الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يرِدْ نصٌّ بتحريم ذلك، لم يوردها موهمةً لقبيح، وبَيَّن أن الله تعالى يكره المعاصي، ولا يريدها إرادة الأمير والطلب والمحبة، وإنما يُريدُ تقديرها لحكمةٍ بالغة استأثر بها، فهو يريدُها من ذلك الوجه الحسن فقط، ويكرهها من الوجه الآخر الذي قَبُحت منه، كما يُريدُ اليمين الواجبة شرعاً وإن كان الحالف فاجراً فيها مع قُبحها، بل مع كونها من أكبر الكبائر، لكن إرادتها من الوجه الذي وَجَبَتْ وشُرعت له، لا من الوجه الذي قَبُحت له، وكذلك كل قبيح مقدر كما مر تقريره.
والسر في ذلك أن المرادات كلها قسمان: خيرٌ وشر، فالخير مُرادٌ لنفسه، والشر مُرادٌ لغيره، والخير المراد لنفسه هو الأصل في المرادات كلها، ولذلك لم يصح أن يكون الشر مراداً حتى ترجع إرادته إلى إرادة الخير، فكان الشر غير مرادٍ كألم الحجامة يُراُد من أجل العافية.
ولذلك كان الخير والطاعات هي الغالبة، وكانت الشرورُ والمعاصي هي النادرة، وذلك أنا ننظر إلى جميع المخلوقات من الملائكة، والروح، وجميع أجناس الحيوانات والناميات، ويخلق ما لا تعلمون، ولا عبرة بكثرة العصاة في الجن والإنس لأنهم أقل المخلوقات كما بينتُه في " الإجادة " وغيرها.
وإذا تقرَّر ذلك لم يحسن أن تُطلق العبارة بأن الله سبحانه أرادَ المعاصي، لأنه يوهم أنه تعالى أرادها لكونها معاصي إرادة محبةٍ ورضا وأمر، وإنما يقول: لو شاء لم تكن المعاصي لما له في تقديرها من الحكمة، وما أحسن البيت:
فالخيرُ بالذات مَقْصُودٌ وشرهُمُ
…
قضى ولكن لا مِنْ غيرهم شَرٌّ (1)
بل قد مرَّ
تصريح أئمة الأشعرية بأن إرادة الله تعالى لأفعال العباد حيث يطلق مجازٌ
، وأن ظاهرها خطأ، وتأويلها إرادة أفعاله تعالى التي تعلق بأفعال
(1) ورد البيت في (أ) و (ف):
فالذات مقصود وشرهم قضى
…
ولكن لأمرٍ غير شرهم ..
العباد من الثواب والعقاب والأمر والنهي ونحو ذلك.
ولا يقال: إنه لا معنى لهذا الحديث (1) لعدم تنصيص الأئمة عليه، لأن أئمة الكلام نصوا عليه أو على نحوه كما مرَّ، وأئمة الحديث لم ينصوا على خلافه، بل نصوا (2) على صحة قواعده، فإنهم كرهوا الرواية بالمعنى في الحديث المتعلق بالعمليات، وحرَّمه كثير منهم، وهو الأولى إلَاّ لضرورة العمل في نحو ترجمة الشريعة للعَجَم، ولولا هذه الضرورة ما جوَّزه أحد فيما أحسِبُ لما يؤدي إليه من المفسدة، فإن من جوَّزه شرط أن يكون من عبَّر بالمعنى عالماً بما يُحيل المعاني، وكل أحدٍ حَسَنُ الظن بنفسه، وكم من قاطعٍ بصحة أمر ينكشف خلافه، وهذا في العمليات الظنيات.
وأما الصفات الربانيات فالخطر فيها عظيم، وقد بالغ صاحب " الوظائف "(3) على مذهب السلف وأهل السنة، ومنع من أن يقال: إن الله تعالى مُستو على العرش أو يستوى عليه، قال: وإنَّما يقال: ثم استوى كما قال، وقد مر ذلك في الصفات.
ولا شكَّ أن متكلمي أهل السنة، والأشعرية، والشيعة، والمعتزلة، جميع أهل العقليات قد أجمعوا على أن قولنا: أراد الله المعاصي متأولة، وأنها على غير ظاهرها، ومع ذلك لم يرد بها نصٌّ سمعي، فيجب تجنبها حيث توهم الخطأ، وينبغي التبدل بها حيث لا توهم بألفاظ كتاب الله تعالى ورسله المعصومين عليهم السلام.
وكذلك كل كلمةٍ تقترن بها مفسدة، فقد قال الله تعالى في نحو ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، وعُدَّ من حُسنِ
(1) ساقط من (أ).
(2)
قوله: " على خلافه بل نصوا " ساقط من (أ).
(3)
انظر 3/ 333 من هذا الكتاب.
أدب خليل الله عليه السلام، وحُسنِ خطابه قوله:{وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه مع أن الكل من الله.
ومنع العلماء من أن يقال: يا رب الكلاب والخنازير، وإن كان هو ربَّها، فإنه (1) إنما يُخصُّ بالمعظمات كربِّ العرش العظيم، وإلا وجب التعميم كرب كل شيء، ومن أحسن ما يدل على ذلك ما تكرر بمدح الرب عز وجل به من أنه تعالى بيده الخير، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، ولم يرد في كتاب الله تعالى التصريحُ بعكس ذلك، وهو مدحُهُ بأن بيده الشر وهو على كل شيء قدير، كراهة لإضافة الشر خصوصاً (2) إليه إلَاّ داخلاً في عموم كل شيء، لأنه حينئذ يفيد صفة الربوبية لكلِّ شيء.
والوجه في ذلك أن كل شر واقع من الله تعالى فإنه وسيلة إلى الخير، وليس بشرٍّ بالنظر إلى حكمته، كما ذكره النواوي في أحد الوجوه في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم (3):" والشر ليس إليك " ذكره في شرح مسلم (4) وغيره.
وما زال أهل القرب والرسوخ في العلم على مذهب أهل السنة في نفوذ إرادة الله ومشيئته، وعدم التعرض لما في ذلك من خَفِيِّ (5) حكمته، ولم تختلف في ذلك النبوَّات والكتب السماويات.
وقد قال الإمام البيهقي رحمه الله في " الأسماء والصفات "(6): أخبرنا أبو
(1) في (ش): لأنه.
(2)
في (ش): بخصوصه.
(3)
في (ش) زيادة: الخير بيديك.
(4)
6/ 59 ولفظه: والشر ليس شراً بالنسبة إليك، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين. والحديث تقدم تخريجه ص 131.
(5)
في (ش): نفي.
(6)
ص 171 من طريق مصعب بن سوار، عن أبي يحيى القتات، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس.
عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا أبو مسلم، حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا مُصْعَبُ بن سوَّار، عن أبي يحيى القتات، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس لما بعث الله موسى وكلَّمه، قال:" اللهم أنت ربٌّ عظيم ولو شئت أن تُطَاعَ لأُطِعْتَ، ولو شِئْتَ أن لا تُعصى ما عُصٍيتَ، وأنت تحب أن تُطاع وأنت تُعصى، فكيف هذا يا رب؟! " فأوحى الله تعالى إليه: " إني لا أُسألُ عما أفعل وهم يُسألون، فانتهى موسى ".
رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد "(1) وعزاه إلى الطبراني، وزاد فيه:" فلما بعث الله تعالى عُزَيراً، وأنزل عليه التوراة بعد ما كان رفعها على بني إسرائيل، حتى قال: من قال: إنه ابن الله، قال: إنك ربٌّ عظيم " وساق مثل كلام موسى، ومثل جواب الرب عز وجل عليه ثلاث مرار، فقال الله تعالى له:" أتستطيعُ أن تصُرَّ صُرَّةً من الشمس؟ قال: لا، قال: أفتستطيع أن تأتي بمكيالٍ من الريح؟ قال: لا، قال: أفتستطيعُ أن تجيء بمثقال أو قيراطٍ من نورٍ؟ قال: لا، [قال:] فهكذا لا تقدر على ما سألت عنه، أما إني لا أجعل (2) عقوبتك إلا أن أمحو اسمك من الأنبياء فلا تُذْكَر فيهم، فمَحى اسمه من الأنبياء، فليس يُذكر فيهم وهو نبي، فلما بعث الله عيسى ورأي منزلته من ربه، وعَلَّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، سأل مثل سؤال موسى، فأجيب مثل جوابه، وقال الله تعالى له: لئن لم تنته لأفعَلَنَّ بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، فجمع عيسى من معه فقال: القدر سرُّ الله فلا تَكَلَّفُوه ".
رواه الطبراني (3) من حديث أبي يحيى القتَّات، واسمه زاذان فيما قال ابن
(1) 7/ 199 - 200 وقال: رواه الطبراني وفيه أبو يحيى الفتات، وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه في غيرها. ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2)
في (ش): أهل.
(3)
في " الكبير "(10606).
عدي (1)، وقال العقيلي (2): اسمه عبد الرحمن بن دينار، وقيل غير ذلك، وهو لا يُعرف إلَاّ بكنيته وهو من رجال أبي داود، والترمذي، وابن ماجة مختلف فيه لكن وثَّقه ابن معين (3)، ولحديثه شواهد.
قال البيهقي (4): أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي (5)، حدثنا أحمد بن سلمان، حدثنا جعفر بن محمد الخُراساني، حدثنا قتيبة، حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عِمران الجَوْني، عن نوف (6)، قال: قال عزيز فيما يُناجي ربه " يا ربِّ تخلق خلقاً فتُضِلُّ من تشاء، وتهدي من تشاء " قيل له: " يا عزير أعْرِضْ عن هذا " فعاد، فقيل (7) له:" يا عزير أعرض عن هذا وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً " قال: فعاد، فقال:" يا عزير لتُعْرِضَنَّ عن هذا أو لأمحونك من النبوة، إني لا أُسأل عما أفعل وهم يُسألون "(8).
هذا شاهد لما قبله، وليس على شرط الصحيح.
(1) في " الكامل في الضعفاء " 3/ 1092.
(2)
في " الضعفاء الكبير " 2/ 329.
(3)
قلت: وضعفه في رواية كالجمهور.
(4)
في " الأسماء والصفات " ص 171.
(5)
هو بضم الحاء وسكون الراء وكسر الفاء، هذه النسبة كانت تطلق ببغداد على البقال ومن يبيع الأشياء التي تتعلق بالبذور والبقالين. وفي " الأسماء والصفات " المطبوع: الحربي، وهو صحيح أيضاً، فإنه نسبة إلى الحربية التي هو من أهلها، وهي محلة كانت في شمال غربي بغداد. وعبد الرحمن هذا مترجم في " السير " 17/ 411.
(6)
تحرف في (ش) إلى: عوف.
(7)
في (ش): فقال.
(8)
إسناده ضعيف. عبد الرحمن بن عبيد الله: صدوق، إلَاّ أن سماعه في بعض ما رواه عن أحمد بن سلمان -وهو أبو بكر النجاد- كان مضطرباً. وجعفر بن محمد الخراساني: قال الدارقطني والخطيب: مجهول، ونوف -وهو ابن فضالة الحميرى البكالي- ربيب كعب الأحبار، يكثر من الإسرائيليات.
ويشهد لذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه الكريم عن الملائكة عليهم السلام حيث قالوا: {أتَجعَلُ فيها من يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدِك ونُقَدِّسُ لك قال إنِّي أعلَمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
ووجهُ المشابهة بينهما أن الكل سؤال عن وجه الحكمة، وفيما تحيَّرت فيه العقول من ذلك، وأن الله أجاب على من سأل عن تعيين الحكمة فيه (1) بردِّه إلى علمه، وهذا شأن المتشابه كلِّه الذي أخبر الله تعالى أنه لا يعلم تأويله إلَاّ هو.
فالعجب ممن يدعي معرفة الراسخين له، وهم فيه أكثر الناس وقفاً وحَيْرةً كما روى الطبراني عن وهبٍ، عن ابن عباس أنه سُئِلَ عن القدر؟ فقال: وجدت أصول الناس فيه حديثاً أجهلهم (2) به، وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شُعاعٍ، كلما ازداد فيه نظراً ازداد فيه تحيُّراً. انتهى.
فلو عَلِمَه الراسخون، لعلَّمُوه المسلمين، إذ لا يصحُّ أن يستحيل على المسلمين تعلُّم ما عند الراسخين.
تم بعونه تعالى الجزء الخامس من
العواصم والقواصم
ويليه الجزء السادس وأوله
قالت المعتزلة: القول بأن أهل النار ........
(1) في (ش): في ذلك.
(2)
تحرفت في (ش) إلى: أجملهم.