لاقتضاء الجسمية للحصول في ذلك الحيز، أو تكون شخصية الجسم الآخر مانعة من ذلك الاقتضاء، وإذا كان كذلك، لم يلزم من اشتراك الأجسام في تمام الجسمية، وكونها موجبة الحصول في الحيز المعين اشتراك كل الأجسام في ذلك، وبهذا التقدير يتبين أن المقدمة المشهورة من أن المتماثلات يجبُ استواؤُها في جميع اللوازم مقدمة ضعيفة.

(1) ساقط من (ب).

(2)

من قوله: " ثم إن سلمنا " إلى هنا ساقط من (ب).

(3)

في (ب): وإذا.

(4)

في (ب): شخصياتها وتعيينها.

(5)

في (ش): ماهية.

(6)

من قوله: " لا يصح " إلى هنا سقط من (ش).

(7)

من قوله: " داخل في المتصور " إلى هنا سقط من (ج).

ص: 26

لا يقال: التعيين أمرٌ عَدَميٌ، فإن معناه أنه ليس غيره، والقيد العدمي لا يصلح أن يكون جزءاً (1) من المقتضى، لأنا نقول: لا نُسلِّم أنه أمر عدميٌّ، وبتقدير تسليمه، فالمقصودُ حاصلٌ أيضاً، لأنه لا نزاع بين العقلاء أن العدم يصلح أن يكون شرطاً، ألا ترى أن عدم الضدِّ شرطٌ لصحة حلول الضد الآخر في المحلِّ؟ انتهى بحروفه ذكره الرازي فيما يرد على دليل الأكوان مع غيره.

ثم عقَّب الجواب على الجميع، فأجاب على المنع من تماثل الأجسام بجوابهم المعروف في الاستدلال على عدم الشيء بعدم الدليل عليه، وأشار إلى ضعفه، وقد بالغ في بطلانه، كما يأتي الآن في الحجة الثانية، وقوَّى أنه التعيُّن (2) وصفٌ عدمي، وأن الدور غير لازم، وترك صحة كونه شرطاً بغير جواب لأنه قوي عنده كما ذكره في غير موضعٍ، ومن احتج بهذا في إثبات الصفة الأخص، يلزمه أن يكون التعيين وصفاً ثبوتياً، لأنه يجعل تميز الرب سبحانه عن غيره يستلزم ذلك حيث كان قد شارك الذوات في أنه ذاتٌ، ثم تميَّز عنها بتعيُّن ذاته وتميزها، فتأمل ذلك، بل هذا يلزمه تجويز مثل ذلك في كل متمايزين يحتملان مثل ذلك، ولو بمجرد احتمال.

ولهذه الشكوك في طرق المتكلمين اختار الإمام المؤيد بالله في كتاب " الزيادات " الاستدلال على ثبوت الباري بالأحكام الذي في المخلوقات وحسن التقدير، ثم أجاز بعد ذلك أن يستدل على خلق (3) سائر المخلوقات بالسمع.

قلت: وصح (4) في طريق على قوتها الاستدلال على الله تعالى بالمعجزات، فإنها حادثة بالضرورة ومخالفة للطبع بالضرورة، وهي (5) طريقة

(1) في (أ) و (ش): " جزاء "، وهو خطأ.

(2)

في (ش): التعيين.

(3)

سقطت من (ش).

(4)

في (ج): وأوضح.

(5)

من قوله: " ومخالفة للطبع " إلى هنا ساقط من (ب).

ص: 27

مُجمعٌ على صحتها عند المتكلمين والسلف والخلف، وفي هذا ما ترى من شهرة النزاع بين أئمة هذا الفن في الأمرين معاً:

أحدهما: نزاعُهم في تماثل الأجسام في الجسمية.

وثانيهما: نزاعهم في أن تماثلها على تسليمه يُوجِبُ استواءها في جميع اللوازم.

وإنما سقتُه بطوله، ليعلم الواقف على ذلك وأمثاله من قواعد هذه المسألة أن المخالف فيها غير معلوم العناد (1) والتعمُّد، فيكون من أهل التأويل الذي يجوز قبول حديثهم عند الجمهور، بل يجب على ما تقدم.

ويُشبه هذا ما ذكر الإمام يحيى في مقدمات " التمهيد "، والرازي في مقدمات " النهاية " من تضعيف المقدمتين المشهورتين عند المتكلمين، أحدهما -وهي الثالثة (2) في " التمهيد " والثانية في " النهاية "-: استدلالُهم بتساوي الشيئين في بعض الوجوه على تساويهما مطلقاً، وذكرا لذلك أمثلة، ثم ذكرا أنها ضعيفة جداً، وساقا الدليل على ذلك، ونزاعهم في أدلتهم بعدم (3) التسليم، ومن أحب معرفة ذلك، وقف عليه في موضعه، فقد نبَّهت على ذلك (4)، والدليل على من ادعى صحة ذلك، فلم نحتج نطوِّل بذكره (5). ومما تطابقا على التمثيل، والرد له قول البهاشمة (6): لو كانت معاني صفات (7) الله قديمة، كانت

(1) في (ش): بالعناد.

(2)

في (أ) و (ش): الثانية.

(3)

في (ج): " بعد "، وفي (ش): مقدم.

(4)

من قوله: " ونزاعهم في أدلتهم " إلى هنا سقط من (ب).

(5)

في (ب) و (ش): ذكره.

(6)

هم أصحاب أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، وهما من معتزلة البصرة، انفردا عن أصحابهما بمسائل، وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل. انظر " الملل والنحل " 1/ 78، و" اعتقادات فرق المسلمين والمشركين " للرازي ص 40 - 41.

(7)

سقطت من (ج).

ص: 28

مساوية لذاته في القدم، فيجب تساويها في جميع الوجوه، فتكون أرباباً.

الحجة الثانية: للمعتزلة على تماثل الجواهر والأجسام، بل (1) جميع المستقلات بأنفسها التي سموها أجساماً، هي أنه لا دليل على اختلافها (2) في ذواتها، وما لا دليل عليه يجب نفيه. ممَّن عوَّل على هذا منهم: مدقِّقُهم ومحققهم الشيخ ابن متويه في " تذكرته "، وهذا لفظه: قوله: فإن قال: كونه جواهراً (3) مختلفاً (4) في الذوات، وكذلك تحيُّزه، وكذلك الوجود، فلا يجب لأجل الاشتراك فيما ذكرتم أن يُقضى بالتماثل.

قيل له: إن هذه الصفات لو اختلفت، لكان إلى اختلافها طريقٌ والطرق (5) التي بها يعرف اختلاف الصفات إما الإدراك، أو الوجدان (6) من النفس، أو اختلاف الأحكام. انتهى بحروفه.

وتلخيصه: أن الجواهر متغايرةٌ في ذواتها (7) بالاتفاق وتماثُلُها غير معلومٍ ضرورةً بالاتفاق (8)، فاحتاج القائل به إلى برهانٍ صحيحٍ قاطعٍ، ولم يأتوا بشيءٍ من ذلك. فأجاب الشيخ ابن متويه بقاعدتهم المشهورة الباطلة عند النُّقاد، وهي: أن ما لم يقُم الدليل على ثبوته يجبُ نفيه، وقد ردَّ هذا بأن القديم في الأزل لا (9) دليل عليه مع وجوب (10) ثبوته حينئذٍ، فكان يلزمهم وجوب نفيه

(1) في (ش): في.

(2)

في (ش): اختلاف.

(3)

في (ش): جواهر.

(4)

في (د) و (ش): مختلف.

(5)

في (ش): الطريق.

(6)

في (ب): " والوجدان "، وهو خطأ.

(7)

في (ج) و (ش): ذاتها.

(8)

عبارة " وتماثلها غير معلوم ضرورة بالاتفاق " ساقطة من (ب).

(9)

ساقطة من (أ).

(10)

في (أ): وجود.

ص: 29

حينئذٍ، ولأن ذلك ليس بأولى من أن ما لم يقم دليل ٌعلى نفيه يجب ثبوته، ذكره الشيخ مختارٌ المعتزليُّ من أصحاب أبي الحسين في كتابه " المجتبى "، وحكى ابن متويه في " تذكرته " أن الشيخ أبا القاسم البلخيَّ الكعبي (1) شيخ البغدادية خالفهم في ذلك، وكذلك حكى البحتري (2) في جواب المسائل القاسمية، أن إنكار ذلك هو قول القاسم بن إبراهيم عليه السلام وقول أتباعه، واحتجَّ على ذلك، وذكر الشيخ مختار في " المجتبى " أن ذلك قول أكثر المحققين، وجوَّد الاحتجاج على ذلك في المسألة الثانية عشرة من خاتمة أبواب العدل، فلينظر فيه (3).

ولنذكر كلام المحققين في بطلان (4) ذلك من غير تقليدٍ لهم، ولكن نُورِدُ الأدلة للنُّظَّار ليعلموا الصَّحيح، ثم ليعلموا أن المخالف في مثل هذه الدقائق معدودٌ من المتأولين المقبولين (5) في الأخبار، فَمِنَ المزيِّفين لهذه الطريقة: الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام فإنه بالغ في إبطالها في أوائل " التمهيد " في الفصل الثالث في مسالك المتكلمين الفاسدة، قال عليه السلام: وهي خمس، قال عليه السلام (6): الأولى: قولهم: الشيء الفلاني لا دليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيُه، وساق عليه السلام كلام الرَّازيِّ الآتي الآن بألفاظه إلَاّ اليسير، إلى قوله: إن الدليل إنما يفيد العلم إذا كانت مقدماته بديهية أو لازمة للبديهية (7)، وأقتصر على ذلك القدر، وفيه كفاية، ولما اشترك فيه هو والرازي، وزاد الرازي (8) عليه، أوردتُ كلام الرازي لتضمنه كلام الإمام وزيادته

(1) ساقطة من (ش).

(2)

في (د): البحيري.

(3)

من قوله: " وقد ردَّ هذا " إلى هنا ساقط من (ب).

(4)

ساقطة من (ج).

(5)

ساقطة من (ب).

(6)

" قال عليه السلام " ليست في (ش).

(7)

في (ش): للبديهة.

(8)

عبارة " وزاد الرازي " ليست في (ج).

ص: 30

عليه كراهيةً للتطويل (1)، بسياق كل كلام على انفراده.

فأقول: قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة في مقدمات " التمهيد "، وفخر الذين الرازي في مقدِّمات " نهاية العقول "، واللفظ له: الفصل (2) السابع في تزييف الطرق الضعيفة، فالأُولى: أنهم متى حاولوا نفي شيءٍ غير معلوم الثبوت بالضرورة، قالوا: إنه لا دليل عليه، وما لا دليل عليه، فيجب (3) نفيه، أما بيان أنه لا دليل عليه، فإنما يُثبتُونَه بنقل أدلة المثبتين لذلك الشيء، ثم ببيان فسادها وضعفها، وقد يقيمون الدلالة على حصر وجوه الأدلة، ثم يكتفون في بيان انتفائها بعدم وجدانهم لها، والأول أولى، لأنه إذا كان لا بد في آخر الأمر من التعويل على عدم الوجدان، فلأن نتمسك به ابتداءً حتى نُسقِطَ عن أنفسنا بيان حصر وجوه الأدلة أولى.

قلت: يعني لأنه لا دليل لهم على انحصار الأدلة في طريقة الحصر والسبر إلَاّ عدم الوجدان.

قال: وأما بيان أن ما لا دليل عليه وجب نفيهُ، فهم يثبتونه من وجهين:

الأول: أن تجويز ما لا دليل عليه يلزم منه القدح في العلوم الضرورية والعلوم النظرية، وما أدى إليه يجب أن يكون فاسداً.

بيانُ أدائه إلى القدح في العلوم الضرورية (4) أنا إذا جوَّزنا إثبات ما لا دليل عليه يلزم تجويز أن يكون بحضرتنا جبالٌ شامخة وأصوات هائلة، ونحن لا ندركها، لأن الله خلق في عُيوننا ما يعارض إدراكها، ولعل لكل واحدٍ منا ألف رأس، إلَاّ أنه قام بالعين ما يمنع إدراك ما عدا الواحد منها، وإن لم نُقِم دليلاً (5)

(1) في (ش): التطويل.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

في (ب) و (ش) و (ج): وجب.

(4)

من قوله: " والعلوم النظرية " إلى هنا ساقط من (ش).

(5)

في (ب): " يقم دليلاً "، وفي (ش) و (ج):" يقم دليل ".

ص: 31

على إثبات المانع، وبيان أدائه إلى القدح في العلوم النظرية: أنا إذا استدللنا بدليل على شيء، فإذا جوَّزنا ثبوت ما لا دليل عليه، فلعل في مقدمات ذلك الدليل غلطاً لم نقف عليه نحن ولا غيرنا، ومع هذا التجويز لا يمكن حصول اليقين، فإذا لا بد من دفع هذا التجويز، ودفعُه لو كان بدليل آخر، لكان الكلام فيه كالكلام في الأول، فيلزم منه حاجة كل دليل إلى دليل آخر، لا إلى نهاية، وذلك محالٌ، فإذا لو لم نقطع بنفي ما لا دليل على ثبوته، لم يمكنا أن نجزم بصحة الدليل، فثبت أن تجويزنا ما لم تقُم الدلالة على ثبوته يؤذن بالقدح في الضروريات والنظريات. زاد الرازي.

الثاني: أن الأمور التي لم يدل الدليل على ثبوتها غير متناهية، فلو جاز إثبات ما هذا شأنه، لزم إثبات أمورٍ لا نهاية لها، وذلك محالٌ، فهذا تقرير هذه الحجة، وهي عندي ضعيفة جداً.

ثم اتفقا في رد الشبهة، فقالا: قولُكم في المطلوب المعين: إنه لا دليل عليه، تعنُون به أنكم لم تعرفوا دليل ثبوته، أو تعنون أنه ليس في نفس الأمر عليه دليل.

فإن عنيتُم (1) به الأول، كان حاصل كلامكم (2) أن الشيء الفلاني لم نعرف على ثبوته دليلاً، وكل ما لا (3) نعرف على ثبوته دليلاً وجب نفيه، وعلى هذا التقدير تكون المقدمة الأولى خفية، لكن المقدمة الثانية ظاهرة الفساد، لأنه لو كان عدم علم الإنسان بدليل ثبوبت الشيء دليلاً على عدم ذلك الشيء، لزم من هذا أن يكون العوام كلهم جازمين بنفي الأمور التي لا يعلمون دليلاً على ثبوتها، ولزم كون المنكرين لوجود الصانع، والتوحيد، والنبوة (4)، والحشر

(1) في (أ): " عينتم "، وهو تحريف.

(2)

في (ش): الكلام.

(3)

في (ش): لم.

(4)

في (أ): والنبوءة.

ص: 32

عالمين، لكونهم (1) غير عالمين بأدلة ثبوت هذه الأشياء، بل يلزم أن يكون الإنسان كلما كان أقل معرفة بالدلائل أن يكون أكثر علماً. وفساد هذا أكثر من أن يُحتاج فيه إلى الإطناب.

وإن عنيتم به الثاني، كان معنى كلامكم أن (2) الشيء الفلاني لا دليل على ثبوته في نفس الأمر، وكل ما كان كذلك وجب نفيه، وعلى هذا التقدير تكون هذه (3) المقدمة الثانية صحيحة، لكن المقدمة الأولى لا تتقرر (4) بتزييف أدلة المثبت (5) له لأنه من الجائز أن يكون على ثبوت ذلك الشيء دليل وإن لم يقف المثبت له على ذلك الدليل هنا.

وبالجملة لا يلزم من الوجوه التي تمسك بها المثبت في إثبات ذلك الشيء ألَاّ يكون (6) على إثبات ذلك دليل غير معلوم للمثبت.

ثم إن سلمنا أنه لا دليل عليه في الحال، ولكن من الجائز أن يوجد بعد ذلك ما يدلُّ عليه، وهو إخبار الشرع عنه، ومعلوم أن خبر الشارع عن ثبوت الشيء يفيد العلم به، إذا كان لم يتوقف العلم لكون الشارع صادقاً على العلم به. فما دام يبقى احتمال أن يخبر الشارع عن ثبوته، استحال الجزم بعدمه، ولولا صحة هذه الطريقة (7) لزمنا أن نقطع بعدم وقوع هذه الممكنات التي لا طريق إلى العلم بوقوعها إلَاّ إخبار الشرع، نحو مقادير السماوات والأرض والكواكب، وأحوال الجنة والنار، ومقادير الثواب والعقاب، وحصول الملائكة

(1) في (ش): بكونهم.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

في (ب): تقرر.

(5)

في (ش): المثبتين.

(6)

في (ش): إلَاّ أن يكون.

(7)

في (ش): الطريق.

ص: 33

والجنِّ عندنا، ثم وإن سلمنا أنه لا دليل على ثبوته في الحال والاستقبال، فَلِمَ قلتم بأن ما كان كذلك وجب نفيه؟

قوله: يلزم من تجويزه القدحُ في العلوم الضرورية.

قلنا: العلم بعدم الجبل بحضرتنا (1)، وبعدم الرؤوس الكثيرة للشخص الواحد، مما يكون متوقفاً على العلم بأن ما لا دليل علبه يجب نفيه أو لا يتوقف، فإن كان متوقفاً، لم يكن حصول العلم بأنه لا جَبَلَ بحضرتنا إلَاّ بعد العلم بأن ما لا دليل عليه وجب نفيُه، ويلزم من ذلك محذوران:

أحدهما: أنه إذا كان العلم بعدم كون الجبل بحضرتنا متوقِّفاً على العلم بأن ما لا دليل عليه يجب نفيه، وهذا القائل قد بنى قوله على أن ما لا دليل عليه وجب (2) نفيه، على أن القدح فيه يفضي إلى كون الجبل بحضرتنا، فحينئذٍ يلزم الدَّورُ.

وثانيهما: أنه إذا كان العلم بعدم الجبل بحضرتي موقوفاً (3) على العلم بأن ما لا دليل عليه يجب نفيُه، فحينئذ يكون عدم الجبل بحضرتي علماً نظرياً مستفاداً من دليل، فلا يلزم من القدح فيه القدح في العلم الضروري. وأما إن لم يكن العلم بعدم الجبل بحضرتي موقوفاً على العلم بأن ما لا دليل عليه وجب نفيه، لم يلزم من عدم العلم بأن " ما لا دليل عليه وجب نفيه " زوال العلم بأن لا جبل بحضرتنا، فإن (4) ما لا يتوقفُ حصوله على حصول غيره لم يلزم من عدمِه عَدَمُه.

وأما قوله: يلزم منه القدح في العلوم النظرية لاحتمال أن يكون هناك غلطٌ غير معلومٍ.

(1) في (ب) و (ش): " بحضرتي "، وكتب فوقهافي (أ):" تي ".

(2)

في (ب): يجب.

(3)

في (ش): متوقفاً.

(4)

في (ش): وأما.

ص: 34

قلنا: قد بينا أن الدليل إنما يفيد (1) العلم إذا كان (2) مقدماته بديهية ابتداء، أو تكون بديهية (3) اللزوم عن البديهي ابتداءً (4)، فعلى (5) هذا إنما نحكم بصحة النتجية عند العلم بصحة المقدمات، لا عند عدم العلم بفسادها، فأين أحد البابين عن الآخر. انتهى ها هنا كلام الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام وزاد الرازي:

وأما قوله: ما لا دليل على ثبوته (6) لا نهاية له، فلو جاز إثبات (7) ما هذا شأنه، لزم إثبات ما لا نهاية له.

قلنا: إن قام دليل قاطع على استحالة (8) وجود ما لا نهاية له، لم يلزم من الجزم بعدم ما قام الدليل على امتناع حصوله الجزم بعدم ما لم يقم الدليل على امتناع حصوله لظهور الفارق، وإن لم يقم دليل على امتناع حصوله (9)، لم يمكنا (10) القطع بعدم حصوله (11)، فالحاصل أنهم قاسوا عدم حصول الشيء على عدم حصول ما لا نهاية له، ونحن نقدح في هذا القياس، إما بإظهار الفارق، أو بمنع الحكم في الأصل، وبنحو هذا يُجاب على من قال منهم: إنهم لا يقولون بأن ذلك حجة إلَاّ حيث يؤدي عدم الاحتجاج به إلى المحال،

(1) في (ش): يفيد نفيه.

(2)

في (ش): كانت.

(3)

في (ب): بديهته.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ب): وعلى.

(6)

في (ش): ثبوت ما.

(7)

ساقطة من (ش).

(8)

في (أ): استحال.

(9)

من قوله: " الجزم بعدم " إلى هنا ساقط من (ش).

(10)

في (ش): يمكن.

(11)

عبارة " لم يمكننا القطع بعدم حصوله " ساقطة من (ب).

ص: 35

أو نحو ذلك، فيجاب عليه بوجوه:

أحدها: أنه إذا لم يحتجَّ به إلَاّ في نحو (1) ذلك، جاز أن لا تكون الحجة (2) إلا في لزوم المحال من بطلانه، لأنه يلزم من ارتفاع أحد النقيضين حصول الآخر، وهذا انتقال من موضع الخلاف الذي لم يثبت فيه برهانٌ إلى موضع الوفاق، وهذا مثل من يحتج بدليلٍ ظنِّي في موضع القطع، فإذا نُوقِشَ في ذلك، قال: إني لا أحتجُّ به إلَاّ مع دليلٍ قاطعٍ.

وثانيها: أن ذلك يؤدي إلى أن تكون المقدِّمة الكبرى (3) في البرهان جزئية، وذلك لا ينتج، فإنَّك متى قلت: هذا الأمر لا دليل عليه (4)، وبعضُ ما لا دليل عليه، يجب نفيه، فيجب نفي هذا، كنت مثل من يقول: العالم متغيرٌ وبعض المتغير مُحدّث، فالعالم مُحدثٌ.

وثالثها: أنهم إذا اعترفوا بأن ذلك غير حجَّةٍ دائمة، فقد اعترفوا بأنه غير جُجَّةٍ في نفسه وهو المراد، والله أعلم، بل ربما رجع كلامهم في هذا إلى ما تقدم من امتناع تجويزنا الجبل (5) عندنا فتحرر (6) ما قال الرازي.

ثم إن سلمنا أن ما ذكروه يقتضي أن ما لا دليل عليه وجب نفيه، ولكنا نقول: لو لَزِمَ من نفي دليل الثبوت الجزم بالعدم، للزم منه أيضاً الجزم بالوجود، وذلك متناقضٌ، وما ينتج المتناقض (7) كان باطلاً، فإذاً هذه الطريقة باطلة.

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في (ش): حجّه.

(3)

في (ش): الأولى.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ب): " الجبال " وهو خطأ.

(6)

في (ب): " فتحرروا " وهو خطأ.

(7)

في (ج): " المنتقض "، وفي (ش): التناقض.

ص: 36

بيان ما ذكرنا من وجهين:

الأول: هو أن جزم (1) النَّافي بالنفي أمرٌ ثبوتيٌّ، فإما أن يلزم من عدم الجزم بالنفي الجزم بالثبوت أو لا يلزم، فإن لزم (2)، فنقول: كما لم يوجد ما يقتضي ثبوت المطلوب، لم يوجد ما يقتضي الجزم (3) بالنفي، فليس الاستدلال بعدم دليل ثبوت الشيء على ثبوت الجزم بانتفائه بأولى من الاستلال بعدم دليل ثبوت الجزم بالنفي على حصول المطلوب.

وإما أن تحصل (4) الدلالتان معاً، فحينئذٍ يلزم منه الجزم بالثبوت والعدم، وهو محالٌ، وإما أن لا يحصُل واحدٌ منهما، فيكون ذلك (5) اعترافاً بأن عدم دليل الثبوت لا يقتضي الجزم بالنفي، وأما إن كان لا يلزم من عدم الجزم بالنفي (6) الجزم بالثبوت، فذلك إنما يكون إذا كان بينهما واسطةٌ، وإذا كان كذلك، لا يلزم من عدم ما يقتضي الجزم بالثبوت (7) الجزم بالنفي لاحتمال القسم الثالث، وهو عدم الجزم أصلاً وحصول التوقف.

قلت: وهذا الوجه هو المعتمد، وفيه كفايةٌ لما يظهر في الوجه الثاني من (8) قبيل المعارضة دون التحقيق.

قال الرازي: الثاني: سلمنا هذا، ولكن، إن جاز (9) أن يُستدل بعدم دليل

(1) في (ش): رجم.

(2)

في (ب): يلزم.

(3)

في (ب) و (ش) ثبوت الجزم.

(4)

في (ب): يحصل.

(5)

ساقطة من (ب).

(6)

من قوله: " وأما إن كان " إلى هنا ساقطة من (ش).

(7)

في (ش): وأما إن كان لا يلزم من عدم ..

(8)

في (ب) و (ش): أنه من.

(9)

في (ش): إن سلمنا جاز.

ص: 37

الثبوت على النفي، جاز أن يُستدل بعدم دليل (1) النفي على الثبوت، فيلزم من ذلك الجزم بالإثبات والنفي معاً، وهو محال.

لا يقال: فرقاً بينهما من وجوهٍ أربعة:

أحدها: هو أن دليل النفي إما أن يعني به عدم دليل الثبوت، أو يعني به وجود دليل النفي. فإن عنى به الأول، كان عدم دليل النفي عبارة عن عدم دليل الثبوت، وهو نفس دليل (2) الثبوت، فيكون حاصله الحكم بالإثبات لوجود دليل الثبوت، وذلك لا نزاع فيه، وإن عنى به الثاني، لم يلزم من عدم ما ينفي وجود الشيء حصول ذلك الشيء لاحتمال حصول عدمه بالطريق الأول، وهو عدم المثبت.

وثانيها: أن دليل كلِّ شيء على حسب ما يليق به، فدليل الثبوت يجب أن يكون ثبوتياً، ودليل النفي يجب أن يكون عدميَّاً.

وثالثها: إذا لم نجد على (3) إنسانٍ ما يدلُّ على نبوته، قطعنا (4) إنه ليس بنبيٍّ، وليس إذا لم نجد عليه ما يقدح في نبوته يقطع بكونه نبياً.

ورابعها: أنا لو نفينا ما لم يوجد دليل ثبوته، لزم نفي أمورٍ غير متناهيةٍ، وهو غير ممتنع، أما لو أثبتنا ما لم يوجد دليل عدمه، لزم (5) إثبات ما لا نهاية له، وذلك ممتنع، فظهر الفرق، لأنا نقول: أما الأول، فهو معارضٌ بمثله، لأن من قال في الشيء المعين: إنه لا دليل على ثبوته، فيقال: إن دليل الثبوت قد يراد به عدم دليل العدم، وقد يراد به ما يقتضي نفس الثبوت، فإن عنيت الأول،

(1) من قوله: " الثبوت " إلى هنا ساقط من (ش).

(2)

في (ش): ذلك.

(3)

سقطت من (ش).

(4)

في (ش): وطعنا.

(5)

في (ب): لزمه.

ص: 38

كان معنى قولك لم يوجد دليل الثبوت، أنه قد عدم دليل الثبوت، أنه قد عُدِمَ دليل الثاني، وذلك هو نفس وجود (1) دليل العدم، فيكون حاصله الحكم بالنفي لوجود ما يقتضي دليل النفي، وذلك غير هذه الطريقة، وإن عنيت الثاني، لم يلزم من عدم ما يقتضي الثبوت إلَاّ يكون الثبوت حاصلاً لاحتمال أن يحصل بواسطة الطريق الثاني، وهو عدم دليل العدم.

وأما قوله: دليلُ كل شيءٍ بحسب ما يليق به.

قلنا: هذا كلامٌ إقناعيُّ، ثم إنه باطل، لأنا توافقنا على أنه يجوز الاستدلال بعدم شيءٍ على ثبوت شيءٍ آخر، بل ذلك هو الحق، فإنه يلزم من ارتفاع أحد النقيضين القطع بحصول النقيض الآخر (2).

قوله: إذا لم يجد إنسانٌ ما يدل على نبوَّته، قطعنا أنه ليس بنبي.

قلنا: لا نُسلِّم، بل إنما نقطع بذلك لقيام الدلالة القاطعة على أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لما قطعنا به.

قوله: لو نفينا ما لم يوجد دليل ثبوته، لزمنا نفي ما لا نهاية له، ولو أثبتنا وجود ما لا دليل على نفيه، لزمنا إثبات ما لا نهاية له.

قلنا: نحن لا (3) ندعي أن الاستدلال بعدم دليل النفي على الثبوت (4) طريقٌ مستقيمٌ، بل نقول: إنه لا فارق في العقل بين الاستدلال لعدم دليل الثبوت على النفي وبين الاستلال بعدم دليل النفي على الثبوت، ولكن ذاك محالٌ لوجوه: منها ما ذكرتم أنه يلزم منه إثبات ما لا نهاية له، فيكون ما ذكرتموه باطلاً، وهذا إنما يتمشَّى لو دلَلْنَا على أنه يلزم من أحدهما الآخر، أما لو لم يدل

(1) ساقطة من (ب).

(2)

ساقطة من (ب).

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (ش): ثبوت.

ص: 39

عليه، فهذا الكلام غير جيد، وفي هذا الموضع مزيدُ نظرٍ. وبالله التوفيق.

انتهى كلام الرازي، وقد جوَّده وطوَّله، لأنه يُحيل (1) إليه من بعد بأدنى إشارة، كما قال في دليل الأكوان بعد المنع من تماثل الأجسام مُحتجاً للخصوم بحجَّتهم المعروفة التي فرغنا من تزييفها ما لفظه.

قوله: لا نُسلِّم (2) أن الجسميّة أمرٌ مشترك.

قلنا: المرجعُ في تماثل المتماثلات واختلاف المختلفات، إما إلى العقل، أو إلى الحسِّ، وكلاهما حاكمان بتساوي الأجسام في الجسمية، لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات، وصريح العقل شاهد بأن هذا القدر غير مختلف في أفراد الأجسام، وأما في الحس، فلأن كل جسمين يتساويان فيما عدا الجسمية من الصفات، فإنه يلتبس أحدهما بالآخر حتى يظن أن أحدهما هو الآخر، ولو كان الاختلاف في الجسمية حاصلاً، لما حصل الالتباس (3).

قال الرازي: وفي هذا الكلام (4) نظرٌ. ولم يزد على هذا، وهو يعني جميع ما تقدم في نقض هذه الحجة التي هي الاستدلال على عدم الشيء بعدم الدليل عليه، وجميع ما تقدم في نقض دعوى تماثل الأجسام. وأنا أنبه على يسيرٍ مما يعارض ذلك.

فأقول: لا نُسلِّم أوَّلاً أن المرجع في اختلاف المختلفات كلها إلى العقل أو الحسِّ، بل المرجع إليهما فيما أدركنا اختلافه من المختلفات، لكن ما المانع أن يكون الاختلاف في نفسه مختلفاً، منه (5) ما يصح أن يدركه البشر

(1) تصحفت في (أ) إلى: يخيل.

(2)

" لا نسلم " ساقطة من (ب).

(3)

في (ب): " هذا الالتباس "، وفي (ش): هذا القياس.

(4)

ساقطة من (ج).

(5)

في (ج): فيه.

ص: 40

بعقولهم وحسهم، ومنه ما لا يصح أن يُدركوه بهما (1) ولا دليل لهم على رفع هذا الاحتمال (2) إلَاّ عدم وجدانهم لذلك، واعتقادهم وجوب (3) النفي لما لم يجدوه، وقد مر بطلانه، فظهر أن هذه الحجة ترجع إلى ذلك، وإن زخرفوها (4) بتغيير العبارة، ولذلك قال الرازي: وفي هذا الكلام نظر، سلمنا أنه كله مما يصح أن (5) يدركوه بهما أو بأحدهما، لكن ما المانع أن يكون الحسُّ هو الطريق إلي معرفة اختلاف الأجسام، لكن لم يحصل ذلك الإدراك الممكن لمانعٍ، تارة يرجع إلى المختلف وتارة إلى (6) الاختلاف.

بيانه أن الجواهر وما لَطُفَ من الأجسام لا تُدْرِكُ هي أنفسها للطافتها، وذلك أمرٌ ضروري متفق عليه، فإذا لم تدرك هي أنفسها، فكيف اختلافها؟! فجاز أن يكون عدم الإدراك مما (7) صَغُرَ وخَفِيَ من الأجسام لأمرٍ راجع إلى نقصان إدراك البشر وضعف قوتهم في إدراكهم عن إدراك كل شيء كما لا تدرك الملائكة والجن والشياطين، ولا تُدرَكُ كبار الأجسام لإفراط البعد (8)، وما المانع أن يُدْرِكَ الله تعالى من الذوات اللطيفة واختلافها اللطيف ما لا يدرك، ومن العجب موافقة (9) الخصم على أنه تعالى يُدرِكُ من الذوات اللطيفة ما لا يُدرَكُ (10)، ونزاعه في أنه يُدرِكُ من اختلافها ما لا نُدرِك، ولا شك أن اختلاف ما

(1) عبارة " أن يدركوه بهما " ساقطة من (ش).

(2)

كتب على هامش الأصل ما لفظه: مستندهم في ذلك وجدان العقل وحكمه الذي جعله الله تعالى لنا حجة قاطعة، ولا عبرة بما خالف من الاحتمالات في التكاليف فتأمل.

(3)

في (ب): اعتقاد وجوب.

(4)

في (ج): حرفوها.

(5)

" يصح أن " ساقطة من (ب).

(6)

في (ش): يرجع إلى.

(7)

في (ب): فيما.

(8)

تحرفت في (أ) إلى: العبد.

(9)

في (ش): موافقتهم.

(10)

في (ش): ندركه.

ص: 41

لطُفَ ألطفُ من ذاته، وأما الأجسام المُدَركة، فالاحتمال فيها من وجهين:

أحدهما: أن الخصم مسلِّمٌ أنا (1) قد لا ندركها مع عظمها لمانعٍ من ضعف البصر، أو البُعد المُفرطِ، أو الحجاب الكثيف، فيجوز أنا لم ندرك اختلافها لمانعٍ، وهو اتصافها بالصفات العارضة من الألوان والمقادير والأشكال والصور، ولعلها لو تجرَّدت من (2) هذه الأمور، أدركنا نوعاً آخر من الاختلاف لم نعرِفْهُ قطُّ.

وثانيهما: أنه (3) كما صح أن (4) في الذوات ما لا يُدرَكُ (5) للطافته، فلا يمتنعُ أن يكون اختلاف الأجسام العظيمة لطيفاً غامضاً، ولا (6) يدرك للطافته، ولا يعلمه إلَاّ الله تعالى. ألا ترى أنه لو أخبر الله بذلك لوجب تصديقه، ولم يكن كالإخبار بأن البعض أكثر من الكل، بل قد أخبر الله تعالى باختلاف المتحيِّزات في ذكره سبحانه:{إرَمَ ذات العماد} [الفجر: 7]، حيث قال في وصفها:{التي لم يُخلقْ مثلُها في البلاد} [الفجر: 8] فأمِنَ بذلك من لم يعرف علم الكلام من جميع أهل الفطر السليمة من التغيير من جميع طوائف المسلمين وسلفهم الصالح، واحتجُّوا به، ولم يجعلوا ظاهره في البُطلان كالمقيد بوجود المُحال الذي يجب القطع على أن ظاهره كذب مقطوعٌ به لا يمكن تجويز صدوره من الله، وكذلك يجد الإنسان التطلعَ إلى سؤال من يعلم الغيب عن الشفاء واليقين في مثل هذه المشكلة تطلُّعَ من تَقَبَّلَ الخبر بأي الأمرين وقع، وليس هذا حال المعلومات اليقينية. فإن قالوا: لا نعلم مانعاً، فيجب نفيه،

(1) في (ش): أنها.

(2)

في (ش): عن.

(3)

في (ش): أنه لا يصح.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ش): يدركه.

(6)

"الواو" ساقطة من (ب) و (ش) و (ج).

ص: 42

رجعوا إلى ما تقدَّم بطلانه، وعرفت أن دليلهم هنا يدور عليه.

ومثال ما ذكرته لك من لُطف الاختلاف الذي يخفى على البشر: اختلاف أئمة الاعتزال في الحركة والسكون وسائر الأكوان، هل هي مُدرَكَةٌ بالبصر أم لا؟

فقال الشيخ أبو عليٍّ الجبائي: هي مُشَاهَدَةٌ، وهو أول قولي أبي هاشم، ثم رجع عن ذلك، فنفى أن تكون مشاهدة لما التبس عليه المتحرِّك نفسه بحركته، فلم يدر هل المشاهد المتحرك وحده أو المتحرك وحركته، ولو رجع من إثبات المشاهدة إلى الوقف، لكان أقوى له، ولكنه رجع إلى الجزم بالنفي ملاحظةً للبقاء (1) على قاعدتهم الفاسدة في أن عدم الدليل على ثبوت الشيء يستلزم القطع بنفيه، فانظر إلى اختلاف هذين الشيخين الكبيرين وتردُّدهما في أمرٍ: هل هو مشاهد أم لا؟ وعلى كلام أبي عليٍّ يكون أبو هاشم جَحَدَ الضرورة المشاهدة وعرض له من الشكِّ فيها ما عرض للسوفسطائية من الشُّبهة في إنكار جميع العلوم الضروريات، وما أوقعهم في هذا إلَاّ دعوى القطع في موضع الوقف، وقد يقفون في بعض المواضع كما يقفون في إدراك الفناء. مع أن ضده مُدرَكٌ، وكما وافقونا (2) عليه في تجويز ألوان غير هذه الألوان في قدرة الله تعالى من غير دليلٍ عليها، وكذلك في الطعوم والروائح، ولم يخافوا (3) من هذا لزوم ثبوت ما لا يتناهي من كلِّ جنسٍ من ذلك، كما مر في أدلتهم، وهذا ينقضُ عليهم قاعدتهم في نفي ما لا دليل عليه، بل قد نصُّوا على اختلاف الذوات في العدم، واختلافها فيه غير مُدرَكٍ ضرورة، فبطلت شبهتهم، والحمد لله.

واعلم أن قاعدتهم هذه الفاسدة قد ألجأتهم إلى القطع بأن الله عز وجل لا يصحُّ أن يُدرك، ولا يعلم من اختلاف الأجسام والجواهر في ذواتها (4) غير ما

(1) في (ش): للنفي.

(2)

في (ب): أو قفونا.

(3)

في (ب): يخالفوا في.

(4)

ساقطة من (ب).

ص: 43

يعلمه ضعفاء البشر، وجُهَّالُهم، وكفي بهذا شناعة على من يقول به، ومناقضة لقولهم: إن الاختلاف ثابثٌ في العدم (1) غير مُدرَكٍ فيه.

وعلى الجملة، فالعلم الضروري حاصل باختلاف البشر في الإدراك، تارة لأمرٍ يرجع إلى قوة الحاشة، مثل ما رُوِيَ عن الزرقاء (2) في حدة بصرها، ومثل ما يشاهد في رؤية الهلال، وأمثال ذلك، وتارة يرجع إلى كثرة المعرفة والخبرة وطول التجربة، مثل ما أن الجوهرى يعلم من اختلاف الجواهر النفيسة والفصوص الثمينة ما لا يعرفه من يُشاهدُها متماثلةً مع صحة بصره لعدم خبرته، وكذلك الصيرفي النَّقَّادُ (3) يدرك التفاوت العظيم بين الدرهمين المُتماثلين في بصرِ من لا يُحسِن صنعته، بل البهائم تدرك من اختلاف صور أولادها المثماثلة في أبصارنا ما لا ندرك، خصوصاً الشاة والماعز، وكذلك الرعاة (4) تُدرِكُ من اختلاف صور الشاة ونحوها (5) ما لا يدرك غيرُهم، وهذا (6) شيء يعلمه العامَّة،

(1) في (ب): القدم.

(2)

هي زرقاء اليمامة، واليمامة اسمها، وبها سُمِّيَ البلد، وهي امرأة من جديس وكانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، ويُضرب بها المثل في حدة النظر وجودة البصر، وهي التي ذكرها النابغة في قوله:

واحكمْ كحكمِ فتاةِ الحيِّ إذ نَظَرَتْ

إلى حَمَامٍ شِراع وارد الثَّمَدِ

يحفُّه جانبا نيق وتتبعُه

مثل الزجاجة لم تكحل من الرَّمَدِ

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامَتنا أو نصفه فَقَدِ

فحسّبوه فألفَوْه كما ذكرتْ

تِسعاً وتسعين لم تَنْقُص ولم تَزِدِ

ويقال لها: زرقاء جو لزرقة عينيها، وجو اسم لليمامة، قال المتنبي:

وأبصر من زرقاء جوٍّ لأنني

إذا نظرت عيناي شاءهما علمي

انظر " المستقصى " 1/ 18، و" مجمع الأمثال " 1/ 114، و" خزانة الأدب " 10/ 254 - 255 و485.

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (ب): وكذا الرِّعاء.

(5)

ساقطة من (ش).

(6)

في (ب): هذا.

ص: 44

فالعجبُ من قوم يدَّعون فرط الذكاء، وبُعْدَ الغايات في التدقيق لم يعرفوا أن الله اللطيف الخبير علَاّم الغيوب يجوز أن يُدرك في (1) اختلاف المتماثلات في إدراكنا ما لا نُدركه، وكيف (2) لا يكون إدراكه يخالف إدراكنا، وعلمه يخالف علمنا، وصفاته (3) تخالُف صفاتنا في كمالها في حقه ونقصها في حقنا، وأي أمر ساواه فيه (4) خلقه، وأين نفي التشبيه (5) الذي تدعي الخصوم المبالغة فيه؟ وما ألجأهم إلى تشبيه الله تعالى بخلقه الضعفاء في صفة الإدراك، وأوقعهم (6) فيه؟ وقد ثبت أن من قال في علم الله أو قدرته أو غيرهما من صفات الله المحكمة: إنها مثل صفاتنا، فهو كافرٌ مشبِّهٌ بإجماع المسلمين (7)، فليحذر في (8) ذلك، والقائل (9) بأن إدراكه لاختلاف المختلفات وتماثل المتماثلات لا يصحُّ أن يزيد على إدراكنا قطعاً (10) - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (11)، وما زال المسلمون يُنزِّهون الله تعالى عن ذلك (12). ومن الدائر بينهم قول القائل:

يا من يرى مدَّ البَعُوض جَنَاحَهَا

في ظُلمةِ الليل البهيمِ الأليَلِ

ويرى نِياطَ عُرُوقِهَا في سَاقِهَا

والمُخ في تلك العظام النحل (13)

(1) في (ب) و (ش): من.

(2)

في (ش): وكذلك.

(3)

في (ب) و (ش): وجميع صفاته.

(4)

في (ش): في.

(5)

في (ب): الشبيه.

(6)

في (ش): ووافقهم.

(7)

في (ش): بالإجماع.

(8)

ساقطة من (ب) و (ش).

(9)

في (ب) و (ش): القائل.

(10)

ساقطة من (ش).

(11)

في (ب): عن ذلك.

(12)

جملة " ينزهون الله تعالى عن ذلك " ساقطة من (ش).

(13)

أنشدهما الزمخشري في " الكشاف " 1/ 265 في تفسير قوله تعالى: {إن الله لا =

ص: 45

وكذلك البَّزازُ يعرف تفاوتاً كثيراً في الثياب المتماثلة في رؤية البدوي الغِرِّ، فإذا كان البدوي الغِرُّ يجوز أن يدرك الجوهري والبزاز فيما اختصَّا به، ما لم يدركه (1)، فكيف لا يجوز في البشر الضعيف في قواه أن يستأثر الله تعالى بإدراك ما لا ندركه من اختلاف الأشياء، وقد صح أن الله تعالى خالف بين الأشخاص في وجوههم مخالفة تُحيِّرُ عقول الأذكياء، فما كان العقل يُدرك أن مقدار شبرٍ يُصوِّرُ بصورٍ مختلفةٍ متمايزة إلى حدٍّ لا نهاية له، وقد يخفي علينا من (2) ذلك ما لا يخفى على الله تعالى من اختلاف البَعُوض والذَّرِّ، وما هو أصغرُ من ذلك في وجوهها واختلاف الأصوات، وقد سمعت عن بعض (3) العارفين أن كل حبةٍ من العنب وغيره مخالفة للحبة الأخرى في مقدارها، ولا سبيل إلى تكذيب هذا، وبعضه مُدرَكٌ، ولكن من قطع بأن الله تعالى لا يعلم من ذاته إلَاّ مثل ما يعلمه نظَّارةُ البشر لم يُستنكر (4) منه أن يقطع على أن (5) الله تعالى لا يُدرِكُ من اختلاف المختلفات إلَاّ ما يُدرِكه البشر فالله المستعان.

وليت شعري، من أين جاء للعقول القطع بأن ذوات الملائكة مثل ذوات الكلاب والخنازير، وأن ذات النور مثل ذات الظلمة، وذات الرياح مثل ذات الحديد، وما أحسن الإنسان يَقِفُ حيث لا يعلم، ويتأدَّبُ بقول الله تعالى:{ولا تَقْفُ ما ليسَ لَكَ به عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. نسأل الله التوفيق، وقد عَظُمَ

= يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} فقال: أنشدت لبعضهم وذكر البيتين، وزاد بيتاً ثالثاً، وهو:

اغفِرْ لعبدٍ تابَ من فرطاتِه

ما كان منه في الزَّمان الأوَّلِ

وأوردهما ابن خلكان في " وفيات الأعيان " 5/ 173 في ترجمة الزمخشري.

(1)

من قوله: " في ظلمة الليل البهيم الأليل " إلى هنا ساقط من (ب).

(2)

في (ب): في.

(3)

في (ب): " وعن بعض "، وفي (ش):" وقد سمعت بعض ".

(4)

في (ش): يستكثر.

(5)

سقطت من (أ).

ص: 46

الوعيدُ فيمن افترى على عينيه في الأحلام (1)، فكيف بمن افترى على عقله في قواعد الإسلام.

وذكر ابن متويه في الألوان أن طريقة الحصر إنما تكون حجة حيث تؤدِّي إلى ما لا يعقِلُه أصلاً، وهذا ضعيفٌ جداً، فإنه إن أراد بما لا نعقله أصلاً ما لا نعلمه بنفيٍ ولا إثباتٍ، فمحل النزاع، وإن أراد ما نعلم نفيه، فغير محلِّ النِّزاع.

وأيضاً فإن أراد ما لا يتصوره لعدم إلفِنَا له، لَزِمَهُ بطلان القِدَم، فإنَّ العقول تنبو عن تصوُّره لعدم إلفِهَا له، ولأنه لا نهاية له كما ذكره أهل علم المعقولات، وكذلك لا يمكن تصوُّر ذات الله عز وجل، مع أنها أحق الحق، والمختصَّة بوجوب الوجود.

وإن أراد بما لا نعقله أصلاً ما نعلم بفطرة العقول إحالته وامتناعه، فالعلم بذلك دليل على انتفائه، وقد خرج بذلك عن الاستدلال على نفيه بعدم الدليل على نفيه (2)، ولو كان كلام ابن متويه صحيحاً، لكان أكبر حُجَّةٍ لخصومه حيث قالوا: إنهم يعلمون بالضرورة إن كل موجوديْن، إما أن يَحُلُّ أحدُهما في الآخر،

(1) أخرج أحمد 1/ 90 و91 و131، والترمذي (2281) و (2282)، والحاكم 4/ 392 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه:" من كَذَبَ في حُلْمِهِ، كُلِّف يوم القيامة عقد شعيرة ".

وأخرجه من حديث ابن عباس: أحمد 1/ 216 و246، والبخاري (7042)، والترمذي (2283)، وأبو داود (5024)، والبغوي في " شرح السنة "(3218)، والطبراني في " الكبير " 11/ (11831) و (11855) و (11884) و (11923) و (11960) بلفظ:" من تحلَّمِ بحُلْمٍ لم يره كُلِّفَ أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل ".

وأخرجه من حديث ابن عمر: البخاري (7043) بلفظ: " مِنْ أفرى الفِرى أن يُرِي عينه ما لم تَرَ ".

وأخرجه البخاري معلقاً من حديث أبي هريرة (7042) عقب حديث ابن عباس المتقدم. وانظر " تغليق التعليق " 5/ 274 - 275.

(2)

" على نفيه " ساقطة من (ب).

ص: 47

أو يكون مفارقاً (1) له بالجهات، بدليل أنهم لا يعقلون قسماً ثالثاً أصلاً.

قالوا: فلو جوَّزنا القدح في هذه القضية مع كونها معلومة بالفطرة موافقة لنصوص الكتب المنزَّلة، جاز القدح في سائر القضايا الضرورية، وذلك يجرُّ إلى السفسطة، فإذا كانت هذه الطريقة هي حُجَّته عليهم، فإنها بعينها هي حجَّتُهم عليه، فكان في تصحيح قوله بطلانه.

زاد مختار: إنه لا دليل على القديم في الأزل مع وجوب ثبوته فيه، وهو دليك صحيحٌ، فهذا من الأدلة العقلية.

ومن الأدلة السمعية ما لا يُحصى، من ذلك قوله تعالى:{وَيَخلُقُ مَا لا تعلَمُون} [النحل: 8]، فلو كان ما لا يعلم البشر يجب نفيه، لوجب أن يستحيل صدور مثل هذا النص الحقِّ عن الربِّ الحقِّ، ومن ذلك ما ثبث وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس:" أن الخَضِرَ قال لموسى ما علمي وعِلمُكَ وعِلْمُ جميع الخلائق في علم الله إلَاّ مثل ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر "(2)، ويشهد لهذا قوله تعالى:{وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلمِ إلَاّ قَليِلاً} [الإسراء: 85].

وفي الصَّحيح أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:" لو تعلمون ما أعلمُ، لضَحِكْتُم قليلاً ولبكيتُم كثيراً "(3)، فكيف يصح مع هذا في عقل عاقل أن يكون الجهلُ طريقاً

(1) في (ش): مقارناً.

(2)

أخرجه أحمد 5/ 118، والبخاري (122) و (3401).

(3)

روى هذا الحديث غيرُ واحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، فأخرجه من حديث عائشة: أحمد 6/ 81 و164، ومالك 1/ 186، والبخاري (1044) و (6631)، ومسلم (901)، والنسائي 3/ 132 - 133 و152.

وأخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 257 و312 - 313 و418 و432 و453 و467 و477 و502، والبخاري (6485) و (6637)، والترمذي (2313)، والحاكم 5/ 479، والبغوي في " شرح السنة "(4170)، والقضاعي في " مسند الشهاب " =

ص: 48

إلى العلم والعمى سبيلاً إلى البصر (1)، وأدلَّة السمع هنا صحيحة، لعدم وقوف صحة السمع على هذه المسألة، بل هي أصح، لعدم تعارضها والأمان من الزلل في مداحض غوامضها.

وبتأمل هذا وتفهُّمِه تعرف أن الذين لم يُكفِّروا المختلفين في هذه الدقائق، ولم يحكموا بعنادهم وتعمدهم له، هم الذين بلغوا الغاية في معرفة قواعد الاختلاف وأسبابه.

الحجة الثالثة: للمعتزلة على تماثل الأجسام: قسمة الحصر والسَّبْر، وقد تقدم في كلام الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام والرازي، أن المرجِع بها إلى الاستدلال بعدم الدليل على نفي المدلول، وقد مر الكلام فيه، وهو صحيح جليٌّ، لأنه لا بد أن يقولوا: لو كان هناك قسم آخر غير الأقسام المذكورة لعرفناه، لكنا لا نعرفه، فهو باطل، على أنها لو صحت لاحتجَّ بها خصومُهم، كما تقدم، وكانت لفساد قول المعتزلة ألزم، والله سبحانه أعلم.

ثم إن ابن متويه عَضَّدَ هذا الاستدلال بطريقة الحصر بنحوه، وطوَّل في

= (1419)، وابن حبان (113) و (358) و (662) و (5793) و (6706).

وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 102 و126 و180 و193 و210 و251 و268 والبخاري (4621) و (6486)، ومسلم (2359)، والنسائي 3/ 83، وابن ماجه (4191)، والبغوي (4171)، والقضاعي (1430) و (1432)، وابن حبان (5792).

وأخرجه من حديث أبي ذر الغفاري: أحمد 5/ 173، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، والحاكم 2/ 510 و4/ 544 و579.

وأخرجه من حديث أبي الدرداء الحاكم 4/ 320، وصححه، ووافقه الذهبي، والقضاعي في " مسند الشهاب "(1433)، ونحوه عند أبي نعيم في " الحلية " 1/ 216 موقوفاً على أبي الدرداء.

وأحرجه من حديث عبد الله بن عمر: القضاعي (1431).

وأخرجه من حديث عمرو بن العاص: أبو نعيم في " الحلية " 1/ 289.

(1)

في (ب): النظر.

ص: 49

اختلاف عباراتهم عنه، وما هو إلَاّ تسويدٌ للأوراق، وتشويشٌ على النُّظَّار، وتضييعٌ للأوقات، وكثيراً ما يغترُّ من نظر في كتبهم بأنهم يخوضون كثيراً في أمورٍ صحيحة جليَّةٍ، ويوردون على أنفسهم أسئلة ساقطة بمرَّةٍ، ثم يَحيدُون في الجواب عنها، ويُدرجون في أثنائها السؤال الحق الذي لا جواب يتَّضحُ لهم عليه، ثم يُوردون في الجواب عليه ما لا يشفي ولا يكفي، فربما لم يتفطن له الغبي، وربما ظن حين لم يفهم كلامهم أنه دقَّ عليه ما فهموه بفرط ذكائهم، وما أحسن قول إمام علم الكلام الغزالي، حيث قال: إنَّ الطريق إلى التحقيق من علم الكلام مسدد، وإنه لا يخلو من معارف صحيحةٍ، ولكن اليقين الذي فيه إنَّما هُوَ في أمورٍ يحصُلُ اليقين بها قبل الخوض فيه، أو كما قال. وما أنفسَه من كلام!

وربما دقَّ كلامهم على من لم يألف عباراتهم (1)، وفي الحقيقة إنما دق عليه ما اصطلحوا عليه وابتدعوه مِنَ العبارات كما يدقُّ على العربي الفصيح فهم كلام الأعاجم في تراطنهم، ولذلك كان الإمام أحمد إذا جادلوه بتلك العبارات، يُجيب عليهم بأن هذا فنٌّ لا أعرفه، كما مرَّ تحقيقه، وأنَّه الذي ينبغي للسُّنِّيِّ في الجواب عليهم، وأنت تقول: إن هذا كلام من لم يفهم ما ذكروه، فاعتبر بمن أجمعوا على تعظيمه من مشايخهم، ممن يَرُدُّ قولهم ويبالغ في نسبتهم إلى رِكَّةِ النظر، أو إلى (2) العناد، كما سيأتي من كلام أبي الحسين البصري وأصحابه على أبي هاشم وأصحابه، فقد تعارضت أقوالهم في هذه الدقائق، ويستحيل تكاذب العلماء، كما يستحيل تعارضُ العلوم.

وربَّما رجَّحوا ما يعتقدونه دليلاً عقلياً، بأنه لا يحتمل التأويل، وهذا معارض في حق المعتزلة بأن الاستدلاليَّ عندهم ما يجوز عروض الشَّكِّ والشبهة فيه عند القطع به، وقد حقَّقت في " ترجيح أساليب القرآن "(3) أن هذا شكٌّ ناجزٌ يُنافي

(1) في (ش): عبارتهم.

(2)

في (ش): وإلى.

(3)

انظر ص 87.

ص: 50

العلم القاطع، وهو مذهب الإمام يحيى بن حمزة والرازي، كما مر بيانُه في الحجة الثانية في جواب قول المعتزلة: إن الوقف فيما لا دليل عليه يؤدي إلى بطلان العلوم النظرية لتجويز غلطٍ في مقدماتها لم يشعر به (1) الناظر.

ثم إن أكثرهم لا يُجيدون علم الاجتهاد، ولا يتقنون (2) قواعد التأويل الصحيح، فيأتون من التأويلات بجنس تأويلات الباطنية، وقد تكلم عليهم الزمخشري في بعض المواضع، وخالفهم في كثيرٍ منها لذلك، فقال في تأويلهم لقوله تعالى:{بلْ يداهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: 64]: وهذا من ضيق العَطَنِ والمُسافرة عن علم البيان مسافة أعوامٍ، وخالفهم في تأويلهم لمثل (3) قوله:{ولو رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] وغير ذلك.

وأما قولهم: إذا بطل العقل بطل السمع، فإنه فرعه، فالجواب (4) من وجوه:

أحدها: أن السمع لا يُعارضُ العقل، فإن الأنبياء والأولياء والسلف أوفر الخلق عُقولاً، ولذلك زهِدُوا في الدنيا، وكثير من المتكلمين فاسق تصريح، ومن شيوخهم في علم الكلام أعداء الإسلام المخذولون من الفلاسفة وأشباههم، وإنما يجنون على العقول بدعاوى باطلةٍ.

والوجه الثاني: أن المبتدعة والفلاسفة لم يسلموا من مخالفة فِطَرِ العقول، كما بيَّنوا ذلك في رد بعضهم على بعض في علم اللطيف، ولكنهم يقعون في تلك المحارات (5) حين يُلجئهم إليها دليلُ الخُلْفِ الظَّني، وتقليد القدماء ممن يُعظِّمُونه، وأهل السنة يُؤمنون (6) بالمحارات (7) السمعية التي جاءت بها الرسل،

(1) في (ش): بها.

(2)

في (ب) و (ش): يحققون.

(3)

في (ش): مثل.

(4)

في (ج): والجواب.

(5)

في (ش): المحالات، وهو خطأ.

(6)

ساقطة من (ب).

(7)

في (ش): بالمحالات، وهو خطأ.

ص: 51

وصحت فيها النصوص، والكل مُقرٌّ بامتناع المحالات (1) العقلية الضرورية.

الوجه الثالث وهو الحق: أن تقدير تعارض العقل والسمع القاطعين (2) تقديرٌ محالٌ: لأن تعارض العلوم محالٌ، ولو قُدِّرَ، بطلا معاً، ألا ترى أن السمع لو بطل، وقد حكم العقل أنه لا يبطُلُ، لعلمنا بذلك أيضاً بطلان إحكام العقول، وقد أجاب عليهم (3) بهذا شيخ المعقول والمنقول ابن دقيق العيد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره الزركشي (4) في شرح " جمع الجوامع " للسبكي وقد تفرَّع هذا الكلام من رد احتجاجهم على تماثل الحوادث المستقلة، وتسميتها أجساماً كلها بدليل الحصر والسبر، ونقض ذلك عليهم، وبيان مخالفتهم فيه لجمهور علماء المعقول، وجميع أئمة علم (5) المنقول ممن وقع الاتفاق على تفضيله في عقله، وتصديقه في نقله، لكمال تقواه وفضله.

الحجة الرابعة: أنهم بَنَوا على أنه لا يصحُّ اختلاف الأجسام إلَاّ في صفاتها الذاتية أو المقتضاة، وصفاتها الذاتية ثابتة (6) معها في حال (7) العدم بغير اختيارٍ

(1) في (أ) و (ج): المحارات، وهو خطأ.

(2)

في (ب): القاطعة، وفي (ش): القطعيين.

(3)

في (ش): عنهم.

(4)

هو الإمام العلامة أبو عبد الله بدر الدين محمد بن بَهَادر بن عبد الله المصري الزركشي الشافعي، ولد سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وسمع من العلامة مغلطاي، وتخرج به في الحديث، وقرأ على الشيخ جمال الدين الإسنوي، وتخرج به في الفقه، ورحل إلى دمشق، فتفقه بها، وسمع من الحافظ ابن كثير، ورحل إلى حلب، فأخذ عن الأذرعي وغيره، وأقبل على التصنيف، فكتب بخطه ما لا يحصى لنفسه ولغيره، له تصانيف كثيرة في الأصول والفقه والحديث والتفسير، منها كتابه الذي نقل عنه ابن الوزير هنا، وهو مطبوع في مجموع شروح " جمع الجوامع " بمصر سنة 1322 هـ، واسمه " تشنيف المسامع لجمع الجوامع "، توفي سنة 794 هـ بالقاهرة، ودُفن بالقرافة الصغرى. مترجم في " إنباء الغمر " 3/ 138، و" طبقات ابن قاضي شهبة " 3/ 227، و" تاريخ ابن الفرات " 9/ 326.

(5)

ساقطة من (ب) و (ج).

(6)

ساقطة من (ش).

(7)

ساقطة من (ج)، وفي (ش): حالة.

ص: 52

من الله تعالى وصفاتها المقتضاة عنها ليست إلَاّ التحيز لا سوى، والتحيز مختلفٌ فيه بينهم، فمنهم (1) من قال: هو ثابت أيضاً في العدم بغير اختيار الله تعالى، حكاه مختار في " المجتبى "، كما سيأتي كلامه، وحكاه ابن متويه في " التذكرة " ولم يُقبِّحه على قائله من شيوخهم (2)، وهذا جرى (3) على القياس، لأن الصفة المقتضاة لا تَخَلَّفُ (4) عمَّا يقتضيها في العقل، وإلا لما كانت مقتضاة، كما أن المعلول لا يتخلف عن العلَّة (5)، ولكنهم خافوا أن يتفاحش الأمر ويلزمهم التصريحُ بقدم (6) العالم، والمجاهرة بذلك، فاعتذروا بأنَّ هذا التحيُّز لا يظهر إلَاّ بشرط الوجود، والوجود بالفاعل، فقد زعموا أن التحيُّز ليس بالفاعل، وهو الله تعالى، ولا الذات، ولا صفتها الذاتية، والوجود عندهم ليس بشيءٍ، لأنَّ الأشياء ثابتةٌ في العَدَم، ولا تأثيرَ لله تعالى إلَاّ فيه، مع أنه ليس بشيءٍ، فصحَّ (7) على زعمهم أنَّ الله تعالى لم يؤثر في شيءٍ على الحقيقة، وهذا مما لا جواب لهم عنه (8)، وإنما (9) حاولوا الجواب عن (10) كونه تعالى لم يخلُق شيئاً ولا أحدثه، فإن ابن متويه حاول الجواب عن هذا بأن خلق الشيء وإحداثه هو إيجاده، والله تعالى هو الذي حصَّل (11) له صفة الوجود، وهذا الجواب غير مخلص، فإن معنى الإلزام أن اتِّصاف الشَّيء بأنه مخلوق على اعتقادهم مجاز،

(1) جاء في هامش (ش): وهو أبو عبد الله البصري.

(2)

في (ش): شيوخهم.

(3)

في (ب) و (ش): وقد أجري.

(4)

في (د): نخالف.

(5)

في (ب) و (ش): العلة العقلية.

(6)

في (ب): بعدم.

(7)

في (ش): يصح.

(8)

في (ش): فيه.

(9)

في (ش): ولما.

(10)

في (ش): من.

(11)

في (ش): جعل.

ص: 53

لأن الشيء ثابتٌ عندهم في العدم قبل خلقه، وإنما المخلوق على (1) الحقيقة عندهم حدوثه ووجوده، وليسا بشيءٍ عندهم. وقد صرَّح الزمخشري في " أساس البلاغة "(2) بأن الله لا يُسمى خالقاً إلَاّ مجازاً، وهو علَاّمتهم في علم اللغة، فكيف غيرُه؟

وقد صرَّح ابن متويه بأن الأشياء مختلفة في العدم بصفاتها الذاتية، وأن اختلافها ليس بالفاعل -يعني بالله تعالى- وإلا لجاز (3) أن يجعل السواد مثلاً (4) للبياض، فثبت أن عندهم أن الله تعالى غير قادرٍ على خلق جوهرٍ مخالفٍ للجواهر، ولا يمكن أن يعلمَ الله إلى ذلك سبيلاً، ولا يقدر على المخالفة بين شيئين أصلاً، إلَاّ أن يكونا مختلفين بأنفسهما من قبل خلقه لهما، وهذا أيضاً راجعٌ إلى عدم الشيء لعدم الدليل عليه، لأنه لا دليل لهم على أنه لا يصحُّ اختلاف الأجسام سواه، فإذا كان (5) تماثل الأجسام مبنياً على هذه الدعاوى، فلا شكَّ في مخالفة (6) أكثر علماء المعقولات لهم في ذلك. دع عنك علماء الآثار (7) وأئمة الإسلام، وقد خالفهم في ذلك خلق كثير من علماء الاعتزال، وشنَّعوا عليهم في ذلك لما فَحُشَ جهلُهم فيه.

فلنقتصر على ردِّ أصحابهم عليهم، ولنقتصر علي أخصر كلامٍ، في ذلك لمجانبة هذا الجواب لهذا (8) الفنِّ إلَاّ ما تمسُّ الحاجة إليه مما ليس فيه خوضٌ في ذات الله عز وجل.

(1) من قوله: " اعتقادهم مجاز " إلى هنا ساقط من (ب).

(2)

ص 173.

(3)

في (ش): جاز.

(4)

سقطت من (ش).

(5)

في (ش): وإن كان.

(6)

في (ش): مخالفته.

(7)

في (ش): الأثر.

(8)

في (ب) و (ش): بهذا.

ص: 54

فنقول: قال الشيخ مختار بن محمود المعتزلي في كتابه " المجتبى " في الكلام على وجود الرب سبحانه وتعالى ما لفظه: الكلام في هذه المسألة يختلف باختلاف الناس (1) في الوجود، فَمَن قال: وجود الشيء ذاته وحقيقته، قال: إذا دللنا على أنه لا بد للعالم من صانع، علمنا أنه موجود، لأن الشكَّ في عدمه بعد العلم بثبوته شكٌّ في انتفائه بعد ثبوته، وأنه خُلْفٌ، وإنما قلنا: إنه شكٌّ في انتفائه، لأن أهل اللُّغة يستعملون لفظ العدم، ولفظ النفي بالترادف، والنفي والثبوت يتقابلان، فكذا العدم والثبوت، فكل ما كان ثابتاً لا يكون معدوماً، وإذا لم يكن الباري معدوماً، كان موجوداً، فصحَّ ما ادعينا أنه إذا ثبت أنه لا بد من صانعٍ للعالم، ظهر وجوده، وإلى ذلك ذهب كثير من المشايخ، كأبي الهُذيل (2) وهشام الفُوطِي (3) وهشام البرذعي، وأبي (4) الحسين البصري، وشيخنا ركن الدين محمود الخوارزمي (5)، ومن السنية: أبو بكر الباقلاني (6) وأتباعه.

(1) ساقطة من (ش).

(2)

هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول أبو الهذيل العلَاّف، شيخ المعتزلة، ومقرِّرُ طريقتهم، والمناظر عليها، المتوفى سنة (227) هـ، زعم أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع ويصيرون إلى سكون دائم، وأنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة، وقال: هما الله انظر ترجمته في " السير " 10/ 542.

(3)

هو هشام بن عمرو الفوطي كان صاحب ذكاء وجدال وبدعة ووبال. مترجم في " السير " 1/ 177.

(4)

في (أ): "أبو"، وتقدمت ترجمة أبي الحسين البصري 2/ 333.

(5)

قال اللكنوي في " الفوائد البهية " ص 74 هو ركن الدين الوالجاني الخوارزمي، كان إماماً جليلاً، كثير العلم، أوحدَ عصره في العلوم الدينية، ومجتهد زمانه في المذهب والخلاف، تفقه على نجم الدين الحكيمي عن فخر الدين حسن قاضيخان، وتفقه عليه صاحب القنية. قلت: صاحب القنية هو الشيخ مختار بن محمود هذا الذي نقل عنه المؤلف.

(6)

هو الإمام العلامة أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري ثم =

ص: 55

وأما من قال: وجود الذات زائدٌ على حقيقته، لكنه غيرُ منفكٍّ عنها، وهذا قول أكثر الفلاسفة والأشعرية، ومن تابعهم، فإنهم قالوا: الدليل على ثبوت حقيقته دليلٌ على وجوده، لأن وجوده عندهم لا ينفكُّ عن حقيقته.

وأما من قال: وجود الذات زائد عليه، ومنفكٌّ عنه، زعم أن الحقائق متقررة مع انتفاء الوجود عنها، وهم (1) جمعٌ من المشايخ، كأبي يعقوب الشَّحَّام (2)، وأبي علي الجُبَّائي، وأبي هاشم، وأبي الحسين الخياط (3)، وأبي القاسم البلخي، وأبي عبد الله البصري، وقاضي القضاة، وأبي رشيد، وابن متويه، وأتباعهم. وزعموا أن المعدومات قبل وجودها ذوات، وأعيان وحقاثق، وأن تأثير الفاعل في جعل تلك الذوات على صفة الوجود لا على الذوات، ثم اتفق هولاء أن الذوات لا تختلف إلَاّ بالصفات، واختلفوا في أنها هل (4) هي موصوفةٌ في حال عدمها، فقال ابن عياش والكعبي: إنها غير موصوفة بشيءٍ من الصفات.

وقال في الفصل الرابع في الصفات الذاتية: إنهم جوَّزوا للمعدوم تحققاً في الخارج. انتهى (5).

قال خاتمة أهل الأصول، تقي الأئمة العجالي (6): وما نُقِلَ عن الكعبيِّ من

= البغدادي، صاحب التصانيف النفيسة المتوفى سنة 403 هـ، كان إماماً ثقةً بارعاً، يضرب المثل بفهمه وذكائه. مترجم في " السير " 17/ 190.

(1)

في (ش): فهم.

(2)

كان رئيس معتزلة البصرة في عصره، وقد عينه الواثق رئيساً لديوان الخراج، مات سنة 267 هـ. انظر مقالاته في مقالات الإسلاميين " للأشعري " ص 162 و199 و277 415 و504 - 506 و549 - 550.

(3)

هو عبد الرحيم بن محمد بن عثمان البلخي، شيخ المعتزلة البغداديين، وتنسب إليه فرقة الخياطية، كان ذا ذكاء مفرط من بحور العلم، صنف كتاب " الاستدلال "، ونََقَضَ كتاب ابن الراوندي في فضائح المعتزلة. مترجم في " السير " 14/ 220.

(4)

سقطت من (أ) و (ش).

(5)

من قوله: " وقال في الفصل الرابع " إلى هنا ساقط من (ب).

(6)

في (ش): تقي الدين.

ص: 56

أنَّ المعدوم شيءٌ يريد به أنه معلومٌ على ما ذهب إليه أبو الحسين البصري، وهو غير كونه ذاتاً.

وقال غيرهما من هؤلاء المشايخية: إنها في حال عدمها موصوفةٌ بالصفات، فقال أبو علي، وأبو هاشم، وقاضي القضاة، وتلامذته: إن للجوهر أربع صفاتٍ: الجوهرية، وهي صفة ذاتٍ، والتحيز، وهي صفةٌ مقتضاةٌ عن الجوهرية، والوجود (1)، وهو الصفة التي بالفاعل، والكائنية وهي الثابتة بالمعنى، وكذا سائر الذوات موصوفةٌ بأمثال هذه الصفات، إلَاّ الكائنية، فإنها لا تصحُّ في الأعراض (2)، والسواد له صفة السَّوادية في حالة العدم، وهي تقتضي هيئة السوادية عند العدم (3)، وبعضهم جعلوا صفة التحيُّز (4) والجوهريَّة واحدة، وقال أبو الحسين الخياط: إنه متحيِّزٌ، ومَحلٌ للمعاني، وجسم حال العدم، وجوَّز أبو يعقوب رجلاً راكباً على فرس في العدم، ثم إنهم مع اختلافهم اتفقوا بأنا بعد العلم بأن للعالم صانعاً، محدِثاً، قادراً، عالماً، حيَّاً، سميعاً، بصيراً، حكيماً، محسناً، باعثاً للرسل، مقيماً للقيامة، مصيباً، مُعاقباً، نشكُّ أنه موجودٌ أم معدومٌ (5)، وإنما يتبين وجودُه بدلالة مستأنَفَةٍ، وكذا اتفقوا على أن في العدم أنواعاً وأجناساً (6) مختلفةً بالصفات، ولكون (7) كل جنس أعداداً (8) غير متناهية يمكن الإشارة العقلية إلى كلِّ واحدٍ منها، وإلى مماثلتها ومخالفتها.

قال تقيُّ الأئمة العجالي: إنَّ كل من سمع ذلك من العقلاء قبل أن يتلوَّث (9) خاطره بالاعتقادات التقليدية، فإنه يقطع ببطلان هذه المذاهب،

(1) في (ش): والوجودية.

(2)

في (ب): بالأعراض.

(3)

في (ب) و (ش): " الوجود " وكتب عليها في (أ): الوجود.

(4)

في (ب): المتحيز.

(5)

في (ب): معدوم أم موجود.

(6)

في (ش). وأجساماً.

(7)

في (ب) و (ش) و (ج): ويكون.

(8)

في الأصول: أعداد، والمثبت من (د).

(9)

في (أ): يتلوب.

ص: 57

ويتعجب أن يكون في الوجود عاقلٌ تسمَحُ نفسه بمثل هذه الاعتقادات، ويلزمُهم أن يُجَوِّزوا فيما شاهدوه من الأجسام والأعراض أن تكون كلها معدومة، لأن الوجود غيرُ مدرَكٍ عندهم، وإلَاّ لزمَ أن يرى الله تعالى لوجوده (1)، بل إنما يتناوله الإدراك للصفة المقتضاة عندهم، وهي التحيُّز، وبقية (2) السواد والبياض فيهما غاية الأمر أن الجوهر عند بعضهم يقتضي التحيز بشرط الوجود، لكن الترتُّب في الوجود لا يقتضي الترتُّب في العلم، كما في صفة الحياة والعلم، فيلزمهم أن يشكُّوا بعد هذه المشاهدة في وجودها، وكل مذهب يؤدي إلى هذه التَّمحُّلات - والخصم مع هذا يزيد سفاهةً ولَجَاجَاً فالواجب على العاقل الفطن (3) الإعراض عنه، والتمسك بقوله تعالى:{وإذا خاطبهُمُ الجاهلُونَ قالوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، ومن ذمَّ مِنَ السلف الصالح الكلام والمتكلمين، إنما عنوا أمثال هؤلاء ظاهراً (4). والله الموفق. انتهى بحروفه (5).

وإذا كان هذا كلام أئمة الاعتزال بعضهم في بعض، فكيف بكلام (6) متكلمي أهل السنة فيهم، وإذا كان الجهل (7) في علم النظر يؤدي إلى هذا، ويكون هذه عاقبته، فكيف يُلام من أعرض عنه وتمسَّك بطريقة السلف الصالح الذين لم يَجْرِ بينهم من نحو هذا كلمةٌ واحدةٌ لبركة (8) إقبالهم على الكتاب والسنة، وترك الفضول، وترك دعاوى علم ما لا طريق للبشر إلى علمه.

واعلم أن سبب قول البهاشمة بالشكِّ في وجود الله تعالى بعد العلم بكونه

(1) في (ب): لوجوه.

(2)

في (ب) و (ج) و (ش): وهيئة.

(3)

ساقطة من (ش)، وفي (ب): والفطن الصالح.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

انظر " ترجيح أساليب القرآن " للمصنف ص 87 - 89.

(6)

في (أ): لكلام.

(7)

في (أ) و (ج): الجهد، وفي (ش):" العلم "، وكتب فوقها:" في الأم: الجهل والعلم ".

(8)

في (ش): لتوسعة.

ص: 58

صانعاً متَّصفاً بصفات الكمال، هو اعتقادهم أنه حينئذٍ ثابتٌ، وتجويزُهم أن يكون الثابت معدوماً غير موجود، فلذلك (1) لزمَهُم تجويز أن يكون الثابت مُشاهَداً بالأعيان غير موجود، لأن كون (2) الثابت المعدوم لا يُرى نظريٌّ على هذا، كما أن نفي صفات الكمال عنه نظري، وكل نظري يصحُّ الشك فيه، فيلزمهم صحة الشك في وجود العالم المشاهَد لتجويز أنه ثابتٌ غير موجود (3).

وأما الرازي، فاختصر الرد عليهم في " الملخص " غاية الاختصار، فقال في الباب الأول من الكتاب الأول في الأمور العامة: المعدوم ليس بثابتٍ، لأن المعدوم إن كان مساوياً للمنفيِّ أو أخصَّ منه، فكلُّ منفيٍّ فليس بثابتٍ، فكل معدوم فليس بثابت، وإن كان أعمَّ منه، وجب أن يكون نفياً صرفاً، وإلا لم يَبْقَ الفرق بين العام والخاص، فإذا هو ثابتٌ، وهو مقولٌ على المنفي، والمنفي ليس بثابتٍ، هذا خُلْفٌ. وعمدتهم أن المعدوم معلوم، وكل معلومٍ ثابتٌ، والكبرى منقوضةٌ بالممتنعات والخيالات والوجود. انتهى.

وأما دليل الأكوان، وهو الحجة الخامسة: فليس يدُلُّ على تماثل الأجسام، إنما يدلُّ على حدوثها، وقد تقدم الكلام فيه في أول الوهم الخامس عشر، وهو الذي قبل هذا، وقد استوفيته في تكملة " ترجيح أساليب القرآن ".

ونقلت فيه كلام أبي الحسين وأصحابه من كتاب " المجتبى " للشيخ مختار بن محمود، وقد كَفَوُا (4) المُؤنَةَ في المبالغة في ذلك والنصرة (5) له والحمد لله.

واعلم أن المعترض وأمثاله بنوا تكفير أهل السنة على مثل هذه الخيالات. وعمدتهم فيها أمران:

(1) في (ب): فكذلك.

(2)

في (ش): كونه.

(3)

من قوله: " لأن كون الثابت " إلى هنا ساقط من (ب).

(4)

في (ش): كفينا.

(5)

في (أ): والنصر.

ص: 59

أحدهما: ما ذكرنا من دعوى تسمية المتباينات بالجهات كلِّها أجساماً، ثم دعوى تماثل الأجسام، وقد بان بطلان كل من هاتين الدعويَيْن.

وثانيهما: ما مرَّ بيانه في الوهم الخامس عشر من كلامهم في دليل الأكوان ودعواهم لصحته، ولا حاجة إلى إعادته، وليس في هذا الكتاب ما يكفي ويشفي (1) في نقضه، وقد أفردتُ نقضه (2) في مصنفٍ، سمَّيتُه " ترجيح أساليب القرآن "(3) وأوردتُ فيه كلام أصحاب (4) الشيخ أبي الحسين البصري في نقضه.

وهو كلامٌ مجوَّدٌ (5) محرَّرٌ منقَّح، ذكره مختار بن محمود المعتزلي في كتابه " المجتبى " وذكر عن شيخ الاعتزال تقي الأئمة العجاليّ بعد إيراد نقض كلامهم أن الصبيان في ملاعبهم لا يرضون بمثل كلامهم في ذلك لِرِكَّتِه وسقوطه. انتهى.

فهذه شهادة أئمة الاعتزال على بطلان أدلة هذا المعترض، وعلي بُطلان أدلة كثيرٍ من شيوخهم على بطلان مذاهب أهل السنة، وعلى بطلان شُبَه (6) من كفَّرهم، وما هي إلَاّ فضيلةٌ من فضائلهم أنطق الله بها خُصومهم ليُظهر براءتهم كما أنطق جُلودَ المنافقين يوم القيامة بالشهادة (7) بالحق عليهم. فالحمد لله رب العالمين.

ولكن الجاهل حَسَنُ الظنِّ بهم، فإذا سَمِعَ دعواهم لمعرفة الحقائق والدقائق، حسَّنَ ظنِّه بهم، ولم يعلم أنه يُعَارِض ذلك دعوى (8) خصومهم لمثل

(1) في (ش): يشفي ويكفي.

(2)

في (ش): بعضه.

(3)

انظر ص 87 وما بعدها.

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

في (ب): محمود.

(6)

في (أ): نسبة.

(7)

ساقطة من (ب).

(8)

في (ب): تعارض دعوى.

ص: 60

ذلك، ويوضِّحُه خوضهم فيما لا يعنيهم مما (1) دلَّ السمع على جهل الخلق به، مثل خوضهم في حقيقة الروح مع توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوض فيه حين سُئِلَ عنه، وقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (2)[الإسراء: 85]، فإذا رأي الجاهلُ تجاسُرَهُمْ على القطع بدعوى العلوم وتجهيل الناس وتكفيرهم، ظنَّ ذلك من قوَّة ما عَلِمُوا، ولو فكرَّ في اختلافهم وتخطئة بعضهم بعضاً، وتكفيرهم، أمثالهم في الدعوى والعجب ببدعهم، لتَعَارَضَ ذلك عليه، وعَرَفَ (3) أنَّ خيرَ (4) الهدي هدْي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم.

الحجة السادسة: قياس واجب الوجود سبحانه وتعالى عن ذلك- على ممكن الوجود في أشياء كثيرة، مثل قولهم: إنَّ كونه على صفةٍ دون أخرى يجري مجرى الإحكام في الممكنات، والإحكام يدل على الحاجة إلى المحكم، وهي شبهة الملاحدة في نفي جميع الأسماء والصفات حتى الوجود.

والجواب إنَّ ذلك إنما دل في المحدث (5) لإمكانه، ولذلك لا يصِحُّ الاستدلالُ حتى يُقرِّر أنه ممكنٌ، لأن واجبَ الوجود لا يمكن تعليله، لأنه لو كان

(1) في (ش): عما.

(2)

أخرج البخاري (4721)، والترمذي (3141) من حديث عبد الله بن مسعود -واللفظ للبخاري- قال: " بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرثٍ وهو متكىءٌ على عسيب، إذ مرَّ اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه فسألوه عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليهم شيئاً، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي، قال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .

وهو عند الترمذي (3140) بلفظ آخر من حديث ابن عباس.

(3)

في (أ): " وعرفت "، وفي (ج):" علم "، وفي (د): لعرف.

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

في (ش): على الحديث.

ص: 61

له علّة، كان الكلام فيها مثل الكلام (1) فيه، ويُؤدِّي إلى ما لا نهاية له، ولذلك رَجَعَتْ إلى ذلك الفلاسفة، لكنَّهم سَمُّوا الله تعالى عِلَّة، ولكلِّ طائفةٍ في هذا القياس عبارةٌ.

وشرط صحة القياس عدم الفارق، فيطلب السُّنِّيُّ من المبتدع الدليل القاطع على عدم الفارق، بل على أن وجوب وجوده ليس بفارقٍ (2)، ثم يمتنع مِنْ تسليم الشُّبهة (3) التي يُعَوَّلُ عليها، مثل ما يمتنع المبتدع من تسليم الأدلة الصحيحة.

ولما عرفتُ (4) اتِّساع العبارات في هذا المقام، وأهمَّني (5) جمعه (6)، رأيتُ قوله تعالى:{لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15] فعرفتُ أنها إشارةٌ إلى سلوك هذا المسلك معهم، وهو طلبُ الدليل منهم، ثم الامتناع من تسليم الباطل، فإدأ ذلك حيلتهم، فيقلب عليهم.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن الجسم في لغة العرب (7) التي نزل عليها كتاب الله، وخاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما اصطلح عليه أهل المعقولات كلُّهم. كما تشهد (8) بذلك كتبُ اللغة.

قال محمد بن نشوان في " ضياء الحلوم "(9) في باب الجيم والسين.

(1) في (ش): كالكلام.

(2)

جملة: " بل على أن وجوب وجوده لبس بفارق " ساقطة من (ب).

(3)

في (ب) و (ج): الشبه.

(4)

في (ب): عرف.

(5)

في (ش): " وهمني "، وكتب فوقها: ظ: " إذ " بدل الواو.

(6)

في (أ) و (ش): جميعه.

(7)

في (ب): في اللغة التي.

(8)

في (ب): شهد

(9)

في الأصول غير (ب): العلوم.

ص: 62

الجسم (1) كلُّ شخصٍ مُدرَكٌ، وقال في باب الشين والخاء: الشخص: سوادُ الإنسان من بعيدٍ (2)، والشخص: الجسم. والجمع شُخُوصٌ وأشخاصٌ، والسواد: الشخص. ذكره الجوهري أيضاً (3) انتهى.

وهذا (4) يدلك على أن تسمية الجسم تختصُّ بهذه الحيوانات، إذ لا يُسَمِّي أحدٌ الأحجار ولا الأشجار ولا الجبال ولا القِيعان جسوماً (5) ولا أشخاصاً، وكذلك سائرُ أهل (6) كتب اللغة.

قال الجوهري في " الصحاح "(7) في فصل الجيم من كتاب الميم ما لفظه: قال أبو زيد: الجِسْمُ: الجسدُ، وكذلك الجُسمان والجُثمان، وقال الأصمعي: الجسم والجسمان: الجسد (8) والجُثمان: الشخص. قال: وجماعةٌ جسم الإنسان أيضاً يقال له: الجُسمان، مِثْلُ ذئبٍ وذُؤبان.

وقال الجوهري (9): الجسد: البدن. ذكره في موضعه من فصل الجيم في كتاب الدال. وقال صاحب " الضياء ": جسد الإنسان معروفٌ، والجسد ما لا يأكلُ ولا يشرب كالملائكة والجن. ومنه قوله:{عِجْلاً جَسَدَاً} ، فجعلها مشتركة، لا عامة. وأما الجوهري فقال في الآية: قيل: إنَّه بمعنى أحمَرَ من ذهبٍ،

(1) ساقطة من (ب) و (ش).

(2)

جملة: " الشخص: سواد الإنسان من بعيد " ساقطة من (أ).

(3)

" الصحاح " 3/ 1042 مادة " شخص ".

(4)

في (ش): وهو.

(5)

في (أ) و (ج): شخوصاً.

(6)

سقطت من (ب).

(7)

5/ 1887 مادة " جسم ".

(8)

ساقطة من (ب).

(9)

" الصحاح " 2/ 456.

ص: 63

والجسد: الزعفران، ونحوه، من الصِّبْغ، وهو الدَّمُ، فجعلها لفظة مشتركة أيضاً، غير أنهم حين فسَّروا بها الجسم لم يعنوا بها إلَاّ المعنى الأول، ونحو ذلك في " ديوان الأدب ".

وقال الخليل في " العين " ومجد الدِّين في " القاموس "(1): الجسم: جماعة البدنِ أو الأعضاء (2)[و] من الناس وسائر الأنواع العظيمة الخَلْقِ، كالجُسْمَان بالضم، (ج)(3) أجسامٌ وجسومٌ، وككَرُمَ: عَظُمَ، فهو جسيمٌ وجُسَامٌ كغُرابٌ، وهي بهاءٍ، والجسيم (4)، البدينُ، وما ارتفع من الأرض وعلاه الماء [ج](5) جِسَامٌ [ككتابٍ]، وبنو جَوْسَم: حي درجوا، وبنو جاسم: حي قديم وتجسَّم الأمر والرَّمْل: ركب (6) معظمهما (7). انتهى ما ذكره مجدُ الذين في " القاموس " فبان لك من هذا (8) أنهم يصطلحون على أشياء ليرَكِّبُوا عليها ما ابتدعوا من تشنيعٍ وتكفيرٍ وإبداعٍ وتغييرٍ، وقد احتجُّوا على قولهم في الجسم بقول الشاعر:

وأجسم مِنْ عادٍ جُسومُ رِجَالِهم

ولا حُجَّة لهم فيه بل هو حجةٌ على ما ذكرنا، فإنه لم يثبت اسم الجسم فيه إلَاّ في حق الأشخاص. وأما الاحتجاج به على ما لم يخطر لقائله ببال من تركُّب الجسم من ثمانية جواهر لا أقل منها، فعجيبٌ ممن توهمه. والله أعلم.

(1) مادة " جسم " ص 1406، طبع مؤسسة الرسالة، وهذه الطبعة نسخت كل سابقاتها لما اشتملت عليه من الاتقان والجودة وجمال الإخراج، وليس الخبر كالعيان.

محا حُبُّها حبَّ الألى كُنَّ قبلها

وحَلَّت سواداً لم يكن حُلَّ من قبلُ

(2)

في (ب) و (ش) و (ج): " والأعضاء "، والصواب ما في (أ).

(3)

في (أ) و (د): " جمع " دون اختصار.

(4)

تحرفت في (أ) و (د) إلى الجسم.

(5)

سقطت من الأصول واستدركت من " القاموس ".

(6)

في (ش): رأي.

(7)

في (أ) و (ب) و (ج): معظمها.

(8)

في (ب) و (د) و (ش): بهذا.

ص: 64

وإنما ذلك كما اصطلحوا على أن الموجود مثل المعدوم من الجواهر، لا أن هذه لغاتٌ عربية.

وكذلك فعل أعداء الجميع من الباطنية. ألا ترى أن الباطنية يُسَمُّون حقائق مدح الرب سبحانه بأسمائه الحسنى تشبيهاً وتمثيلاً وكُفراً وشركاً، ويجعلون تلك الممادح الشريفة بمنزلة السبِّ والذم لله تعالى، حتى يصُوغَ لهم تأويلها على ما شاؤوا (1)، وصرفها إلى أئمتهم دون الله تعالى، وكذلك مَنْ نفي حقيقة التمدح بأسماء الله الرحمن الرحيم خير الراحمين أرحم الراحمين (2)، وكذلك اسمه الرؤوف، واسمه الودود، واسمه الحليم، بالَّلام عند المعتزلة، واسمه الحكيم، بالكاف عند الأشعرية، إلى أمثال لها (3)، لا دليل لهم عند البحث التام على ذلك إلَاّ مجرد اصطلاحات في العبارات تواطؤوا عليها، ومن أحبَّ كشف عوارهم في ذلك، لم يقلِّدهم في شيءٍ قطُّ، وراجع محض عقلِه، وراجع مصنفات خصومِهمُ الحافلة، كمصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

وأما من اعتقد فيهم التحقيق، وقَبِلَ منهم، ولم يسمع من غيرهم، فقد سدَّ أبواب الهداية على نفسه، وكذلك كل عامِّيٍّ مع كل طائفةٍ، بل المعتزليُّ الطالب لعلم الكلام على رأي أبي هاشم يعتقدُ غلطَ مخالِفِه (4) من سائر المعتزلة، ولا يدري ما في كتب أبي الحسين المعتزلي وأصحابه من الردود الصعبة القوية لمذهب (5) أبي هاشم، ولا يرى أجمع للمساوىء من صاحب كلامٍ وجدال، مقلّد لا يفي معه صمتُ (6) أهل السنة وسَمْتُهم وحُسْنُ أخلاقهم وتواضعهم، ولا يتكلم بعلمٍ ويقينٍ، ويُرشِدُ إلى الحق الجاهلين، ويفيض مِنْ

(1) في (ش): يشاؤون.

(2)

" أرحم الراحمين " لم ترد في (ش).

(3)

في (ش): إلى أمثالها.

(4)

في (ب): مخالفيه.

(5)

في (ب): الردود على مذهب.

(6)

" معه صمت " ساقطة من (ب)، ومكانها بياض.

ص: 65

علومه وفوائده على الطالبين، ولا يقبلُ من فوقَه من العارفين، وإنما هو قذى للعيون، مَجْمَعٌ (1) لمساوىء الأخلاق وسيِّئات الظُّنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الإشكال التاسع: سلَّمنا للخصم جميع (2) ما تعاطاه مما رمى به الإمام الشافعي، وحاشاه. فإن أئمة العِترة والمعتزلة غيرُ مجمعين على التكفير بذلك، ولا على سلامة أدلَّته من القدح، وهذا الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام على قرب عهده من المعترض، وصِحَّة تواليفه عنه، فإنها باقيةٌ بخط يده الكريمة، وسماع أولاده الثِّقات قد اختار في كتابه " التمهيد " عدم إكفار أهل القبلة من المشبِّهة والمجبرة (3) وغيرهم، واحتجَّ على ذلك، وذكر أدلَّة المكفرين لهم، وجعل دعواهم للإجماع أحدها. ثم قال: وفي كُلِّ واحدٍ من هذه الوجوه نظر، ثم قال: حقاً على كلَّ من تكلَّم في الإكفار أن يُنْعِمَ النظر فيه، ويتَّقي الله، فإن موردَه الشرعُ، والخطر فيه عظيم، وإذا لم يتَّضح الدليل فيه، فالوقوف لنا أولى. انتهى بحروفه.

وقال مختصر " الانتصار "(4): مسألة: لا نكَفِّرُ مطلق الجسمية على الله تعالى حتى يفسر، أبو علي: يكفر، قلنا: لفظه محتمل للخطأ في العبارة فقط. انتهى.

فيُبحث عن ذلك في كتاب " التَّحقيق " للإمام يحيى عليه السلام (5)

(1) في الأصول: " مجمعاً ".

(2)

ساقط من (ش).

(3)

في (ب) و (ج): والجبرية.

(4)

كتاب " الانتصار " للإمام يحيى بن حمزة، يقع في ثمانية عشر مجلداً، كان يورد أقوال العلماء وأدلتهم، ثم يرجح أحدها، فيقول: والانتصار لكذا. انظر " البدر الطالع " 2/ 331، و" هدية العارفين " 2/ 526.

(5)

في (ب): يحيى بن حمزة، وذكره في مصنفاته الشوكانيُّ في " البدر الطالع " 2/ 331.

ص: 66

وكذلك قال علامة الاعتزال، والتَّشيُّع عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح قول علي عليه السلام: تعالى عما يقول المشبهون به والجاحدون له عُلُوّاً كبيراً.

أنواع التشبيه العشرة كما تقدم في الوهم الخامس عشر (1)، وقال فيه: فأمَّا من قال: إنه جسم لا كالأجسام، ونَفَوْا عنه معنى الجسمية، وأرادوا تنزيهه عن أن يكون عَرَضاً تستحيل مِنْهُ الأفعال، وأرادوا أنه شيءٌ لا كالأشياء، فأمْرُهم سهل، لأن خلافهم في العبارة، وهم: علي بن منصور، والسَّكَّاك (2)، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان، وكل هؤلاء من قدماء الشيعة (3)، وهو قول ابن كرَّام وأصحابه.

قال: والمتعصِّبون لهشام بن الحكم (4) من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أن هذا مذهبه، وإن كان الحسن بن موسى النُّوبختي (5) -وهو مِنْ فُضلاء الشيعة- قد روى عنه التَّجسيم المعنويَّ المحض في كتاب " الآراء والدِّيانات ".

(1) كتب في (ب) بالأرقام (15).

(2)

سماه ابن النديم في " الفهرست " ص 225: محمد بن الخليل، وقال: كان متكلماً من أصحاب هشام بن الحكم، وخالفه في أشياء إلَاّ في أصل الإمامة، وذكر لد عدة كتب من مؤلفاته.

(3)

انظر " مقالات الإسلاميين " ص 63.

(4)

ترجمه الذهبي في " السير " 10/ 543 فقال: هو المتكلم البارع هشام بن الحكم الكوفي المشبه المُعثر وله نظر وجدل، وتواليف كثيرة، وعده ابن قتيبة في " مختلف الحديث " ص 48 من الغلاة، وأنه يقول في الله تعالى بالأقطار والحدود والأشبار وأشياء يتحرج من ذكرها، ويقول بالجبر الشديد، ويبالغ في ذلك، ويُجوز المحال الذي لا يتردد في بطلانه ذو عقل. ووصفه ابن النديم في " الفهرست " ص 222 بأنه من أصحاب جعفر الصادق، وأنه هذَّب المذهب، وفتق الكلام في الإمامة، وذكر له مؤلفات كثيرة. توفي بعد نكبة البرامكة، وقيل: في خلافة المأمون. وانظر مقالات هشام هذا في " مقالات الإسلاميين " ص 31 - 33 و40 - 41 و44 و59 و62 و207 - 208 و210 - 211 و304 و344 - 345.

(5)

العلامة الفاضل ذو الفنون أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي، المتفلسف، صاحب =

ص: 67

قلت: وقد قدم ابن أبي الحديد قبل هذا رواياتٍ فاحشةً عن هشام في ذلك، لكن ذكر أن أتباعه من الشيعة تُنْكِرُها (1) كما تقدم في الوهم الخامس عشر (2).

وقد نقل ابن تيمية أن من الناس من يُسمِّي كل موجودٍ جسماً، ويجعلهما مترادفين. وفيه أقوالٌ كثيرة، ويقويه أن التكفير قطعي يجب البلوغ إلى اليقين فيه، ورفع كل احتمال. وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم استفسر الذي أقرَّ بالزنى على نفسه، وسأل عن عقله، وقال:" لعلَّكَ قَبَّلْتَ، لعلك فعلت " حتَّى صرَّح له بالنُّون، والياء المثناة من تحت، والكاف (3). وهذا في الحدِّ الذي يثبت بالشهادة الظنية، فكيف بالإخراج عن الإسلام لمن يشهد أن لا إله إلَاّ الله وأن محمداً رسول الله، وأن جميع ما جاء به حق؟ كما قال من عرضت له شبهةٌ اعتقد فيها أنه (4) مصدِّقٌ لكلام الله تعالى، ومتقرِّبٌ في القول بها إلى الله. ولذلك أجمعت المعتزلة وهم الخصوم على وجوب الدليل القاطع فيه، وتحريم الأدلة الظنية (5)، وخصوصاً التكفير بها (6) يؤدي إلى تكفير الصالحين من العامة،

= التصانيف، ذكره ابن النديم وابن النجار بلا وفاة، وله مصنفات وتواليف في الكلام والفلسفة، وكان جمّاعة للكتب، نسخ بخطه شيئاً كثيراً، وكانت المعتزلة تدَّعيه، والشيعة تدعيه. مترجم في " السير " 15/ 327، و" الفهرست " ص 251 - 252، و" الوافي بالوفيات " 12/ 280.

(1)

في (ب) و (ش): ينكرونها.

(2)

جملة " كما تقدم في الوهم الخامس عشرة " ساقطة من (ب) و (ش).

(3)

أخرج أحمد 1/ 238 و270، والبخاري (6824)، وأبو داود (4427)، والبغوي (2586) من طرق عن ابن عباس قال: لما أتى ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " لعلَّك قبَّلت أو غمزت أو نظرتَ؟ " قال: لا يا رسول الله، قال:" أنكتها؟ " لا يكني، قال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه.

(4)

في (ب) و (ش): أنه فيها.

(5)

في (ب) و (ش): الظنية فيه.

(6)

في (ب): " بهذا "، وسقطت من (ج).

ص: 68

وتحريم أكثر المناكحات، وما عُلِمَ من السلف خلاف.

وقد قال شيخ الإسلام في الرد على من يكفِّرُ من يُسميِّه مشبِّهاً وليس بمشبِّهٍ عند نفسه من مثبتي الصفات: إن الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو الإثبات (1) من غير تشبيه ليس بسديدٍ، وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدرٌ مشتركٌ وقدرٌ متميِّزٌ (2). فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيهٌ، قيل له: إن أردت أنه مماثلٌ له من كل وجهٍ، فهذا باطلٌ، وإن أردت أنه مشابهٌ له من وجهٍ دون وجهٍ، أو مشاركٌ له في الاسم، لزمك هذا في سائر ما تثبته. وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسَّرتُّموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.

ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا المعنى مما لا يقوله عاقلٌ يتصوَّر ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه.

إلى قوله في الرَّدِّ على من كفَّر مثبتي الصفات: إن من قال: إنَّ لله علماً قديماً، أو قدرةٌ قديمةٌ، كان مشبِّهاً عند المعتزلة، لأن القدم (3) عندهم أخصُّ وصف (4) الإله، ومثبتو (5) الصفات لا يُوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخصُّ وصفه ما لا يتَّصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وكونه على كلِّ شيءٍ قدير، والصفة - (التي هي القدرة أو العلم)(6). لا توصف بشيءٍ من ذلك.

ثم إن من (7) هؤلاء الصفاتية من لا (7) يقول: إن الصفات قديمةٌ، بل يقول:

(1) في (أ): " الاعتماد "، وفي " التدمرية ":" مطلق الإثبات ".

(2)

في (ب) و" التدمرية ": مييز.

(3)

في " التدمرية ": القديم.

(4)

في (ش): " أوصاف "، وفي (ب):" وصفه ".

(5)

في " التدمرية " ومثبتة.

(6)

ما بين القوسين مدرج من كلام المصنف، وليس هو في " التدمرية ".

(7)

ساقطة من (ب).

ص: 69

إن الرَّبَّ بصفاته قديمٌ.

ومنهم من يقول: هو قديمٌ، وصفاته (1) قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان.

ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك (2) لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيءٍ من خصائصه. وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلهاً ولا رباً (3) كما أن النبي صلى الله عليه وسلم مُحْدَثٌ وصفاته محدَثةٌ، وليست صفاته رسولاً ولا نبياً، فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه، كانت هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، يقول (4) لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يُسمَّى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقلٌ ولا شرع (5)، وإنما الواحب نفيُ ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى (6) مسمى المثل والكُفء والنِّدِّ ونحو ذلك، لكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست بمثل الموصوف ولا كُفْئِه ولا نِدِّه، فلا يدخل في النصِّ إلى آخر كلامه في ذلك (7). وقد تقدم بكماله في الوهم الخامس عشر (8).

وإنما قصدت الإرشاد إلى احتمال أدلَّة: المكفِّرين لمن يسمُّونه -باصطلاحهم- مشبِّهاً، وإن لم تصحَّ هذه التسمية في لغة العرب صحة قطعية متواترة، كما أن طائفة من المعتزلة اصطلحت على تسمية الموجود من الجواهر

(1) في " الرسالة التدمرية ": وصفته.

(2)

في (ش): القول بذلك.

(3)

في (ش) إلهات ولا أرباباً.

(4)

في (ب) و" التدمرية ": ثم نقول.

(5)

في " الرسالة التدمرية ": " سمع "، وكذا مرَّ في هذا الجزء ص 183.

(6)

في (ش): سمَّى نفي.

(7)

" الرسالة التدمرية " 73 - 75.

(8)

تقدم في الجزء الرابع.

ص: 70

والأجسام مثلاً للمعدوم، وكذلك اصطلحت (1) على أن من أثبت لله علماً أو رحمة أو عُلُوّاً من غير تكييفٍ، فقد كفر، وشبَّه الله تعالى ومَثَّلَه، مع تصريحه بنفي ذلك. والإمام الشافعي رضي الله عنه منزَّهٌ عن هذا المقام، وإنَّما أحببت استطراد القائدة بذكر كلام العلماء المنصفين الذين لم يحملهم الغضب على تكفير مخالفيهم بغير حجةٍ (2) بيِّنةٍ، فإنه لا يُقبلُ في هذا المقام إلَاّ (3) الأدلة القاطعة. وقد ذكر غير واحد من المحققين أن الأدلة القاطعة (4) متى كانت شرعيَّة لم تكن إلَاّ ضرورية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في الوهم الخامس عشر، فخذه من هناك (5).

الإشكال العاشر: نذكره على جهة الاستقصاء لبيان مجاوزة المعترض للحدِّ في الخطأ مع تنزيه الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك أنه لو صح له والعياذ بالله جميع ما أراد، ما حصل منه مقصودُه، لأن مقصوده (6) في أول الكلام القدح في علوم الحديث النبوي وصحتها، بأن الشافعي رضي الله عنه من رواتها، كما قدح فيها بأن أحمد بن حنبل والبخاري من رواتها. وقد تقدم الكلام عليه في هذا، والتعجب (7) مِنْهُ في أول الوهم الخامس عشر، فطالعه هنالك (8) إن كنت لم تقف عليه، وجدِّد به العهد إن كنت قد رأيته وأُنسيته، فهو من أنفس ما في هذا الجواب. وقد ذكرنا فيه من روى عنه حُفَّاظ الإسلام وأئمة المذاهب الأربعة، وأئمة العِترة عليهم السلام ممن لا يُوازن الإمام الشافعي

(1) من قوله: " على تسمية الموجود " إلى هنا ساقط من (ب).

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (ش): القطعية.

(5)

في (ش): هنالك.

(6)

" لأن مقصوده " ساقطة من (ش).

(7)

في (ش): والعجب.

(8)

في (ب): هناك.

ص: 71

رضي الله عنه في مناقبه الشهيرة، وفضائلة الطيِّبة الكثيرة.

وقد تقدم في المسألة الأولى مِن هذا الكتاب دعوى علماء الزيدية للإجماع على وجوب القبول لرواية المتأولين: فُسَّاقهم وكفارهم، وبيان كثرة طرق دعوى الإجماع على ذلك وشهرتها وقوتها بعلمهم (1) بذلك من غير نكير، والمعترض يُقرىء ذلك في كل سنةٍ في كتاب " الُّلمع " ويعتمد (2) في رواياته في التفسير والحديث عن كلِّ من دَبَّ ودَرَجَ. فالله المستعان.

وبعد ذكر هذه الإشكالات العشرة الكاشفة عن غفلة المعترض عمَّا يجب عليه، يزيدُ الأمر وضوحاً بذكر أدلَّة من قال بالرُّؤية، وأدلَّة من منعها، بحيث يظهر للنَّاظر فيها حكمُ القائل بالرُّؤية، وهل يُعَدُّ من منكري الضرورات الشرعية فيكفر؟ ويُعَدُّ من المكذبين فيما رواه؟ أو يُعَدُّ من المتأولين؟ فيتكلم بكلامهم لا بالمختار عندنا في فصلين: فصل في إمكانها في قدرة الله تعالى عندهم حسبما فهموه من أدلتهم، وفصل في وقوعها عندهم. ونشير إلى الأدلة العقلية من غير استقصاء، إذا (3) كانت مقرَّرة في مواضعها من كتب الفريقين، وإذ كانت المخالفة فيها لا تقتضي التكفير، وننقل كلام الفريقين من أهل الحديث والمعتزلة بألفاظهم لنبرأ من وصم العصبية إن شاء الله تعالى.

الفصل الأول: في إمكانها في قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه يرى ذاته الشريفة هو عز وجل، وإن حَجَبَ عن ذلك خلقه كلهم، أو من شاء منهم.

قالوا: وهذا القدر لم يُعرف فيه خلافٌ بين السلف القدماء من العترة والصحابة، وإنما يُنكِرهُ المعتزلة ومن وافقهم من متأخِّري الشيعة.

فلنذكر أدلة الجميع على الاختصار الشافي والإنصاف:

(1) في (ب) و (ج): " بعملهم "، وفي (د) و (ش):" لعملهم ".

(2)

في (ب): ويعتمده.

(3)

في (أ): إذا.

ص: 72

أمَّا من أنكر ذلك، فليس لهم إلَاّ حجتان: عقلية وسمعِيَّة:

أمَّا العقلية. فاعتقادهم إن ذلك يؤدي إلى ثبوت الجهة لله تعالى، وأن ثبوتها يؤدِّي إلى التجسيم، وأن الأجسام متماثلة، وأنه يجب في كل مثلين أن يشتركا في كل ما يجب ويجوز ويستحيل.

وأمَّا السمعية: فما اتفق الجميعُ عليه (1) من ورود السمع بنفي التشبيه والتمثيل.

وأمَّا (2) طوائف المخالفين لهم: فإن منهم من وافقهم في صحِّة الحجَّة العقلية، ونازعهم في لزومها لنفي الرُّؤية، وهم طائفة من متكلِّمي أهل السُّنَّة كالأشعرية، فإنَّهم اعتقدوا صحَّة الجمع بين نفي الجهة وصحَّة الرؤية، وجعلوا ذلك مثل ما أجمعوا (3) عليه هم والمعتزلة من صحة الجمع بين نفي الجهة عن الله تعالى وصحَّة وجوده. ولهم في ذلك مباحثٌ دقيقةٌ ومعارضاتٌ طويلةٌ، وهي معروفةٌ في كتب الكلام، فلا نُطيلُ بذكرها، حتَّي قال الرازي في كتابه " الأربعين في أصول الدِّين ": إنَّ مرادهم بالرؤية صفةٌ تنكشِفُ لله تعالى في الآخرة، وهي (4) بالنِّسبة إليه كالرُّؤية بالنسبة إلى غيره.

وقال الشهرستاني في " الملل والنحل "(5) في الكلام على الاجتهاد أوّل القول في الفروع، ما معناه: إن الرؤية عند من أثبتها من متكلمي الأشعرية إدراكٌ أو علمٌ مخصوصٌ. وهذا يخالِفُ كلام أهل الأثره وحاصل كلامهم أن الرُّؤية غير مكيفةٍ كالمرئي سبحانه، وعند أهل الأثر: أن الرؤية مكيفةٌ، ولكن

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في (ب): فأما.

(3)

في (ب): اجتمعوا.

(4)

في (ب): هي.

(5)

1/ 202.

ص: 73

المرئي سبحانه غير مكيَّفٍ كما ورد في الحديث (1). ولا يلزم تكييف المرئي من تكييف الرؤية، كما لا يلزم تكييف الموجود من تكييف الوجود.

والحاصل أن أهل السنن (2) والآثار يقطعون بنفي التشبيه والتمثيل، كما قالت المعتزلة والأشعرية، لكنهم يرون أن ما وصف الله تعالى به ذاته الكريمة في كتابه الكريم وبلغه رسوله الكريم، ولم يتأوله، ولم يُحذِّر من اعتقاد ظاهره، ولا كان من أحد من أصحابه مثل ذلك مع طول المدة، فإنه غيرُ مناقض لنفي التشبيه والتمثيل، ولا يجوز في العادات أن تمرَّ المدة الطويلة ولا يُبَين مثل ذلك.

قالوا: وقد اجتمعنا على ردِّ قول الملاحدة الباطنية في نفي الصفات كلها، وعلى رد قولهم: إن مجرد الاشتراك في بعض الأسماء والألفاظ يوجب التشبيه، فإنهم زعموا أن الله تعالى لو كان شيئاً والإنسان شيئاً أو موجوداً والإنسان موجوداً كان ذلك تشبيهاً، فرددنا الجميع ذلك عليهم. ووافقت المعتزلة على ردِّ هذا عليهم (3)، وأجازت المعتزلة بأجمعهم أن يُوصف كل واحدٍ من الرَّبِّ عز وجل، ومن بعض عباده الحُقراء بأنه موجودٌ، حي، قادرٌ عالمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، مريد، مدبِّرٌ، حكيمٌ، مثيبٌ، (4) معاقبٌ، فاعلٌ، مختارٌ

إلى غير ذلك من الصفات الحميده، ثم لا يوجب الاشتراك في جميع تلك الصفات تشبيهاً، ولا تمثيلاً، بحيث إنه تعالى تمدَّح في كتابه المبين بانه أرحم الراحمين وأحسن الخالقين، وخير الحافظين، وخير الرازقين، مع جمعه معهم في اللفظ بإجماع المسلمين.

فكيف يجب القطع بوقوع السُّنِيِّ في صريح التشبيه؟ إذا قال: إنه تعالى استوى على عرشه، وعلا فوق خلقه علواً كبيراً (5)، مع قطعه بنفي التشبيه لاستوائه وعلوّه

(1) سيورد المصنف نقلاً عن ابن القيم أحاديث الرؤية قريباً، وسنستوفي تخريجها هناك إن شاء الله.

(2)

في (ب): السنة.

(3)

جملة: " ووافقت المعتزلة على رد هذا عليهم " ساقطة من (ب).

(4)

تحرفت في الأصول إلى: " مثبت "، والمثبت من (ب).

(5)

في (ب) كثيراً.

ص: 74

باستواء خلقه وعلوهم المستلزمين حاجتهم إلى ما استووا عليه واستقرُّوا فوقه، محمولين مفتقرين إلى ما حملهم، محدودين محيط بهم ما حصرهم، مصوَّرين متصورين، مكيفين مقهورين مربوبين، مع إثبات السُّنِّيِّ في ذلك لجميع الفوارق التي لا تُحصى بين رب العزة وخلقه الأدلة من إثبات كل كمالٍ لله جل جلاله، ونفي كلِّ نقص وعيب (1) عنه سبحانه، وتخصيصه دون خلقه بوجوب الوجود، والقِدَمِ، والبقاء، وعدم التشبيه، والتشريك، والنِّدِّ والكُفء، والضِّدِّ، وإثباث ما لا يأتي عليه العدُّ من ثبوت الحمد، والمجد، وكمال القدرة، والملك، والعزَّة، والكبرياء، ونفوذ المشيئة، وبلاغ الحكمة، ودفع الحُجَّة، وسُبوغ النعمة، واستحقاق حقائق جميع المحامد والممادح، وعموم الرُّبوبية لكل شيءٍ، وتمام القيومية (2) بكلٍّ حي وعجز كل (3) واصفٍ، وحَيرة كلِّ مفكِّرٍ، وعِيَّ كل بليغٍ، وتقصير كلِّ حامدٍ. فأيُّ تشبيه (4) مع هذا وأضعافه، وكل ذلك الإلزام من أجل إيمانهم بمراد الله تعالى في تمدُّحه بعُلوِّه على خلقه، وظهور ذلك في جميع الكتب السماوية، وأوقات الرسل وأصحابهم وأتباعهم من غير إشعارٍ بالتحذير لعوامِّ المسلمين من اعتقاد ذلك الظاهر جمع دوام إسماعهم لهم ذلك في التلاوة والصلوات والمجامع والخُطب، حتى إن الخصوم الذين يحتجُّون بما لم يصح عن عليٍّ عليه السلام من ذلك، وافقوا أهل السنة على رواية ذلك عن علي عليه السلام.

فروى صاحب " النهج "(5) بغير إسناد والسيد الإمام أبو طالب بإسناده في " أماليه " أن رجلاً سأله في مسجد الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين، هل تصف

(1) في (أ): عبث.

(2)

في (ب): " القيمومية "، وهو خطأ.

(3)

في (ب): وعجز عن كل.

(4)

في (ش): شبيه.

(5)

" نهج البلاغة " ص 212 - 213، و" الشرح " 6/ 398 - 403. والخطبة بتمامها في " النهج " 212 - 233، و" الشرح " 6/ 398 - 403 و7/ 3 - 32.

ص: 75

لنا ربَّنا فنزداد له حُبَّاً، وبه معرفةً، فغضب عليه السلام، ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، حتى غَصَّ المسجد بأهله، ثم صَعِدَ المنبر وهو مغضبٌ متغير اللون، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم سرد خُطبته عليه السلام إلى قوله: أيها السائل، اعقِل ما سألتني عنه، ولا تسألَنَّ (1) أحداً عنه بعدي، فإني أكفيك مُؤنة (2) الطلب، وشدة التَّعمُّق في المذهب، فكيف يوصف الذي سألتني عنه وهو الذي عَجَزَتِ الملائكة مع قربهم من كرسيِّ كرامته، وطول وَلَهِهِم إليه، وتعظيم جلال عزَّته، وقُربهم (3) من غيب ملكوت قدرته، أن يعلموا من علمه إلا ما علَّمهم، وهم من (4) ملكوت القُدس بحيث هم ومن معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، فعليك أيُّها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته وتقدمك (5) فيه الرسل بينك وبين معرفته، فَأتَمَّ به، واستَضِىء بنور هدايته

إلى قوله: وما كلَّفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من (6) أئمة الهدى أثرُه، فكِلْ علمه إلى الله، فإنه منتهى حق الله عليك.

ورواه محمد بن منصور في كتاب " الجملة " عن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، وهذا صريحُ مذهب أهل السنة. فهذا نقلُ الثِّقات والخصوم عن المدَّعي على أهل السنة مخالفته، فكيف بنقل أهل السنة عنه (7) عليه السلام، وعن سائر الصحابة والتابعين ما (8) يشهد بتصديقهم

(1) في (ب): تسأل.

(2)

في (أ): " بمعرفة "، وفي (ش):" بمؤنة ".

(3)

في (ش): " وفرقهم " وكذا كتب فوقها في (أ).

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

في (ش): وتقدمتك.

(6)

في (ب): عن.

(7)

ساقطة من (ب).

(8)

في (ب) و (ش): مما.

ص: 76

في نقلهم القرآن وسائر كتب الله تعالى، بل (1) أغنى عن نقلهم كونه مما تواتر أنه طريقة السلف وعجزت الخصوم عن دعوى موافقة السلف لهم في طريقتهم، إذ كانت (2) طريقة السلف في ذلك معلومةً للجميع بالضرورة، فخاف القوم مِنَ ابتداع التحذير من ذلك. والتصريح بالتأويل فيه الوقوع في البدعة التي صح عندهم النهي عنها، والتحذير منها، وأجمع على ذمها المخالف والمؤالِفُ، فآمنوا بمراد الله في ذلك، مع القطع بنفي ما نفاه الله من شَبَه المخلوقين، والقطع بأن استواءه وعلُوَّه لا يشبه علو المخلوقين واستواءهم في أوصافهما ولوازمهما، كما يقول الجميع في الفرق بين علمه وعلمهم، وقدرته وقدرتهم، وإنما أثبتوا عُلُواً واستواءً يُناسب (3) ذاته العزيزة التي يستحيلُ تصوُّرها، ويستحيل تصور جميع ما يتعلق بها.

وهذه الفوقية عندهم غير مقتضيةٍ للتشبيه (4)، مثل ما أن وجوده سبحانه وسائر صفاته الثبوتيَّة صحيحة عند خصومهم، وإن لم تكن مقتضية لذلك لما دلَّتهم عليه أدلَّتُهم، فكذلك هؤلاء دلَّتهم أدلَّتُهُمْ على الإيمان بما ورد في القرآن مِنْ ذلك، ورأوا أن نصوص القرآن التي أجمع المسلمون على أنها كلام الله تعالى، وأنها لم تزل متلوَّةً مجلَّلةً معظَّمةً، منذ بُعِثَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق الكلام بالقبول (5) والتَّبجيل والتقديم على غيرها، والتعظيم والاحترام لها والتكريم (6)، فلا يُستباح لها حِمى، ولا يُخاف من جهتها ضلالٌ ولا عمى.

وقد أجمع المسلمون على أنه لا أعلم من الله تعالى بما ينبغي أن يقال فيه،

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في (أ): " إذا كانت "، وفي (ج) و (د):" وكانت ".

(3)

في (ب): " مناسب " وهو تحريف.

(4)

في (ش): للشبيه.

(5)

ساقطة من (ب).

(6)

تحرفت في (ب) إلى: والكريم.

ص: 77

ويسمى به، ولا أحد أحبُّ إليه المدح منه، ولا أفصح، ولا أبلغ من كلامه، ولا أهدى ولا أنصح (1) من رسله، فكلُّ ما أجمعت (2) عليه كتبه ورسله وأظهروه، ولم يُحذِّروا منه، كان أحقَّ الحقِّ، وكلُّ ما لم يذكر في كتابٍ من كتبه، ولا ذكره أحد من رسله، كان إيجابُه على الخلق أبعد من كلِّ بعيدٍ، والله على كلِّ شيءٍ شهيد.

وبعد، فقد أجمعت (3) المعتزلة والشيعة والأشعرية على أنه لا يوجب التشبيه إلا الاشتراك في صفة الذات التي هي عند كثير من المعتزلة الصِّفة الأخصُّ أو فيما اقتضته هذه الصفة الأخصُّ، وعند كثير أنها وجوبُ الوجود والكمال حتى يجب لكلِّ واحدٍ من المثلين كلُّ ما يجب للآخر، ويجوز عليه كل ما يجوز (4)، ويستحيل عليه كل ما (5) يستحيل عليه. وقد جوَّد القول في ذلك الغزالي في مقدمات " المقصد الأسنى "(6).

قال شيخُ الإسلام: ولم يقل بالتشبيه بهذا المعنى أحدٌ يتعقَّل (7) ما يقول، فإنه متى تعقَّل هذا، عرف فساده بالضرورة.

وقال علامة الزيدية في الكلام وترجمانهم فيه، صاحب كتاب (8)" الغُرَرُ (9) الحُجُول في الكشف عن أسرار شرح الأصول " في الكلام على إثبات الصِّفةِ

(1) في (ش): ولا أهدى ولا أنصح.

(2)

في (ج) و (ش): " اجتمعت "، وفي (ب):" اجتمع ".

(3)

في (ب): اجتمعت.

(4)

في (ش): كما يجوز عليه.

(5)

في (ش): كما.

(6)

انظر ص 45 فما بعد.

(7)

في (ب): يعقل.

(8)

ساقطة من (ب).

(9)

تحرف في (أ) إلى: العز.

ص: 78

الأخص لله تعالى ما هذا لفظه:

الدليل الأول: أنا قد شاركنا الله تعالى في استحقاقِ الصفات الأربع التي هي: القادرية، والعالِمَّية والحياتيَّة، والوجود (1)، ثم فارقناه، فوجبت له، وجازت لنا، فلا بد من أمرٍ وجبت (2) له، وجازت لنا، إلى آخر ما ذكره.

وقد أجمعت المعتزلة على أن مثل هذه المشاركة في الأمهات الجوامع من الصفات والأسماء لا تقتضي التَّشبيه من أجل وجود الفارق على الصحيح، فكيف ألزموا أهل السنة التشبيه وهم يحرمون إطلاق مثل هذه العبارات في المشاركة، ولا يجترئون على مثل هذه العقائد التي لم تَرِدْ بها نصوص القرآن ولا السنة المعلومة؟

قال أهل السنة للمعتزلة: وحين اتفقنا على أن الاشتراك في كثير من الأسماء والصفات لا تُوجِبُ مسمى التمثيل، علمنا أنه لا مناقضة بين نفي (3) التمثيل وبين إثبات ما تمدَّح به الربُّ من صفاته التي خالفت المعتزلة في حقائقها، كتمدُّحه بأنه الرحمن الرحيم، واسعُ الرحمة، خير الراحمين، وبأنه العليُّ، العظيم، الأعلى، المتعالي، ذو المعارج، وهو سبحانه أعلم بحقائق المناقضة، ولو كان ذلك تناقضاً، ما تمدَّح به ومدح رسوله (4) وأصحابه، وشاع ذلك بينهم المُدَدَ المتطاولة من غير تأويل.

فحاصلُ كلام أهل السنة راجعٌ إلى تفسير نفي التشبيه بإثبات هذه الأسماء وسائر ما وصف الله به ذاته على أكمل الوجوه، ونفي ما يلزمها في المخلوقين مِنَ النقص، ونفي لوازم النقص عن الله تعالى، ونفي كمالِها عن المخلوقين.

(1) في (ش): والوجودية.

(2)

في (ب): لأجلها وجبت.

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (ش): رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي (ب) و (ج) و (د): ومدحه رسوله.

ص: 79

ألا ترى أنه تعالى عالمٌ لا يعزُبُ عن علمه شيءٌ في الحال والماضي والاستقبال من المعدومات والموجودات، ولا يجوزُ عليه الشكُّ فيما علمه، ولا النسيان له (1) ولا الخطأ، ولا النظر والاستدلال (2). وقد يُسمَّى (3) بعض عباده عالماً، ولكن عالماً ناقصاً مشُوباً بتجويز جميع هذه (4) النقائص التي تنَّزه الربُّ عنها، وكذلك سائر الأسماء، قالوا: ومتى كان القول بأن الله عالمٌ مثل علم (5) خلقه كفراً (6) بالإجماع، مع أن كونه تعالى عالماً من المحكمات.

وكيف (7) من قال: بأن عُلوَّه واستواءه على عرشه كعُلوِّ الأجسام واستوائها، مع أن هذا من المتشابهات؟

فمن ها هنا لم يكن له سبحانه كفواً أحد، وكان كما قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]. وقوله تعالى: {وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد نفي التشبيه من أقوى أدلَّة أهل السنة على هذا، وكذلك قوله تعالى:{وللهِ المَثَلُ الأعلى وهُوَ العزيزُ الحكيمُ} [النحل: 6] وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] أي: الوصفُ الأعلى على ألسِنةِ أهل السماوات وأهل الأرض. وتقدم قول عليٍّ عليه السلام: فعليك أيها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته (8).

وإنما تنَّزه الرَّبُّ سبحانه عما يصفون من الصاحبة (9) والولد، والأمر بالفواحش، وأمثال ذلك مِنَ النقائص، ولم ينَّزه قطُّ عن الوصف بالمحامدِ والممادح والأسماء الحسنى.

وقالت الملاحدة من الباطنية والفلاسفة: لا يجوز عليه (10) شيءٌ مِن هذه

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في (ش): ولا الاستدلال.

(3)

في (ش): سمَّى.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ب): بمثل ما علم.

(6)

في (ش): " كفر " وهو خطأ.

(7)

في (ب) و (ج): فكيف.

(8)

ص 394.

(9)

في (ش): المصاحبة.

(10)

ساقطة من (ب).

ص: 80

الأسماء والصفات قالت الباطنية: وإنما هي مجازٌ لا حقيقة له، وكلُّ اسمٍ أو وصفٍ منها يوجب التَّشبيه، ويجب نفيه عن الله تعالى على جهة التعظيم والتنزيه، ونسبتها إلى الله تعالى كنسبة الجناح إلى الذُّلِّ في قوله تعالى:{واخفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ .. } [الإسراء: 24].

ولو قال قائل: ليس للذل جناحٌ، وقصد الحقيقة، كان صادقاً عندهم (1) فكذلك، من نفي الأسماء الحسنى عن الله تعالى، وقصد الحقيقة، كان صادقاً عندهم، فالنَّافي لرحمة الله عز وجل، الواصف له بأنه ليس برحمن، ولا رحيمٍ، ولا عليٍّ، ولا عظيم، كالنافي للجناح عن الذُّلِّ، والإرادة عن الجدار، صادقٌ عندهم، بل هو (2) أصدقُ عندهم ممَّن سمَّاه الرحمن على سبيل التجوُّز (3).

وكما (4) أن إثبات المجاز لا ينفعُ الباطنية فيما نَفَوهُ من حقائق صفات العليم القدير وحقائق المَعاد فكذلك إثبات المجاز لا ينفعُ المعتزليَّ فيما نفاه من حقائق صفات الرحمن الرحيم، العلي العظيم، وما أبدَوْهُ من الفرق في ذلك غيرُ صحيحٍ عند خصومهم، ومعارضٌ عندهم كما تقدَّم في الوهم الخامس عشر في كلام شيخ الإسلام. فهاتان طائفتان متقابلتان أعني: الباطنية الذين نَفَوُا الأسماء كلها، وأهل الأثر الذين أثبتوها كلها.

وأمَّا المعتزلة والأشعرية، ففرَّقوا بين الأسماء والصفات، فتارةً يوافقون أهل السنة، وتارة (5) يوافقون الباطنية، واعتمدوا في التفرقة على أدلةٍ عقليةٍ دقيقةٍ خفيَّةٍ، أدَّت إلى القطع عندهم بنفي أمرين جليَّين عند مخالفيهم من أهل السنة

(1) ساقطة من (ب).

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

في (ش): التجويز.

(4)

في (ش): فكما.

(5)

في (ب): ومرّة.

ص: 81

هما عند أهل السنة أقوى وأجلى، وأولى بالتَّسليم (1) من تلك الخفيات التي لا يُخاف الكفر بالمخالفة لشيء منها (2)، ولا ينتهض (3) في العقل لمعارضةٍ أقوى منها عندهم، واعتقدوا أن الاستضاءة في هذه المسالك المجهولة بأنوار النُّبوَّة والآيات القرآنية أحزمُ وأسلم، وإن كان غيرهم يرى الخوض في تلك الدقائق أنبه وأعلم، فإن معرفة الجلال الأعزِّ أعزُّ من (4) أن يهتدى إليه (5) إلَاّ بتعريفه:

مَرَامٌ شَطَّ مَرْمَى العقل فيه

فَدُونَ مَدَاه بِيدٌ لا تَبيدُ (6)

فلنذكر أدلة الجميع بتوفيق الله تعالى وعونه.

أمَّا تلك الأدلة التي تمسَّك بها المتكلمون، فهي ما قدمنا (7) في هذا الوهم من اعتقادهم لتسمية الموجودات في الخلاء العدميِّ المستقلَاّت بأنفسها كلِّها أجساماً، واعتقادهم لِتماثلها، وكذلك ما قدمنا في الوهم الخامس عشر من اعتقادهم لصحة دليل الأكوان، واستلزامه لحدوث جميع ما سمَّوه جسماً من كل موجود في الخلاء العدمي مستقلّ بنفسه.

وقد قدمنا مخالفة بعضهم بعضاً (8) في ذلك، ورد بعضهم على بعض، وما في أدلتهم هناك من الدقة والنزاع والإشكالات لو لم يعارضها شيءٌ ألبتة ولا يخاف من القول بها إنكار (9) ما يخاف الكفر في إنكاره، ومرادنا بالخلاء العدميِّ

(1) في (أ): وأجلى فالتسليم.

(2)

في (ش): ليس منها.

(3)

في (ب): تنتهض.

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

ساقطة من (أ)، وفي (ب) و (د): إليها.

(6)

تقدم في 3/ 323.

(7)

في (ش): قدمناه.

(8)

في (ش): لبعض.

(9)

ساقطة من (أ).

ص: 82

هو ما وُجدت فيه الموجودات في أول إيجادها وإيجاد إمكانها (1)، فإن الأماكن عند المتكلمين عبارةٌ عن أجسام الأرض والسماوات التي تستقُّر فيها الموجودات، ولا شكَّ أن أول موجودٍ منها قبل خلق (2) الأمكنة كان في جهةٍ عدميَّةٍ، وكذلك الأمكنة كانت فيها، وإلَاّ احتاج كلُّ مكانٍ إلى مكان (3)، إلى ما لا نهاية له.

وأما الأمران الجليِّان الَّلذان ادَّعى أهل السنة معارضَتَهُما (4) لذلك، ووضوحَهما، وخوف الكفر في إنكارهما.

فأحدهما: ما فُطِرَت عليه العقول السليمة عن التَّلوُّن بالاعتقادات التقليدية من استحالة تعطيل الموجود من جميع الجهات السِّتِّ التي لا غاية لكل واحدة منها (5) كما قرَّره ابن تيمية وغيره من متكلِّميهم استدلالاً وسؤالاًَ وانفصالاً، مثلما أن المعتزلة تعتقد استحالة الرؤية، كذلك قالوا ولا شكَّ أنَّ هذا هو الفطرة، ولكن الأدلة المعروفة في علم المنطق والكلام، المعروفة بالأدلة الخلقية ألجأت المتكلمين إليه، ومعنى هذه الأدلة الخلقية (6) أن النقيضين إذا بطل أحدهما ثبت الآخر، فلما بطل عندهم هذا الأمر الجليُّ بتلك الأمور التي قدمناها ونحوها، واعتقدوها قاطعةً، اضطرهم ذلك إلي إثبات نقيضه، وظنوا أن تلك الفطرة العقلية المعارضة لأدلتهم طبيعية (7) وهميَّةٌ نافرةٌ عن ذلك.

قالوا: ولو أنعموا (8) النظر فيما ألجأهم إليه، لما عوَّلوا عليه، فإن الذي نَفَوْهُ

(1) في (أ) و (ش): إمكانها.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

" إلى مكان " ساقطة من (ب).

(4)

في (ب): معارضتها.

(5)

في (ب): منها.

(6)

جملة: " ألجأت المتكلمين إليه، ومعنى هذه الأدلة الخلقيه " ساقطة من (أ).

(7)

في (ب): طبيعة.

(8)

في (أ): نعموا.

ص: 83

أقوى وأجلى في الفِطَرِ العقلية من أدلتهم على نفيه بكثيرٍ، ونفيُ الأجلى بالأخفى باطلٌ، ولا يعرف هذا إلَاّ من اطَّلع على تلك الأدلة التي ظنُّوها قاطعة، التي قدمنا الكلام فيها آنفاً.

فإن قيل: إذا كان أهل السنة ينفون الكيفيَّة عن الاستواء والعلوِّ ونحو ذلك، فقد شاركوا المتكلمين في مخالفه الفطر (1) العقلية، وعدم القبول لظواهر النصوص السمعية، ولم يبق بينهم خلافٌ إلَاّ في العبارات اللفظية، ففي أي شيءٍ افترقوا على التَّحقيق؟ وما بالهم يوهمون الاختصاص لكمال (2) التصديق؟ فجوابهم عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أنهم -أو كثيرٌ منهم- لم ينفوا حقيقة العلوِّ المفهومة من حيث هي (3) مجرَّدة عن لوازمها التي لا تجوز على الله عز وجل، وإنما نَفَوْا تلك اللوازم ذاهبين إلى أن المستلزم لها أمورٌ تَخْتَصُّ بالأجسامِ التي يجب القَطْعُ بنفي تشبيه الله عز وجل بها (4)، لا أن (5) العلوَّ من حيث هو علوٌ هو الذي التزمها كما تقدَّم ذلك قريباً في ردِّهم لأدلَّة المعتزلة، فاعِرفْ ذلك، وأنهم إذا أطلقوا العُلُوَّ عَنَوْا به ما فوق العالم جميعاً (6)، وذلك خارجٌ عن الجهات المخلوقة، فلا يتصَّور منه لزومُ الحاجة إليها عندهم.

وثانيهما: أنهم لم ينفوا علم الله سبحانه بحقائق أسمائه، وما نطق به التنزيل من نعوت الرَّبِّ الجليل، ولم يُثبتوا الحيرة (7) في ذلك على الإطلاق،

(1) في (ب) و (ج) و (ش): الفطرة.

(2)

في (ب): بكمال.

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ب): " إلَاّ أن "، وفي (أ) و (ش):" لأن ".

(6)

في (ب): جميعه.

(7)

في (ش): الخيرية.

ص: 84

بل نَفَوْا عن أنفسهم، لا عن ربِّهم جلَّ وعزَّ وتبارك وتعالى معرفة حقيقة الذات المقدسة، وما يتعلق بها على التفصيل، وأثبتوا المحارة (1) في ذلك بالنسبة إلى أنفسهم لقصور البشر عن إدراك ذلك (2) الجلال الأعزِّ، وبُعدِ مَنْ صوَّره الله تعالى من التراب عن بلوغ الغاية القصوى في معرفة ربِّ الأرباب تصديقاً لقوله تعالى:{ولا يُحيطُونَ به علمَاً} [طه: 110]، لا بالنسبة إلى علم الله تعالى المحيط الذي لا يجوزُ أن يدخُلَه نقصٌ، ولا وقفٌ، ولا حَيرة، ولا شُبهةٌ، ولذلك ذهبوا إلى أنه تعالى (3) يعرف ذاته معرفة المفردات، وهي على الحقيقة المعرفة التامة.

وأما العباد، فإنما يعلمون نسبة الأسماء والنعوت إليها كنسبة الوجود وصفات الكمال، ولا يعرفون الذات التي نُسبَت (4) إليها هذه الأمور، وذلك الذي يختص به العباد يُسمى علماً لا معرفة عند أهل اللغة وأهل المعقولات، لأن العلم يتعدَّى إلى مفعولين، كما تقول: علمت الله موجوداً عليماً قديراً، وأمَّا المعرفة، فلها مفعولٌ واحدٌ مفردٌ. ومذهبُ أهل الأثر في هذا هو المعروف عن عليٍّ كرَّم الله وجهه (5)، وبه فسَّر ابن أبي الحديد -مع اعتزاله (6) - قوله عليه السلام في وصف عزة (7) الربِّ جل جلاله عن إدراك العقول لحقيقة ذاته، قال عليه السلام:" امتنع منها بها، وإليها حَاكَمَها ". أراد عليه السلام أن العقول عرفت قصورها عن دركِ حقيقة الذات المقدسة، وكان الامتناع من ذلك بالعقول، وإلى العقول حاكم العقول، شبَّه العقل (8) بالخصم المدعي لما لا

(1) وفي (ش): المحاراة.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

في (أ): " ذهبوا أن الله تعالى "، وفي (ش):" ذهبوا إلى أن الله تعالى ".

(4)

في (ش): تنسب.

(5)

في (ب): عليه السلام.

(6)

في (ب) اعترافه.

(7)

ساقطة من (ش).

(8)

في (أ): " شبهة العقل "، وفي (ب) و (ج):" شبه العقول "، وفي (ش):" حاكم العقول ".

ص: 85

يصح، ولا يخفى بطلانه على أحد. وفي مثل ذلك يحكم العاقل خصمه فيما ادَّعاه (1)، حتى إنه إذا ادعى الباطل لم يزد على أنه أودى (2) بنفسه وحقَّق للسامعين تعمُّده للباطل، وإن أقرَّ بالحق، حصل المقصود (3).

ومن (4) ها هنا وقعت البهاشمة من المعتزلة في البدعة الكبرى، حيث قالوا: إن الله تعالى لا يعلم من نفسه (5) إلَاّ ما يعلمون، فتعالى الله عما يقولون علواً عظيماً، بل هو أعز وأجل من أن يحيطوا به علماً، وهم أحقر وأقل من ذلك كما نص عليه كتاب الله تعالى حيث قال متمدحاً:{ولا يُحيطُونَ به عِلْمَاً} [طه: 110]، وقد بالغ ابن أبي الحديد في نُصرة قول أمير المؤمنين عليه السلام، وذكر أنه قولٌ لم يزل فضلاء العقلاء مائلين إليه معوِّلين عليه، وأنشد في ذلك من الأشعار المستجادة ما يطول ذكره ويطيبُ ويشتمل على كل معنى عجيب، وقد ذكرت ذلك في " ترجيح أساليب القرآن " (6) وجوَّدته. فخذه من هناك. فأهل السنة لزموا الأدب عملاً بقوله تعالى:{ولا يُحيطُونَ به عِلْمَاً} (7)[طه: 110]، وبقوله تعالى:{ولا تَقْفُ ما ليس لك بهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فأثبتوا الذات على وجهٍ يعقلُ جملةً لا تفصيلاً، وآمنوا بما علمهم الله من تفصيل تلك المعارف في تلك الجملة، وهذا من محارات العقول بإقرار العقول (8) وشهادة (9) المنقول، أعني تفصيل الكلام في ذات الله تعالى.

(1)" فيما ادعاه " ساقطة من (ش).

(2)

في (ب): أزري.

(3)

نص كلام المؤلف في " ترجيح أساليب القرآن " ص 112: " بها امتنع منها وإليها حاكِمها " أي: امتنع من العقول بمعرفة العقول لعجزها عن إدراكه والإحاطة به، وإليها حاكمها، أي: اجعلها محكَّمة في ذلك، لأنه نزلها منزلة الخصم المدعي، والخصم لا يحكم إلا حيث تتضح الحجة، ويفتضح جاحدها، فلا يرضى لنفسه بدعوى ما يعلم كل عاقل كذبه فيها.

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

في (ش): ذاته.

(6)

ص 112 وما بعدها، وانظر " شرح نهج البلاغة " 13/ 49 - 54.

(7)

في (ش): ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.

(8)

ساقطة من (ش).

(9)

في (ش): وشهادات.

ص: 86

وأما نفيُ ما جهلنا من ذلك عن علم الله، فمن المحالات في العقول، وفرقُ بين المحارات والمحالات، فالسمع يردُ بالمحارات، والعقل يقبل الإيمان بها جملةً، ويَكِلُّ عنها ويكِلُ تفصيلها إلى الله تعالى، والمحالات، لا يَرِدُ بها السمع، ولا يجوزها العقل. ولعلَّ المعتزلة إنما نفوا أن يعلم الله من ذاته غير ما يعلمون طرداً لقاعدتهم الضعيفة المقدَّمة (1)، وهي أن ما لم يعلموا عليه دليلاً وجب نفيه، وكثيراً ما ترجع أدلَّتهُمْ لمن تأمَّلها إلى هذه القاعدة وقد مرَّ إبطالها بما لا زيادة عليه والحمد لله.

وقد نُقِلَ عن قدماء العترة عليهم السلام ما يُشبه قول علي عليه السلام وقول أهل السنة، فذكر أبو عبد الله الحسني في كتابه " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، عن محمد بن منصور، أن أحمد بن عيسى عليه السلام كان ينفي التشبيه والحدود والنهاية، ويقول: هو عز وجل موجود في كل مكان بلا كيفية.

ونقل محمد بن منصور عن أحمد بن عيسى في كتاب أحمد أنه روى ذلك (2) عن أبيه، وقال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام: أجمع علماء (3) آل الرسول صلى الله عليه وسلم على نفي التشبيه عن الله، وأنه ليس كمثله شيءٌ .. إلى قوله: عن (4) أن يدركه الواصفون إلَاّ بما وصف به نفسه بلا تحديدٍ ولا تشبيهٍ ولا تناهي. وقال محمد: قد وصف الله تعالى نفسه بصفات مدائح لن تزول عن الله في حال، يدان فيها بإثبات ما أوجب الله تعالى، ونفي ما أزال، فقال عز وجل:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] إلى آخر السورة، فعدَّ الرحمن الرحيم من مدائح الرَّبِّ التي لا تزول عنه، ويجب إثباتها له بلا كيفيةٍ ولا تشبيهٍ.

(1) في (ش): المتقدمة.

(2)

ساقطة من (ب).

(3)

ساقطة من (د) و (ش).

(4)

في (ب): عز.

ص: 87

وبهذا يظهر لك أن أهل السنة لم يختصُّوا (1) بالبَلْكَفَة التي شنَّع بها عليهم بعضُ المعتزلة، بل هي قول جميع المسلمين في ذات الله تعالى، وإنما خالفوا أهل السنة في صفاته تعالى كما مر تحقيقه في الوهم الخامس عشر، وهذا تمام الكلام في الأمر الأول من الأمرين الحليين الَّلذَيْن ادعى أهل السنة معارضَتَهُما لأدلة المتكلمين، وقضوا بأنهما أجلى منهما، وخافوا الكفر في مخالفتها.

وأما الأمر الثاني الذي يعضُدُ هذه الفطرة، فهو تطابقُ جميع هذه الكتب السماوية على ذلك، وكذلك الفِطَرُ (2) السليمة من شَوبِها بالتقليدات الكلامية.

وبيان ذلك يظهر بوجوه:

الوجه الأول: خلوُّ الكتب السماوية والآثار النبوية من وصف الرب سبحانه بالتعطيل من جميع الجهات مع ورودها بكثير (3) من المتشابهات، فأما هذا الوصفُ، فتعطَّلت كلها منه لنكارته حتى اتفق أنه ما كَذَبَ أحدٌ من الكذابين في الحديث شيئاً يوافق هذا فيما علمناه إلى الآن، وتواتر في القرآن والسنة وصف الرب سبحانه بما يقتضي بُطلان هذا كما تراه الآن، وكما يعرف بأدنى تأمُّلٍ، ولم يرد القرآن بأنه كُلَّه متشابهٌ، وإنما ورد بأن منه آيات محكماتٍ هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات. فأرُونا الآيات المحكمات الواردات بهذا التعطيل من الجهات حتى نرُدَّ إليها سائر آيات كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعقول السليمة تُحيلُ خُلُوَّ الكتب السماوية والأحاديث النبوية من النطق بالصواب الذي يُرَدُّ (4) إليه كثيرٌ من متشابه (5) الكتاب، وإلى استحالة ذلك أشار قوله بعالى:{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]، ويا

(1) في (أ) و (ج) و (د): " لا يختصوا "، وفي (ش):" لا يختصون ".

(2)

في (ب) و (ش) و (ج): الفطرة.

(3)

في (ب): " تكثير " وهو خطأ.

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

في (ش): متشابهات.

ص: 88

لها من آيةٍ قاطعةٍ للمبطلين لمن تأمَّلها في كلِّ موضعٍ مع ظاهر قوله: {ما فَرَّطْنَا في الكتابِ من شَيءٍ} [الأنعام: 38]، فإن الله سبحانه لم يُخْلِ كتبه الكريمة من بيان مهمَّات الدِّين. وقول المتكلمين: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ على كتاب الله تعالى، فإنه لا يشكُّ منصفٌ (1) أنها جاءت -أو كثيرٌ منها- على جهة التمدُّح منه عز وجل بالرحمن الرحيم، العلي العظيم، فجعلوا ما تمدَّح به يقتضي بظاهره غاية الذم والسَّبِّ باستلزام ظاهِرِه تشبيه (2) العبيد المساكين المخلوقين، وليس يرضى بمثل هذا عاقلٌ أن يَقصِدَ التمدح بما ظاهره النقص لنفسه، والقدح في عرضه، كيف الملك الحميد الذي صحَّ عن أعلم الخلق به أنه لا أحد أحبُّ إليه المدح منه، من أجل ذلك مدح نفسه (3)؟ فكيف يكون أظهر المعاني من كلامه الذي المقصود منه التمدح يقتضي نقيض المقصود، مع أنه أبلغ الكلام والبلاغة تقتضي بلوغ المتكلم لبيان مراده على أبلغ الوجوه؟ فكيف يستكثر من لا أحد أحبُّ إليه المدح منه مما ظاهرُه الذمُّ، ويكون ذلك في السبع المثاني المتكرِّرة في الصَّلوات، وفي أول كل سورةٍ من المصاحف المكرمات؟ وقولهم: إن المقصود بذلك تعريضُ المكلَّفين إلى دَرْكِ الثواب العظيم بالنظر في تأويله مردودٌ بوجوه:

(1) تحرفت في (ب) إلى: مصنف.

(2)

في (ب): " شبه "، وهو خطأ.

(3)

أخرج أحمد 1/ 381 و436، والبخاري (4634) و (4637) و (5220) و (7403)، ومسلم (2760)، والترمذي (3530) وابن حبان (294) طبع مؤسسة الرسالة من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، من أجل ذلك مدح نفسه ".

وأخرجه أحمد 4/ 248، والبخاري (7416)، ومسلم (1499)، والدارمي 2/ 149، وابن حبان (5773)، والطبراني 20/ (921) و (922)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " 2/ 12 من حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 89

الأول: أن ذلك لو كان هو المقصود، لوجد الصواب ولو مرَّةً واحدة حتى يرد المتشابه إليه كما وعد به التنزيل، فأين آيةٌ واحدةٌ نفت الرحمة على الإطلاق عَنِ الله تعالى، أو نفت أسماءه: العليَّ، الأعلى، المتعالي، وما شاكلها؟

وثانيها (1) لو (2) كان تأويلها هو المقصود، وكانت مناقضةً لنفي التشبيه، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه وتابعوهم أسبق الناس إلى تأويلها كما سبقوا إلى كل خير، وسيأتي بطلان ما كُذِبَ من ذلك على (3) أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام كما أوضحتُه في " ترجيح أساليب القرآن "، ولو لم يُعارض ما رُوِيَ عنه من مذاهب الباطنية في نفي الصفات إلَاّ بما رواه السيد أبو طالب في " أماليه " بسنده من قوله عليه السلام: فعليك أيُّها السائل بما دلَّك (4) عليه القرآن من صفته، وتقدَّمك فيه الرُّسل بينك وبين معرفته، فأتَمَّ به، واستضىء بنور هدايته وبكلامه في صفة الرَّاسخين ووصفه لهم بالعجز عن التأويل، كما أسنده عنه السيد أبو طالب، وقرَّره وأرسله صاحب " النهج "(5)، وهو نصُّ قول أهل السنة.

والعجبُ ممَّن يتسع عقله من العلماء لتصديق أنه عليه السلام كان يخطُبُ لمذاهب القرامطة في صدر الإسلام والصحابة متوافرون سكوتٌ لذلك، ولا يهتدي بعقله إلي أنه أتبعُ خلق الله للنبيِّ عليه السلام، وأشبههُم به علماً وبياناً، ووعظاً وخطابةً، وأشدُّ الناس اقتداءً، وأبعدهم عن الابتداع، حتى لقد قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، أما إني أقول نهاني، ولا أقول نهاكم (6)، فما أبعده عما فَرِحَتْ به القرامطة مما رُوِيَ عنه من شُبَهِ مذاهبهم صانه الله عنها.

(1) في (د): وثانيهما.

(2)

في (ش): أنه لو كان.

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (د) و (ش): دلَّ.

(5)

" نهج البلاغة " ص 212 - 233، وقد تقدم كلام أمير المؤمنين الخليفة الرابع ص 394.

(6)

أخرج الإمام أحمد 1/ 132 عن علي رضي الله عنه أنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أقول: نهاكم - عن العصفر والتختم بالذهب.

ص: 90

وثالثها: أن هذا المدعى الذي ذكروه لا يصح تقديره فيما موارده (1) إظهار المحامد وبيان الممادح.

ورابعها: أنه لو كان -كما ذكروه- لورود (2) السمع بما ظاهره القبح الضروري المتفق عليه ليُثاب (3) المكلَّفون بتأويله، كنسبة الظلم والولد والشركاء وسائر النقائص -تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً- فإنه يمكن تكلُّف التجوزات البعيدة في ذلك كما زعمه الزمخشري في تأويل قوله تعالى:{أمَرْنَا مُترَفِيهَا فَفَسَُوا فيها} [الإسراء: 16] فإنه زعم أن المراد: أمرناهم بالفسق مجازاً (4).

وسوف يأتي في الوهم الثامن والعشرين تمام البحث فيما يتعلق بهذا المعنى من الأسئلة (5) إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: في الإشارة إلى طرفٍ من هذه الآيات التي تعارض دعوى تعطيله عز وجل من كل الجهات، وذلك في القرآن والسنة متنوعٌ أنواعاً كثيرة، فمن أنواعه: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقولُه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، وقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وما جاء في ذكر الحجب من السنة من رواية زيد بن علي عليهما السلام ومن رواية أهل الحديث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهي حُجُبٌ حاجبةٌ للعباد، محيطةٌ بهم، لا بالله عز وجل فافْهم هذه الفائدة، فإنها مهمَّة.

(1) من قوله: " من شبه مذاهبهم " إلى هنا ساقط من (ب).

(2)

في (ش): لورد.

(3)

في (ج): " لثبات " وهو تحريف.

(4)

" الكشاف " 2/ 442.

(5)

في (أ): الأنمطة.

ص: 91

ومن أنواعه: قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] بالرَّفع، ولو كان منقطعاً لنُصب. وقوله (1) تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21، 22]، وقوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17]، و" في " هنا بمعنى " فوق " كقوله:{لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. ولا يُحيط بالله شيءٌ بالإجماع، وهي في الفوقية حقيقةٌ لا مجازٌ، وآيات الاستواء تُوَضِّحُ ذلك.

ومن أنواعه: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. ومن أنواعه: قوله تعالى: {ثُمَّ استَوَى إلى السماء} [البقرة: 29]، وقوله تعالى في غير آية:{ثُمَّ استَوَى على العَرْشِ} .

ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]، وقوله:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، وقوله:{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 15]، وقوله:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وقوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، وقوله:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34 والشورى: 22]، وقوله:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34]، وقوله:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. وقوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]، وقوله:{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [الذاريات: 34]، وقوله:{وعندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} [الرعد: 39]، وقوله:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، وقوله:{وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4]، وقوله: {ولَدَيْنَا كِتَابٌ

(1) في (ب): " ونحو قوله " وفي (ش): " ونحوه قوله ".

ص: 92

يَنطِقُ بالحَقِّ} [المؤمنون: 62]. وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، وفي آية:{مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31]، وقوله:{أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 73] وقوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28].

ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30].

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18].

ومن أنواعه: آيات لقاء الله تعالى، وهي أشهر وأكثر من أن تُذكر.

ومن أنواعه الكثيرة ما في القرآن من ذكر علوِّه على خلقه، تارةً بالتَّمدُّحِ بأسمائه: العلي، والأعلى، والمتعالي، وذي المعارج، وتارة بالخبر عن ذلك في آياتٍ عديدة، كقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقوله:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157، 158] وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]. وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقوله: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42].

ومن أنواعها: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام فيها في الوهم الخامس عشر (1) وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وقد صح تفسيرها بالحقيقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن مسعود (2)،

(1) تقدم في الجزء الرابع.

(2)

أخرجه البخاري (4811) و (7414) و (7415) و (7451) و (7513)، ومسلم (2786)، وأحمد 1/ 429 و457، وابن أبي عاصم (549)، وابن خزيمة في " التوحيد " =

ص: 93

والبخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر (1)، والبخاري عن أبي هريرة (2)، والترمذي عن ابن عباس (3) كما هو مبسوط بأسانيده وألفاظه في كتب الإسلام، ولم يُنكِر ذلك عليهم أحدٌ مِمَّن عاصرهم من الصحابة، ولا مِمَّن سمع منهم من التابعين، وما زال السلف يروون مثل ذلك، ويُروى عنهم من غير نكيرٍ (4). حتى إن السيد المنكر لرواية هذا الجنس (5) على المحدثين روى هذه الأخبار المشار إليها في تفسير هذه الآية (6) في تفسيره الذي سماه " تجريد الكشاف مع زيادة نكت لطاف "، ولم يذكر بعد روايتها (7) ما يدلُّ على قبح الاغترار بها، ووجوب التحذير منها، وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى وتفاسير علماء الإسلام.

ومن أنواعها: جميع الآيات (8) المتضمنة لكلامه، وتكليمه، ومناداته، ولذلك أنكرت المعتزلة ذلك على الحقيقة كما مضى مبسوطاً في الوهم الخامس عشر، وقالوا: ليس في مقدوره أن يصدر عنه الكلام ألبتة، وإنما في (9) مقدوره أن يخلق كلاماً في شجر أو حجر (10) أو نحو ذلك. وقد مرَّ ما ورد في ذلك في الوهم الخامس عشر.

= ص 76 و77 و78، والآجري ص 318، والطبري: 24/ 27، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 334.

(1)

أخرجه البخاري (7412) و (7413) تعليقاً، ووصله مسلم (2788)، وأبو داود (4732). وانظر " تغليق التعليق " للحافظ ابن حجر 5/ 341 - 342.

(2)

البخاري (4812) و (7413) و (6519) و (7382).

(3)

أخرجه الترمذي (3240)، وابن أبي عاصم (545)، وابن خزيمة ص 780، والطبري 24/ 26، وفي سنده عطاء بن السائب وكان قد اختلط، ومع ذلك فقد قال الترمذي بإثره:

هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه من حديث ابن عباس إلَاّ من هذا الوجه.

(4)

في (ش): نكير به.

(5)

في (ب): الخبر.

(6)

عبارة: " تفسير هذه الآية " ساقطة من (ش).

(7)

تحرفت في (ب) إلى: رواتها.

(8)

في (ب): " الآثار " وهو خطأ.

(9)

ساقطة من (ش).

(10)

في (ب): حجر أو حجر.

ص: 94

ومن ذلك سؤال موسى عليه السلام للرؤية، حيث قال:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، فإنه من أعلم الخلق بما يجوز على الله تعالى وما يستحيل، والخصم ينزل ذلك منزلة تجويز الأكل والشرب والنوم والعجز والفناء على الله تعالى، وموسى الكليم أعلم من أن يجهل ما يستحيل على ربِّه عز وجل، ويعرِفَه شيوخ المعتزلة بأنظارهم، ولم يقع الجواب عليه بأن ذلك لا يصحُّ ولا يمكن، بل أجيب بنفي ما طلبه من الرُّؤية في الدنيا، وكان جوابه على سبب سؤاله، وسؤاله كان مقصوراً على رؤية الدنيا، كما سيأتي تحقيقه.

و" سوف " لا تدل على أن المنفيِّ متأخِّرٌ إلى الآخرة، وقد قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام:{سوفَ أستغفِرُ لكُم ربِّي} [يوسف: 98]، وإنما (1) أخَّره إلى ليلة الجمعة (2).

(1) في (ش): فإنما.

(2)

أخرجه الطبراني (19875) و (19876) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد قال أخي يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة ".

وأخرجه الترمذي (3570) ضمن حديث مُطَوَّل من طريق سليمان بن عبد الرحمن بهذا الإسناد. وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلَاّ من حديث الوليد بن مسلم. وأخرجه الحاكم في " المستدرك " 1/ 316 من هذة الطريق، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقد علق عليه الإمام الذهبي فقال: هذا حديث منكر شاذ أخاف أن يكون موضوعاً، وقد حيَّرني والله جَوْدَةُ سندِه.

وقال في " ميزان الاعتدال " في ترجمة سليمان بن عبد الرحمن بعد أنا ذكر طرفاً من هذا الحديث: وهو مع نظافة سنده حديث منكر جداً في نفسي منه شيء، فالله أعلم، فلعل سليمان شبه له، وأدخل عليه، كما قال فيه أبو حاتم: لو أن رجلاً وضع له حديثاً لم يفهم.

وأورده الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " 2/ 214 من رواية الترمذي =

ص: 95

وبكلِّ حالٍ، فالآية واضحةٌ في صحَّة الرؤية، ألا تراه تجلَّى كيف شاء للجبل، فجعله دكّاً، وعلَّق الرُّؤية باستقراره وهو ممكن بقدرة (1) الله إجماعاً، وما عُلِّق بالممكن فهو ممكن. ألا تراه لا يصحُّ أن يقال: إن استقرَّ مكانه، فسوف آكلُ وأشربُ وأعجِز وأجهَل، تعالى الله عن ذلك. ويوضح ما ذكرته (2) من كونها في (3) رؤية الدنيا أن قوله تعالى:{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، لم يكن جواباً لقوله: أرني في الآخرة، ولا لقوله (4): هل أراك فيها، بدليل أنه يحسُنُ منه بعد ذلك أن يقول فهل أراك في الآخرة حين لم تُجبني إلى رؤيئك في الدنيا، فلا تعارض أنه (5) رؤية الآخرة معارضة النصوص. ألا ترى أن قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، لما نزل على سبب قول المشركين: إنهم قد كفروا وكذبوا، وزنوا، فأكثروا (6) كانت خاصة بالمغفرة في الدنيا لمن تاب من الكافرين (7)، ولمن شاء الله من غيرهم (8). وحسنٌ أن يُقال في من مات (9)

= والحاكم، ثم قال بإثره: طرق أسانيد هذا الحديث جيدة، ومتنه غريب جداً.

وذكره ابن كثير في " تفسيره " 4/ 334 طبعة الشعب من طريق ابن جرير، وقال بإثره: وهذا غريب من هذا الوجه، وفي رفعه نظر، والله أعلم.

(1)

في (ش): في قدرة.

(2)

في (ش): ويوضح ذلك.

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

تحرفت في (أ) إلى: وقولي.

(5)

تحرفت في (أ) إلى: أية.

(6)

في (ش): وأكثروا.

(7)

في (ش): المشركين.

(8)

أخرج البخاري (4810)، ومسلم (122)، والنسائي 7/ 86 - 87، وفي " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 458، وأبو داود (4374) عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لَحَسَنٌ، لو تخيرت أن لما عملنا كفارةً، فنزل:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} ، ونزل:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ .. }

وأخرجه الطبري 24/ 14 بلفظ آخر.

وذكر ابن إسحاق في " سيرته " 2/ 119 سبباً آخر لنزول الآية.

(9)

في (أ) و (ج) و (د) و (ش): كان.

ص: 96

كافراً: إنه لا يُغفر له بإجماع أهل العلم واللغة، أما أهل العلم، فظاهرٌ، وأمَّا أهل اللغة، فلأنهم لم يعدُّوه متناقضاً، لا مسلمهم ولا كافِرُهم، ولذلك قال ابن عبد البَرِّ: إنها في الدنيا، وقوله (1):{ويَغفِرُ ما دُونَ ذلك لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] في الآخرة جمعاً بينهما.

ومن ذلك قول إبراهيم في النجم، ثم القمر، ثم الشمس {هَذَا رَبِّي} وسيأتي تمام الكلام فيها (2) عند الكلام على ما أورده الخصم مما يتعذَّر تأويله من الحديث.

وقد اعترف الرازي في كتاب " الأربعين " بأن الكتب السماوية كلها جاءت بذلك في حق الله تعالى، كما جاءت بتحقيق المعاد، ونسب إلى الفلاسفة (3) والباطنية المخالفة فيهما معاً، ونسب إلى المتكلمين تقرير ما جاءت به الشرائع في المعاد، وتأويل ما جاءت به في المبدأ، يعني به الرب سبحانه.

الوجه الثالث: أن كلَّ من جادل من الأنبياء عليهم السلام عُبَّاد الأصنام وغيرهم، لم يحتجَّ بوجوب (4) تعطيل المعبود عن الجهات كلها، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى ألم يكن عيسى يأكُلُ ويشرب؟ قالوا: بلى. قال: فأين الشَّبه (5)؟ وقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89]، فاحتجَّ على بطلان ربوبيَّة العجل بأنه لا يتكلم، وهذا نقيضُ توحيد المعتزلة، فإنهم قطعوا بأن صدور الكلام عن الرب كفرٌ وتشبيهٌ، وكذلك الصحابة فيما بينهم، فإنهم اختلفوا: هل رأي محمدٌ ربَّه؟ وكان حَبْرُ الأمة وبحرُها بالاتفاق عبد الله بن عباس مِمَّن اشتهر عنه القول بأنه صلى الله عليه وسلم رأي ربَّه، ونقل ذلك عنه المفسِّرون والمحدِّثون

(1) في (ب): وقوله.

(2)

ساقطة من (ب).

(3)

في (أ): الفلاسفية.

(4)

في (ش): لوجوب.

(5)

في (أ) و (ج): الشبيه.

ص: 97

والحاكم على تشيُّعه وسائر أهل السنة (1)، ونفوا عن عائشة إنكار ذلك كما هو ثابتٌ عنها في " البخاري " و" مسلم " فلم ينقل أحد أنَّهم احتجوا على ابن عباس في التعطيل، ولا ألزموه في قوله الكفر والتشبيه وقد ناظر في ذلك هو وأصحابه، واحتجُّوا بظاهر الآيات في سورة النجم، ولم يكفِّرهم أحدٌ، ولا قال: إنَّ ظاهر تلك الآيات كفرٌ وتشبيه، وإنَّما احتجُّوا عليهم بالسمع. وفي الحديث السابع والثلاثين بعد المئة من مسند عائشة في " جامع " ابن الجوزي (2) أن عائشة احتجت على مسروقٍ في أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رأي ربَّه بقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]. فدل على أنها لم تذهب إلى أن الرُّؤية مستحيلةٌ غير مقدورةٍ لله تعالى، لاحتجاجها بهذه الآية، فإنه يدلُّ على أنها محكمة عندها، بل قد روت عائشة الرُّؤية في الآخرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. وإن (3) الحاكم أخرجه (4) عنها في " المستدرك ".

وهذا يدلُّ على أنها لم تعتقد الإحالة، وإنما أنكرت الرُّؤية في الدنيا لورود السمع بنفيها.

وأوضحُ من ذلك أن الله تعالى ما احتج بالتعطيل قطُّ على عُبَّاد الأصنام، بل احتج بأنهم عبدوا ما لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يُبصر، ولا يسمع، ونحو ذلك.

قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 76] وقال: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71].

قال الزمخشري في تفسيرها (5): وهذا دليلٌ قاطعٌ على أن أمره يعني عيسى عليه

(1) انظر " مسند أحمد " 1/ 285 و290، و" جامع الترمذي "(3278) و (3279) و (3280) و" السابق واللاحق " للخطيب ص 57، و" السنة " لابن أبي عاصم (433)، والطبري 27/ 52، والبغوي 4/ 247، والحاكم 2/ 469.

(2)

واسمه " جامع المسانيد " ذكره الإمام الذهبي في " السير " 21/ 368 في جملة مؤلفاته، وقال: إنه في سبع مجلدات، وما استوعب فيه ولا كاد.

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

ساقطة من (ش)، وفي (ب): خرجه.

(5)

" الكشاف " 1/ 635.

ص: 98

السلام مُنافٍ للرُّبوبيَّة، لأن صفة الرَّبِ أن يكون قادراً (1) على كل شيءٍ لا يخرج مقدورٌ عن قدرته. انتهى.

وقال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، ولما قال الكافرُ لإبراهيم الخليل:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] وبما حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته من الدَّجال، جعل الفارق الجليَّ أنه أعورُ (2)، وقال إبراهيم الخليل للمشركين:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96].

وكم جرى بين الأنبياء الكرام عليهم السلام وبين عُبَّاد الأصنام وعُبَّاد ذوي الأجسام من جدالٍ وخصامٍ، فما نُقِلَ في الكتب السماوية، ولا على ألسنة رواة الأخبار النبوية والإسرائيلية أن نبيَّاً قط احتجّ على أحدٍ من أولئك بوجوب تعطيل المعبود عن الجهات. ولا يجوز في عقل عاقل أن يكون هذا الأصل معروفاً معلوماً عند كل نبيٍّ، وبه يتميز الحق من الباطل، والموحِّدُ من المعطِّل، والمتشابهات من المحكمات، ولجهله يقع الخلائق في الجهالات والهلكات.

ثم تنقضي أعمارُ الدنيا، وتفنى القرون والأمم وذلك غيرُ مذكورٍ ولا مشهورٍ، ولا سيَّما والأمر المناقضُ له مما شحنت به (3) الكتب السماوية، بل صحَّ واشتهر تفسيره بظاهره كما مر في قوله:{والسمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (4) وأمثالها. وتلقَّاه

(1) في (ب): " قادر " وهو خطأ.

(2)

أخرج البخاري (3439) و (3441) و (5902) و (6999) و (7026) و (7128) ومسلم (169)، والترمذي (2235) و (2241)، وأحمد 2/ 37 و131، وأبو داود (4757)، والبغوي في " شرح السنة " (4255) و (4256) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يخفى عليكم، وإن الله ليسَ بأعور " وأشار بيده إلى عينيه، " وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأنَّ عينه عِنَبةٌ طافيةٌ ".

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

ص 408.

ص: 99

الخلف عن السلف (1) من غير نكيرٍ (2).

والعادة العقلية تقضي (3) بوجوب رفع هذه الظواهر، لا سيَّما مع مطابقتها لما ذُكر في الفِطَرِ، وأن لا يهمل الخلق، فكيف يأتي رجلٌ من قرية جُبّة (4) من سواد الكوفة، فيستنبط ذلك برأيه، ويقبلَ منه، ويردَّ به جميع ما اشتملت عليه الكتب السماوية وتكرَّر فيها وتلاوة (5) السلف والخلف على جهة الحمد والمدح والثَّناء لربِّ العزَّة، سبحانه وتعالى.

قالوا: ولم تكتف المعتزلة والأشعريَّةُ حتَّى جعلوا هذه الممادح الحميدة تقتضي بظاهرها سبَّ الربِّ الحميد المجيدِ وذمَّه، وجعلوا الإيمان الواجب بها كفراً ومُروقاً، والاستقامة على ذلك بَلَهاً وجُموداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الوجه الرابع: أن الكل من المختلفين نقلوا عن الصحابة أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤية ربه يوم القيامة، وإنما اختلف الناس في تأويل جوابه لهم أو تقريره (6)، وهم بإجماع الفريقين - أصحُّ أذهاناً وأتمُّ إيماناً، وسؤالهم عن ذلك يدلُّ علي عدم اعتقادهم لتعطيل معبودهم عن الجهات كما زعمت المعتزلة والأشعرية، وكذلك كُلُّ ذي فطرةٍ سليمةٍ لم تمرَض بداء الكلام من جميع العقلاء من أهل الإسلام وغيرهم، والتجربة وامتحان العقلاء يصدق ذلك.

فإن قيل: إن الصحابة كانوا أقربَ إلى البَلَهِ وعدم التحقيق في العقليَّات

(1) في (ب): " السلف عن الخلف "، وهو سهو من الناسخ.

(2)

تحرفت في (ش) إلى: " ذكر "، وهو خطأ.

(3)

في (ش): تقتضي.

(4)

كذا في الأصول. والصواب " جُبّى " بالضم ثم التشديد والقصر، والنسبة إليها: جُبائي، كما في " معجم البلدان "، و" صورة الأرض " لحوقل ص 231، وفي " الروض المعطار " للحميري ص 156: جباي، ونسبوا إليها أبا علي الجبائي عناه المصنف.

(5)

في (ش): تلا، وفي (ج): وتلاه.

(6)

في (ش): وتقريره.

ص: 100

لعدم الممارسة في ذلك.

فالجواب من وجوه:

أحدها: أن ممارسة الكلام يُمَرِّضُ العقول، وتلجىء كثيراً منهم إلى مخالفة الفطرة الأوّلة، كالموسوسين في الطهارة، ولذلك لا يكون في أهل الفِطَرِ والجمل من يلزمُه جحدُ الضرورة، وفي كل طائفةٍ من المتكلمين من يلزمه ذلك، فإن ترك (1) الممارسة أصحُّ للعقل.

وثانيها: أن الفلاسفة أئمة المدقِّقين، وقد تطابقوا على مطابقة السمع هنا من بعض الوجوه، وعضدوا السمع والفطرة، وقاوموا من خالفهما بمجرَّد التدقيق، قالوا: ولا شك أن رأي (2) الجزم (3)، وسبيل (4) النجاة هو مذهب أهل السنة في مثل هذه المشكلات، لأنه أبعد من الكفر، وأقرب إلى الإيمان على قواعد الجميع.

ألا ترى أن الجميع متفقون على أن الكفر هو مخالفة السمع الجليِّ (5)، لا مخالفة المعقول الجليِّ، فإن من خالف ضرورة العقل التي لم يَرِدْ بها الشرعُ، فزعم أن بعض الأشربة الحُلوة مرَّة، وبعض الأدوية النافعة ضارة، لم يكفر بإجماع المسلمين؟ فكيف بمن (6) خالف أدلَة المتكلمين التي في علمه الجواهر والأعراض مع دقَّتها، وطعن كثيرٌ منهم فيها، وتوقَّف بعضهم بَعْدَ طول النظر فيها (7)؟.

(1) في (ج): تلك.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

في (ب): الحزم.

(4)

في (ش): وسيلة.

(5)

في (ش): المعلوم الجلي.

(6)

في (ش): من.

(7)

من قوله: " السمع الجلي " إلى هنا جاءت في نسخة (ب) بعد قوله: " والمناصحة لا المجارحة ".

ص: 101

وثالثها: أن المخالفين للصَّحابة والسلف من أهل الكلام (1) اختلفوا في جميع القواعد التي بَنَوْا مخالفة السلف عليها، ونقض بعضهم على بعضٍ أشد النقض، حتَّى كَفَوْا (2) أهل السنة مؤنة (3) الرَّدِّ عليهم، حتى قال الشيخ أبو الحسين: إنه اكتفي في بطلان مذاهب البهاشمة بمجرد بيان مقاصدهم. وادَّعى أن وضوحها يكفي في معرفة بطلانها، وقد تقدم شيءٌ من ذلك، ومن أحبَّ معرفته فليقف عليه في كتاب " المجتبى " للشيخ مختار أحد أئمة الاعتزال من أصحاب أبي الحسين. فما سَلِمُوا من الوقوع (4) في المحارات (5) والمُحالات، والمعارضات والمناقضات مع البدعة، وأين من يعرف هذا؟ لم يبق من أهل الكلام إلَاّ من يقلِّدُ ويدَّعي، ولا ينظر إلَاّ في تواليف شُيوخه، وهذا هو الذي عابوا (6) على أهل الجُمود، بل هو أقبحُ على زعمهم. فالله المستعان والمرجوُّ لمسامحة الجميع في الخطأ، فإن العصمة مرتفعةٌ، والسلامة من الخطأ على الدوام في كل الأمور عزيزةٌ والقصد المعاونة، لا المشاحنة، والمناصحة لا المجارحة.

قال أهل السنة: وأما ردُّ الآيات والأخبار، فإنه (7) موضع الخطر (8)، فالمتكلِّم المعتزليُّ يتجاسر على أن يقول: إنه يكفر بربٍّ له يدٌ أو لهُ وجهٌ، أو استوى (9) على العرش. كما قد سُمِعَ ذلك من بعض المجادلين ويسهل (10) عليه

(1) في (ش): الكتاب، وهو خطأ.

(2)

تحرفت في (أ) و (ش) إلى: كفروا.

(3)

تحرفت في (أ) و (ش) إلى: معروفة.

(4)

" من الوقوع " ساقطة من (ب).

(5)

في (ج): المجازات، وهو تصحيف.

(6)

في (ب): عابوه.

(7)

في (ش): فإنها.

(8)

في (ب): خطر.

(9)

في (ب): واستوى.

(10)

في (ب): " وأسهل "، وفي (ش): ويشهد، وهو تحريف.

ص: 102

أن يقول (1): ليس لله يدٌ ولا وجهٌ، وهو يعلم بالضرورة إثبات القرآن لما نفاه، ويلزمه أن يقول: ليس الله رحمان على الحقيقة، كما ليس للذُّلِّ جناحٌ على الحقيقة، وهم يلتزمونه. فاعرض هذا على قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].

قالوا: وأما ما يُشَنِّعون به من التشبيه والتمثيل، فقد أوضحنا أن خير ما يرجع إليه في ذلك كلام الله ورسوله، فما (2) تمدَّح الله تعالى به ومدحه به رسوله وأصحابه (3)، وتابِعُوهم، ولم يتأوَّلوه، ولم يُحَذِّرُوا منه، فليس بتشبيهٍ، ولو (4) لم يرجع إلى هذا، لزم (5) مذهب القرامطة، ولذلك عقّب الله تعالى نفي (6) التشبيه بقوله:{وهُوَ السَّميعُ البَصيرُ} [الشورى: 11]. وتمدَّح بأن له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو الوصفُ الأعلى بأسمائه الحسنى، فكان المعنى ليس كمثله شيءٌ في كمال أسمائه ونفي النَّقص عنها، لا في تأويل حقائقها بالنفي المحض (7) والمجاز الخياليِّ الذي استعمله الشُّعراء في تشبيه الخدود والقُدود، ونحو هذا (8)، فلا ينزل (9) قول النبي صلى الله عليه وسلم:" إنَّ هذا الجَمَلَ شكا إليَّ (10) أنك تُجيعُه وتُدْئبُه "(11) منزلة (12) قول الشاعر:

(1) أن يقول: ساقطة من (ش).

(2)

في (ش): كما.

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

في (ش): للزم.

(6)

في (ش): بنفي.

(7)

في (ش): ونفي المحض.

(8)

في (ب) و (ج) و (د): ونحوها.

(9)

" فلا ينزل " ساقطة من (أ).

(10)

في الأصول: " علي "، والمثبت من مصادر التخريج.

(11)

أخرجه أحمد 1/ 204، وأبو داود (2549)، والحاكم 2/ 99 - 100 من طريق مهدي

⦗ص: 104⦘

بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن جعفر رفعه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم.

وأخرجه أحمد 1/ 205 من طريق جرير بن حازم، عن مهدى بن ميمون، به.

وتدئبه: تكُده وتتعبه، من الدأب، وهو الجد والتعب.

وفي الباب عند أحمد 4/ 173 من حديث يعلى بن مرة الثقفي مرفوعاً بلفظ: " شكا كثرة العمل، وقلة العلف، فأحسنوا إليه " وفي سنده عطاء بن السائب وقد اختلط، وشيخه فيه -وهو عبد الله بن حفص- مجهول، لكن يتقوى بما قبله.

(12)

في (ب): منزل.

ص: 103

شكا إليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرى

يا جملي ليس إلي المُشتكى (1)

(1) الرجز بهذا اللفظ غير منسوب في " أمالي المرتضى " 1/ 107، وهو أيضاً غير منسوب عند سيبوبه 1/ 321، وأبي عبيدة في " مجاز القرآن " 1/ 303، والجرجاني في " أسرار البلاغة " ص 463، وفي " شروح سقط الزند " ص 463، و" شرح الأشموني " 1/ 221 بلفظ:

شكا إليَّ جملي طول السُّرى

صَبْرٌ جميل فكلانا مبتلى

وأنشدهما الفراء في " معاني القرآن " 2/ 54 و256، والقرطبي في " أحكام القرآن " 9/ 152:

يشكو إلي جملي طول السُّرى

صبراً جميلاً فكلانا مبتلى

ورواية " اللسان ": (شكا)

شكا إلي جملي طول السرى

صبراً جُميلي فكلانا مبتلى

ونسبهما السيرافي في " شرح أبيات سيبويه 1/ 317 إلى الملبد بن حرملة الشيباني، وتعقبه الغندجاني في " فرحة الأديب " ص 179 - 180، فقال: ليس بيت الكتاب للملبد بن حرملة الشيباني، إنما سئل أبو عبيدة عن قائله فقال: هو لبعض السواقين، فأنشد:

يشكو إليَّ جملي طول السُّرى

يا جَملي ليس إلي المُشتكى

صبرٌ جميلٌ فكلانا مبتَلَى

الدِّرهَمَان كلفاني ما ترى

قال (س): حفظي: صبراً جُميلي.

وأما أبيات الملبد، فليس فيه " صبر جميل "، وهي:

يشكو إليَّ فرسي وقعَ القَنا

اصبرْ جُمَيْلُ فكلانا مبتلى

ص: 104

وقد حسبت القرامطة أن الإيمان المجازيَّ ينفعها، فآمنت بالمعاد والأسماء الحُسنى مجازاً، فكفرت بالإجماع، فإيَّاك أن تقنع بالإيمان بالرحمن الرحيم العليِّ العظيم مجازاً (1) مخافة أن تكون كمن آمن بالقدير العليم مجازاً. وبهذا تمَّ الكلام في الفصل الأول (2).

الفصل الثاني في أدلَّة أهل الحديث، ومن قالوا بقوله، وقال بقولهم على وقوع الرُّؤية في الآخرة. وقد يتخلَّل فيه اليسيرُ ممَّا يليق بالفصل الأول مما قد مضى. وقد تقدم (3) جوابُ المانعين لذلك في الفصل الأول وجميع ما يتعلق به، ولم يبق لهم فيما أعلم هنا إلَاّ معارضة أدلة المخالفين بقوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وسوف يأتي الكلام عليها بما تراه إن شاء الله تعالى. وقد ذكر السيد المرتضى في كتابه " الغرر " مثل كلام ابن تيمية الآتي فيها، وكذا قوله لموسى عليه السلام:{لن تراني} ، وقد احتجَّ الفريقان (4) بها كما يأتي. والمُنْصِفُ لا ينظر إلى من قال، ولكن ينظرُ إلى ما قال وإلَاّ وقع في تقليد الرِّجال، وكان من دين الله على أعظم زوال. على أنَّ الناظر في هذا ينبغي له أن يُحقِّق النظر في كتب أئمة الاعتزال، ويتحقق ما لهم من المعارضات والاستدلال، ولا يكتفي بما نقلت عنهم، فإنما نقلت الذي علمت في وقت كتابتي هذا الجواب وعلى قدر علمي، وهذا (5) أقوى ما تمسَّكوا به وأشهره. وكذلك ينبغي أن يُنظر في حافلات كتب المخالفين، فإني إنما نقلت ما في كتاب ابن قيم الجوزية (6) منهم (7). وفوق كل

(1) وردت في (أ) فقط.

(2)

عبارة " في الفصل الأول " سقطت من (ب).

(3)

في (ب): وقد مضى.

(4)

في (ش): " الفريقين "، وهو خطأ.

(5)

في (ش): وهو.

(6)

هو كتاب " حادي الأرواح " ص 196 فما بعدها.

(7)

ساقطة من (ش).

ص: 105

ذي علمٍ عليم. وهو كذلك أقوى أدلَّةِ أهل السنة، والله أعلم.

فأقول -مع اختصارٍ يسيرٍ- ذكر الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب لأهل الحديث على ذلك أدلَّةً:

الدليل الأوّل: أن الله قد أخبر عن أعلم الخلق (1) في زمانه، وهو كليمه ونَجِيُّه وصَفِيُّه من أهل الأرض أنه سأل ربَّه تعالى النظر إليه، فقال له ربُّه تبارك وتعالى:{لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وبيان الأدلة (2) من هذه الآية من وجوه عديدة:

أحدها: أنه لا يُظنُّ بكليم الرحمن ورسوله الكريم عليه أن يسأل ربه ما لا يجوزُ عليه، بل هو من أبطل الباطل وأعظم المُحال، لأنه سأله النظر جازِماً بصحته، ولم يسأله عن صحته، ولا وقف سؤاله على شرط صحته، وإنما سأله على أمر جليٍّ عنده، لا (3) ينبغي عنده الشك في إمكانه وتجويزه، كقول إبراهيم:{أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، فلو كان يعتقد تعطيل الرب سبحانه، لقطع بفطرة عقله أن رؤيته ممتنعةٌ كما اعتقد ذلك من عطَّلهُ سبحانه، وهو عند فروخ اليونان (4) والصابئة والفرعونية بمنزلة أن يسأله أن يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك مِمَّا يتعالى عنه. فيالله العجب كيف صار أتباع الصابئة والمجوس وفروخ الجهمية والفرعونية أعلم بالله تعالى من موسى بن عِمران، وبما يستحيلُ عليه ويجب له، وأشدَّ تنزيها له منه.

الوجه الثاني: أن الله سبحانه لم يُنْكِرْ عليه سؤاله، ولو كان محالاً لأنكره

(1) في (ج): الخلق به.

(2)

في (ش): الدلالة.

(3)

في (أ): ولا.

(4)

في (ب): اليونانية.

ص: 106

عليه، ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربَّه تعالى أن يُرِيَه كيف يحيى الموتى، لم يُنكر عليه، ولما سأل عيسى ابن مريم ربه إنزال المائدة من السماء، لم ينكر عليه (1)، ولمَّا سأل نوحٌ ربَّه نجاه ابنه، أنكر عليه سؤاله، وقال:{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46، 47].

الوجه الثالث: أنه أجابه بقوله: {لن تَرَاني} ، ولم يقل: إنِّي لا أُرى، ولا: إني لست بمرئيٍّ، ولا يجوزُ رؤيتي. والفرق بين الجوابين ظاهرٌ لمن تأمَّله، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئيٌّ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته (2) في هذه الدَّار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى. يوضحه (3) ....

الوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجلِّيه في هذه الدَّار، فكيف بالبشريِّ (4) الضعيف الذي خُلِقَ من ضعفٍ.

الوجه الخامس: أن الله سبحانه قادرٌ على أن يجعل الجبل مستقرَّاً مكانه، وليس هذا بممتنع (5) في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علَّق به الرؤية، ولو كانت مُحالاً في ذاتها، لم يعلِّقها بالممكن في ذاته، ولو كانت الرؤية مُحالاً، لكان ذلك نظير أن يقول: أن استقرَّ الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، فالأمران عندكم سواءٌ.

الوجه السادس: قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وهذا

(1) في (ب): عليه سؤاله.

(2)

في (ش): ولا رؤيته.

(3)

في (أ): لو صحت.

(4)

في (ش) و" حادي الأرواح ": بالبشر.

(5)

في (ب): الممتنع.

ص: 107

من أبين الدلالة على جواز رُؤيته تبارك وتعالى، فإنه إذا جاز أن يتجلَّى للجبل الذي هو جمادٌ لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلَّى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته، ويُريَهم نفسه؟ وأعلم (1) سبحانه أن الجبل إذا لم يثبت (2) لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.

الوجه السابع: أن ربَّه سبحانه قد كلَّمه منه إليه، وخاطبه وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلُّم والتكليم، وأن يسمع مخاطِبُه كلامَه معه بغير واسطة، فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتمُّ إنكار الرؤية إلَاّ بإنكار التكليم، وقد جَمَعَتْ هذه الطوائف بين إنكار الأمرين، فأنكروا أن يُكَلم أحداً ويراه أحدٌ، ولهذا سأل موسى النظر إليه لمَّا أسمعه كلامه، وعلم من الله جواز رؤيته من وقوع خطابه (3) وتكليمه، فلم يخبره باستحالة ذلك عليه، ولكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجلِّيه.

وأما قوله تعالى: {لن تراني} فإنه نزل (4) على سبب طلب الرؤية في الحال، فكان نفياً لذلك المطلوب، كما صح حكمُ الصحابة بمثل ذلك في مواضع كثيرةٍ يوضحه أنه لا يقبُح أن يقول: فهل أراك في الآخرة؟ ويعارض من لم يقبل بيان السنة بظاهر سورة النجم، فإنه يقضي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية كما صح عن ابن عباس الجزمُ به (5). فإن رجعوا فيها إلى بيان السنة، وجب الرُّجوع إليه في الموضعين، كما وجب ذلك في جميع شرائع الإسلام الأركان الخمسة وغيرها يأتي بيان السنة بما ليس في القرآن. وأجمعت الأمة على اعتبار الأسباب في بعض المواضع كتفسير:{الذين يفرحُون بمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] في

(1) في (ب): فأعلم.

(2)

في (ش): أن الجبل لا يثبت.

(3)

" من وقوع خطابه " ساقطة من (ش).

(4)

في (ش): نزل هنا.

(5)

ساقطة من (أ)، وفي (ش). " بذلك "، وقد تقدم تخريج قول ابن عباس ص 409.

ص: 108

اليهود (1) و" سوف ": قد تكون للقريب من المستقبل، كقوله تعالى حكايةً عن يعقوب:{سَوْفَ أستغفِرُ لَكُمُ ربِّي} [يوسف: 98] وعدهم لليلة الجمعة (2)، وهو كثيرٌ، ولا خلاف (3) فيه بقول سوف أفعل غداً بإجماع (4) أهل العربية.

وأما قولهم: إن " لن " تدلُّ على النفي في الاستقبال، فإن الاستقبال هُنا حاصلٌ، وهو مدَّةُ عمر موسى عليه السلام في الدنيا، ولكن -مع هذا- لا بد من دخول نفي رؤيته في الحال، وإلَاّ خرج الجواب عن مطابقة السؤال، وذلك لا يجوز.

وأيضا، فإنما يدلُّ على النفي في المستقبل، ولا يدلُّ على دوام النفي، ولو قيِّدت بالتَّأبيد، فكيف إذا أطلقت؟ قال تعالى:{ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبَدَاً} [البقرة: 95] مع قوله: {ونادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ علينا ربُّكَ} [الزخرف: 77].

فصل: الدليل الثاني: قوله تعالى: {واتَّقُوا الله واعلَمُوا أنَّكُم مُلاقُوه} [البقرة: 223]، وقوله تعالى:{تَحِيَّتُهُم يوم يلقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله:{فمن كان يرجُو لِقَاء ربِّهِ} [الكهف: 110]، وقوله: {قال الذِينَ يظُنُّونَ

(1) هو قول ابن عباس رضي الله عنه، رواه عنه البخاري (4568)، والطبرى 7/ (8237) و (8338) و (8344) و (8348). والبغوي في " تفسيره " 1/ 384، وهو قول عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والسدي، وكعب الأحبار.

وروى البخاري (4567)، والطبري 7/ (8335)، والبغوي في " تفسيره " 1/ 384 عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت في المنافقين.

قال الزمخشري 1/ 487 بعد أن أورد الروايتين: ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة، فيفرح بها فرح إعجاب، ويجب أن يحمده الناس، ويُثنوا عليه بالديانة والزُّهد بما ليس فيه.

(2)

تقدم تخريجه ص 408.

(3)

في (ج): باختلاف.

(4)

في (ب): بالإجماع.

ص: 109

أنَّهُم مُلاقُوا الله} [البقرة: 249]. وأجمع أهل الِّلسان على أن اللقاء متى نُسِبَ إلى الحيِّ السليم من العمى والمانع، اقتضى المعاينة والرؤية، ولا ينتقِضُ هذا بقوله تعالى:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، فقد دلَّت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة، بل والكفار أيضاً كما في " الصحيحين " في حديث التَّجلِّي يوم القيامة، وسَيَمرُّ بك عن قريبٍ إن شاء الله تعالى.

وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة:

أحدها: أنه لا يراه إلَاّ المؤمنون.

والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنُهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار، فلا يرونه بعد ذلك.

والثالث: يراه المنافقون دون الكفار. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكليمه لهم.

ولشيخنا في ذلك مصنَّفٌ مفردٌ حكى فيه الأقوال الثلاثة وحُجَجَ أصحابها (1).

وكذا قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، إن عاد الضمير إلى العمل، فهو رؤيته في الكتاب مسطوراً مبيناً، وإن عاد على الرب تعالى، فهو لقاؤه الذي وعد به.

فصل: الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25، 26]

فالحُسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، كدلك فسَّرها رسول الله

(1) هو مدرج في الجزء السادس من " مجموع الفتاوى " من ص 401 إلى ص 460.

ص: 110

- صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن والصحابة من بعده، كما روى (1) مسلم في " صحيحه " من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{للذِينَ أحسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ} [يونس: 26]، قال:" إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نادى منادٍ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً، ويريدُ أن ينجزَكُموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقِّل موازيننا ويبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه "(2)، وهي الزيادة " (3).

قال الحسن بن عرفة، حدثنا سلم (4) بن سالم البلخي، عن نوح بن أبي مريم، عن ثابت، عن أنس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {للذِينَ أحسَنُوا الحُسنَى وزيادةٌ} قال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى: وهي

(1) في (ش): رواه.

(2)

هو في " صحيح مسلم "(181) بلفظ: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون، ألم تُبَيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتُنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم ".

وهو في " مسند الطيالسي "(1315)، و" المسند " 4/ 332 و333، و6/ 15، والترمذي (3105)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 180، والطبري (17626)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 307، وابن ماجه (187)، والآجري في " الشريعة " ص 261، وابن منده في " الرد على الجهمية " ص 95، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " 3/ 455 و481، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 54 - 55، وابن أبي عاصم في " السنة "(472)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ص 53 من طرق عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. وانظر " صحيح ابن حبان "(7441) بتحقيقنا.

وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 356، وزاد نسبته إلى هناد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والدارقطني في " الرؤية "، وابن مردويه.

(3)

لم ترد في (ش).

(4)

تحرفت في (أ) إلى: مسلم.

ص: 111

الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى" (1).

وقال محمد بن جرير: حدثنا ابن حميد (2)، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ} ، قال: الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن جل جلاله (3).

قلت: عطاءٌ هذا هو الخراساني، وليس بعطاء بن أبي رباح.

قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الرحيم (4)، حدثنا عمر بن أبي سلمة، قال: سمعت زهيراً .. وقال يعقوب بن سفيان (5)، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا زهير بن محمد، قال: حدثني من سَمِعَ أبا العالية الرّياحي، يحدث عن أبيّ بن كعب، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادة في

(1) سلم بن سالم البلخي: ضعفه غير واحد، وشيخه فيه نوح بن أبي مريم: متروك، وبعضهم اتهمه.

وأخرجه اللالكائي 3/ 456، والخطيب في " تاريخ بغداد " 9/ 140، وابن عدي في " الكامل " 3/ 1173 - 1174 من طريق الحسن بن عرفة، بهذا الإسناد. قال ابن عدي: ولعل البلاء فيه من نوح بن أبي مريم، فإنه أضعف من سلم بن سالم.

(2)

تحرف في (ب) إلى: أحمد.

(3)

هو في " جامع البيان " 15/ 68 برقم (17631) وأخرجه أيضاً اللالكائي 3/ 456 - 457 وسنده ضعيف. ابن حميد -وهو محمد بن حميد الرازي- ضعيف، وشيخه فيه إبراهيم بن المختار: ضعيف، وعطاء -وهو كما قال المؤلف: ابن أبي مسلم الخراساني-: كثير الأوهام، وروايته عن الصحابة مرسلة.

(4)

تحرف في الأصول إلى: " عبد الرحمن "، وهو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم أبو بكر بن البرقي الحافظ المتقن المتوفى سنة 270 هـ، نسب إلى جده، مترجم في " السير " 13/ 47. وقد ذكر في المطبوع من " جامع البيان " (17633) بكنية " ابن البرقي ".

(5)

هو يعقوب بن سفيان الفسوي صاحب " المعرفة والتاريخ "، وهذا الخبر في الجزء الثالث من " تاريخه " ص 395 من نصوص يظن أنها مأخوذة عن كتاب " السنة " له.

ص: 112

كتاب الله قوله (1){لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل (2).

وقال أسدُ السُّنة: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبان، عن أبي تميمة (3) الهُجيمي أنه سمع أبا موسى يحدِّث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يبعث الله يوم القيامة منادياً يُنَادي أهل الجنة بصوتٍ يسمِعُ أوَّلهم وآخرهم: إن الله عز وجل وعدكم الحُسنى، والحُسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله "(4).

وقال ابن وهب أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي (5)، أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة منادياً ينادي: يا أهل الجنة بصوتٍ يسمع أولهم وآخرهم: إن الله عز وجل وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى (6): الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن (7) ".

(1) في (ب) و (ش): في قوله.

(2)

إسناده ضعيف لجهالة من رواه عن أبي العالية. وأخرجه اللالكائي 3/ 456 و492.

(3)

تحرفت في (ب) و (ج) و (د) و (ش) إلى: خيثمة.

(4)

قيس بن الربيع: تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحدث به، وأبان -وهو ابن أبي عياش- متروك، وهو في " شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة " لللالكائي 3/ 457 من طريق أسد بن موسى، بهذا الإسناد.

وأخرجه الطبري (17618) من طريق يونس، عن ابن وهب، أخبرني شبيب، عن أبان، به. وأبو تميمة الهجيمي: اسمه طريف بن مجالد.

(5)

تحرف في (أ) إلى: الجهيمي.

(6)

في الطبري: فالحسنى.

(7)

إسناده ضعيف، لضعف أبان كما تقدم، وشبيب: هو ابن سعيد التميمي الحبطي، أحاديثه مستقيمة إلَاّ أن ابن وهب حدَّث عنه بأحاديث مناكير، قال ابن عدي في " الكامل " 4/ 1347: ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه، فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب.

ص: 113

وأما الصحابة، فقال ابن جرير (1)، حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن -هو ابن مهدي- حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قال: النظر إلى وجه الله.

وبهذا الإسناد عن أبي إسحاق، عن مسلم بن يزيد (2)، عن حذيفة:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قال: النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (3).

وحدثنا علي بن عيسى، حدثنا شبابة، حدثنا أبو بكر الهذليّ، قال: سمعت أبا (4) تميمة الهجيمي (5) يحدِّث عن أبي موسى الأشعري، قال: إذا كان يوم القيامة، يبعث (6) الله عز وجل [إلى أهل الجنة] (7) منادياً ينادي: هل أنجزكُمْ (8) الله ما وَعَدَكُم؟ فينظرون ما أعدَّ الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم،

(1) 15/ (17610). وأخرجه ابن منده في " الرد على الجهمية " ص 95، والآجري في " الشريعة " ص 257، ورجاله ثقات إلَاّ أن عامر بن سعد روايته عن أبي بكر مرسلة.

وأخرجه الطبري (17611) من طريق سفيان، عن حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر.

وأورده السيوطي في " الدر " 4/ 358، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والدارقطني، وابن مردويه، والبيهقي.

وأخرجه الدارمي في " الرد على الجهمية " ص 60 - 61 من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر.

(2)

ويقال له: مسلم بن نُذَير، كما جاء في الطبري، وفي " التهذيب ": مسلم بن نُذّير، وقيل: ابن يزيد، ويقال: إن يزيد جده. أبو نذير، ويقال: أبو عياض، روى عنه جمع، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في " الثقات ".

(3)

هو في " جامع البيان "(17614)، وأخرجه اللالكائي 3/ 458، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 61، والآجري في " الشريعة " ص 257، وابن أبي عاصم في " السنة "(473)، ورجاله ثقات.

(4)

في (ب): " أبي "، وهو خطأ.

(5)

تحرفت في (أ) و (ش) إلى: الجهيمي.

(6)

في الطبري: بعث.

(7)

زيادة من الطبري، و" حادي الأرواح ".

(8)

في الأصول: " أنجز "، والمثبت من الطبري و" حادي الأرواح ".

ص: 114

فيقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، النظر إلى وجه الرحمن عز وجل (1).

وقال عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي، أخبرنا أبو تميمة، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يخطب (2) الناس في جامع البصرة، ويقول: إن الله عز وجل يبعث يوم القيامة مَلكَاً إلى أهل الجنة، فيقول: يا أهل الجنة هل أنجز (3) تعالى لكم (4) ما وعدكم؟ فينظرون، فيرون الحليَّ والحُلل [والثمار](5) والأنهار (6) والأزواج المطهَّرة، فيقولون: نعم، قد أنجز (7) الله ما وعدنا، ثم يقول (8) الملك: هل أنجزكم (9) ما وعدكم ثلاث مرات، فلا يَفقدُون شيئاً مما وُعِدُوا، فيقولون: نعم. فيقول: قد بقي لكم شيءٌ إن الله عز وجل يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، ألا إنَّ الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل (10).

وفي تفسير أسباط بن نصر (11) عن إسماعيل السُّدّي، عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا

(1) هو في "جامع البيان"(17616) و (7/ 176)، وأبو بكر الهذلي: واهٍ بمرة، وأخرجه الدارمي في " الرد على الجهمية " ص 61، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 184، واللالكائي 3/ 459 كلهم من طريق أبي بكر هذا.

(2)

في (ب): يحدث.

(3)

في (ش)، والطبري، و" حادي الأرواح ".

(4)

ساقطة من (ش)، ولم ترد في الطبري، و" حادي الأرواح ".

(5)

زياده من الطبري.

(6)

ساقطة من (ش).

(7)

في الطبري و" حادي الأرواح ": أنجزنا.

(8)

في (ش): فيقول.

(9)

في (ش): " أنجز الله "، وفي (ج) والطبري و" حادي الأرواح ": أنجزكم الله.

(10)

الطبري 15/ (17617)، وإسناده ضعيف كسابقه.

(11)

تحرف في (ب) و (ش) إلى: نصير.

ص: 115

الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}، فقال: أما الحسنى: فالجنة وأما الزيادة: فالنظر إلى وجه الله، وأما القترُ: فالسواد (1).

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعامر بن سعد، وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، والضَّحَّاك بن مُزاحم، وعبد الرحمن بن سابط، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وسعيد ابن المسيب، والحسن البصري، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد بن جبر (2): الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى (3).

وقال غيرُ واحدٍ من السلف في الآية: {ولا يَرهَقُ وُجُوهَهُم قترٌ ولا ذِلَّةٌ} ، بعد النظر إليه. والأسانيد عنهم بذلك صحيحة.

ولما عطف سبحانه الزيادة على الحسنى -التي هي الجنة- دل على أنها أمرٌ آخر وراء الجنة، وقدرٌ زائدٌ عليها، ومن فسَّر الزيادة بالمغفرة والرضوان، فهو من لوازم رؤية الرب تعالى.

فصل: الدليل الرابع: قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14، 15]. ووجه الاستدلال (4) بها أنه سبحانه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رويته وسماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون، ولم يسمعوا كلامه، كانوا -أيضاً- محجوبين عنه.

(1) وأخرجه اللالكائي 3/ 459 من طريق عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا الحسين بن علي بن مهران الفسوي، حدثنا عامر بن الفرات، عن أسباط بن نصر به.

(2)

تحرف في (ش) إلى: جبيرة.

(3)

انظر " اللالكائي " 3/ 455، و" تفسير ابن كثير " 4/ 198، و" الدر المنثور " 4/ 358 - 359.

(4)

في (ش): عن الاستدلال.

ص: 116

وقد احتجَّ بهذه الحجة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة، فذكر الطبراني وغيره عن المُزنيِّ قال: سمعت الشافعي يقول في قوله عز وجل: {كلَاّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ} ؟ قال: فيها دلالة على أن أولياء الله يرون ربَّهم يوم القيامة، وقال الحاكم: حدثنا الأصمُّ، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله تعالى: {كلَاّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ} ، فقال الشافعي: لما أن حَجَبَ هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل (1) على أن أولياءه (2) يرونه في الرضا. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله، وبه تقول؟ قال نعم، وبه أدين الله، لو لم يُوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله عز وجل.

ولعله يريد أن الجميع ممَّا ورد به السمع المعلوم عنده، وقد ذم الله تعالى من يُؤمِنُ ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، فكان الإيمان بالجميع لازماً أو الترك. والله أعلم (3).

ورواه الطبراني في " شرح السنة " من طريق الأصم أيضاً.

وقال أبو زرعة الرَّازي. سمعت أحمد بن محمد بن الحسين يقول: سئل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: هل يرى الخلق كلُّهم ربَّهم يوم القيامة: المؤمنون والكفار؟ فقال محمد: ليس يراه إلَاّ المؤمنون. قال محمد (4): وسئل الشافعي عن الرؤية، فقال: يقول الله تعالى: {كلَاّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ} ، ففي هذا دليل على أن المؤمنين لا يُحجبون عن الله عز وجل.

(1) في (ب): دلَّ على

(2)

في (ش): أولياء الله.

(3)

من قوله: " ولعله يريد " إلى هنا، ورُمِّج في (ب)، وهو من كلام المصنف رحمه الله، وليس من كلام العلامة ابن القيم.

(4)

من قوله: " ابن عبد الله بن الحكم " إلى هنا ساقط من (ش).

ص: 117

فصل: الدليل الخامس: قوله عز وجل: {لهُمْ ما يَشَاؤونَ فيها ولدينا مَزِيدٌ} [ق: 35].

قال الطبراني: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل، وقاله من التابعين زيد بن وهبٍ وغيره.

فصل: الدليل السادس: قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ وهو يُدْرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103] والاستدلال بهذا عجيب (1)، فإنه من أدِلَّة النفاة.

وقد قرَّر شيخنا وجه الاستدلال بة أحسن تقريرٍ وألطفه، وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطله إلَاّ وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية، وهي (2) على جواز الرؤية أدلُّ منها على امتناعها، فإن الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون في الأوصاف (3) الثبوتية، وأما العدم المحضُ، فليس بكمال، فلا يمدح (4) به. وأما (5) تمدُّحُ الرب بالعدم إذا تضمَّن أمراً وجوديّاً كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمِّن كمال القَيُّوميَّة، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي الُّلغُوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظِّهير المتضمن كمال ربوبيته (6) وإلهيته وقوَّته، ونفي الأكل والشرب المتضمن لكمال صَمَدِيَّته وغناه، ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعُزوب شيءٍ عن (7) علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المِثْلِ المتضمِّن

(1) في (ب): " عجب "، وفي " الروح ": أعجب.

(2)

في (ش): وهذا.

(3)

في (ب) و" حادي الأوراح ": بالأوصاف.

(4)

في (ب): تمدّح.

(5)

في (ب) و" حادي الأرواح ": وإنما.

(6)

في (أ) و (ش): الربويية.

(7)

في (ش): من.

ص: 118

لكمال ذاته وصفاته ولهذا لم يتمدَّح بعدمٍ محضٍ لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يُشارِكُ الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله:{لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ} أنه لا يُرى بحالٍ، لم يكن في ذلك مدح ولا كمال (1) لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يرى، ولا تدركه الأبصار، والربُّ جل جلاله يتعالى أن يُمْدَحَ بما يُشارِكُه فيه العدم المحضُ، فإذاً المعنى: أنه (2) يُرى، ولا يُدرَكُ ولا يُحَاطُ به كما كان المعنى في قوله:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] أنه يعلم كل شيءٍ، وفي قوله:{وَمَا مَسَّنَا من لُغُوبٍ} [ق: 38]: أنَّه كامل القدرة، وفي قوله:{ولا يَظلِمُ ربُّك أحداً} [الكهف: 49]: أنه كامل العدل، وفي قوله:{لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، أنه كامل القيومية، فقوله:{لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} [الأنعام: 103] يدل على غاية عَظَمَتِه، وأنه أكبرُ من كل شيءٍ، وأنه لعظمته لا يُدرَكُ بحيث يُحاطُ به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائدٌ على الرؤية، كما قال تعالى:{َفلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61، 62]، فلم يَنفِ موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} : إنا لمرئيون، فإن موسى - صلوات الله وسلامه عليه - نفي إدراكهم إيَّاهم بقوله: كلَاّ، وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دَرَكَهُم، بقوله:{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] فالرؤية والإدراك كل منهما يُوجَدُ مع الآخر وبدونه.

فالربُ تعالى يُرى ولا يُدرَكُ كما (3) يُعلَمُ ولا يُحاطُ به، وهذا هو الذي فهمته الصحابة والأئمة من الآية.

قال ابن عبَّاس: لا تدركه الأبصار: لا تُحيط به الأبصار (4).

(1) في (ش): لم يكن تمدح ولا كمال

(2)

في (ب): أن.

(3)

في (ش): كما أنه.

(4)

رواه عنه الطبري (13694) بسند مسلسل بالضعفاء.

ص: 119

وقال قتادة: هو أعظمُ من أن تُدرِكَهُ الأبصار (1).

وقال عطية (2): ينظرون إلى الله تعالى، ولا تُحِيطُ أبصارُهم به من عظمته، وبصره (3) يحيط بهم، فذلك قوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} (4)[الأنعام: 103] فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عِياناً، ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها (5) لا تحيط به، إذ كان غير جائزٍ أن يُوصف الله عز وجل بشيءٍ يُحيط به، وهو بكل شيءٍ محيطٌ. وهكذا يُسمعُ كلامه من شاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وهكذا (6) يُعَلِّمُ الخلق ما علمهم، ولا يُحيطون بعلمه.

ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: {ليس كَمثلِهِ شيءٌ} [الشورى: 11] وهذا من أعظم الأدلة: على كثرة صفات كماله (7) ونُعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مِثْلٌ فيها، وإلا فلو أراد بها نفي الصِّفات، لكان العدم المحضُ أولى بهذا المدح منه، مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلانٌ لا مِثْلَ لهُ، وليس له نظير ولا شبيه ولا مثل (8)، أنه قد تميَّز عن الناس بأوصافٍ ونعوتٍ لا يُشاركونه فيها، وكلَّما كثُرَت أوصافهُ ونعوته، فات أمثاله، وبَعُدَ عن مشابهة أضرابه. فقوله:{ليس كمثله شيء} من أدلِّ شيءٍ على كثرة نعوته وصفاته، وقوله:{لا تدركه الأبصار} من أدلِّ شيءٍ على أنه يُرى ولا يُدرَكُ. وقوله: {هو الذي خلق السماوات والأرض في

(1) رواه ابن جرير (14694) من طريق بشر، عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة.

(2)

هو عطية بن سعد العوفي، ضعفوه في الرواية، وقوله هذا عند ابن جرير (13696).

(3)

تحرفت في (ب) إلى: وبصيره.

(4)

من قوله: " وقال عطية " إلى هنا ساقط من (ش).

(5)

في (ب): " أنه "، وهو خطأ.

(6)

في (ش): وهذا.

(7)

تحرفت في (أ) إلى: جماله.

(8)

في (أ): مثيل.

ص: 120

سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] من أدلِّ (1) شيءٍ على مباينة الرب تعالى لخلقه، فإنه لم (2) يخلقهم في ذاته، بل خارج عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هُمْ عليه، ويراهم وينفذهم ببصره (3)، ويُحِيطُ بهم علماً وإرادةً وقدرةً وسمعاً وبصراً. فهذا معنى قوله (4) سبحانه:{هو مَعَهُم أينَمَا كانوا} ، وتأمل حُسْنَ هذه المقالة لفظاً ومعنى، بين قوله تعالى:{لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وهو يُدرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103]، فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصارُ وتحيط به، ولِلُطفه وخبرته يدرك الأبصار، فلا تخفي عليه، فهو العظيم في لطفه، اللطيف في عظمته، العالي في قربه (5)، القريب في عُلُوِّه، الذي ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. انتهى كلام الشيخ.

ومنهم من احتجَّ بهذه الآية من وجهٍ آخر: وهو أن النفي إذا وجِّه إلى الشمول، فهم منه مخالفةُ البعض، ولم يُفدِ النفي عن كلِّ فرد، كما إذا قلت: ما جاء القوم. ليس فيه نفي مجيء البعض، بل إذا قلت: ما جاء عشرة رجال، لم يكن فيه نفي مجيء التِّسعة. هذا لو لم يَرِدْ لهذا العموم مخصِّصٌ من الكتاب والسنة، فأمَّا بعد قولِه تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وتواترُ الأحاديث في ذلك -كما سيأتي- فلا شك في أنها أبين مِنْ هذه الآية، وأخصُّ على جميع القواعد، ولذلك أجمعنا على ثبوت الشفاعة الخاصة في الآخرة مع قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ

(1) تحرفت في (أ) إلى: أدلة.

(2)

في (ب): " لو لم " وهو خطأ.

(3)

في " حادي الأرواح ": وينفذهم بصره.

(4)

في " حادي الأرواح " ص 203: فهذا معنى كونه سبحانه معهم إينما كانوا.

(5)

تحرفت في (ش) إلى: قدرته.

ص: 121

وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، ما ذلك إلَاّ لتقديم الخاص على العامِّ في مثل هذا. والخصوم لا يُخالفون في مثل هذا من هذه الجهة، وإنما حملهم على تأويل الأدلة الخاصَّة اعتقادهم لاستحالة الرؤية عقلاً، وقد مرَّ ما فيه، ولذلك احتالوا على استفادة العموم من هذه الآية من التَّمدُّح -ولا يمتنع أن يكون التمدُّح مخصوصاً- الراجع (1) إلى الذات دون التمدح (2) الراجع إلى غير ذلك.

كما سيأتي في كلامهم.

والجواب عليهم من وجوه:

الوجه الأول: أن حجَّتهم هذه وأكثر أدلتهم، راجعة إلى القطع بنفي ما لم يعلموا عليه دليلاً، وقد تقدم بطلانها. بيانه: أنه لا دليل لهم على (3) أنه لا وجه للتمدح في علم الله إلَاّ ذلك، بحيث لا يصحُّ أن يُخبر به نبي صادق.

الوجه الثاني: أنه قد ورد السمع بما يدل أنه تمدُّح راجعٌ إلى قدرته وعزَّته.

وذلك ممكن عقلاً قبل ورود السمع. ومجرَّد التجويز يكفي أهل السنة، لأنه يمنع (4) من وجوب تأويل الظواهر، كيف إلَاّ النصوص؟

وأما المعتزلة، فلا يكفيهم إلَاّ الأدلة القاطعة المانعة من تسليم الظواهر، أما أن التمدُّح بذلك ممكنٌ عقلاً، فضروريٌّ، وعلى مانعه الدليل يوضحه أن الله تعالى تمدح بذلك في قوله تعالى (5):{يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]، وتمدَّحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يقضي ولا يُقضى عليه (6).

(1) من هنا إلى قوله. " يمتنع أن يكون التمدح مخصوصاً " في ص 426 ساقط من (ب).

(2)

من قوله: " ولا يمتنع " إلى هنا ساقط من (ش).

(3)

ساقطة من (أ).

(4)

في (أ): يمتنع.

(5)

في الأصول جميعها غير (ج): " قوله تعالى: إنه يجير ".

(6)

أخرج أحمد 1/ 199 - 200، والترمذي (464)، والنسائي 3/ 248، وابن ماجه =

ص: 122

وأما أنَّ الدليل السمعي قد دلَّ على تعليل عدم إدراكه بأمرٍ (1) يرجع إلى قدرته وعزته، فذلك كثيرٌ جداً في الكتاب والسنة.

أمَّا القرآن، فقوله تعالى:{أو من وراء حجاب} [الشورى: 51]، وقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وقوله:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. والقرائن تضطر إلى أنه لا يصح تأويل (2) تجليِّه سبحانه للجبل، لأنه لو كان مؤولاً، كان أجنبياً عن الرؤية.

وأما السنة، فأكثرُ مِن أن تحصر (3)، ولا تحتاج إلى ما فيها من ذكر الحُجْبِ بعد ورود نصوص (4) الله تعالى بذلك. ولقد جاء ذلك من طريق زيد بن علي عليه السلام، كما رواه محمد بن منصور في " الجامع الكافي " على مذهب الزَّيدية. وهذا وجهٌ جليٌّ، لا غبار عليه، وإنما تكلَّفت (5) المعتزلة على منعه بقيام الدليل العقلي عندهم على استحالة ذلك.

وقد بيَّنَّا فيما تقدم أن أدلتهم العقلية كلها راجعةٌ إلى القطع بالنفي للشيء عند عدم العلم به، وأن ذلك باطلٌ.

= (1178)، وأبو داود (1425)، والبغوي (640)، والدارمي 1/ 373، والحاكم 3/ 172 و4/ 268 من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهن في قنوت الوتر: وفيه: " إنك تقضي ولا يُقضى عليك ".

وأخرجه من حديث بريدة: الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 2/ 138. وهو حديث صحيح.

(1)

تحرفت في (أ) إلى: ما مرّ.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

في (ش): تحصى.

(4)

في (ج): " نص "، وفي (ش):" نصوص كتاب ".

(5)

في (ج): تكلّف.

ص: 123

الوجه الثالث: أن نقول: إنه لا خلاف أنَّهم يحتاجون إلى دليلٍ قاطعٍ على منع هذا الاحتمال، وهو أن التمدُّح هنا راجع (1) إلى القدرة وكمال العزة، فإن رجعوا إلى الأدلة العقلية، فقد قدمنا الكلام فيها، ولم يزيدوا عليها (2) هنا إلا دليلهم المعروف بأن الحواسَّ سليمةٌ، والمدرك موجودٌ، والموانع مرتفعة. وللأشعرية معارضاتٌ كثيرةٌ لذلك موجودةٌ في كتبهم الكلامية.

وأما أهل السنة، فَيُنَازِعُون في أن الموانع مرتفعةٌ لورود نصوص الكتاب والسنة بمنع الحجب من ذلك على الوجه الذي لا يحيط بعلمه إلَاّ الله تعالى، كما تقدَّم تقريره في كلام ابن تيمية في نفيهم للكيفية عن ذات الله تعالى. وكل ما يتعلَّق بها، وإن رجعوا إلى الأدلة السمعية في منع رجوع التمدح إلى القدرة، فهي عليهم، لا لهم، كما تقدَّم. وإنما احتجَّ في الشرح بأمرين:

أحدهما: أن هذا خلاف تفسير المفسِّرين، وهذا مردودٌ عليه (3) ومُعَارضٌ بمثله وسيأتي ما في ذلك من تفاسير الصحابة والتابعين من نقل أئمة الحديث وراجعٌ إلى القطع بالنفي عند عدم العلم. وقد مرَّ بطلانه.

وأما قوله: إنه خلاف الظاهر، فليس في الظاهر ذكر العلم في ذلك، لا بالذات -كما زعمت المعتزلة- ولا بالقدرة، وإنما أُخِذَت هذه العلة في التمدح من ذكر الحجاب في نصوص الكتاب والسنة، ومن النص على (4) أن الله تعالى تجلَّى للجبل، فجعله دكّاً، وجعل ذلك عقيب سؤال موسى موعظة لموسى وتسليةً، لأنه بذلك عرف أنه سأل ما لا يقدرُ عليه، وكذلك قوله: إنه تمدُّحٌ راجعٌ إلى ذاته، ليس من الظاهر في شيءٍ، وإنما هو عند الخصوم بأدلةٍ عقلية خارجةٍ.

(1) من قوله: " إنه لا خلاف " إلى هنا ساقط من (ج).

(2)

في (أ): " علمنا "، وهو خطأ.

(3)

في (أ): عليهم.

(4)

ساقطة من (ج).

ص: 124

وبالجملة، فتعليل المعتزلة بأن ذلك أمرٌ ذاتيٌ ليس في الآية (1)، كما أن تعليل المحدِّثين ليس فيها، وإنما هما أمران زائدان، كلُّ من أثبت أحدهما أثبته بدليلٍ منفصلٍ. والأمر الزائد لا يُقالُ فيه: إنه خلافُ الظاهر، بل يتوقف على الدليل الصحيح، وعلى تسليم أنه خلافه مشترك الإلزام، وهو جائزٌ وفاقاً، لكن كلام أهل الحديث أصح لثلاثة وجوهٍ:

أحدها: أن التجويز يكفيهم كما تقدم، ولا يكفي المعتزلة إلَاّ القاطع.

وثانيها: أن الأدلة السمعية دلت عليه.

وثالثها: أن كلام المعتزلة يقتضي أن الله تعالى لا يَقْدِرُ يَرَى ذاته، ولا يقد يُريها أحداً من خلقه. وفي هذا معارضة قدرته على كل شيء، وما يدل على ذلك، ولا يمتنع أن يكون التمدح مخصوصاً (2) بالعموم في جميع الأشخاص والأزمان، حيث لم يعارض العزة والكبرياء معارض الرحمة والمثوبة والإكرام،.

كما أن الله تعالى ممدوحٌ عند الخصوم بأنه لا يُثيب (3) الجميع ويعظمهم، وإنما يفعل ذلك لمن يستحقُّه، فلا يمتنع مثله هنا.

قال الشيخ: (4)

فصل: الدليل السابع: قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وأنت إذا أجرت (5) هذه الآية من تحريفها عن مواضعها، والكذب على المتكلم بها سبحانه، فيما (6) أراد منها، وجدتها مناديةً نداءً

(1) عبارة " ليس في الآية " ساقطة من (أ).

(2)

من قوله: " الراجع إلى الذات " في ص 424 إلى هنا ساقط من (ب).

(3)

في (أ): " يثبت " وهو تحريف.

(4)

يعني العلامة ابن القيم في " حادي الأرواح " ص 203.

(5)

في (ج): " إذ أجرت "، وفي (ش):" إذا أجريت ".

(6)

في (ش): استعان فيما.

ص: 125

صريحاً (1)، أن الله سبحانه يُرى عياناً بالأبصار يوم القيامة، وإن (2) أبيت إلا تحريفها الذي يُسمِّيه المحرِّفون تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان (3) والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كلِّ نص تضمَّنه القرآن والسنة كذلك. ولا يشاء مبطلٌ على وجه الأرض (4) أن يؤوِّلَ النصوص، ويحرِّفَها عن مواضعها، إلَاّ وجد إلى ذلك مِنَ السبيل ما وجده متأوِّل مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا، وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محلُّه في هذه الآية، وتعديته بأداة (5)" إلى " الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدلُّ على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدَّى بـ " إلى " خلاف حقيقته. وموضوعه صريح (1)، في أن الله سبحانه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعدِّيه بنفسه (6) فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار كقوله:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، فإنْ عُدِّيَ بـ " في "، فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] وإن عُدِّيَ بـ " إلى "، فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله (7):{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]، فكيف إذا أُضيف إلى الوجه الذي هو محلُّ النَّظر.

وفي كلام الشيخ هنا نظرٌ من وجهين.

أحدهما: أنه موهمٌ أن أهل السنة ينسِبُون المخالفين لهم في هذه المسألة

(1) في (ب): صحيحاً صريحاً.

(2)

تحرفت في (أ) إلى: " وأنت "، وفي (ب):" وإن أتيت إلى ".

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

تحرفت في (ش) إلى: بأدلة.

(6)

في (ب): في نفسه.

(7)

في (ش): نحو ذلك.

ص: 126

إلى العناد والتَّعمدُّ، وليس كذلك، وهذا هو الذي نحن قاصدون لِردِّه. وقد اعتمد أئمة السنة على رواية الثقات من المعتزلة والشيعة كما أوضحته في هذا المصنف، وأوضحه جميع من تكلم في الرجال، وحسبك أن النسائي (1) من أئمة الشيعة، وقد فضلوه على مسلمٍ صاحب " الصحيح ".

والوجه الثاني: أن النظر قد يُستعمل في غير الرؤية مُعَدّي بـ " إلى "(2) كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِم} [آل عمران: 77]، بل النظر في اللغة وعند أهل الكلام هو تقليب الحدقة الصحيحة في وجه (3) المرئيِّ طلباً (4) لرؤيته، وإن لم تحصل رؤية (5)، وذلك لا يجوز على الله في كل مذهب، فلا يختص نفيه عمَّن ذكر، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى:{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُون} [الأعراف: 198] وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} كناية عن إهمالهم لا سوى. والله أعلم.

والآية على هذا من الظواهر التي لا يجوز تأويلها إلَاّ بدليل، لا من النصوص الضرورية التي يكفر متأولها.

قال الشيخ (6): قال يزيد بن هارون: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: نَظَرَت إلى ربها، فَنَضُرَتْ بنوره (7).

(1) عبارة: " أن النسائي من " ساقطة من (ج).

(2)

ساقطة من (أ).

(3)

في (ب) و (ج) و (د): جهة.

(4)

في (ش): طالباً.

(5)

في (ب): رؤيته.

(6)

" حادي الأرواح " ص 204.

(7)

أخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة " ص 53 و143، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 121، والطبري في " جامع البيان " 29/ 192، والأجري ص 256، واللالكائي 3/ 464.

ص: 127

فاسمع (1) الآن (2) أيُّها السُّنِّي تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية:

قال ابن مردويه في " تفسيره ". حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد حدثنا يزيدُ بن الهيثم، حدثنا محمد بن الصَّباح، حدثنا مصعب بن المِقْدَام، حدثنا سفيان، عن ثور بن أبي فاخِتة، عن أبيه، في عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] قال: من البهاء والحُسْنِ (3){إلى ربِّها ناظِرَة} قال: " في وجه الله عز وجل "(4).

وقال عن ابن عباس: {إلى ربها ناظرة} ، قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل (5).

وقال عكرمة: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة} قال: من النعيم: {إلى ربِّها ناظرة} قال: تنظر إلى ربِّها نظراً، ثم حكى عن ابن عباس مثله. وهذا قول كلِّ مفسِّرٍ من أهل السنة والحديث (6).

فصل: وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية، فمتواترة رواها عنه أبو بكر الصدّيق، وأبو هريرة الدوسي، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وجرير ابن عبد الله البَجَلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد الله بن مسعود الهُذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعريُّ، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو أُمامة الباهلي، وزيد بن ثابث، وعمار بن ياسر، وعائشة

(1) في (ج): " واسمع "، وفي (ش):" واستمع ".

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

جملة " قال: من البهاء والحسن " ساقطة من (ش).

(4)

إسناده ضعيف لضعف ثوير بن أبي فاختة.

(5)

انظر " السنة " لعبد الله ص 62، واللالكائي 3/ 464.

(6)

انظر اللالكائي 3/ 463 - 466.

ص: 128