الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذ هو من الأمور الوجدانيات كالألم والجوع والغضب والرضا، فكيف بالتعبير في محارات العقول في (1) مسألتي المشيئة والأقدار متى وقع ممَّن لم (2) يتدرب في الحدود والجَدَل، ولا أشعر نفسه الحزم من النقاد والحَذَرَ مما لا يكاد يُصيب شاكلة الرمي ويطبقُ مَفْصِلَ الإجادة إلَاّ من (3) مَلَّكَه الله أزمة الإصابة والسعادة.
و
حاصل مذهب أهل السنة على التقريب
، وإن أخطأته عبارة بعضهم هو ما ذكرته من تعميم نفوذ (4) مشيئة الله تعالى بما تعلقت به تعظيماً لقدرته جل جلاله من القصور عن كل مقصود (5) ومقدور مع اختصاص محبته بالطاعات، وكراهته بالمعاصي المُقَبِّحات.
وفي مقام التعبير عن الكتاب والسنة والآثار تَزِلُّ الأقدام، وتفاوت الأفهام، ويتصعَّب المرام، وقلَّ من ينجو بسلام، والذي أحبُّه وأرتضيه للسني ترك العبارات المولدة والتكلُّفات (6) الحادثة، وإن نطق بها بعض أهل السنة ظنّاً منه بأنه يترجم (7) بها عن القرآن والحديث، ولو تَفَطَّن لم يُجاوِزْ عبارات القرآن والحديث، فإنها أفصحُ الكلام، وأصحُّه وأبينه، وأوضحه ولم يرد إلَاّ بما يقتضي كمال قدرة الله تعالى، وهو التمدح بنفوذ (8) مشيئة الله في كل شيءٍ.
وهذا وصفٌ جليل جميل يختصُّ به الرب سبحانه، ويليق بجلاله، ويعجز عنه كل قادرٍ سواه بخلاف مجرد إرادة القبيح الذي ظن بعض أهل السنة أنها مرادفة لذلك الوصف الجليل الجميل، وكيف يُرادِفُه وهو من خصائص ربِّ العزة جل جلاله؟
وإرادة القبيح مجرّدةً عن ذلك صفةٌ عريَّةٌ عن الثناء بالمرة يقع من
(1) في (ش): ومسألتي.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): ممن.
(4)
في (ش): تفرد.
(5)
في (ش): لقدرته جل جلاله عن المقصود.
(6)
في (ش): والتكليفات.
(7)
في (أ): مترجم.
(8)
في (ش): بتفرد.
الضعيف، والعاجز، والخبيث، والأحمق، وسائر الشياطين وأعداء ربِّ العالمين.
ومتى تعلَّقتْ بالقبيح لأجل الوجه الذي قُبِّحَ منه، وجب تنزيه الربِّ سبحانه منها بالمرة كما يتنزَّه عن كل عيب وذم، كما قال تعالى:{وما اللهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ} [غافر: 31]، وفي آيةٍ {للعالمين} [آل عمران: 108] كما سيأتي بيانه واختصت بشرار خلقه، {ولله الأسماءُ الحُسنى فادعُوهُ بِها} [الأعراف: 180].
وما أحسن عبارة موسى كليم الله سبحانه، حيث قال:" اللهم إنك ربٌّ عظيم لو شئت أن تُطاع لأُطِعْتَ، ولو شئت أن لا تُعصى ما عُصيتَ، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى فكيف هذا يا رب ".
وسيأتي تحقيق الفرق بين العبارات الربانية والنبوية، وبين العبارت المحدثة المبتدعة في الدعوى الثانية وقبلها، ثم في الجواب عن أدلة المعتزلة.
وقد شَغَبَ أهل الكلام على أهل الأثر في تجويز المحبة والغضب على الله بأمورٍ سهلة تقدم بيانها في الصفات.
الفرقة الثانية: المعتزلة وغالب مذهبهم مشهورٌ لم يغلط عليهم فيه، وسيأتي ذكر أدلتهم والجواب عنها في الفرقة الثالثة.
وفيهم طائفة يَنفُون إرادة الله تعالى، ولا يُثبتون معنىً زائداً على كونه عالماً، ويتأولون كونه مُريداً بكونه فاعلاً، وهو عالم غير ساهٍ ولا مُكْرَهٍ، ومعنى إرادته لأفعال غيره عندهم أمره بها، حكاه الزمخشري (1) في تفسير:{ماذَا أرادَ اللهُ بهذا مثلاً} [البقرة: 26] وأهل المقالات يروُون ذلك عن البغدادية منهم.
الفرقة الثالثة: الأشعرية، ولم تُحَرِّر المعتزلة نقل مذهبهما على الصواب،
(1) 1/ 266.
فرأيت نقله من كُتُبِهم محققاً، ويدخل في ضمن كلامهم تحقيق مذهب المعتزلة.
قال الشهرستاني في كتابه " نهاية الأقدار ": قالت المعتزلة: كلُّ آمر بالشيء، فهو مريدٌ له، والباري آمرٌ عباده بالطاعة، فهو مريدٌ لها، إذ من المستحيل أن يأمُرَ عباده بها، ثم لا يريدها، والجمع بين اقتضاء الطاعة وطلبها بالأمر بها، وبين كراهة وقوعها جمعٌ بين (1) نقيضين، وذلك بمثابة الأمر بالشيء والنهي عنه في حالة واحدة، إذ لا فرق بين قول القائل: آمرُك (2) بكذا وكرهُ منك فعله، وبين قوله: آمرُك بكذا، وأنْهاك عن فعله، وإذا كان الآمرُ بالشيء مريداً له، كان الناهي عنه كارهاً له.
والذي يحقِّقُ ذلك أن الأمر يقتضي من المأمور حصول الفعل، والإرادة تقتضي تخصيص المأمور به بالوجود، ومن المُحال اقتضاء الحصول لشيء، (3) واقتضاء ضد ذلك منه.
ويخرج على هذه القاعدة أستر وأحكم إلى العلم، فإنه يجوز أن يأمر بخلاف المعلوم، لأن العلم ليس فيه اقتضاء وطلب، وإنما يتعلق بالمعلوم على ما هو به بخلاف الإرادة، فإنها مقتضية، فيرد الأمر على خلاف العلم، ولا يَرِدُ على خلاف الإرادة.
قالت الأشعرية: لسنا نُسَلِّم أن كُلَّ آمر بالشيء مريدٌ لحصوله، بل نقول: كل آمر بالشيء عالمٌ بحصوله، أو مجوِّز، فهو مريدٌ له حصولاً، وكل آمر بشيء يعلم حصول ضده لا يكون مريداً لحصوله، فإن الإرادة على خلاف العلم تعطيل لحكم الإرادة، وتغيير لأخصِّ وصفها، وقد بينا أن أخص وصفها التخصيص، وحكمُها أنها إنما تتعلق بالمتجدد من المقدورات أو من المتخصص منها.
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): أمرتك.
(3)
في (ش): للشيء.
فإذا عَلِمَ الآمرُ بأن المأمور به لا يحصلُ قطعاً، ولا يتجدَّدُ ولا يتخصص، فيستحيل أن يُريده، فإنها تُوجد حينئذٍ ولا متعلق بالممكن (1) لها، وتتعلق ولا أثر لتعلقها، وذلك مُحالٌ، ولو كانت الإرادة من خاصيتها أن تتعلق بالممكن فقط كالقدرة، لكان جائزاً أن تتعلق بخلاف المعلوم.
ومن العجب أنَّ متعلق القدرة أعمُّ من متعلق الإرادة، فإن الممكن الجائز هو (2) جائز متعلق بالقدرة، والمتجدد من جملة الممكنات متعلق الإرادة، والمتجددُ أخصُّ من الممكن.
قلت: بيان ذلك أن الأصل أن يكون الأمر غير مخالف للعلم ولا للإرادة، لكن قد ورد بخلاف العلم إجماعاً، وهو خلاف الأصل.
فإن قيل: فما الوجه في وروده على خلافِ الأصل حيث يكون على خلاف العلم والإرادة؟
قلت: الوجه أن الأمر في الغالب يكون طلباً لحصول المأمور به كأمر من عَلِمَ الله تعالى أنه يمتثل فيجب أن يكون على وَفْقِ العلم والإرادة، وقد يكون الأمرُ (3) على جهة الابتلاء وإقامةِ الحجة، وهو نوعان:
أحدهما: وهو الأقل أمر من علم الله أنه يُطيعُ ليبتلى بالعزم على ذلك لا (4) ليفعله، مثل أمر الخليل عليه السلام بذبح ولده عليه السلام على أصحِّ القولين، وهو مقرَّرٌ في الأصول.
وقد قيل: إن منه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء (5) بخمسين صلاة، ونُسخَ ذلك عنه قبل التمكُّن من فعله.
(1) ساقطة من (أ).
(2)
في (أ): ممن هو.
(3)
في (أ): العلم.
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
في (ش): ليلة أسرى به.
ومنه أمر من علم موته قبل التمكن من امتثاله، أو نسخُ المأمور به قبل ذلك، كقوله تعالى:{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فإنه روي أنها نُسخت قبل أن يعمل بها أحد إلَاّ علياً عليه السلام (1).
فإن قيل: فلماذا قال في الأمر بذبحِ إسماعيل: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، وفي حديث: فرض خمسين صلاة هي خمس وهي خمسون لا يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ (2) فإنه مشكلٌ على كلا المذهبين؟
(1) أخرجه الطبري 28/ 20، وابن الجوري في " نواسخ القرآن " ص 479 من طرق عن ليث، عن مجاهد، عن علي. وليث: -وهو ابن أبي سليم- فيه ضعف، لكنه توبع، فقد أخرجه الحاكم 2/ 482 من طريق منصور، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي بن أبي طالب. وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 8/ 84 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
وأخرجه ابن أبي شيبة 12/ 81 - 82، وعبد بن حميد في " المنتخب "(90)، والترمذي (3300)، وأبو يعلى (400)، وابن جرير الطبري 28/ 21، وابن حبان (6941) و (6942)، وابن عدي في " الكامل " 5/ 1847 - 1848، والعقيلي في " الضعفاء " 3/ 243، والنسائي في " خصائص علي "(152)، وابن الجوزي في " نواسخ القرآن " ص 478، والنحاس في " الناسخ والمنسوخ " ص 270 من طريق سفيان الثوري، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. ولفظه: " لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى ديناراً؟ قال: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، قال: فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة.
(2)
أخرجه من حديث الإسراء الطويل عن أبي ذر، وابن عباس، وأبي حبَّة الأنصاري: البخاري (349) و (1636) و (3432)، ومسلم (163)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 9/ 156، وأبو عوانة في " مسنده " 1/ 133 - 135، والدارمي في "الرد على =
قلت: لا يبعُدُ أنه (1) في مرتبة اختيار الأحسن على الحسن لأن الله تعالى لا يفعلُ المرجوح وإن كان حَسَناً مع وجود الأحسن الراجح (2)، وذلك أن الأمر يُشبه الخبر بالوجوب، كما قد أتى بلفظ الخبر {ولله على الناسِ حِجُّ البيتِ} [آل عمران: 97] ونحوها، فبَعُدَ بالتأويل عن شبه الخُلف (3) والبداء كما تنزَّه عن خُلْفِ الوعيد كذلك مع حسنه عقلاً وسمعاً.
وثانيهما: وهو الأكثر أمر من علم الله سبحانه أنه لا يُطيع لإقامة الحجة، كما أذكره في الحكمة في الأمر مع القدر في آخر الكلام في الأقدار، وما فيه من الآيات الصريحة بأن العلة في أمره إقامة الحجة عليه، وإليه الإشارة بقوله:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [يونس: 25]، فَعَمَّ بالدعوة حجة على من علم أنه لا يجيبُ، وخص بالهدى منه على من عَلِمَ أنه يُنيبُ.
ثم إن الحجة تارة تكون مع إرادة المغفرة كما يأتي في أحاديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم "، ومنه قوله تعالى:{يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة} إلى قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} [البقرة: 35 - 36] ولم يكن الرب عز وجل مُريداً لسكون آدم وزوجته في الجنة دائماً بدليل قوله قبل عصيانهما: {إني جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30]، وبدليل أنه لو أراد ذلك غفر ذنبهما ولم يُخرجهما به من الجنة، أو أخَّر عقوبتهما إلى (4) الآخرة كما يقتضيه مذهبُ المعتزلة، فإنه لا يجوز عندهم تقديم (5) العقوبة في دار التكليف، بل ذنوب الأنبياء صغائر عند المعتزلة والجمهور، والصغائرُ مغفورةٌ لا يعاقب الله عز وجل
= الجهمية" ص 34، وابن حبان (7406)، والآجري في " الشريعة " ص 481 - 482، وابن منده في " الإيمان " (714)، والبغوي (3754).
(1)
في (أ): أن.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
تصحفت في (ش) إلى: الخلق.
(4)
في (ش): في.
(5)
في (ش): تقدم.
عليها، وظاهرُ أمره بسكناهما الجنة الدوام بدليل قوله في الشيطان:{فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} [البقرة: 36] فنسب الإخراج إليه لما كان سبباً فيه، ولم يكن السببُ الظاهر انتهاء مدة الإرادة لإقامتهما في الجنة.
وتارةً من غير إرادةٍ للمغفرة، كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134].
ونحوها {لِئَلَاّ يكونَ للناس على الله حُجَّةٌ بعد الرُّسُل} [النساء: 165].
وأخصُّ من هذه الآيات، وأنسبُ بمسألتنا قوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] أي أمرناهم أن يطيعوا، كما تقول: أمرته فعصاني، أي: أن يُطيعني، والقرينة في مثله مُغنيةٌ عن تقدير المحذوف من جنس المذكور كما زعم الزمخشري (1)، فالآية بينةٌ في أن الأمر لهم لم يكونوا (2) ليطيعوا، لأنه كان بعد إرادة عذابهم بما قد علم الله فيه من الحكمة، وإنما كان أمرهم قطعاً لعُذْرِهم، ولذلك قال الله تعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر} [يس: 11] يعني الإنذار النافع.
وأما ما تقدم الأمر من كفرهم، فلا يجوز تعليق الإراده لعذابهم به، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ونحوها {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُون} [النمل: 81]، وقوله:{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم} [يس: 10].
ولذلك قد يخصُّون بالأمر في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] وهو كثير، بل قد يستثنى الكافر من المؤمن المأمور حيث يراد بالأمر وقوع (3) المأمور به، ونجاة الممتثل له، كقوله
(1) 2/ 422.
(2)
في (ش): يكن.
(3)
ساقطة من (ش).
تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُم} [هود: 81].
وقد يريد الله تعالى بالأمر الوجهين معاً بدليل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143]، وقوله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، وقوله تعالى:{حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
فهذه الآيات وأمثالُها مما يكثر إيراده شاهدةٌ على أن أمر من عَلِمَ الآمر أنه يُعصى غير ملازم لإرادة امتثاله (1) مع ما يدركُه العقل من ذلك، وهذان النوعان واردان في الشرع وروداً كثيراً، ولا يمنع العقل من ورودهما، ولكنهما نادران في عاداتِ الناس، إذْ كانت العادات جارية بأن الأمر قرينة تدل على حاجة الآمر إلى مطلوبه، وذلك دليل على إرادتِه ما أمر، ولما قَلَّ في العادة الأمر من غير إرادة غفل عنه المعتزلي وظنه محالاً، وليس بمحال، وإنما المحال ما جوَّزه المعتزلي من إرادة حصول ما جَزَم الآمر، وعلم أنه لا يحصُلُ أبداً، ولذلك جاء على أبلغ صيغ الإنكار في قوله عز وجل:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]. فلم ينكر هذه الإرادة لِقُبح ما تعلَّقت به وهو الهُدى، لأنه حسن قطعاً، وإنما أنكرها لتعلُّقها بما علم أنه لا يقع، ولذلك خصَّ ذوي الألباب بإرادة التذكر في قوله:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب} [إبراهيم: 52].
وأمثالها كثيرة كقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [النحل: 64].
وقوله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل: 89].
(1) تحرفت في (أ) إلى أمثاله.
وقوله سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
ولو كان ذلك الذي زعموه ممكناً، لأمكن من أحدنا أن يريد من الله تعالى أن يفعل له ما يعلم أنه لا يفعله من أن يرفعه إلى السماء، أو يُحيي له من مات من أهله، أو يرُدَّ له أيام الشباب بعد الهرم. فذلك ممكنٌ مقدور لله تعالى، وإنما استحالتْ إرادة ذلك من العقلاء لعلمهم أنه لا يقع، ولأمكنت إرادة القبيح والمضارِّ التي لا داعي إليها، كنكاح الأمهات وقتلها.
ولما قَبُحَ عند الخصوم إعلام المُكَلف بأنه من أهل النار، وقد قبَّحوا ذلك، بل قَبَّحوا الإعلام بصغار (1) الذنوب مع بقاء الداعي إلى تركها، وهو استحقاق الثواب عليه، والصارِف (2) عن فعلها، وهو فواتُ الثواب بسببه.
وأما ما نجدُ من شهوةِ ما لا يكون وتمنيه (3)، فليس من الإرادة في شيء، وقد يُعَبِّرُ عن تلك الشهوة بالإرادة، كقوله تعالى:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة: 20] وليس من قبيل الإرادة الاختيارية، لأنهم غير قادرين على إرادة البقاء في النار، على أن علمهم حين (4) أرادوا ذلك بعدم (5) وقوعه ممنوعٌ بدليل سؤالهم ذلك في قولهم:{ربَّنا أخْرِجْنا مِنْها} [المؤمنون: 107] وقولهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّك} [الزخرف: 77] وذلك واضح.
وذكر بعض أهل السنة أشياء في الاستدلال على أن الأمر قد يفارق الإرادة وهذا الذي ذكرته أصحُّ، ولا يخلو ما ذكروه من نظر من ذلك الدعاء في صلاة الاستسقاء حيث لا يُسقَون، وشفاء المرضى حيث لا يُشْفَون، وببقاءِ الأنبياء والأولياء، وطلب طول أعمارهم.
(1) في (ش): بصغائر.
(2)
في (ش): فالصارف.
(3)
في (ش): وتمكينه.
(4)
في (ش): حيث.
(5)
في (ش): لعدم.
ويشبهه من وجه الأمر بقتل كثير من الحيوان الذي أراد الله حياته (1) كالفواسق الخمس والوَزَغ، بل كالكفار، والأمر بقتلها وطلبها (2) في جميع الأوقات، وذلك عند المعتزلة يستلزم أن الله تعالى مريدٌ لِقتلها، ومريدُ قتلِ الحي لا يريد حياته، وإنما يَصِحُّ ذلك باعتبار الجهات المختلفة عندهم.
وكذلك يقول أهل السنة في مسألة الإرادة، وفي متعلقاتها، فيلزمها الموافقة في أحد الموضعين.
ومنه إرادة التعجيز كقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50].
ومنه ما رُوي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مَنْ تحلَّم بحُلمٍ لم يَرَهُ كُلِّفَ أن يعقِدَ بينَ شعيرتين ولن يَفْعَلَ "(3) خرجه البخاري.
وخرج الترمذي (4) من حديث علي رضي الله عنه نحوَه.
وفي أحاديث المُصَوِّرين أنه يُقالُ لهم يوم القيامة: " أحْيُوا ما خَلَقْتُم "(5) وهي
(1) قوله: " الذي أراد الله حياته " ساقط من (أ).
(2)
في (أ): وطلبه.
(3)
أخرجه أحمد 1/ 216 و246 و359، والبخاري (7042)، والترمذي (2283)، وأبو داود (5024)، وابن ماجه (3916).
(4)
برقم (2281) و (2282).
(5)
أخرجه من حديث عائشة: مالك في " الموطأ " 2/ 966، والطيالسي (1425)، وأحمد 6/ 70 و80 و223 و246، والبخاري (2105) و (3224) و (5181) و (5957) و (5961) و (7557)، ومسلم (2107)، والنسائي 8/ 215 - 216، وابن ماجه (2151)، والطحاوي 4/ 282 - 283 و284، وابن حبان (5845)، والبيهقي 7/ 266 - 267 و267 و270.
وأخرجه من حديث ابن عمر: أحمد 2/ 4 و20 و26 و55 و101 و125 - 126 و139 و141، والبخاري (5951) و (7558)، ومسلم (2108)، والنسائي 8/ 215. =
شهيرةٌ صِحاحٌ، ويأتي ذكرُها في الكلام على تنزيه أهل السنة من القول بتكليف ما لا يُطاق.
قال الشهرستاني: ثم يقولُ مَنْ رأي أن الآمر بالشيء لا يكون مُريداً له من حيث إنه مأمور به فقط، سواء كان المأمور به طاعة وقد عَلِمَ الآمر حصولها، أو كان الأمر بخلاف ذلك، فإن جهة المأمور به هو كسبُ المأمور، وسيأتي أن ذلك أخص أوصاف الفعل، سُمِّي به العبد عابداً، ومُصلياً، وصائماً وأمثال ذلك.
والفعل من هذا الوجه لا يُنسبُ إلى الباري تعالى، فلا يكون مُريداً له من هذا الوجه، بل يُنسب إليه من حيثُ التجدد والتخصيص، وما لم يكن الفعلُ فعلاً (1) للمريد لا يكونُ مراداً، فما كان من جهة العبد الذي سمَّيناه كسباً وقع على وفق العلم، والأمر كان مُراداً مرضياً، أعني مراداً بالتجدد والتخصص (2) الذي هو أثرُ قدرة الله تعالى مرضيّاً بالثناء والثواب والجزاء.
وما وقع على وَفْقِ العلم وخلاف الأمر كان مُراداً غير مرضي، أعني مُراداً بالتجدد، وغير مرضي بالذمِّ والعقاب، وهذا هو سر هذه المسألة، ومن اطَّلَع عليه، استهان بتهويلات القدرية، وتمويهاتِ الجبرية.
قلت: هذا كلامٌ صحيح المعاني، قويُّ المباني، وإنما يتجلَّى بمعرفة مذهبهم في خلق الأفعال، وتمييز ما هو أثر قدرة الرب عما هو أثر قدرة العبد، فمن أراد تحقيق هذا، جمع إلى النظر فيه أمرين:
أحدهما: النظر في مسألة الأفعال كما يأتي في المرتبة الخامسة.
وثانيهما: النظر في امتناع تعلق الإرادة بفعل غير المريد، وهو صحيح،
= وأخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 380.
(1)
من قوله: " فلا يكون " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
في (ش): التخصيص.
ولا بمشيئة، لأن المحبة تعلَّق بفعل الغير، ويلتبس الفرق بين المحبة والإرادة على من لم يتأمل، وكثيراً ما يُسَمَّى أحدهما باسم الآخر مجازاً.
ومن الدليل على أن الإرادة لا تعلق بفعل الغير أن العزم والنية لا يتعلقان به مع أنهما من أنواع الإرادة، وفي هذا بيان غلطِ من صَحَّح إطلاق محبة الله تعالى ورضاه (1) على المعاصي المراد وقوعها مجازاً واهماً أنه لا فرق بين المحبة والإرادة كما نقله الجُويني (2) عن بعض مُتكلمي الأشعرية وقوَّاه هو، نقله عنه النواوي وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن الفروق: بين المحبة والإرادة غير (3) ما مضى أن المحبة غير اختيارية، والإرادة اختيارية، وأن المحبة لا تعلق بالمكروه في الطبيعة كشرب الأدوية الكريهة، وقطع العضو الفاسد، والقَوَدِ في توبة القاتل بخلاف الإرادة، وأن المحبة قد تعلق بما لا يتمكن وما يعلم أنه مُحالٌ كعود أيام الشباب، وإنما ما كان لم يكن بخلاف الإرادة.
وبعدُ فإن ذلك مجمعٌ عليه ضروري في الشاهد، وإنما وقع الاختلاف في حقِّ الله تعالى كما تقدم في الصفات، فخُذْه من هناك.
قال الشهرستاني: فعلى هذه القاعدة لم يكن الباري تعالى مُريداً للمعاصي والقبائح والشرور من حيث إنها معاصي وقبائح وشرور، ولا مريداً للخيرات والطاعات والمحاسن من حيث إنها كذلك، بل هو مريدٌ لكل ما تجدَّدَ وحدث في العالم من حيث إنها متخصصة بالوجود دون العدم، ومتقدرة بأقدارٍ دون أقدار، ومتوقتة بأوقات دون أوقات، ثم إن ذلك الموجود قد يقع منتسباً إلى استطاعة العبد كسباً على وفق الأمر فيُسمى طاعة مرضية، أي: مقبولة بالثناء
(1) من قوله: " والنية " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
في " الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد " ص 238 فما بعدها.
(3)
ساقطة من (أ).
ناجزاً، والثوابِ آجلا، وقد يقع على خلاف الأمر، فيسمى معصية، غير مرضية، أي مردودة بالذم ناجزاً والعقاب آجلاً. فالأفعال كلها من حيث تخصصها وتجدُّدها مُرادة لله تعالى كلها، وهي متوجهة إلى نظام في الوجود، وصلاح (1) للعالم وذلك هو الخير المحض.
قلت: ويحسنُ أن يحتج هؤلاء على مذهبهم هذا بما خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في التوجه في الصلاة: " الخير في يديك، والشرُّ ليس إليك "(2). فيزول الإشكال عن معنى الحديث.
وفي قوله: وهي متوجهةٌ إلى نظام في الوجود، وصلاحٍ للعالم، وذلك هو الخير المحض إشارة إلى مثل كلام الغزالي، وابن تيمية ومن تابعهما في أن الشر لا يراد لنفسه، وإن كان الشهرستاني مُظهراً لموافقة الأشعرية في نفي الحكم، فهذه الإشارة تُنافي ذلك، ولعلَّها معتقده والله أعلم.
ويحتمل أن مراده ما سيأتي من أن فعل الله خيرٌ، لكنه لم يفعله لأنه خير، وسيأتي تعليله لذلك والرد.
(1) في (ش): وإصلاح.
(2)
أخرجه الطيالسي (152)، والشافعي في " المسند " 1/ 74 و77، وعبد الرزاق (2567) و (5903)، وأحمد 1/ 94 و102 و103، وابن أبي شيبة 1/ 232، ومسلم (771)، وأبو داود (760) و (761)، والترمذي (266) و (3421) و (3422) و (3423)، والنسائي 2/ 129 و130، والدارمي 2/ 282، وابن الجارود (179)، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/ 199 و239، وفي " شرح مشكل الآثار " 1/ 488، وابن خزيمة في " صحيحه "(462) و (463) و (464) و (743)، وأبو عوانة 1/ 100 و101 و 102، وابن حبان (1771) و (1772) و (1773) و (1774)، والدارقطني 1/ 296 و 297 - 298، والبيهقي 2/ 32 و33 و74، والبغوي (572).
وانظر لزاماً الباب الحادي والعشرين في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر، من كتاب " شفاء العليل " للعلامة ابن قيم الجوزية ص 178 - 185.
قال: وكلُّ ما ورد في القرآن من إرادة الخير المتعلِّق بأفعال العباد، فهو محمولٌ على أحد معنيين: إما ثناءٌ ومدحٌ في الحال، وإما ثوابٌ ونعمة في المآل، وإلا فالإرادة الأزلية لا تتعلَّقُ إلَاّ بما هو متجدِّدٌ من حيثُ هو كذلك، ولا متجدِّد إلَاّ وهو فعلُ الله تعالى من حيث هو كذلك، وذلك لا يُنْسَبُ إلى العبد كما بينا في (1) خلق الأفعال.
واختصت الإرادة بأفعال الله تعالى على الحقيقة دون الوجوه التي لا تُنْسَبُ إلى الحق سبحانه، فلم يجب تلازم الأمر والإرادة إلى قوله: وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27] ونحوها محمولٌ على كلمةٍ ذكرها الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنه، فقال: إن الله تعالى إذا أراد بنا، وأراد منا، فما أراد بنا، أظهره لنا، وما أراده منا طواه عنا، فما لنا لا نشتغل بما أراده منا عما أراده بنا.
ومعنى ذلك أنه أراد بنا ما أمرنا به، وأرادَ منا ما عَلِمَه، فكانت الإرادة واحدة، يختلف حكمها باختلاف وجه تعلقها بالمراد، وهي إذا تعلقت بثوابٍ سُميت رضا ومحبةً، وإدا تعلقت بعقاب سُميت سُخْطاً وغضباً.
كذلك إذا تعلقت بالمراد على وجه تعلُّق العلم، قيل: أراد منا ما عَلِمَ، وإذا تعلقت بالمراد على وجهِ تعلق الأمر، قيل: أراد به ما أمر، وإذا تعلقت بالصنع مُطلقاً بتخصيص وتعيين من غير التفات إلى كسب العبد حتى يكون أراد منه، أو أراد به، قيل: أراد الكائنات بأسرها، ولم يقل: أراد منها ولا بها، بل أرادها على ما هي عليه من التخصيص بالوجود دون العدم.
فإذاً فأفعال العباد من حيث إنها أفعالهم إما أن يقال: تعلق الإرادة بها على الوجه الذي انتسب إلى العباد، بل على الوجه الذي انتسب إلى الخالق إيجاداً
(1)(فراش): سيأتي.
(2)
ساقطة من (ش).
أو (1) تخصيصاً.
وإما أن يقال: تعلقت الإرادة بها على الوجهين المذكورين بأنه أراد بنا أو أراد منا، أراد بنا ما أمرنا به ديناً وشرعاً واعتقاداً ومذهباً، وأراد منا ما علم سابقة، وعاقبة وفاتحة وخاتمة. انتهى.
فصل: وأقول: إن السابق إلى الأفهام غير ما ذكره، وهو أن يكون قوله:" أراد منه " يطلق على ما وافق الأمر من الإرادة.
وقولُنا: " أراد به " لما وافق العلم، ويدل عليه أن الإرادة قسمان: قسم بمعنى الطلب من الغير، وقسم ليس بمعنى الطلب.
والقسم الأول نوعان:
الأول: معنوية حقيقية، وهي التي يكون معها الرضا والطلب، وهي إرادةُ الطاعة ممن علم الله تعالى امتثاله للأمر (2)، وهذه تُسمى إرادةً في الحقائق الثلاث: اللغوية والعرفية والشرعية. قال الزمخشري في أوائل " الكشاف "(3) في الإرادة اللغوية: هي مصدر أردتُ الشيء إذا طلبته نفسك، ومال إليه قلبك، وفي حدود المتكلمين معنى يوجب (4) للحي حالاً لأجلها وقع منه الفعل على وجهٍ دون وجه.
والنوع الثاني: الإرادة اللفظية، وهي إرادة ما يطلبه الله بالأمر ويرضاه ويحبه ممن علم أنه لا يمتثل الأمر (5) فهذه يطلق عليها اسم الإرادة لفظاً، وليست إرادة في الحقيقية، لكن محبة المطلوب والحكمة فيه الحاملة على الطلب تسمى إرادة ومشيئة.
(1) في (أ): و.
(2)
ليست في (ش).
(3)
1/ 266.
(4)
في (ش): يورث.
(5)
ساقطة من (ش).
وهذه التسمية إما حقيقةٌ عُرفية أو مجاز شائع كثير سبق بأدنى قرينةٍ إلى الفهم، وأول كل حقيقة عرفية (1) مجاز كذلك، وهو كثير، ومنه قول الشاعر، وهو قيسُ بن الخطيم الأوسي، والبيت في الحماسة في أبيات له:
يريدُ المرءُ أن يُعْطَى مُناه
…
ويَأْبَى الله إلَاّ ما يشاء (2)
فالإرادة في هذا البيت بمعنى المحبة من غير شكٍّ، لأنها تعلَّقت بما ليس من فعله، ولا يقدر عليه، ولأنها لم تُعَلَّقْ بتخصيص الحادث المتجدد بوقتٍ دون وقتٍ، ولا قدرٍ دون قدر، ولا وجهٍ دون وجه، وذلك لازمٌ للإرادة الحقيقية في اللغة.
وهذان القسمان من الإرادة مُلازمان للطلب والمحبة، وقد يعبر عنهما معاً، وعن المحبة وحدها بالإرادة حقيقةً عُرفية أو مجازاً.
فمن هنا كانت الإرادة والمحبة تُعديان هنا بحرف " من " دون " الباء " وذلك لأن الطلب يعدى بمن التي لابتداء الغاية، تقول: طلبتُ من الله تعالى، كما تقولُ: سألت منه، وأردتُ منه، قال الله تعالى:{ما أُريدُ منهم مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات: 57] فعداها بمن لأنها بمعنى ما أطلب منهم.
والعجب ممن يقول: إن الله تعالى يريد المعاصي من العصاة، ثم يقول:
(1) ساقطة من (ش).
(2)
هو في " ديوانه " ص 96، و" الحماسة " بشرح المرزوقي 1187، و" خزانة الأدب " 7/ 36، و" زهر الأكم في الأمثال والحكم " 1/ 159.
وقيس بن الخطيم: هو ابن عدي بن عمرو الأوسي أبو يزيد، شاعر الأوس، وأحد صناديدها في الجاهلية، عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وهو في مكة، فاستنظره قيس حثى يَقْدَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولنكايته في الخزرج في حربها مع الأوس تواعدوا على قتله بعد أن هدأت الحرب، فقتل على كفره قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. انظر " الأغاني " 3/ 1 - 26، و" الخزانة " 7/ 37.
إن معاصي العصاة من الله، ويعترفُ ببطلان الجبر مع ذلك، وهذه مناقضات واضحة، وخطأ في العبارة ممن ينفي الجبر.
وإنما يقال: إن المعاصي من العبد صادرة باختياره مع تقديرٍ من الله سابقٍ، وتمكينٍ للعبد لاحقٍ كما سيأتي بيانه في آخر مسألة الأفعال، ونقلُ نصوص الكتاب والسنة والصحابة والسلف على ذلك.
القسم الثاني: ما لم يكن يعني (1) الطلب من الغير، ولا يحسُنُ تقدير الطلب في هذا القسم مع الإرادة، ولا يعبر بأحدهما عن الآخر حقيقة ولا مجازاً، وذلك حيث يكون أحد مفعولي الإرادة كالعلة في مفعولها الآخر تتعدى (2) بالباء وباللام على حسب المواقع اللائقة بذلك في اللغة.
كقوله تعالى: {ماذا أرادَ الله بهذا مثلاً} [البقرة: 26] وقوله تعالى: {وإذا أرادَ الله بقومٍ سُوءاً فلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ يُرِدِ الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّين "(3). حديث صحيح شهير من غير طريق.
وروى الطبراني من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ هذه الأخلاق من الله، فمن أراد الله به خيراً مَنَحَه خُلُقاً حَسَناً، ومن أراد الله به سوءاً منحَه خُلُقاً سيئاً ". أخرجه الهيثمي في باب حسن الخلق من " مجمع الزوائد "(4) وفي سنده مسلمة بن علي.
(1) في (ش): بمعنى.
(2)
في (ش): فيعدى.
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 313 - 314.
(4)
8/ 20 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه مسلمة بن علي، وهو ضعيف. قلت: قال أبو حاتم: لا يشتغل به، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة.
وفي الباب عن عائشة أورده السيوطي في " الجامع الكبير " 1/ 282، ونسبه إلى العسكري في " الأمثال ".
فمفعولُ الإرادة الأوَّل في الآية هو " ماذا " على أنها اسمٌ واحدٌ، ومفعولها الثاني المشار إليه بلفظ " هذا " في الآية، وتفسير " ماذا " هو العلة والحكمة في إنزاله، وذلك هو ما بينه الله تعالى جواباً عليهم بقوله:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]، ومفعولها الأول في الحديث هو الخيرُ المسبَّب عن التفقيه، ومفعولُها الثاني هو الفقهُ في الدين.
وتلخيصُ ذلك أن الإرادة تُعَدَّى إلى مفعولٍ واحد بنفسها من غير حرف، وهو المتجددُ المتخصص الذي يجبُ أن يكون (1) فعلاً للمريد، وقد يُعَدَّى إلى مفعولٍ ثانٍ، فلا يجب أن يكون فعلاً للمريد، وإن جاز أن يكون فعلاً له في بعض الصور. وهذا القسم ينقسم:
فحين يكون المفعول الأول مطلوباً بالأمر من الثاني تعدى الإرادة إلى الثاني بمن كما يتعدى الطلب بها كما مرَّ مثاله.
وحين يكون المفعول الثاني هو العلة في إرادة المفعول الأول يكون الثاني كالمفعول لأجله، وتعدَّى الإرادة إليه (2) تارة بالباء الموحدة، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين ". ومرةً باللام كقولك: أردت الخير لزيدٍ، ولذلك قال أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: لا يقال شاء للعباد، فيكون شبه اختيار، ولكن يُقال (3) شاء أن يَعْصوه. وقد تقدَّم سنده عنه عليه السلام.
فعلى هذا لا تُعَلَّق إرادة الله بفعل العبد حَسَناً كان أو قبيحاً حيث يقول: أراد به أو له (4) ثواباً أو عقاباً، لأن مفعولها الأول هو الثواب أو العقاب على جهة الجزاء، وهو فعل الله تعالى ومفعولها الثاني هو العبد المستحق لذلك، والعلة في ذلك هي الحكمة، إما الاستحقاق وحده أو مع غيره.
(1) هنا في (ش) زيادة: " فيه ".
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
ساقطة من (أ).
(4)
ساقطة من (ش).
وعلى هذا التفصيل يجوز أن يُحمل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على المعنى الذي تُعدَّى فيه الإرادة بحرف " من " لأنه لا يتعلَّقُ بأفعال العباد من أقسامها غيره.
وهو حيث يكون بمعنى الطلب بالأمر فيكون المعنى لإرادة أن يعبدوني، لأن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا المصاحبين للأمر، ويكون تسمية المحبة إرادةً حقيقة عرفية أو لغوية كما تقرَّر ذلك من تفسير الزمخشري لها، ودلالة بيت قيس بن الخَطِيم عليه، وهو عربي حُجَّة. وقد تقدم، أو مجازاً كثيراً قريباً يحسن مع أدنى قرينة.
وقد بيَّنَّا أن المحبة عند أهل السنة تلازم الأمر، وتسمى إرادةً، ولا يجب أن تقع من متعلقها ما لم يُرِدِ الله وقوعه لبعض الحِكَمِ التي يستأثر الله بعلمها، ويأتي بيان بعضها.
فجاز على أصول أهل السنة، وصحَّ أن يكون التقدير ما خلقتهم إلَاّ لإرادة أن يعبدوني، أي: محبته لهم، لأنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبه مطلقاً كما تقدم، ولا يُريده لهم ديناً وشرعاً يتقرَّبون به إليه عز وجل.
والعجب من المعتزلة أنهم يُنكرون على أهل السنة تأويلهم هذه الآية على إرادةِ الأمر، ولا يُنكرون على نُفاة الإرادة منهم تأويلها بالأمر، بل كل إرادة من الله تعالى تُعَلَّقُ (1) بأفعال العباد عند البغدادية منهم، فإن معناها الأمر من غيرِ إرادةٍ ألبتة لا للآمرِ، ولا للمأمور به.
وأما من لا يُجيز المحبة على الله من الأشعرية، فإنَّه يتأوَّل الإرادة في هذه الآية بالأمر مثل ما تأولها بذلك بعض المعتزلة مطلقاً، فيكون المعنى عندهم: ما خلقت الجن والإنس إلَاّ لطلب أن يعبُدوني، لأنَّ " لام كي " تُستعمل للطلب كما تستعمل للغرض.
(1) ساقطة من (أ).
وكذلك تقدير الطلب والمحبة والرضا يُمكنُ مع كُلِّ ما تُقدِّرُ المعتزلة فيه الإرادة، أو تستدلُّ به عليها مثل " لعل " في قوله تعالى في حق فرعون:{لَعَلَّه يتذكَّر أو يَخْشى} [طه: 44] وغير ذلك.
فهذا من أنْفَسِ ما يعرفه السنيُّ مع أنه يُمْكِنُ أن يكون قد حصل لفرعون ما يُطلق عليه اسم التذكُّر أو الخشية، ألا ترى إلى قوله تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] فإنه جعل حدوث الذكر من غير تقوى مقصوداً مستقلاً.
وقيل: إنّ " لعلَّ " هنا للتقريب أيضاً، وإنه أحدُ معانيها اللغوية، ويجوز أن تكون الآية الشريفة - وهي قوله تعالى. {إلَاّ لِيَعْبُدونِ} محمولةً على الإرادة الحقيقية العُرفية على مذاهب أهل السنة على أحد وجوه.
الوجه الأول: أن يكون خلق الجميع ليعبده العابدون منهم، وليس في هذا إلا تخصيصُ الضمير الذي في " يعبدون " والموجب لتخصيصه أنواع:
منها: ما يأتي من آيات المشيئة نحو: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَستقيمَ} [التكوير: 28]، {وما تشاؤون إلَاّ أن يشاء الله} [الإنسان: 30].
ومنها: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عملاً} [الملك: 2].
ومنها: {وما أرسلنا من رسولٍ إلَاّ لِيُطاعَ بإذن الله} [النساء: 64].
ومنها: المفعول لامتناع إرادة وقوع ما عَلِمَ المريد أنه لا يقع، وسيأتي تقرير ذلك كله على التفصيل إن شاء الله تعالى.
ولا بد من تخصيص الضمير على مذهب المعتزلة خصوصاً في الأعيان والأزمان.
أما الأعيان: فلخروج الصِّبيان والمجانين.
وأما الأزمان: فلخروج أكثرها وهو ما بعد الموت.
وهذا الوجه أيضاً هو قول البغدادية منهم، وتلخيصه: أن الله تعالى خلق الكافر لما عَلِمَ في خلقه من حصول عبادة المؤمن، واللُّطفِ له، لأنهم لو عَلِمُوا أنه لا يخلق إلَاّ أهل الجنة، كان مفسدةً بينةً كما يأتي بيانه مُفصَّلاً في الدواعي.
فكأنه قال: ما خلقت الجميع إلَاّ لما في خلقِهم من حصول عبادتي من أهلها على أحسنِ الوجوه التي من أعظمها وأحبِّها إلى الله تعالى الجهاد، لأنه أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى. ولذلك خلق الأضداد: كالقلوب والنفوس، والعقول والشهوات، والملائكة والشياطين، والمسلمين والكافرين.
وأيضاً فإنه سبحانه في الجهاد يَمِيزُ الخبيث من الطيب كما صرح بذلك، ويُمَحِّصُ المؤمنين، ويتخذ منهم شهداء، وقد أنكر خلاف هذا على من طَمِعَ فيه، حيث قال سبحانه:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وأشار إليه في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] على ما يأتي تقريره في مسألة الدواعي من أن المقصود ظهور الأحسن لا الأقبح، وإن وقع الأقبح، فليس هو المقصود الأول المعبَّر عنه بالمراد لذاته ولنفسه، وإنما هو المراد لغيره، وذلك الغير هو الأحسن كما أشارت إليه الآية الكريمة، ويأتي في ذلك حديث كُرْزِ بن علقمة (1) في منتهى الإسلام، وأن
(1) أخرجه عبد الرزاق (20747)، والحميدي (574)، وأحمد 3/ 477، والبزار (3353) و (3354) و (3355)، والطبراني 19/ (442) و (443) و (444) و (445) و (446) من طرق عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن كرز بن علقمة الخزاعي قال: قال رجل: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال:" أيُّما أهل بيتٍ -وقال في موضع آخر: قال: نعم، أيما أهل بيت- من العرب أو العجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام " قال: ثم مه؟ قال: ثم تقع الفتن كأنها الظُّلَلُ " قال: كلا والله إن شاء الله، قال: " بلى والذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أساود صُبّاً يضرب بعضكم رقاب بعض ".
وقوله: " أساود صباً " قال ابن الأثير: والأسود أخبث الحيات وأعظمها وهو من الصفة =
مُنتهاه الفتن تقع كأنها الظُّلَل مع محبة الله تعالى لأولئك المفتونين، وإرادته لهم الخير.
الوجه الثاني: أن يكون المراد وجود نوعٍ من العبادة إذ لم يقُم أحدٌ من المسلمين، ولا من الصالحين بجميع حقوقها على ما يجبُ وينبغي على الدوام، وقد ثبت أن قول: لا إله إلَاّ الله أفضلُ العملِ كما في " الصحيح "(1).
= الغالبة حتى استعمل استعمال الأسماء. وجُمع جمعها.
والصُّب: جمع صبوب على أن أصله صُبُب، كرسول ورُسُل، ثم خفف كرُسْل، فأدغم وهو غريب من حيث الإدغام. قال النضر: إن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع، ثم انصب على الملدوغ.
وأخرجه أحمد 3/ 477، وابن الأثير في " أسد الغابة " 4/ 469 من طريقين عن الأوزاعي، حدثنا عبد الواحد بن قيس، حدثنا عروة، حدثنا كرز بن علقمة الخزاعي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، هل لهذا الأمر من منتهى؟ قال: نعم، فمن أراد الله به خيراً من عرب، أو عجم أدخله عليه، ثم تقع فتن كالظلل يضرب بعضكم رقاب بعض، فأفضل الناس يومئذٍ معتزل في شعب من الشعاب، يتقي ربه، ويدع الناس من شره.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 305 وفال: رواه أحمد والبزار والطبراني بأسانيد، وأحدها رجاله رجال الصحيح.
(1)
أخرج الترمذي (3383). والنسائي في " اليوم والليلة "(831)، وابن ماجه (3800)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 105، وفي " شعب الأيمان " 2/ 1/128، والبغوي (1269)، والخرائطي في " فضيلة الشكر " ص 35 من حديث جابر رفعه:" أفضل الذكر لا إله إلَاّ الله، وأفضل الدعاء الحمد لله "، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (846)، والحاكم 1/ 498 و503.
وأخرج مالك 1/ 422 عن طلحة بن عُبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له " وسنده صحيح، لكنه مرسل.
ويتأيد بما أخرجه الترمذي (3585) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره
…
وسنده حسن في الشواهد. =
وقد ثبت أن الجميع قالوها يوم أخرجهم الرب تعالى على صور الذَّرِّ من صلب آدمَ في النشأة الأولى، كما ذكره ابن عبد البر في تفسير قوله تعالى:{ولَهُ أسلَمَ مَنْ في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [آل عمران: 83] كما يأتي ذكره في مسألة الأطفال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ (1) وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].
وستأتي طرق ذلك في مسألة الأطفال، وجوابُ ما يَرِدُ عليه من الأسئلة، وهذا الوجه مأثورٌ كما يأتي، ويتقوَّى على مذهب ابن تيمية خصوصاً، ومن له من سلف وخلف كما هو مقرَّرٌ في موضعه.
الوجه الثالث: ما رُوي عن ابن عباس أن معنى الآية: ما خلقتُ الجن والإنسَ إلَاّ لِيَعْرِفُوني (2)، ويعضُده قوله سبحانه وتعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
= وفي الباب عن أبي هريرة في " الموطأ " 1/ 209، والبخاري (6403)، ومسلم (2691) رفعه بلفظ: من قال: لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه.
(1)
هي قراءة نافع وابن عمر وأبي عمرو، وقرأ الباقون:" ذريتهم " انظر " حجة القراءات " ص 301 - 302.
(2)
هذا التفسير نسبه البغوي في " معالم التنزيل " 4/ 235 إلى مجاهد، ونسبه ابن كثير في " تفسيره " 4/ 255 إلى ابن جريح، ولم يذكره أحد فيما وقفت عليه عن ابن عباس.
وقال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِين} [النحل: 39].
ولا شك أن هذا المقصود حاصلٌ للجميع ولو في الآخرة، وليس في هذا إلا تسمية المعرفة عبادة وهو قريب، ولو مجازاً، لأن العبادة مشتقةٌ من التعبيد الذي هو التذليل. ذكره في " الضياء "، يقال: عبَّدَه، أي: ذلَّلَه، وطريق معبَّد، أي: مذلَّل.
وقال الجوهري (1): التعبيد: التذليل، وأصل العبودية الخضوع والذل.
وقال البغوي (2): العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع.
ولا شك أن المعرفة لله تعالى سبب للذل له، ولذلك قال:{إنما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِه العُلماءُ} [فاطر: 28].
وفي حديث المعراج: " لمَّا انتهينا إلى السماء، رأيتُ جبريل عليه السلام كالحِلْسِ البالي، فعرفت فضلَ علمِه بالله على علمي " أو كما وَرَدَ (3).
(1) في " الصحاح " 2/ 503.
(2)
في " معالم التنزيل " 4/ 235.
(3)
أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 1/ 78 من حديث جابر بلفظ " مررت ليلة أسريَ بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله "، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
وفي الباب عن أنس عند المروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(883)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 2/ 368 - 369، وفي سنده الحارث بن عبيد الإيادى، وهو ضعيف، يكتب حديثه للمتابعة، وهذا منها.
وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة "(621) من طريق عروة بن مروان، حدثنا عُبيد الله بن عمرو، وموسى بن أيمن، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن جابر. وعروة بن مروان: روى عنه جمع، وقال الدارقطني: كان أمياً ليس بقوي الحديث، وأورده ابن أبي حاتم 6/ 398، فلم يذر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ومن فوقه ثقات.
ولأن السمع ورد بتعليل الأعمال بالإيمان، كما قال بعد آية الظِّهار:{ذلك لِتُؤمِنُوا بالله ورسوله} [المجادلة: 4]، وقال بعد ذكر الحجِّ أو بعض مناسكه نحو ذلك.
قالت المعتزلة: لا فرق بين الرضا والمحبة، والإرادة والمشيئة في حق الله تعالى، فيلزم من تجويز إرادته تعالى لوقوع المعاصي تجويزُ محبته لها، ورضاه بها، والنصوص تأباه وتمنعه، والعقل كذلك، وهذا أكثر ما حمل المعتزلة على تأويل آيات المشيئة.
والجواب: أن هذا غير لازمٍ على جميع المذاهب.
أما الأشعرية: فقد تقدم أنهم قد منعوا من تعلُّق إرادته تعالى بأفعال العباد خيرها وشرِّها، وقالوا: إنَّ محبته ورضاه لا تُعَلَّقُ إلَاّ بالطاعات، وإن معناهما هو الإرادة لا سوى، ومتعلقها فعله سبحانه الذي هو الثناء والثوابُ والأمر والوعد، وكراهته وغضبه وسخطه لا تعلق إلَاّ بالمعاصي، وهي ترجع إلى الإرادة أيضاً، ومتعلقها فعله سبحانه الذي هو الذم والعقاب والنهي والوعيد كما مر تقريره.
وقد يجيب من يجهل هذا التحقيق بأجوبة أخر، كما يأتي في كلام الجُويني (1)، والتعرض لذكرها يُطيلُ اللجاج، ويُوَسِّعُ دائرة الحجاج، وهذا أنفعُ الأجوبة وأقطعها، وأوجعها للخصوم وأنجعُها.
وقد مرَّت الحجة على امتناع تعلق الإراده بفعل الغير، وأن التي تُعَلَّقُ بذلك هي المحبة لا الإرادةُ.
والحجة على ذلك عقليةٌ جليةٌ، وليس في السمع ما يُعارضُها لأن مفعول المشيئة في الآيات محذوف، وتقديره. غير متعين، مثاله: قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] فيمكن
(1) انظر " الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد " ص 237 فما بعدها.
أن مفعولَ مشيئة الله تعالى هو ما فعل الله تعالى بالإجماع من أسباب مشيئتهم للاستقامة التي أقامها مقام مشيئة الاستقامة.
وتلك الأسباب هي المعبر عنها في العقليات بالدواعي الراجحة، وفي السمعيات تارةً بالقدر والقضاء والكتابة، ومرة بالتيسير وشرح الصدر والهداية، ومرة بالمشيئة والقصد والإرادة على تقدير حذف المضاف، وهو سبب مشيئة العباد.
فإن قيل: ولِمَ تعلَّقَتْ إرادة الله تعالى بأسباب المعاصي، وقد عَلِمَ أن المعاصي تقع عندها.
فالجواب: من وجهين:
أحدهما: أن هذا مشترك الإلزام (1)، لأن إرادة أسبابها كلمة إجماع من المسلمين، ولا يجب عند المحققين من جميع فرق المسلمين معرفة العباد لذلك على التفصيل، ويكفينا التصديق بأنه سبحانه حكيم عَدْلٌ، وكل ما يفعله أو يتركه على العموم، والإيمان في هذه المسألة خصوصاً بنحو قوله تعالى:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية: 23] أي: باستحقاقه للإضلال.
وقد اختار الزمخشري (2) هذا الجواب على غُلُوِّه في الاعتزال في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2].
الوجه الثاني: من الجواب أنه يصح ويحسن في العقل والسمع أن يكون للشيء جهتان يحب بالنظر إلى أحدهما، ويُكرَهُ بالنظر إلى الآخر (3)، كما ذكرناه في اليمين الغموس.
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في " الكشاف " 4/ 113.
(3)
في (أ): الأخرى.
وكما قاله العلماءُ في الصلاة في الدار المغصوبة، وهي من دقائق المسائل، وقد طَوَّلها الأصوليون وحقَّقُوها في كُتُبهم، فلا حاجة إلى التطويل بذكرها.
على أنا نجدُ الجزم بمحبة قتل كثير من كُبراء المشركين، وإن كان قاتلُه قَتَله سُمعةً ورياءً، وإن كُنَّا نكرهُ الرياء والسمعة.
ولا يختلف العلماء في صحة ذلك في المحبة والكراهةِ لعدم اتحاد متعلقهما، وإن اختلفوا في الصلاه في الدار المغصوبة، فإنما هو لاتحاد محلِّها ومحل المعصية عند من يقولُ بفسادها.
ألا ترى أن من يقول بذلك يُجيز محبة العاصي لخَصْلةِ خير مع حُسن كراهته عندهم، وعلى ذلك قال الله تعالى:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] وذلك لعارض، وإلا فإنه تعالى يحب الانبعاث مع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمر به، ولكن على غير الوجه الذى اقترن به بانبعاث المنافقين.
وكذلك ما حكاه الله عز وجل عن كليمه عليه السلام من قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} [يونس: 88] مع أنه عليه السلام كان شديد الحرص على إيمانهم حتى استحَقُّوا عظيم العقوبة، فكره وقوع الإيمان منهم لما يستحقونه من العقوبة، لا لكون الإيمان حَسَناً في نفسه، مطلوباً لله تعالى.
ومن ذلك قوله: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيم} [الشعراء: 57 - 58] مع أن هذا الخروج كان من أقبحِ الذنوب المسخوطة، لأنه كان لأجل محاربة موسى وأصحابه، وبنيَّة قتلهم واستئصالهم، لكنه لما كان الله تعالى قدَّره في سابق علمه لإغراق فرعون وقومه نَسَبَه إلى نفسه الكريمة من هذه الجهة كما ينْسِبُ الأفعال المحبوبة إليه سبحانه وتعالى مع أنه منسوبٌ
إلى فرعون وقومه من جهة نيتهم فيه واختيارهم له بذلك (1) السبب نسبة القبائح، كما قال تعالى:{فأتْبَعُوهُم مُشْرِقينَ} [الشعراء: 60].
ومنْ ذلك حديث الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهلِ النار، وكان قد أبلى في الجهاد بلاءً حسناً فيما يرون، فارتاب بعض المسلمين، فقتل الرجلُ نفسه جزعاً من جراحٍ اشتدَّ به، فاشتدَّ بعض الصحابة، فبُشِّرَ النبي صلى الله عليه وسلم، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:" أشهد أني رسول الله "(2) أو كما ورد.
وللحديث طرقٌ كثيرة وألفاظه مختلفة، وسيأتي في أحاديث القدر، فقد سُرَّ المسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله نفسه لما تضمنه من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كراهتهم لذلك لكونه معصيةً.
فإن قلت: وما تلك الوجوه التي يجوز في العقل أن (3) يريدها الله تعالى بوقوع المعاصي؟
قلت: هذه العبارة في السؤال قبيحةٌ وغيرُ صحيحة كما مر تقريره، وسيأتي
(1) في (ش): فتنهم واختيارهم بذلك.
(2)
أخرجه البخاري (4203)، ومسلم (111) والبيهقي 8/ 97، والبغوي (2526) من حديث أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنَيْناً فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام: " هذا من أهل النار " فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفاً:" إنه من أهل النار " فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إلى النار "، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبرْ على الجراح فقتل نفسه، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:" الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسولُه " ثم أمر بلالاً فنادى في الناس، " إنه لا يدخل الجنة إلَاّ نفسٌ مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ".
وأخرجه البخاري (4202)، ومسلم (112) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(3)
قوله: " ويجوز في العقل أن " ساقطة من (ش).
بيانُ كثيرٍ من حكم الله في التخلية وعدم العصمة في المرتبة الثالثة في الدواعي مع ما استأثر الله تعالى بعلمه من التأويل الذي لا يعلمه إلَاّ هو ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء.
فإذا تقرَّر ذلك فينبغي أن يعلم عذر من جوَّز هذه العبارة، وتأمَّل ما عوَّلوا عليه من الفرق بين المعاصي أنفسها، وبين وقوعها على بعض الوجوه.
فأمَّا المعاصي فإن الله تعالى يكرهها بالنصِّ القرآني، ولا تُعَلَّقُ بها محبته ولا رضاه بوجهٍ من الوجوه كما لا يتعلق بها أمره ولا ثوابه، وسيأتي ذلك مبيناً.
وأما وقوعها على بعض الوجوه فيجوز أن تُعَلَّقَ بها كراهة الله تعالى وإرادته معاً باعتبار الجهتين، كما مر تقريره في اليمين الواجبة شرعاً على المُنكرِ لما هو حق عليه في معلوم الله تعالى، ويمينه على جحده قبيحة كبيرة، ومع ذلك يحسُنُ إرادتها لغير الوجه الذي قبحت لأجله وهي من أوضح أمثلة ذلك كما تقدم، وكما يأتي.
أما كراهته لذلك، فلقُبحه، وذلك واضح.
وأما إرادته، فلوجهٍ حسنٍ مثل ما تقدم في اليمين، ومثل عقوبة من اشتد غضبُ الله عليه، كما تقدم عن موسى عليه السلام، ومن أوضح الأمثلةِ في ذلك (1) يعرفها المُحَدِّث، ومن لا يُمارس الكلام أمران:
أحدهما: الفرق بين الحكاية والمحكي مثل قول النصارى: {إنَّ الله ثالثُ ثَلاثةٍ} [المائدة: 73] ونحو ذلك، فإن المحكي كفر (2) صريح بخلاف الحكاية، ولو كانت كفراً مثل المحكي لكَفَرَ كلُّ حاكٍ لذلك وأمثاله.
وثانيهما: التلاوة والمَتْلُو، فإنَّ تلاوة الجُنب للقرآن قبيحة والقرآنُ غير قبيح، فمن هنا فرَّق البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين بين التلاوة والمتلوِّ في
(1) زاد في (ش) بعد " ذلك ": " التي ".
الخَلْقِ والحدوث، وصنَّف البخاري في ذلك كتاب " أفعال العباد ".
وذكر البيهقي أن المخالف لهم في ذلك محمول على أنه لم يفهم مرادهم، لأن صحة مقصدهم بعد فهمه ضرورية والله أعلم.
ومنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة العدل بالظاهر وإن خالفَ حكم الله الباطن لقوله صلى الله عليه وسلم:" فمن قضيتُ له بمال أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار " متفق على صحته.
وهو يدلُّ على التفرقة بين القضاء الذي يجب الرضا به، والمقضى به الذي لا يحل بالقضاء.
وأما كراهة انبعاث المنافقين، فيحتمل أنه لأجل المفسدة ويحتمل أنه لأجل العقوبة، وقد يريد الله تعالى وقوع الذنب ليغفره كما صرَّحت به النصوص النبوية الصحيحة الشهيرة، وستأتي مبسوطة، وقد يريد الله لما يستأثر بعلمه من وجوه الحكمة.
فإذا تقرَّر هذا جاز أن الله تعالى أراد وقوع أسباب المعاصي لا أنه (1) تعالى أراد وقوع المعاصي لوجوهٍ حسنة، وليس في هذه أنه لا يكره وقوعَ المعاصي لوجوه قبيحة، بل هي مكروهة من كل وجه.
وأما وقوعها، فمكروه وجوباً من وجهٍ لا بُدَّ من كراهته من أجله، ويجوز من غير وجوب إرادته لوجه حسن، أو وجوه حسنة، فحيث طَبَّقَ أهل السنة إرادته من أجل ذلك ظن خصومُهم أن الوقوع غير مكروه من غير وجه، وأنه محبوبٌ من كل وجه، بل ظنوا أنه يلزمهم محبةً الواقع نفسه، والله لا يحبُّ الفساد، ولا يريد لماً للعباد كما قال سبحانه وتعالى.
واعلم أن هذا التحقيق لا يقف على أن الوجود هو الموجود، لأن المحبة
(1) في (أ): " لأنه "، والمثبت من (ب) وهامش (أ).
والكراهة يجوز خلقهما (1) بالأوصاف الإضافية غير الحقيقية، فإن الجميع من المتكلمين لم يقل أحدٌ منهم: إن وجوه الحسن والقبح التي هي متعلقاتُ هذه الأشياء صفاتٌ حقيقيةٌ، ولذلك تُعَلَّق المحبة والإرادة بعدم المضار، وبالتروك، وبنية الصوم وبنحو ذلك مما في بعضه خلاف دون بعض.
وهذا الجواب إنما هو على أصول أهل السنة، وأمَّا غلاة الأشعرية، فإنهم يُجيبون بجوابهم المعروف في نفي الحكم عن أفعال الله تعالى مُطلقاً، ونفي التحسين فيها عقلاً.
واعلم أن المعتزلة تُشَنِّع على أهل السنة بمخالفة السمع من نحو قوله تعالى: {والله لا يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] ومن العجب أنه لا يقرر هذه الآية وأمثالها على الظاهر من غير تأويل إلَاّ أهل السنة، ولا بُدَّ للمعتزلة وغيرهم من المبتدعة من تأويلها على بعض الوجوه.
بيانه أنا قدمنا أن أهل السنة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه من محبة الطاعات وأهلها دون سائر الفرق لما مر تقريره في الصفات.
فقوله تعالى: إنه لا يحب الفساد، لا يلائم مذهب المعتزلة إن مفهومه أن صفة المحبة جائزةٌ على الله تعالى، وإنَّما لم يُعَلَّق بالفساد لقبحه، ومفهومه أنه تعالى يُحب الصلاح والصالحين كما صرح به القرآن، لكن المعتزلة لا تجيز صفة المحبة على الله تعالى، ويقولون: إنها صفة نقصٍ، وإنه يجب تأويلها بالإرادة.
وكذلك قوله تعالى: {ولا يَرْضَى لِعبادِه الكُفْرَ} [الزمر: 7] متى كان الرضا بمعنى المحبة.
وأما قوله: {كُلُّ ذلك كان سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مكروهاً} [الإسراء: 38] فإن المعتزلة وافقت أهل السنة على تقرير الكراهة على ظاهرها، وهذا يُلزمهم
(1) في (ش): تعلقهما.
الموافقة على تقرير المحبة من غير تأويل.
وهم ظنوا أن المحبة تستلزم الشهوة، وأن الكراهة لا تستلزم النفرة، وهذا كلُّه تحكم، فإنهم إن رجعوا إلى قياس الخالق على المخلوقين، لَزِمَهم منعُ الكراهة لأنها في المخلوقين تستلزم النفرة بل منع الإرادة قول البغدادي منهم، لأنها في المخلوقين (1) تستلزم الحاجة وتلازمها، إذ لا يريد الملخوق شيئاً إلا لحاجته إليه في العاجل أو الآجل، بل منع صفات الكمال كلها من كونه تعالى عالماً قادراً حياً سميعاً بصيراً، لأنه لا يكون كذلك في الشاهد إلَاّ من كان جسماً مركباً من البنية المخصوصة، لا سيما صفة الحي عند المعتزلة، فإن شرط صحتها عندهم في الشاهد البنية المخصوصة.
وإن تركنا هذا القياس الفاسد على الشاهد، والخيال الناشىء عن العوائد، ورجعنا إلى ما نطق به الكتاب، ودلت عليه الألباب من مزية ربِّ الأرباب عن مشابهة من خلقه من التراب، وأقذار نُطَفِ الأرحام والأصلاب، سلَّمنا (2) لعلام الغيوب جل وعز ما وصف به نفسه الكريمة، وذاته القديمة، وعلمنا أنَّ محبته وإرادته وكراهته وسائر صفاته المنصوصة في أشرف كتبه وعلى ألسنة رسله عليهم الكلام ليست مثل صفاتنا، مثل ما أن ذاته تقدست أسماؤه ليست مثل ذواتنا، وقد تقدم تقريرُ ذلك في الصفات فلا نُطوِّل بإعادة الأدلة عليه.
وأما ما نقله النواوي في الوريقات التي سمَّاها كتاب " القواعد " عن الجويني (3) فإنه مع كونه خلافاً لفظياً كما سيأتي مخالف لمذهب أهل السنة قاطبة، ولمذهب المحققين من الأشعرية، وذلك أنه قال ما لفظه: مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته، وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله وقدره وهو مريدٌ لها، ويكرَهُ المعاصي مع أنه مريدٌ لها لحكمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى.
(1) من قوله: " تستلزم " إلى هنا ساقط من (أ).
(2)
في الأصلين: وسلمنا.
(3)
في " الأرشاد " ص 237.
وهل يقال: يرضى المعاصي ويُحبها؟
فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمامُ الحرمين وغيره.
قال إمام الحرمين في " الإرشاد "(1) مما اختلف أهل الحق في إطلاقه المحبة والرضا، وقال بعض أئمتنا: لا يطلق القول بأنَّ الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: {ولا يَرْضى لعباده الكفر} [الزمر: 7].
قال: ومن حقَّق ما قال أئمتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل الله تعالى يريد الكفر ويُحبه ويرضاه، والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد، وقوله تعالى:{ولا يرضى لعباده الكفر} المراد العباد الموفقون للإيمان وأُضيفوا إلى الله تشريفاً لهم، كقوله تعالى:{عَيْناً يَشْربُ بها عبادُ الله} [الإنسان: 6] أي خواصهم لا كلهم. انتهى بحروفه.
وهو كلامٌ نازل جداً، بل باطلٌ قطعاً، وإنَّما وقع فيه الإمام الجويني مع جلالته في العلم لأمرين:
أحدهما: ما ذكره من أن معنى المحبة والإرادة والرضا عنده واحدٌ، وتعلقه إنما هو بأفعال الله تعالى كما مر تحقيقه، وأفعاله تعالى مرضية محبوبة مجازاً عنده، لأنه لا يُجيزهما على الله تعالى حقيقة.
وثانيهما: ما تقدم من تجويز تعلُّق محبة الله تعالى ورضاه بالوقوع دون الواقع، والوجود دون الموجود حقيقة عند أهل السنة ومجازاً عند الإمام الجويني كوجود الكافر، فإنه تعالى يحب وجوده وليس ذلك يستلزم أنه يحب وجود الذنب منه، ولا يستلزم ذلك محبة الذنب نفسه، ولا أنهما سواء.
وهذا بناء على تلازم الإرادة والمحبة، وهو بحثٌ نظري لم يرد به نص شرعي (2)، فينبغي من السني الأثري ترك هذه العبارات الكلامية، وعدمُ
(1) ص 238 - 239 و250.
(2)
في (ش): سمعي.
اعتقادها، وإنما هي من محارات الأشعرية للمعتزلة.
والغرض بذكرها وأمثالها هنا بيان الوجه في ترك تكفير الخائضين في ذلك، وقبول الرواية من ثقاتهم، وإنما قطعنا ببطلان كلام الجويني، لأن الكفر هو متعلِّق الكراهة والسخط والغضب، فلا يصح أن يكون هو متعلق الرضا والمحبة، لأن هذه الألفاظ إما أن تكون حقيقةً أو مجازية، إن كانت حقيقية كما هو مذهب أهل الحديث والأثر، استحال اتحادُ متعلقها ضرورة، وإن كانت مجازية (1) استحال اتحادُ لوازمها وعلائقها.
أما لوازمها فإن الذم والعقاب يلازم الكراهة والسخط والغضب، والثناء والثواب يلازم المحبة والرضا كما حققه الشهرستاني أولاً، بل كما يشهد به المنقول والمعقول، ويستحيل تخلُّف الملزوم عن لازمه فيؤدى إلى اجتماع الذم والثناء، والثواب والعقاب من كل وجه.
وأما علائقها فإن علماء اللسان أجمعوا أنه لا يصح المجاز إلَاّ بعلاقة ظاهرة، فلا يصح تسمية الجبان أسداً بغير علاقة، ولا تسمية الأبخر أسداً بالعلاقة الخفية، لأن كل شيئين مشتركين في أمرٍ، وفي الشيئية لا يجوز أن يُسَمَّى أحدهما باسم الآخر لمثل هذا إجماعاًً.
فتسمية الطاعة المرادة مرضية محبوبة إنما صحَّ مجازاً، لأنها اشبهت الأمورَ المرضية المحبوبة في الثناء والثواب، وهذا الشبهُ الذي صح معه التجوز هنا لم يحصُل في المعصية، وإن قدرنا أنها مرادة فلا تسمى مرضية محبوبة.
وأما اشتراكهُما في أن كل واحد منهما يُسمى إرادة فلا يكفي في استعارة اسم كل منهما للأخرى، كما لا يكفي اشتراكُ العلم والإرادة في أنهما عرضان، يوضح ذلك أن اشتراكهما في اسم الإرادة لو كان يُصحح التجوز بكل منهما عن الآخر، لوجب أن يصح تسمية الطاعة مكروهة مسخوطة مجازاً
(1) في (ش): وإن كان مجازياً.
وحقيقة، ذلك أنها مرادةٌ لا سوى، فكما أن هذا يمتنع لفقد قرينة التجوُّز وهي النهي، وفقد ملزوم هذه الألفاظ وهو الذم والعقاب، فكذلك العكس.
وأوضح من هذا أنه يصح عند الأشعرية تسمية المؤمن محبوباً مجازاً يرجع في الحقيقة عندهم إلى الإرادة، ولا يصح أن يسمى مسخوطاً مجازاً، وعكسه الكافر يسمى مسخوطاً مجازاً، ولا يسمى محبوباً مجازاً مع أن هذه الألفاط كلها راجعة إلى الإرادة، ولكن تختلف أسماؤها لاختلاف معانيها ومتعلقاتها.
ولو صح تسمية الكفر محبوباً لله مرضيّاً مجازاً، لصحَّ تسمية الكفار أولياء الله وأحباءه مجازاً، لأنه أراد وجودهم لحكمة كما أراد وجود أسباب معاصيهم لحكمة.
وقد صح بالنصوص النبوية الصحيحة الشهيرة أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، وأنه أشدُّ فرحاً بها من العبد إذا وجد راحلته عليها متاعهُ وسِقاؤه بعد أن أضلَّها في أرض فلاةٍ، وأيس من وجدانها، وألقى نفسه ليموت، فبينا هو كذلك إذا أقبلت راحلته عليها متاعه وسقاؤه، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك براحلته (1).
وبالإجماع يمتنع التجوز بمثل هذا في فرحه بمعصيته، وفرح الرب عز وجل هذا لا يدل على تقدم عجزٍ عن هداية العبد كما ظنته المعتزلة، ولا بد للمعتزلة من تأويله كما يتأولون الغضب والمحبة، وأهل السنة يثبتونه كما ورد من غير تشبيه، والعبد العاجز يفرح بحسنته، ولا يلزم من فرحه تقدم عجزه، فكيف يلزم ذلك من فرح القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
(1) أخرجه البخاري (6309)، ومسلم 27471) من حديث أنس بن مالك.
وأخرجه البخاري (6308)، ومسلم (2744)، والترمذي (2497) و (2498) من حديث ابن مسعود.
وأخرجه مسلم (2746) من حديث البراء بن عازب.
وكما أن هذا يُفْحِمُ من ذهب إليه من الأشعرية، فإنه أيضاً يفحم المبتدعة من المعتزلة، فإنهم ذهبوا إلى تلازم الإرادة والمحبة، وإرادة الله تعالى متعلقة بالكفار وجوداً دون محبته، مع أن محبته عند المعتزلة ترجع إلى الإرادة أيضاً، ولكن مُتعلَّقها لا يصح إتحاده عندهم كما هو الصحيح عند الأشعرية.
فإيَّاك أيها السُّني والاغترار بكلام الجويني هذا، فإنه خلاف الكتاب والسنة والفطرة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلَاّ من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين.
على أن الإمام الجويني من أقرب الأشعرية إلى المعتزلة حتى عَدُّوه من الغُلاة في أثر قدرة العبد، فإنه جوَّز تأثيرها في إيجادِ الذوات، وزاد في ذلك على المعتزلة كما يأتي بيانه.
وما أحسن قول معاذ في سياق أثر عنه طويل: واتقِ زيغة الحكيم، قال الراوي: فقلت له: يرحمك الله وما زيغةُ الحكيم (1)؟ قال: هي التي يقال ما هذه ما هذه. خرجه أبو داود في آواخر كتاب السنن (2).؟
فإن قلت: هلا جوزت تسمية القبيح المقدر محبوباً من الوجه الذي قُدِّرَ لأجله، فإنه قدر لمصلحة راجحة ولم يكن تقديره عبثاً ولا سُدى، ولا يمنع من ذلك كونه مكروهاً لوجه قبحه لاختلاف الجهتين كما ذكرته في الوقوع، فلم منعته في الواقع ولو مجازاً مع ظهور العلاقة، وهي تقدير الحكيم له.
(1) في (أ): وما حسن قول زيغة الحكيم.
(2)
(4611) في السنة: باب لزوم السنة. وإسناده صحيح. ولفظه:
…
فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال: قلت لمعاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه ..
قلت: لأن كلامنا إنما هو في تسميته محبوباً من فِعْلِ العبد وكسبه، وليس له من هذه الجهة وجهٌ يُرضى ويُحبُّ، لأنه قُدِّرَ مكروهاً.
وأما وجه حسن تقديره، فهو راجع إلى فعل الله، وفعله سبحانه محبوب مرضي حقيقة عند أهل السنة، ويستحيل تعلُّق الغضب به من حيث هو فعله.
وهذا هو الجواب على من قال: كيف قبحُ الذنب من المعاصي مع حسن تقديره من الله لحكمةٍ راجحة؟
ومن هذا الوجه يجب الرضا بالقضاء بالشرور، والقبائح مع كراهتها كما قاله الغزالي وغيره، وذلك مثل الرضا بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم دون المقضي به، حيث قال:" إن أحدكُم يكون ألحن بحجته فأقضي له، فمن قضيتُ له بمال أخيه، فإنما أقطع له قطعةً من النار "(1) أو كما ورد، وهو متفق على صحته.
والتمثيل به تقريبٌ لفهم البليد، وإلا فالبَوْنَ بين القضاءين بعيدٌ، فإن أراد ذلك الإمام الجويني فصحيح، ولا ينبغي أن يختلف فيه أهل الحق، لكن يختلفون في جواز إطلاقه لأنه يُوهم الخطأ، وهو كون المعاصي مرضية من جهة كسب العبد. فافهم ذلك.
فإن قلت: قد صدَّرت الجواب على المعتزلة بأن ما (2) ألزموه أهل السنة من كون المعاصي محبوبةً غير لازم على جميع أقوالهم، ثم حكيت عنهم الاختلاف في ذلك، ونسبته إلى إمامهم الجويني، وهذا تناقض!
قلت: لم يختلفوا في أنها محبوبة قطعاً، إنما اختلفوا في صحة إطلاق هذه العبارة مجازاً، وذلك يقتضي منع حقيقتها، فتأمل ذلك.
وقد أوضحت المنع من إطلاق ذلك مجازاً عند أهل السنة وجماهير أهل الكلام، ولله الحمد.
(1) تقدم تخريجه في 2/ 291.
(2)
ساقطة من (ش).
قالت المعتزلة: إرادة القبيح قبيحة على كل وجهٍ، والله تعالى عندكم مريد للقبيح.
قلت: الدعوتان ممنوعتان معاً.
أما الدعوى الأولى: وهو أن إرادة القبيح قبيحة على كل وجهٍ فممنوعة.
بيانه: أنها ليست بقبيحة لذاتها، ولا لذات القبيح عند المعتزلة، لأنها لو قبحت لذاتها (1)، قبحت كل إرادة، وقبحت إرادة الحسن، ولو قبحت لذات القبيح، كان القبيح قبيحاً لذاته، ولو كان قبيحاً لذاته، قبح الحسنُ أيضاً، لأن ذات القبيح والحسن واحدة، وهي الحركة والسكون، بل المرجعُ بهما عند المعتزلة والأشعرية إلى مُجَرَّد لبث الجسم في الجهة، كما هو مقرَّرٌ في الكلام، وقد مر في ذمِّ الكلام.
فثبت أن قبح إرادة القبيح عند الخصوم أمرٌ عارض يجوز خلوها عنه، ويبدلها بعارض آخر يحسن معه.
ونظيره إرادة الحسن، فإنها حسنة لتعلُّقها بوجه حُسنه، ومتى عَرَضَ لها عارض يقتضي القبح، قبحت.
ولذلك أمثلة كثيرة، منها متفق عليه، ومنها مختلفٌ فيه، ومن أحسنها إرادة اليمين الواجبة شرعاً، وكراهتُها تجب من الوجه الذي قبحت منه عقلاً وشرعاً.
ولا يقال: إن هذه الصورة غير ما نحن فيه، لأن اليمين في هذه الصورة قد ورد الأمرُ بها، والمحبة بخلاف المعاصي، لأنا نقول: إذا جاز تعلق الأمر والنهي والمحبة والكراهة بأمرٍ واحد لاختلاف وجوهه وعوارضه ولوازمه، جاز تعلق الإرادة والكراهة بذلك وبأمثاله أولى وأحرى.
وكذلك الأمرُ باللعان.
(1) في (ش): بذاتها.
وكذلك قول موسى عليه السلام للسحرة: {ألْقُوا ما أنْتُم مُلْْقُونَ} [يونس: 80].
وكذلك ما ثبت في " الصحيح " من استحباب سؤال القتل في سبيل الله، وأن من سأل ذلك صادقاً، أُعطي فضل الشهادة (1).
وكذلك ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة (2)، وعُبادة (3) وأبي هريرة (4)، وأبي موسى (5) عنه صلى الله عليه وسلم:" مَنْ كَرِهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه ".
وتفسير ذلك أن الكافر لا يموت حتى يعلم أنه من أهل النار، فيكره لقاء الله، فيكره الله لقاءه، والمؤمن لا يموت حتى يُبَشَّر بالجنة، فيحب الموت، فيحب الله لقاءه.
وفي ذلك أن الله تعالى قد يريد وقوع ما يكره لحكمة مثل لقاء الكافر، والنكتة العقلية في ذلك أن الله لما كان لا يريد الشر، فإن قدره، فلحكمةٍ هي خير، وهي المراد به كما قَدَّر القِصاص للحياة، واليمين الغموس لاستيفاء الحقوق.
فكان التحقيق أن المراد هو ذلك الخير، ولذلك لم يأتِ نصٌّ بأن شيئاً من
(1) أخرجه مسلم (1908) من حديث أنس. ولفظه: " من طلب الشهادة صادقاً أُعطيها وإن لم تُصِبْه ".
(2)
أخرجه مسلم (2684) و (2685)، والترمذي (1067)، والنسائي 4/ 10، وابن ماجه (4264)، وأحمد 6/ 44 و55 و207 و218 و236.
(3)
أخرجه البخاري (6507)، ومسلم (2683)، والترمذي (1066)، والنسائي 4/ 10، والدارمي 2/ 312، وأحمد 5/ 316 و321.
(4)
أخرجه مالك في " الموطأ " 1/ 240، والبخاري (7504)، ومسلم (2685)، والنسائي 4/ 10، وأحمد 2/ 420.
(5)
أخرجه البخاري (6508)، ومسلم (2685).
الشرور مرادٌ لله، لأن المراد به غيره، ولأنه يوهم أنها إرادة طلب ورضا، وأنه مرادٌ لذاته.
ومن أهل السنة من تجاسر على تسميته مُراداً، وإن كان قبيحاً، وإن كان مُراداً لغيره، والأولى تركُ ذلك لإيهامه، ولعدم النصِّ فيه.
ومن أمثلته المجمع عليها عند الخصوم، جواز كراهة المعاقب لعقاب نفسه المستحق، لكونه مَضَرَّة لنفسه، لا لكونه حسناً مع إرادة الله له وحسنها وحسنه.
ومن أمثلته عند أبي الحسين من المعتزلة: أن المكروه يجوز أن يسمى بذلك، لأن الله يكرهه من جهة نقصه لا من جهة حُسنه. ذكره في " المعتمد ".
ويعبر أهل علم المعقولات عن ذلك بإرادة الشر لأجل الخير كالحجامة، فالخيرُ هو المقصود الأول، وهو الذي يُراد لذاته، والشر هو المقصود الثاني، وهو الذي يُرادُ لغيره، كالحجامة ترادُ وسيلة للعافية، ولا يريد الحكيم الشر بمجرد كونه شراً قطعاً.
ومن أمثلة ذلك ما جرى من الخَضِرِ عليه السلام مما ينكره العقل والشرع في بادىء الرأي قبلَ كشفِ أسرار الأقدار.
وكذلك جميع المقدورات المقبَّحة في العقل والشرع، بل من ذلك إرادة موت الأنبياء عليهم السلام والصالحين، فإنها تحسنُ من الله تعالى عند المعتزلة، لأنها متعلقة بداعي حكمة، مع أنها تقبُحُ من الشياطين وأعداءِ الإسلام حيث يُريدون ذلك لأغراض قبيحة.
وكذلك تمكين الكُفار من حرب الأنبياء وقتلهم يحسُنُ عند المعتزلة من الله تعالي، ولا يحسن من غيره لاختلاف الوجوه، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم حيث قال في الخمر والميسر:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
وروى الزمخشري (1) في تفسيرها: أنها لم تدلُّ على التحريم، وأنها لما نزلت شَرِبَ الخمر ناسٌ، وتركها آخرون.
وروى الحاكم (2) عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّبٍ أن عمر رضي الله عنه قال: " اللهُمَّ بيِّن لنا في الخمر، فنزلت:{لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنْتُم سُكارى} [النساء: 43]، فقال: اللهُمَّ بيِّنْ لنا في الخمر، فنزلت:{فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس} فكأنها لم تواقق من عمر الذي أراد، فنزل {إنَّما الخمر والمَيْسِرُ} إلى {فهل أنتم مُنتهُون} [المائدة: 90] ققال عمر: انتهينا يا رب. قال الحاكم: صحيح.
قلت: وخرَّجه النسائي (3) من غير طريق الحاكم إلى أبي إسحاق، عن أبي ميسرةَ، عن عمر بنحوه.
ورواه أبو داود، والترمذي (4) عن عمر، وقال الترمذي: حديث صحيح.
وخرج أبو داود (5) عن ابن عباس أن آية المائدة نسخت {لا تقربُوا الصلاةَ وأنْتُم سُكارى} [النساء: 43]، {قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس} [البقرة: 219].
(1) في " الكشاف " 1/ 358.
(2)
في " المستدرك " 4/ 143.
(3)
8/ 286 - 287.
(4)
أبو داود (3670)، والترمذي (3049) من طريق أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب.
وأخرجه أحمد 1/ 53، والطبري (12512)، والبيهقي 8/ 285.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 1/ 605 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في " ناسخه " وأبي الشيخ، وابن مردويه، والضياء المقدسي في " المختارة ".
(5)
رقم (3672) وإسناده حسن.
ويوضحه أن الخمر لم تحرَّم إلَاّ مرة واحدة، وأن تحريمها كان بآية المائدة، فقد صحَّ معنى ذلك، وفيه أوضح دليلٍ على جواز تعلُّق الإرادة والكراهة بأمر واحد لاختلاف الوجوه والاعتبارات.
والتحقيق أنه لما كان قبح القبيح غير ذاتي، وإنما نشأ من تعلُّق إرادة فاعله بإيقاعه على وجهٍ مخصوص، كان الوجه في قبح إرادته هو تعلقها بذلك الوجه المخصوص، لأن قبحها تبعٌ لقبح القبيح، فكان منشأ قبحها من جهة واحدة، وتلك الجهة عند الأشعرية هي مخالفة الأمر، وعند المعتزلة وكثير من أهل السنة هي الوجه المخصوص الذي وقع الفعل عليه، وكان علةً في التحريم الشرعي، وليست الإرادة تؤثر في قُبح القبيح عند المعتزلة كما يأتي في مسألة الأفعال.
فثبت أن هذه العوارض التي قُبح الفعل وإرادته لأجلها منفصلة عن إرادة الله تعالى لو قدرنا ما ليس بصحيح من خلق إرادة الله بعين ما هو فعل العبد.
بيانه: أن فعل العبد يقعُ منه تارة أمتثالاً لله تعالى، وإرادة لطاعته عز وجل بداعي الرغبة أو الرهبة أو المحبة، فيوصف بأنه طاعة وعبادة، وتتعلق به حينئذ محبة الله ورضاه، وأمره ووعيده، وثناؤه وثوابه حقيقة، وإرادته ومشيئته مجازاً.
وتارة مخالفة للأمر ضعفاً وعجزاً، أو شهوةً أو نفرة، فيوصف بأنه معصية وسيئة.
وتارة مخالفة للأمر استهانة وجحداً، فيوصف بأنه كفر.
ولا يصح أن يريد الله تعالى وقوعه ممن لم يستحق العقوبة على وجه من هذه الوجوه على جهة الإضلال ابتداء لقوله: {وما يُضِلُّ به إلَاّ الفاسقين} [البقرة: 26].
وإنما يجوز عقلاً أن يريد وقوعه ابتداء قبل استحقاق العبد لعقوبته ابتلاء، ولا يُسمى إضلالاً لما لا يُحيط بعلم جميعه إلَاّ هو سبحانه و {لا علم لنا إلَاّ ما علمتنا} [البقرة: 32] كما قالت الملائكة، {ولا يُحيطونَ بشَيْءٍ من عِلمِه إلَاّ
بما شاء} [البقرة: 255] كما قال في أفضل آية في أشرف كتبه الكريمة.
وفائدة هذا التجويز العقلي هو الإيمان بما وردت به النصوص من ذلك إن وردت بشيءٍ منه، لأنا ندعي أنها قد وردت بذلك، إنما ورد ما يدلُّ عليه بلفظ آخر، فنؤمن بذلك اللفظ، ولا نبدله بلفظ منا، لأن لفظ الشرع إن كان جليّاً فيما فهمنا، فهو أبركُ وأقطع للنزاع، وإن كان خفياً، لم نأمَنِ الخطأ في تبديله، ولم يُعنَّف من خالفنا في تأويله.
والفرق بين هذا وبين قول المعتزلة أنهم يقطعون بنفي قدرة الله على اللطف بالعصاة، ونحن نقطع على قدرته على ذلك.
وإنما وقفنا في متعلق إرادته هل هو أفعاله سبحانه التي علم أن (1) أفعال العباد تقع عندها، كما هو قول الأشعرية المحققة، أو هو الواقع، والوقوع من الطاعات دون الواقع من غيرها؟
فهذا موضعٌ مُشكِلٌ دقيق، وحظُّنا فيه ومنتهانا الإيمان بالنصوص على ما أراد الله، وعدم تبديلها بعبارةٍ أُخرى، والراجح عقلاً أن إرادته تعالى لا تُعَلَّق (2) إلا بأفعاله، والله سبحانه أعلم، فينظر في السمع وما فهَّمناه سبحانه من ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم محبة (3) ظهور حلمه وعفوه ونعمه في الدنيا على جميع خلقه من أهل السعادة والشقاوة، وفي الآخرة خالصاً لأهل السعادة، وزيادة الحجة على الأشقياء في الدارين، وذلك بمجموع أدلة:
منها: ما روى مسلم في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو لم تُذْنِبُوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم ".
وفي رواية: " يُذنبُون كي يغفر لهم " وهو حديث صحيح مشهور.
(1) من قوله: " ومن أحسنها " ص 159 إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
في (ش): تتعلق.
(3)
في (ش): إرادة.
خرجه مسلم في كتاب التوبة، وأحمد بن حنبل في " المسند " من حديث جماعة من الصحابة.
ورواه الهيثمي في " مجمع الزوائد "(1) من حديث أنس، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي أيوب الأنصاري.
وهذه طرق مسلم: حدثني محمد بن رافع (2)، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري -هو (3) ابن برقان- عن يزيد بن الأصمِّ، عن أبي هُريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيغفرُ لهم "(4).
قال المزي في " الأطراف "(5): زاد أبو مسعود (6) وحده: أن عبد بن حميد تابع محمد بن رافع، عن عبد الرزاق.
ورواه أحمد (7) من حديث زهير بن محمد التميمي (8)، عن سعدٍ أبي مجاهد الطائي، عن أبي مُدِلَّة مولى عائشة، عن أبي هريرة مرفوعاً به.
(1) 10/ 215.
(2)
تحرفت في (أ) إلى: نافع.
(3)
في (أ): (عن)، والتصويب من (ش).
(4)
رقم (2749)، وأخرجه البغوي في " شرح السنة "(1294) و (1295).
(5)
10/ 419.
(6)
في (ش): " سعيد "، وهو خطأ.
(7)
في " المسند " 2/ 304 - 305 و306. وأخرجه الطيالسي (2583)، وابن حبان (7387) من طريق زهير، به.
وأخرجه الترمذي (2526) من طريق حمزة الزيات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن المبارك في " الزهد "(1075) من طريق حمزة إلَاّ أنه قال: عن رجل عن أبي هريرة.
(8)
كذا الأصلان، وهو خطأ، صوابه زهير بن معاوية بن حُديج أبو خيثمة الجعفي.
وخَرجه الحاكم في التوبة من " المستدرك "(1) من طريقٍ أُخرى عن الربيع ابن سليمان، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن درَّاجٍ، عن ابن حُجيرة (2)، عن أبي هريرة، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فهذه ثلاث طرق عن أبي هريرة وحده.
قال مسلم (3): حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدثنا ليثٌ، عن محمد بن قيس قاصِّ عمر بن عبد العزيز، عن أبي صِرْمة، عن أبي أيوب، أنه قال حين حضرته الوفاة، قال: كنت كتمتُ عنكم شيئاً سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لولا أنَّكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فَيغْفِرُ لهم ".
حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، هو عبد الله، حدثني عياضٌ، وهو ابن عبد الله الفهري، قال: حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، عن محمد بن كعب القُرظي، عن أبي صِرْمة، عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" لو أنكم لم يكن لكم ذنوبٌ يغفرها الله لجاء الله بقوم لهم ذنوبٌ يغفرها لهم ".
وخرجه الترمذي (4) في الدعوات عن قتيبة بإسناده المتقدم وقال: حسن غريب.
قال المِزِّي (5): رواه عبد الرحمن بن أبي الرِّجال، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، كلاهما عن عمر مولى غُفرة، عن محمد بن كعبٍ، عن أبي أيوب (6).
(1) 4/ 246.
(2)
في (أ): " أبي حجير "، وفي (ش) و" المستدرك ": ابن حجير "، وكلاهما خطأ، وهو عبد الرحمن بن حجيرة.
(3)
رقم (2748).
(4)
رقم (3539).
(5)
في " تحفة الأشراف " 3/ 102 و108.
(6)
أخرجه من طريق عبد الرحمن بن أبي الرجال: الترمذي (3539).
ورواه عبد الله بن صالح، عن الليث، عن محمد بن قيس، عن محمد بن كعب، عن أبي صرمة، عن أبي أيوب.
قال المزي: وهو أشبهُ بالصواب ممن أسقط منه محمد بن كعب.
قلت: ولهذا قال الترمذي: إنه حديثٌ حسن غريب، يعني: بإسقاط محمد بن كعب، وإلا فهو حديثٌ صحيح شهير.
وحديث أبي أيوب متفقٌ على صحة قواعده بالإسناد الأول، لم يختلف في توثيق رجاله ليس فيهم إلَاّ عِياضٌ، وقد وُثِّق، وهو حسن الحديث، وإبراهيم بن عبيدة: وثَّقه أبو زرعة ولم يُعارض بتضعيفٍ، وهارون بن سعيد: فقيه ثقة لم يختلف فيه، فثبت الحديث في الكتب الستة أربع طرق طريقان على شرط الصحاح المتفق عليها، وطريقان على شرط الحسان مع ما له من الشواهد في سائر المسانيد عن الصحابة الذين ذكرناهم أولاً (1).
فقد رُوي من غير وجهٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
منها: عن أنس، رواه أحمد (2) وأبو يعلى، وقال الهيثمي (3): رجالُه ثقات.
ومنها: عن ابن عباس (4) رواه أحمد، والطبراني في المعجمين " الكبير " و " الأوسط "، ورواه البزار وفي إسناده يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري وهو ضعيف وقد وثق، وبقيتهم ثقات.
ومنها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص (5)، رواه الطبراني في معجمه " الكبير " و" الأوسط "، والبزار، ورجالُه ثقاتٌ، وفي بعضهم خلافٌ.
(1) تحرف في الأصل إلى: وإلَاّ.
(2)
3/ 238.
(3)
في " المجمع " 10/ 215.
(4)
أخرجه أحمد 1/ 289، والطبراني في " الكبير "(12794)، والبزار (3250).
(5)
أخرجه البزار (3247) و (3248)، وأبو نعيم في " الحلية " 7/ 204، والحاكم 4/ 246.
ورواه الحاكم في التوبة شاهداً لحديث أبي هريرة المتقدم من طريق أبي بلجٍ يحيى بن سليم، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عمر.
ومنها: عن أبي سعيد رواه البزار (1)، وفيه يحيى بن كثير (2) صاحب البصري ضعيف.
وفي هذه الأحاديث الشريفة تنبيهٌ على حكمة واحدة من حِكَمِ الله تعالى في تقدير المعاصي، وهو ظهورُ كثير من آثار أسمائه الحسنى من فضله وعفوه ولطفه وحلمه، ونحو ذلك بسبب تخليته سبحانه بين العبد والذنب.
فأيُّ قُبح في محبة الرب جل جلاله لظهور آثار أشرف محامده، وهي الإحسان بعد الإساءة، والحلم بعد العلم بالعظائم، بل بعد طلب أهلها لتعجيل العذاب تكذيباً لمن توعدهم به، كما حكى الله سبحانه عنهم في قوله تعالى:{ويَستعْجِلونَك بالعذاب} [الحج: 47]، [العنكبوت: 53].
ولهذا قيل في محامد الرب سبحانه: الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى إحسانه بعد إساءتنا.
ولذلك عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل البر، بل جعل الإحسان قبل الإساءة كلا إحسان بالنظر إليه بعدها.
ففي " صحيح البخاري " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " ليس الواصِلُ بالمكافيء، الواصل من إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَها ".
وخرجه أبو داود والترمذي، ولفظ أبي داود " انقطعت رحمُه "(3).
(1) رقم (3251).
(2)
في (أ): " سعد "، وفي (ش):" سعيد "، وكلاهما خطأ، والمثبت من " كشف الأستار " و" مجمع الزوائد ".
(3)
البخاري (5991)، وأبو داود (1697)، والترمذي (1908).
وفي الباب عن أبي هُريرة خرَّجه مسلم (1)، وطرق ذلك في الكتب الستة معروفةٌ وشواهدها كثيرة شهيرة.
وعن علي رضوان الله عليه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أدُلُّك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة: أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وأن تعفو عمَّن ظلمك ". رواه الطبراني " في " المعجم الأوسط " من طريق الحارث بن عبد الله الهمداني (2).
وعن عقبة بن عامر: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال:" صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرِضْ عمن ظلمك ".
وفي رواية: " واعفُ عمَّن ظلمك " رواه أحمد والطبراني، ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات (3).
وعن كعب بن غُجرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " ألا أدُلُّكُم على خير أخلاق الدنيا والآخرة: من وصل من قطعه، وعفا عمن ظلمه، وأعطى من حرمه " رواه الطبراني مسنداً ومرسلاً. وفي المسند: محمد بن جابر السُّحيمي مقارب الحديث (4).
(1) رقم (2558) ولفظه: أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمتَ على ذلك ".
(2)
ذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 188 - 189، وقال: وفيه الحارث، وهو ضعيف.
(3)
أخرجه أحمد 4/ 148 و158، والطبراني 17/ (739) و (740). ذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 188.
(4)
أخرجه الطبراني في " الكبير " 19/ (343) من طريق محمد بن جابر، عن أبي إسحاق، عن أبي الحسين، عن كعب بن عجرة. وقال عقبه: وروى أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ولم يذكر كعب بن عجرة. =
وعن مُعاذ بن أنس عنه صلى الله عليه وسلم: " أفضل الفضائل أن تَصِلَ من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتصفح عمَّن شتَمك " رواه الطبراني، وإسناده حسن (1).
وعن عبادة بن الصامت مرفوعاً نحو ذلك (2).
وعن أُبي بن كعب مرفوعاً نحو ذلك (3).
ويشهدُ لمعناه من كتاب الله مثل قوله: {ويَدْرَؤونَ بالحسنةِ السيئةَ} [الرعد: 22]. {وما يُلقَّاها إلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
وفي " جامع الأصول "(4)، و" البخاري " في تفسير قوله تعالى في حم السجدة:{ادفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ} [فصلت: 34] عن ابن عباس قال: الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فَعَلُوه عصمهم الله، وخضع لهم عدوهم. ذكره البخاري بغير إسناد (5)، ولم يُسنده ابن حجر، لكنه بصيغة
= وذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 189 فقال: رواه الطبراني وفيه محمد بن جابر السحيمي، وهو متروك. ورواه مرسلاً وفيه من لم أعرفه.
(1)
أخرجه أحمد 3/ 438، والطبراني 20/ (413) و (414) من طريق زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه مرفوعاً. وزبان بن فائد: ضعيف، كما ذكر الهيثمي في " المجمع " 8/ 189.
(2)
أخرجه البزار (1947) وقال الهيثمي في " المجمع ": وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب.
وذكره الهيثمي من طريق أخرى، وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو أمية بن يعلى، وهو ضعيف.
(3)
أخرجه الطبراني في " الكبير "(534)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط "، وفيه أبو أمية بن يعلى، وهو ضعيف.
(4)
2/ 345.
(5)
علقه البخاري 8/ 556 في تفسير سورة حم السجدة (فصلت)، عن ابن عباس، ووصله الطبري في " تفسيره " 24/ 119، والبيهقي في " السنن " 7/ 45، وابن حجر في "تغليق =
الجزم. ويشهدُ له: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
فإذا تقرَّر هذا، فإن الرب سبحانه وتعالى يحب من كل خير، وفضل، وبِرٍّ، ومعروف، وإحسان، وعفو، وتكرُّم أعظمه، وأكمله، وأتمه، وأفضله، وأحسنه، وأجمله، قال الله تعالى في نحو ذلك بعد ذكر من لا يُهدى أبداً:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58] فسمى الله تأخير العذاب مغفرة ورحمة، وقال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [الجاثية: 14]، وقال تعالى:{فاعفُوا واصفحوا} [البقرة: 109].
وفي هذه الآيات والآثار دلالةٌ على أن المغفرة في الدنيا بعد الذنوب مما أراده الله سبحانه، وتمدَّح به، وأمر به المؤمنين، وندبهم إليه، ثم إذا لم يلتطِفْ عبد السوء بالرحمة والعطف، ولم ينتفع بالرفق واللطف، أذاقه الله تعالى من العذاب الأدنى تارة على جهة التكفير، كما جاء فيم حدود المسلمين وآلامهم، وتارة على جهة التذكير، كما قال تعالى:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] ثم بعد ذلك يعاودُ الإمهال، وإقامة الحجة بكثرة النعم، ثم بعد ذلك ينتقم منهم للمؤمنين، ويجعلهم موعظة للمتقين كما وردت به النصوص إلى غير ذلك من الحكم والغايات الحميدة، قال الله تعالى:{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 43 - 45].
= التعليق" 4/ 303 من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. قلت: علي بن أبي طلحة روايته عن ابن عباس مرسلة، فإنه لم يره.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 327 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
فأشار بقوله: {والحمدُ للهِ ربِّ العالمين} إلى استحقاقه الحمد على ذلك، لما يصحبهُ من الحجة الدامغة، والحكمة البالغة في نصر المؤمنين، والانتصاف للمظلومين، وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الزمر: 75].
بيان ذلك أنه لما كان موجب كمال صفات الله تعالى وملكه الحق يقتضي أن يكون ملكاً عزيزاً مخوفاً مَهيباً يُخاف ويُهاب، ويُخشى ويُتَّقى مثلما يُسترحمُ ويُستعطف، ويُسأل ويُرتجى كما سيأتي في آخر مسألة الأفعال في ذكر اسمه الضار النافع، وبيان أن ضره عدلٌ ونفعٌ وحكمة، كان من موجب كماله في الملك والربوبية، وموجب صفاته التي يستحيل تعطيله عنها، ويستحيل تخلُّف آثارها عنها، وسلبُ أحكامها منه، أن عبد السوء متى أصرَّ على عصيانه، وتعدى حدوده وتجبَّر على أوليائه، ولم يشكر النعمة في إمهاله، وإقاله عثرته، ولا قبل ما عَرضَه له من غُفرانه، وعلم الله سبحانه إصراره على مثل ذلك لو عاد له بالإمهال، جاز أن يُبَدِّلَ تلك الرحمة بالسخط والرفق بالعُنف، والنعمة بالعقوبة، والتيسير لليسرى بالتيسير للعسرى لما يأتي من وجوه الحكمة في تقدير الشرور والعقوبات، وله في ذلك الحكمة البالغة، والحجة النيرة.
قال الله سبحانه: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 211].
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10].
وقال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَة} [آل عمران: 176].
وقال سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
وقال عز وجل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49].
وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56].
وقال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوه} [التوبة: 77] الآية.
وحكى الله تعالى عن كليمه عليه السلام قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} [يونس: 88].
وحكى عن خير ابني آدم أنه قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَك} إلى قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} [المائدة: 28 - 29].
وتقدم في آيات المشيئة من هذا طرف وهو قرآنيٌّ معلوم، وتأويله ممنوعٌ، لمثل ما تقدم من المنع من تأويل آيات المشيئة، حتى جاء في كتاب الله تعالى استنكارُ خلافه في قوله تعالى:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [آل عمران: 68 - 89].
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
فقوله: {على عِلمٍ} إشارة إلى ما علم الله من استحقاقه الإضلال عقوبة
والله أعلم.
ثم أن العقوباتِ لا تخلو من الحكم والغايات المرجِّحة الحميدة، المرجحة لها على العفو كالانتقام لأولياء الله تعالى مرةً، والموعظة لهم أخرى، قال الله تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [التوبة: 14 - 15]، وآخرها مثل قوله:{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 26 - 27].
وهذا تخصيصٌ لعموم مفهوم {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِم} كما خصه الله في آخرها بقوله: {إلَاّ الَّذين تابُوا} ، وفي قوله:{والله عليمٌ حكيم} تعليل التخصيص بالحكمة والعلم لا بمجرد الاتفاق كما ذلك يعلل به في آخر آية المُرْجَين لأمر الله في سورة التوبة [106].
وقال: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 66] وهذا يعمُّ عقوباتهم كلها سواء كانت بالحرب في الدنيا، أو بالأمراض، أو بعذاب الآخرة، أو بالإضلال المُؤدي إلى ذلك، وهو مشهورٌ في كلام علماء الإسلام حتى في كلام أئمه الزيدية، ففي كلام المنصور بالله عليه السلام مع شدته في الرد على الجبرية ما لفظه في تأويل قوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، والعقوبة يجوز إنزالها بالمستحقين ويجوز تقديم شيءٍ منها في الدنيا كما فعل بالمستهزئين (1).
وكذلك قوله (2) تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] قال: فالمراد بذلك تنزيهُها (3)
(1) في (أ): بالمنتقمين.
(2)
في (ش): وكذلك قال في قوله.
(3)
في (أ): بتنزيهها.
من خوف العذاب وغمِّ الآلام لمجاهدتهم له بالمعاصي، وذلك جائزٌ واللَاّئمة عليهم دونه تعالى. ذكر ذلك في " الأجوبة الشافية عن الأسئلة (1) الشافية " في " المجموع المنصوري ".
وقال فيه في " رسالة الإيضاح لمعجمة الإفصاح ": الكلام على ذلك أن الله تعالى إذا أراد خذلان عبده وكَلَه إلى نفسه، وسلبه توفيقه عقوبة له على فعله.
وقال في الجزء الثالث في جواب كتاب من القاضي علي بن نشوان (2) وقد ذكر سبهم له: وهذا خذلانٌ نعوذُ بالله منه، لأن الله تعالى إذا أراد خذلان عبده وكله إلى نفسه، وسلبه توفيقه
…
إلى قوله: ولكن هذه سنة الله في مُعَارِضِ الحق عمداً أن يسلُبَه الله التوفيق والصواب فيما هو فيه. انتهى بحروفه.
وتقدم عن قدماء أهل البيت عليهم السلام النصُّ على مثل قول أهل السنة في المشيئة والقدر، والتصريح به كما ذكره في " الجامع الكافي "، وفي الرسالة المنسوبة إلى الحسن البصري تصريح بمثل كلام المنصور بالله عليه السلام، واحتجاج بقوله:{وما يُضِلُّ به إلَاّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها.
فتلخص أن كراهة الله تعالى تُعَلَّقُ (3) بالوجوه التي قَبُحت القبائح لأجل قُبحها (4) مجرداً عن النظر إلى تلك الوجوه، وإرادته تُعَلَّق بما هو فعله سبحانه، وليس من أفعال العباد، ولكنه يلابس أفعال العباد ملابسة لا تُمَيَّزُ لكثير من
(1) في (ش): المسائل.
(2)
هو علي بن نشوان بن سعيد الحميري، شاعر مؤرخ يماني تولى أعمالاً كبيرة، وجمع " سيرة الإمام المنصور بالله " وله شعر في أجزاء، وصنف لكثير من مشاهد المنصور وحروبه، ومنه ما حض به قبائل همدان على الجهاد مع المنصور، توفي بجهة خولان. " الأعلام " 5/ 29.
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): التي قبحت لأجلها القبائح لا لأجل قبحها.
الناس، إما ذواتها على قول أو أسبابها ومقاديرها على قول (1).
وإن كان متعلق الإرادة والكراهة لفظاً إضافيّاًَ عدمياً، فإنه يَصِحُّ إرادة ذلك، كما يصحُّ إرادة التروك ونية الصوم، وإرادة عدم المضارِّ.
ويُشبه هذا تعلق كراهته تعالى وعداوته بالكفار مع تعلق (2) إرادته ومشيئته بهم، لكن المتعلق مختلف، فإن متعلق كراهته صفات أفعالهم التي قبحت لأجلها، ومتعلق بُغضه، وغضبه وسخطه وعداوته عند المتكلمين ذمهم وعقابهم، ومتعلق إرادته ومشيئته وجودهم وبقاؤهم، وقد توصف الذوات بالحسن والقُبح عُرفاً، وتتعلق بها الإرادة والكراهة في ظاهر اللفظ توسُّعاً شائعاً (3) حتى صار حقيقة عرفية مفهومة من غير قرينة ولا مشاحة في العبارات مع إرشاد القرائن إلى المقصود، فكيف مع نصوص أهل السنة على مقاصدهم؟ فوضح منع الدعوى الأولى، وهي (4) قبحُ (5) إرادة القبيح على جميع الوجوه مُطلقاً من غير تقييد.
وأما الدعوى الثانية: وهي أن أهل السنة يعتقدون أنه تعالى مريدٌ لقبائح أفعال العباد لأجل قبحها ووقوعها على الوجوه التي قَبُحت لأجلها، فدعوى باطلةٌ ممنوعة أيضاً، لأنا قد بَيَّنَّا أنهم ما عَنَوْا أنه يحبها ولا يرضاها ولا يريدها منهم إرادة الطلب التي تلازم الأمر، ويعدى بحرف " من " كما مضى مقرراً في تفسير كلام جعفر الصادق عليه السلام الذي رواه عنه الشهرستاني، وكلام أحمد بن عيسى بن زيد الذي رواه صاحب " الجامع الكافي ". وبيَّنَّا هناك أن الإرادة تختلف معانيها بحسب تعديها بنفسها (6) إلى مفعولها الأول، وتعديها بحرف جرٍ إلى مفعولها الثاني، وأن ذلك الحرف إن كان " من " دلَّ على ملازمة الإرادة للطلب والأمر كقوله تعالى:{ما أُريدُ منهم من رزقٍ} [الذاريات:
(1)" على قول " ليس في (أ).
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
من قوله: " وتتعلق " إلى هنا ساقط من (ش).
(4)
في (أ): هو.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ش): بلفظها.
57]. وعلى هذا لا يجوزُ أن يقال: إن الله تعالى أراد المعاصي من العباد، لأنه يستلزِمُ أنه طلبها منهم، وعليه يُحملُ قوله تعالى:{ما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنس إلا لِيَعْبُدون} [الذاريات: 56] أي: لطلب ذلك منهم، وأمرهم به، ومحبة شرع ذلك لهم ديناً يتقربون به، وقد يُسمى هذا الطلب والمحبة إرادة كما مضى.
وإن كان الحرف (1) هو الباء الموحدة أو اللام كانت الإرادة ملازمة للعلم، وكان المفعول الثاني (2) كالعلة في الأول غالباً، ودلَّ تخلُّفه على عدم قُدرةِ من أراده.
وعلى هذا قال أهل السنة: إن الله تعالى ما أراد بالكفار الطاعة والجنة، ولا أراد ذلك لهم، لأنه لو أراد ذلك بهم ولهم، كان كما أراد، ولو لم يكن كما أراد استلزم عقلاً وسمعاً ما لا يجوزُ على الله تعالى من العجز، لأن معنى أرادها بهم ولهم: أراد أن يَهديَهم لها، ولذلك قالت المعتزلة: إنه لا يَقْدِرُ على هدايتهم عز وجل عن ذكر ذلك، وجمع ذلك، فإن الله تعالى يكره المعاصي ولا يحبها، ولا تناقض بين ذلك لاختلاف الجهات التي تعلقت بها إرادته وكراهته.
وسيأتي جواز تعلق المحبة والكراهة بالشيء الواحد باعتبار جهتين، وقد مرَّ أيضاً وما أحسب فيه خلافاً.
وهذا التفصيل والتلخيص قلَّ من يعرفه، بل ما تلخصَ لي إلَاّ بلُطفِ الله بعد تكرار النظر مدة طويلة، فالحمد لله.
وقد يخالفهُ عبارة بعض أهل السنة، فيقولون: إن الله تعالى أراد المعاصي من العباد، ولا يعنُون إرادة الطلب قطعاً، بل يعنون: أرادها لهم وبهم لما يأتي من وجوه الحكمة، لا لأجل قبحها، فإنه يجب القطعُ بأنه لا يريدها من حيث قبحت كما قال:{وما الله يُريدُ ظُلْماً للعبادِ} [غافر: 31]، وفي آيةٍ
(1) في (ش): الجواب.
(2)
في (ش): الثاني المفعول.
{للعالمين} كما سيأتي بيانه في رد أدلة المعتزلة، وبيان مقاصد أهل السنة.
وإنما أخطؤوا في العبارة وحَسِبُوها تدل على عدم الطلب كما صرح الشهرستاني بذلك كما مضى تقريره في كلام جعفر الصادق، والأولى تجنبُ هذه العبارة، لأنها توهم أنه يأمُرُ بالمعاصي ويُحبها من حيث هي معاصٍ، وليس كذلك قطعاً كما يأتي.
بل الذي أُحبُّه وأرتضيه للسني أن لا يتجاوز ألفاظ القرآن والسنة، فإنها لم تَرِدْ إلَاّ بما يقتضي به كمال قدرة الله تعالى من التمدح بنفوذ المشيئة في كل شيء، وهذا وصف عظيم يختص به الرب، ويعجز عنه كل قادر سواه بخلاف مجرد إرادة القبيح، فإنه قد يَقَعُ من الضعيف والعاجز، ومتى تعلقت إرادة القبيح بالوجه الذي قبح لأجله تنزه الرب تعالى عنها بالمرَّة كما يتنزه عن كل عيب وذمٍّ كما قال تعالى:{وَمَا الله يُريدُ ظُلماً للعِبادِ} [غافر: 31]، وإن كان سياقها يقتضي أن المراد: وما الله يريد أن يظلِمَ العباد كما سيأتي، فإن العلة قبح إرادة القبيح بغير شك، واختصت بشرار خلقه، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.
وما أحسن عبارة موسى كليم الله عليه السلام حيث قال: اللهم إنك رب عظيم لو شِئْتَ أن تطاعَ، لأُطِعْتَ، ولو شئتَ أن لا تُعصى، ما عُصيت، وأنت تُحبُّ أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى فكيف هذا يا رب؟ وسيأتي إسناده (1).
وفيه إشارةٌ إلى ما استنكرته المعتزلة من تعلُّق محبته بالطاعات، وعدم إرادته لوقوعها باعتبار الجهتين (2)، ولولا ذلك ما قال موسى عليه السلام: فكيف هذا يا رب؟
فكذلك فلتكن عبارة السُّنِّي، فإن احتاج إلى ذكر إراده الله تعالى للمعاصي في تعليمٍ أو جدال بالتي هي أحسنُ توسُّعاً في العبارة وتمسُّكاً بالإباحة حيث
(1) سيأتي ص 186.
(2)
في (ش): الوجهين.