الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنفسهم، وإنما قصدُهُم إضلال العباد عن الدين، وتحريف شريعة ربِّ العالمين، وهذا عدوان على المسلمين ومخالف (1) لمذاهب المعتزلة والمتشيِّعين. وقد نصَّ في " اللُّمع " -التي هي مدرس الزيدية- على أن الجبر والتشبيه عندنا من جهة التأويل والتدين. وقد تقدم الجواب على هذا في مسألة المتأولين من وجوهٍ ثلاثة، فخذه من هنالك. فلولا خوف الإطالة لأعدته.
الوهم السابع والعشرون: وهم أنهم أنكروا القدر الضروري في شكر المنعم
، لأنهم قالوا: شُكْرُ المنعم لا يجب عقلاً، وإنما يجبُ سمعاً، وليس كما وهم، فإنهم في تلك المسألة المرسومة في الأصول إنما نازعوا في معرفة العقل لوجوب شكر المنعم الذي هو الله جل جلاله، لأنه غنيٌّ عنه، لا يمكن أن ينتفع به، ولا يتضرر بتركه، مع أن الشكر قد يكون فيه مضرَّة على العبد ومشقَّةٌ، قالوا: فلو خُلينا وقضية العقل، لم نعلم بها وجوب ما هذه صفته.
قال الجُويني في " البرهان "(2) ما لفظه: والبرهان القاطع في بطلان ما صاروا إليه أن الشكر نعتٌ (3) للشاكر بأجرٍ، ولا يُفيدُ المشكور شيئاً، فكيف يقضي العقل بوجوبه؟ وقد ردت عليهم ذلك الشيعة والمعتزلة بأن الوجه فيه: أن العبد يخاف مضرة العقاب من سيده على ترك الشكر، وليس هذا في محل الضرورة، ولا ادعت المعتزلة فيه الضرورة.
ومن العجب أن الأشعرية عرفوا مذهب المعتزلة في ذلك، وما عرفه السيد، فإن المعتزلة لم تدَّع أن وجوب الشكر في حق الله تعالى ضروري.
قال الجويني في هذه المسألة: وليس ذلك عند المخالفين واقعاً في قسم الضروريات، وإنما هو مُدرَكٌ بالنظر عقلاً، ومنوطٌ بمسلكٍ يوضحه.
(1) في (ش) و (د): ومخالفة.
(2)
1/ 94.
(3)
تصحفت في (أ) إلى: تعب.
ثم قال في بيان هذا المسلك ما لفظه: وللخصوم مسلكان: أحدهما: التَّعلُّق بتغافل العُقلاء شاهداً، ويزعمون (1) أن الشكر واجبٌ شاهداً، ثمَّ يقضون بذلك على الغائب. انتهى (2).
فإن قلت: فقد خالفت الأشعرية في وجوب الشكر في الشاهد، وهو ضرويٌّ؟
قلت: لم يُخالفوا في القدر الضروري منه، وإن القدر الضروري منه ما نجده في نفوسنا من استحسان فعله، وقُبحِ تركه، وهم ما نازعوا في وجدان ذلك في النفوس، واستحكامه في الطِّباع، وإنما خالفوا في سببه وعلته، وقالوا: إنه يحتمل (3) وجوهاً ثلاثة:
أحدها: أن يكون المرجع به إلى الشهوة والنُّفرة، فإن المُحسن في الشاهد لما كان يلتذُّ بالشكر، ويتألَّم بتركه، وقد جُبِلَت النفوس على حبِّ المحسن، وجب في الطبع شهوة ما يلتذُّ به والنفرة عما يتألَّم به، وهم لم ينازعوا في التحسين بالنظر إلى الشهوة، والتقبيح بالنظر إلى النُّفرَة.
الوجه الثاني: أن يكون هذا مستنداً في العادة، مثل استقباح كشف العورة، ونكاح الأمَّهات قبل ورود الشرع وبعد ثبوت العادة، فإن الكفار يستقبحون كثيراً من القبائح الشرعية لأجل العادة.
الوجه الثالث: أن يكون الشكر صفة كمالٍ كالعلم، وتركه صفة نقص كالجهل.
وقد نص الرازي وغيره على أنهم لا يُخالفون في هذه الوجوه الثلاثة، قال:
(1) في (د) و (ش) و" البرهان ": فيزعمون.
(2)
" البرهان " 1/ 95 - 96.
(3)
في (1): يحمل.
وإنما خلافنا في أن فاعل القبيح هل يستحقُّ لمجرَّد (1) العقل من غير شرع الذم عاجلاً والعقاب آجلاً؟ وهكذا في جميع ما يتعلَّقُ بالتحسين والتقبيح من المسائل، فإنهم لا يخالفون في هذه الأمور الثلاثة. وقد قال الرازي: إن أهم ما في هذه المسألة معرفة موضع الخلاف بين الفريقين، وقد صرح الرازي على أنهم لا يُجيزون على الله تعالى صِفَةَ نقصٍ من كذبٍ ونحوه.
وكذلك قال قطب الدين الشيرازي (2) في " شرح مختصر منتهى السُّول " في تقرير سؤال المعتزلة. وجوابه ما لفظه (3): واعلم أن المشهور في تقرير المُلازمة هو أن الحسن لو كان شرعيّاً لَحَسُنَ مِنَ الله كلُّ شيءٍ، ولو حَسُنَ منه كل شيء، لجاز منه إظهارُ المعجزة على (4) الكاذب.
والجواب: منع الصُّغرى إن أُريد بقولهم: لحسُنَ (5) منه كل شيءٍ، أن صدور كلِّ شيءٍ منه يحسن، ومنع الكبرى إن أريد به أن كلُّ شيء (6) يصدر منه فهو حسن. انتهى كلامه، وفيه النصُّ أنهم لا يقضُون بحُسن جميع القبائح، حاشى الجلال المقدس من تقدير إضافتها إليه، ولكن خالفوا في مَدْرَكِ القبح، ومعناه كما قال قبل هذا الكلام، فإنه ذكر قبله أنهم لا يُخالفون في قُبح إظهار المعجزة على الكاذب عقلاً، ولكنهم يفسِّرون ذلك الاستقباح بالمُنافرة، وبكونه
(1) في (ج) و (د) و (ش): بمجرد.
(2)
هو محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي، قطب الدين الشيرازي الشافعي، كان ذا مروءة وأخلاق حسان وذكاء، وكان كثير المخالطة للملوك، ويكثر الشفاعات عندهم، له مؤلفات في الفقة والأصول والطب والفلك والرياضيات. توفي سنة 710 هـ. انظر ترجمته في " الدرر الكامنة " 4/ 339 - 341، و" بغية الوعاة " 2/ 282، و" البدر الطالع " 2/ 299 - 300.
(3)
قوله: " سؤال المعتزلة وجوابه ما لفظه " ساقط من (ب) و (ش).
(4)
في (أ): عن.
(5)
في (د): يحسن.
(6)
من قوله: " أن صدور " إلى هنا ساقط من (ب).
صفة نُقصانٍ - يعني والذي خالفوا فيه تفسير الاستقباح باستحقاق الذمِّ عاجلاً والعقاب آجلاً على فعل ما هو صفة نقصٍ بمجرد العقل، فتحقيق مذهبهم: أنه لا فرق بينهم وبين المعتزلة في القطع بامتناع صفة النقص -كالكذب وتصديق الكاذب-، لكن اختلفوا في العلة، فعند المعتزلة: أن العلة استحقاق الذمِّ به عقلاً في حق الله تعالى لو قُدِّرَ صدوره عنه، وعند الأشعرية: العلة كونه صفة نقصٍ عقلاً، وصفة النقص مُحالة عليه، فلو فعله لم يستحق الذمَّ عقلاً عند الأشعرية، لكن فعله عليه محالٌ. ومستند الأشعرية في الوجوب وجوب كمال واجب الوجود، وكمال غناه لقدمه، وصفات (1) النقص إنما تكون بداعية الحاجة والافتقار، وهو محالٌ في حقِّ من سبق وجوده الموجودات غنياً عنها، وإذا قد ثبت باتفاق الفريقين أن وجود الرب متقدم تقدم وجوب على جميع الموجودات، وأنه في حال تقدُّمه هذا غنيٌّ عنها، فلا يصحُّ أن يكون وجودها بعد غناه عنها فيما لا نهاية له من القِدَمِ مُوجباً لحاجته إليها، لأن وجود الحوادث لا يُغيِّرُ القديم في ذاته ولا صفاته الواجبة، وإذا لم تُغَيِّر لم يغيِّر غناه عنها. ولعل هذا هو المدرك الآخرُ الذي أشار إليه ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ".
وقد نقل الزركشي في " شرحه لجمع الجوامع " للسُّبكي عن قوم أنهم توسَّطوا. فقالوا: قبحُ القبائح ثابتٌ بالعقل، وكذلك الذمُّ عليها، وأما العقاب، فبالشرع. قال: وهو الذي ذكره سعد (2) بن علي الزَّنْجَاني من الشافعية، وأبو الخطاب (3) من الحنابلة، وذكرَتْهُ الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة، قال: وهو
(1) في (ش): وصفة.
(2)
في الأصول: " أسعد "، وهو أبو القاسم الزنجاني سعد بن علي الحافظ الثقة المتقن القدوة الزاهد، نزيل الحرم، وجار بيت الله، المتوفى سنة 471 هـ. مترجم في " العبر " 3/ 276، و" طبقات الشافعية " للسبكي 4/ 383، و" العقد الثمين " 4/ 535، و" البداية والنهاية " 12/ 127، و" شذرات الذهب " 3/ 339.
(3)
هو الشيخ الإمام العلامة الورع شيخ الحنابلة محفوظ بن أحمد بن حسن الكلواذاني، درس الفقه على أبي يعلى الفرَّاء، وصار إمام وقته وشيخ عصره، وصنَّف في المذهب، =
المنصور (1) لقوَّته من حيث الفطرة، وآيات القرآن المجيد، وسلامته من الوهن والتناقُض. وسيأتي تمام القول في هذه المسألة في الوهم الثاني والثلاثين، آخر المجلد الثالث إن شاء الله تعالى (2).
ومن أهل النظر من أهل السنة من احتج على أنَّ الله تعالى غنيٌّ عن الكذب بقدرته على كلِّ شيءٍ، لأن الكذب ليس بمشتهى لذاته بالضرورة، وإنما يتوصَّل إليه العاجز عند الاحتيال إلى دَرْكِ ما عَجَزَ عنه مع الصدق، وقد ثبت بالأدلة العقلية، واتفاق الفريقين أنه عز وجل على كل شيء قدير، فيثبت (3) غناه عن الكذب، فوجبَ صدقه عقلاً. وقد أخبرنا الصادق أنه غنيٌّ عن كل شيء، فصحَّ الاحتجاج بالسمع على مطلق الغنى بعد الاحتجاج بالعقل على الغنى الخاص عن الكذب وحده. وهذه طريقة صحيحة عند الفريقين من الأشعرية والمعتزلة، وعند فريق أهل السنة لجلائها وتنبيه السمع عليها، حيث نبَّه على امتناع ما لا داعي إليه بقوله:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَق} [المائدة: 18] وأمثالهما.
وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في مسألة الدواعي. وقد مرَّ في الاحتجاج بالقرآن على أصول الدين شيءٌ منه، وهذا الذي خالفوا فيه مَدْرَكٌ خفيٌّ غير ضروري، سواءٌ كان الحق قولهم أو قول المعتزلة، فلا يقطع على المخالف فيه بالعناد وتعمُّد (4) الباطل والفساد، كما توهَّم السيد (5).
= والأصول، والخلاف، والشعر الجيد، توفي سنة 510 هـ. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 9/ 348.
(1)
في (ش): المتصور.
(2)
انظر 8/ 3.
(3)
في (د): فثبت.
(4)
في (ب): وتوهم.
(5)
وقع هنا في نسخة (ج) ترجمة مطولة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولم ترد في سائر النسخ، فرأيت أن أثبتها في الهامش بنصها، مع أنه قد وقع في سطورها نقص ينقطع الكلام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بسببه، وقد أشرت إليه بإثبات النقط، وإنما أثبتها هنا، لأن المجلد الذي فيه هذه الترجمة من " سير أعلام النبلاء " -وهو الأخير- لم يطبع، لأننا لم نجد نسخة منه صالحة للنشر.
ونصها:
وهذه ترجمة الإمام العلامة ابن تيمية من " النبلاء " للذهبي، نقلتها إلى هنا، لأني قد أكثرت عنه النقل في هذا الكتاب خاصة في هذا المجلد. قال أبو عبد الله الذهبي فيه:
…
الشيخ الإمام، العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط، تقي الدين أبو العباس أحمد بن العالم المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام مؤلف " الأحكام " (يعني كتاب المنتقى) ابن عبد الله بن أبي القاسم الحراني .. إلى قوله: سمع من فلان وفلان وخلق كثير، وأكثر وبالغ وقرأ بنفسه على جماعة، ونسخ عدة أجزاء و" سنن أبي داود "، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر مع التدين، والتألُّه، والذكر، والصيانة، ثم أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده، وحججه، والإجماع، والاختلاف، حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثم يستدل، ويرجح، ويجتهد، وحُق له ذلك، فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث
…
صحيح أو إلى المسند .. كأن الكتاب والسنن نصب عينه، وعلى طرف لسانه بعباره رشيقة
…
آيات الله في التفسير والتوسع فيه لعله .. الديانة ومعرفتها ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة
…
المبتدعة، فكان لا يسبق فيه غباره، ولا يلحق شأوه هذا
…
من الكرم الذي لم يشاهد مثله، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل، والفراغ عن ميلان النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية، ولقد سارت بتصانيفه في فنون من العلم وألوان بعد تواليفه وفتاويه (كذا) في الأصول، والفروع، والزهد، واليقين، والتوكل، والإخلاص، وغير ذلك تبلغ ثلاث مئة مجلد، لا بل أكثر، كان قوَّالاً بالحق نهَّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة للأغيار، ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه ينسبنى إلى التغالي
…
مع أني لا أعتقد فيه العصمة، كلا، فإنه مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين، بشر من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب
…
يزرع له عداوة في النفوس ونفوراً عنه، وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المجاملة، وحسَّن المكالمة، لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم وأئمتهم
…
خاضعون بعلومه وفقهه، معترفون بشنوفه، وكأنهم مقرون بندور خطئه. لستُ أعني بعض العلماء الذين شعارهم وهجِّيراهم الاستخفاف به، والازدراء بفضله، والمقتُ له، حتى استجهلوه وكفروه ونالوا منه من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد يُنصفه
…
بعلم، وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران، رحم الله الجميع. وأنا أقل من ينبه على قدره كلمي، أو أن يوضح بناءه قلمي، وأصحابه وأعداؤه خاضعون بعلمه، مقرون بسرعة فهمه، وأنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، وأن جوده حاتمي، وشجاعته خالدية، ولكن قد ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً منصفهم فيها مأجور، ومقتصدهم فيها معذور، وظالمهم فيها مأزور، وغالبهم مغرور، وإلى الله ترجع الأمور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، والكمال للرسل، والحجة في الإجماع، فرحم الله أمرأً تكلم في العلماء بعلم، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم، ثم استغفر لهم، ووسع نطاق المعذرة، وإلا فهو ممن لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم، ولم تعذر ابن تيمية في مفرداته، فقد أقررت على نفسك بالهوى وعدم الإنصاف، وإن قلت: لا أعذره لأنه كافر، عدو لله ورسوله، قال لك خلق من أهل العلم والدين: ما علمناه والله إلَاّ مؤمناً، محافظاً على الصلاة والوضوء وصوم رمضان، معظماً للشريعة ظاهراً وباطناً، لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه وموافقتهم ومناقضتهم، ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهي، ولا يفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن أو بالحديث وبالقياس، ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث أسوة من تقدمه من الأئمة، فإن كان قد أخطأ فيها فله أجر المجتهد من العلماء، وإن كان قد أصاب فله أجران، وإنما الذم والمقت لأحد رجلين: رجل أفتى في مسألة بالهوى ولم يُبْدِ حجةً، ورجل تكلم في مسألة بلا خميرة من علم، ولا توسُّع في نقل، فنعوذ بالله من الهوى والجهل، ولا ريب أنه لا اعتبار بذم أعداء العلم، فإن الهوى والغضب يحملهم على عدم الإنصاف، والقيام عليه، ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه، فإن الحب يحملهم على تغطية هناته، بل قد يعدونها له محاسن، وإنما العبرة لأهل الورع والتقوى من الطرفين الذين يتكلمون بالقسط ويقومون لله، ولو على أنفسهم، وآبائهم، فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، =
الوهم الثامن والعشرون: وَهِمَ وفَّقه الله أن أئمة السنة الأثبات يُنكرون أن لنا أفعالاً وتصرفاتٍ، واستخرج من ذلك أنهم كفار تصريحٍ لإنكارهم -في زعمه- العلوم الضروريات، وفَرَّعَ على ذلك تحريم ما استند إليهم من الروايات في علوم الديانات إلى سائر ما ذكره من الإلزامات.
وهذا وهم شنيعٌ، وغلطٌ فاحشٌ فظيع، ولم يختصُّ به المعترض، بل قد شاركه فيه كثيرٌ من المعتزلة مع اعترافهم في بعض مصنفاتهم بخلاف ذلك في بعض المواضيع وقد تقدم ما يلزم المعترض بجرحه لأئمة الحديث والمتأوِّلين من
= مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله، وصفحة مغموره في بحر علمه وجوده، فالله يغفر له ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، مع أني مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فقد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور، بل يثيبه الله فيها على حُسن قصده وبذل وسعه، والله الموعد، مع أني قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه
…
فحسبي الله.
…
وكان الشيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة، تعتريه حدة، ثم يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة والسماحة وقوة الذكاء، ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله، وكثرة توجهه.
وقد تعبت بين الفريقين، فأنا عند محبه مقصر، وعند عدوه مسرف مكثر، كلا والله.
توفي إلى رحمة الله معتقلاً بقلعة دمشق بقاعة بها بعد مرض جدّ أياماً في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وصُلي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة حتى خرج الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقل ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، وحمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية، ودُفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين رحمهما الله تعالى وإيانا.
وقد صنف جماعة من الفضلاء له تراجم مطولة، ورُثي بقصائد كثيرة، انتهى.
وللذهبي له ترجمة مختصره مجودة في " تذكرة الحفاظ " 4/ 1496، والحمد لله وحده.
الإلزامات الشنيعة، والجهالات الفظيعة، والإشكالات الوسيعة التي زادت على مئتي إشكالٍ مع ما تقدَّم له من التفريع على وصمِهم بالبَلَه، والكشف لهذا الخيال، ولم يبق هنا إلَاّ الذبُّ عنهم فيما نَسَبَ إليهم من الكفر الصريح، والجبر، وادَّعى عليهم من التصريح وعدم التأويل فيهما معاً.
والجواب: أن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينةٍ، بل جحدٌ للمعلوم بالضرورة عند العارفين من نصوصهم البينة، والسبب في ذلك جهل العامة، وتجاهل بعض الخاصة لمراد أهل السنة في قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، ونحن نُبين إن شاء الله تعالى مرادهم، فإنهم مع إطلاق ذلك مجمعون على إثبات الاختيار، ونفي الإجبار، وإن مذهب قدماء أهل البيت والزيدية في خلق الأفعال ونفي الجبر هو مذهبُ أهل السنة، ولنا في بيان ما ادعيناه طريقان.
الطريق الأولى: طريق النقل لذلك عن المعتزلة والشيعة، فإن ذلك يوجد في كلامهم عند حاجتهم إليه في إلزام الأشعرية لبعض المناقضات، مثل ما رواه عنهم السيد المتكلم أحمد بن أبي هاشم المعتزلي، الشيعي، مصنف (1)" شرح الأصول الخمسة " لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد المعتزلي، وهذا الشرح عمدة الشيعة في بلاد الزيدية في اليمن، ولذلك اخترتُ النقل منه لعلم
(1) أي: علقه عن مؤلفه قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفى سنة 415 هـ، كما جاء في عنوان النسخة الخطية الموجودة في مكتبة أحمد الثالث في استنبول المنسوخة سنة 756 هـ.
وقد طبع هذا الشرح بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان رحمه الله سنة 1965 هـ.
وأحمد بن أبي هاشم هذا: هو أحمد بن الحسين بن أبي هاشم الحسيني الإمام المستظهر بالله، ويعرف بما نكديم، ومعناه: وجه القمر لحسن وجهه، من ذرية عمر الأشرف، لا من ذرية زيد بن علي كما زعمه غالط، وهو إمام المتكلمين ورئيس المخلصين وعدتهم، عده في الأئمة المهدي، وأهمله آخرون. أخذ على المؤيد بالله، وكان من أصحابه، وهو الذي صلى على المؤيد يوم مات توفي بالري سنة نيف وعشرين وأربع مئة. " تراجم الرجال " للجنداري ص 3.
الخصم بما فيه.
قال فيه مصنفه المذكور في أوائل الفصل الثاني في العدل: وقد احتج على ثبوت التحسين والتقبيح في العقل بأن أحدنا إذا خُيِّرَ بين الصدق والكذب، ولم يكن له داعٍ خاصٌّ إلى أحدهما اختار الصدق لا محالة.
ثم قال بعد هذا المعنى ما لفظه: فإن قالوا هذا بناء على أن الواحد منا مخيرٌ في تصرفاته، ونحن لا نُسلِّمُ ذلك، فإن مذهبنا أنه مُجبرٌ عليه في هذه الأفعال، وأنها مخلوقة، ثم أجاب بأربعة أجوبة.
قال في الثالث منها ما لفظه: وبعد، فلا خلاف بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجةٌ إلينا، ومتعلِّقةٌ بنا، وأنا مختارون فيها، وإنما الخلاف في جهة التعلق أكسبٌ أم حدوثٌ، فعندنا أن جهة التعلُّق إنما هو الحدوث، وعندكم أن جهة التعلق إنما هو الكسب. انتهى لفظه.
وهو رد صريح (1) لقول من يقول: إنهم ينكرون أن لنا أفعالاً وتصرفاتٍ، وقد توهَّم بعضُ مَنْ لا يعرفُ مذهبهم أن ظاهر كلام صاحب الشرح لا يصح، فتأوله بأن معنى قوله: إنه لا خلاف أنا مختارون في أفعالنا، أي لا خلاف في أنا مُريدون لها، وهذا التأويل باطلٌ لوجوه:
الأول: أنه لا موجبَ له، وتجويز التأويل من غير موجب يفتح باب الجهالات، ويُبْطِلُ الانتفاع بنقل أهل المقالات.
فإن قيل: الموجبُ له اختلاف النقل عنهم:
فالجواب: أنه ليس بأولى من تأويل نقلِ من نقل نفي الاختيار عنهم، ثم إن الفِرَق فيهم كثيرة، وأهل السنة منهم أربعُ فِرَقٍ ليس منهم من ينفي الاختيار ألبتة (2) كما يأتي بيان ذلك.
(1) في (ش) وهذا صريح الرد.
(2)
من قولهم: " عنهم " إلى هنا ساقط من (ش).
وقد نقل الشيخ مختارٌ المعتزلي مذهبهم على الصواب في كتابه " المجتبى " لما كان تام المعرفة بمذهبهم، فقال ما لفظه: وذكر شيخنا صاحبُ " المعتمد "(1) أن جهمَ بن صَفْوان ذهب إلى أن الله خالقٌ لأفعال العبيد فيهم وهم ليسوا بمحدثين ولا مكتسبين لها، وذهب النجارُ و (2) الأشعري إلى أن الله خالقٌ لأفعال العبيد، وهم يكتسبونها. قال: وهذا هو المشهور من مذهبهم، وبه قال أكثر أهل السنة، فنُفْرِد لكل واحدٍ من الجبرية الخالقية والكَسْبية مسألة على حدة.
قال: والحاصل أن المخالفين بأسرهم قالوا بقدرة العبد، لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة هي علة (3) الفعل مع الداعي.
والإسفرايينيُّ (4) زعم (5) أنها جزءُ علة الفعل لوجوده بالقدرتين.
والباقلاني زعم أنَّها عِلَّةُ الكسب.
والجهم زعم أنها معنى لا تأثير له في الفعل أصلاً لكنه يُوجدُ متعلقاً (3) به.
انتهى بحروفه.
وسيأتي بيان تفاصيل هذا النقل، وتفاوت مراتب المبتدعة، وأن الخصم نسب قول الجهم إلى جميع أهل الكلام من الأشعرية: الإسفراييني والبَاقِلَاّني والجُويني وغيرهم، بل إلى أهل السنن والآثار المنكرين لعلم الكلام (6). ولا شكَّ أن نسبة ذلك إليهم باطلةٌ بالضرورة بشهادة جميع أهل العلم بمقالات المختلفين.
(1) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المتوفى ببغداد سنة 436 هـ.
(2)
الواو ساقطة من (ش). والنجار: هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار الرازي، رأس الفرقة النجارية من المعتزلة. انظر " مقالات الإسلاميين " ص 566، و" الفهرست " لابن النديم ص 229، و" اللباب " لابن الأثير 3/ 298، و" الملل والنحل " 1/ 88 - 90.
(3)
تحرفت في (ش) إلى: والأشعريين.
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
تحرفت في (ش) إلى: مطلقا.
(6)
في (ش) زيادة: على أهله.
والنقل للجبر المحض صحيحٌ، ولكن عمن ليس له سلفٌ ولا خَلَفٌ، وأهل السنة أشدُّ نكيراً عليه من المعتزلة، وليس ينبغي أن يُطْرَحَ على السواد الأعظم من المسلمين قول من شذَّ عنهم، كما لا يُطرَحُ على المعتزلة قول من يقول: إن الله تعالى لا يعلم الغيب من نُفاة القدر، ولا يُطرَحُ على الزيدية قول (1) الحسينية: إن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه حيٌّ (2) لم يمت، ولا قولُ المطرفية في تأثير (3) الطبائع وغير ذلك، ولا يطرح على الشيعة القول بالرفض، ولا على الروافض مذاهب الباطنية الملاحدة، ولا قول الإسحاقية بربوبية علي بن أبي طالب عليه السلام.
وما أحسن قول الذهبي في " ميزانه "(4) في ترجمة إمام هذه الطائفة (5) المخذولة وهو إسحاق بن محمد النخعي الأحمر - قال الذهبي: كان يقول: إن علياً هو الله، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً، وإليه تنسب الإسحاقية بالمدائن.
قال ابن الجوزي: كان من الغلاة في الرفض (6).
قال الذهبي: حاشا غُلاة الرفض أن يقولوا في علي هو الله، فمن وصل إلى هذا، فهو كافرٌ لعين من إخوان النصارى. انتهى كلام الذهبي.
فما أحسن بالعلم أن لا يطرح على من يُبغِضُه ما لم يقله، ولا يتساهل في عباره تُوهِمُ ذلك.
(1) في (ش): بقول.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): في نفي تأثير.
(4)
1/ 196 - 198.
(5)
في (ش): الفرقة.
(6)
في (ش): الغلاة الروافض.
وقد ميَّزَ (1) القاضي أبو بكر بن العربي الفقيه المالكي بين الفِرقِ المجتمعة في الاسم، المفترقة في المعنى، وبيَّنها على التفصيل في كتاب " المشكلين "، وعلى التجميل في " عارضة الأحوذي في شرح (2) الترمذي " (3) فقال: إن الروافض عشرون فرقةً من النيف والسبعين، منهم فرقةٌ واحدةٌ ليست من فرق الإسلام، والقدرية عشرون فرقة، منهم فرقتان ليستا (4) من فرق الإسلام.
فثبت أنه لا موجب لتأويل كلام صاحب الشرح فيما (5) نقل عن الأشعرية أنهم يُثبتون الاختيار للعباد، وهم أقرب فرق أهل السنة إلى الجبر كما يأتي، فكيف (6) بغيرهم من أهل الحديث والآثار!
الوجه الثاني: أن هذا التأويل الركيك يُبْطِل كون ما ذكره صاحب الشرح جواباً ثالثاً على الأشعرية غير الجوابين الأولين عليهم، فإنه أراد بهدا الجواب نقض قولهم: إنهم مُجْبَرُون لا فِعْلَ لهم، وردَّ دعواهم أن هذا مذهبهم إن فرضنا أنهم ادعوا ذلك، فلو كان غرضه أنا مريدون غير مختارين، لم يكن نقضاً لدعواهم المقدرة في أن مذهبهم الجبر، وهذا قاطعٌ جليٌّ لا يمكن المتأول دفعه، فإن إرادتنا من غير اختيارٍ لا تغني عنا شيئاً، فالمريض قد يريد العافية، ولا يقدر على تحصيلها باختياره، والهارب من السبع عند الاضطرار يريد الهرب ولا يقدر على تركه باختياره عند الجميع.
الوجه الثالث: أن الاختيار والإرادة لفظان مختلفان، وقد ثبت أحدهما (7) مع انتفاء الآخر كما ذكرنا في المُضْطَرِّ إلى الهرب من السبع، وسيأتي بيان ذلك على مذهب المعتزلة والأشعرية في المرتبة الخامسة في الفرقة الأولى.
(1) في (ش): عبَّر.
(2)
تحرف في (ش) إلى: شيوخ.
(3)
10/ 109 - 110.
(4)
في (ش): ليست.
(5)
في (ش): حيث.
(6)
ساقطة من (ش).
(7)
في (ش): وقد ثبت أن أحدهما.
الطريقة الثانية: النقل عن أهل السنة ومتكلميهم، وذكر نصوصهم المتواترة الصريحة من كتبهم الشهيرة.
واعلم أن القدر المجمع عليه بينهم هو أن العبد غير فاعلٍ على سبيل الاستقلال والاستغناء عن ربه عز وجل، بل يقولون: إن الخلق (1) مُستمدٌّ والحق مستبدٌّ، ثم أطلقوا الخلق على أفعال العباد وعَنَوْا (2) به أمرين:
أحدهما: تقديرها في سابق علم الله وقضائه وقدره، وسيأتي تفسيرهما، وهو يُسمى خلقاً باتفاق أهل (3) اللغة، وهذا هو القدرُ الذي أجمعوا عليه (4).
وثانيهما: قول كثير منهم، وهو إيجاد ذواتها التي تعتقد المعتزلة أنها ثابتة في الأزل، وأنها غير مقدرة (5) لله تعالي، ولم يَعْنُوا خلق القدر المقابل بالجزاء من أفعال العباد على تفصيلٍ يأتي بيانه في ذلك في المرتبة الخامسة إن شاء الله تعالى.
وفي غلاة المتكلمين من الأشعرية القليل (6) يُطلقون الجبر في أفعال العباد، ويُفسِّرونه بوجوب وقوع الراجح مع بقاء الاختيار، كما تقولُه المعتزلة في وجوب اختيار الرب عز وجل لفعل الواجب وترك القبيح، بل في وجوب اختيار جميع الخلق للصدق على الكذب عقلاً عند استواء الدواعي الزائدة على الداعي إلى الصدق والصارف عن الكذب كما يأتي في مسألة التحسين العقلي وغيرها إن شاء الله تعالى.
وقد قبَّح أهلُ السنة عليهم تسمية ذلك جبراً، بل فيهم من يُطلِقُ الجبر ويُفسِّرُه بمعنىً مُتَّفَقٍ عليه، وهو الجبر الأول على أسباب التكليف وشروطه عند المعتزلة ..
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): وأرادوا.
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
في (أ): " اجتمعوا " ودون " عليه ".
(5)
في (ش): مقدورة.
(6)
ساقطة من (أ).
ونحن نتكلم على جميع مقاصدهم في ذلك، ونبدأ بما هو كالأساس للكلام في خلق الأفعال عندهم، وينحصر ذلك إن شاء الله تعالى في خمس مراتب:
الأولى: تكليف المكلَّفين من غير اختيارهم للتكليف.
الثانية: نفوذ (1) مشيئة الله تعالى في الكائنات.
الثالثة: الكلام على الدواعي (2) والصوارف.
الرابعة: الكلام على القضاء والقدر والحكمة في ذلك.
الخامسة منها: الكلام في مسألة الأفعال نفسها.
المرتبة الأولى: المعنى الصحيح بالاتفاق، وإن اختلفت العبارة عنه، وذلك إقدار المكلفين وخلقهم مُمْتَحَنين عُقلاء مختارين. وقد صرَّح الشهرستاني في " نهاية الإقدام " بالجبر، وفسره بهذا المعنى (3) كما سيأتي عند ذكر مذهب الجويني، وإنه إنما حمله عليه الفرار من ركاكة الجبر، وذلك في الكلام على الفرقة الرابعة في المرتبة الخامسة، وهذا معنى صحيح لكن فيه إيهام (4) الجبر في الأفعال الاختيارية، فتسمية (5) ذلك جبراً قبيحٌ، وإن كان قد اعترف الزمخشري (6) وهو من رؤوس المعتزلة بصحة هذه العبارة، فقال في تفسير سورة (7) الحشر في تفسير اسمه الجبّار جلَّ وعزّ أنه الذي جبر الخلق على ما أراد، ووافقه الخطابي على هذا التفسير، رواه البيهقي عن الخطابي في " الأسماء والصفات "(1) وأنه على وجه لا يُوهم الجبر في التكاليف الاختيارية، والخلق بهذا المعنى مجبورون مقهورون مربوبون مقسورون.
(1) في (ش): تفرد.
(2)
في (ش): المرتبة الثالثة في الدواعي.
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
في (أ): " لكن إبهام "، وهو خطأ.
(5)
في (أ): " بتسمية "، وهو خطأ.
(6)
4/ 85.
(7)
ساقطة من (أ).
(1)
ص 31.
ولا يرد عليه قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] فإن أقصى ما تدل عليه من هذا المعنى أنه خُيِّر في بعض صور التكليف كتحمُّل الأمانة بعد أن خُلِق مُكَلَّفاً مختاراً، فاختياره الأول الذي اختار به التكليف الخاصَّ جَبْرٌ لم يثبت باختياره، وإن سلمنا أن الآية تقتضي أنه خُيِّر في مطلق التكليف، فغير واردٍ لوجوه.
الأول: أنه لا يصح منه اختيار التكليف حتى يخلق عاقلاً مختاراً من غير اختياره، وهذا هو الجبرُ الأول المتفق عليه.
الثاني: أنها خاصةٌ بآدم عليه السلام، لأن المعلوم ضرورةً أن غيره غير مُخَيَّرٍ فيه.
الوجه الثالث: أنه لا يحسُنُ من الرب عز وجل عند المعتزلة التخيير في الدخول في التكليف، بل الرب عز وجل عن قولهم غير مختار في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات عندهم على ما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
فالآية عندهم متأولة، وتفسير الجبر بهذا المعنى أجنبيٌّ مما نحن فيه لولا إرادة التقصِّي لمعانيه في إطلاقاتهم وخشية أن يستدركه علي مستدركٌ ما ذكرته، وقد جعلته أوّل المراتب لوضوحه والاتفاق على معناه، وقلة الكلام فيه.
المرتبة الثانية: إطلاقهم وجوب الأفعال بالنظر إلى نفوذ مشيئة الله تعالى مع بقاء الاختيار بالنظر إلي القدرة والمقدور، والأصل في ذلك أنها تواترت النصوص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم قدرة الله تعالى على كل شيء، وبنُفوذ إرادة الله ومشيئته في جميع الكائنات من غير موجب للتأويل ولا قرينةٍ ظنية، بل تَطَابَقَ العقل والنقل على صحة ذلك، وسيأتي (1) بيانه إن شاء الله تعالى مع ورود النصوص أيضاً بأن الله تعالى لا يحب الفساد، ولا يرضى (2)
(1) في (ش): كما سيأتي.
(2)
من قوله. " أيضاً " إلى هنا بياض في (أ).
لعباده الكفر، وأنه (1) يرضى الشكر، وقال تعالى بعد ذكر (2) كثيرٍ من القبائح {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] وقد أجمعت (3) الأمة على أن المعاصي تُسمى مكروهةً ومسخوطةً، ثم لم يرد شيء من الكتاب والسنة معارض لهذه الآيات في (4) الجانبين مُعارضةً صريحةً (5) تقتضي أن الله تعالى يريد ما يعلم أنه لا يكون، أو تقتضي أنه يحب شيئاً من القبائح، أو يكره شيئاً من الحسنات، فالمُتَّجه (6) في الجمع بينهما أن ما أحبه الله عز وجل من الأعمال، فإنما الواجب أن يقع منه ما أراد وقوعه عند أهل السنة كمن (7) أحب من العاملين، وما كَرِهَ من الأعمال، فالواجب أن لا يقع منه ما أراد عدم وقوعه دون ما لم يُرِدِ العصمة عنه لحكمة، كمن سَخِطَ من العاملين، فإنه يلزم من إرادته وجودهم لحكمة أن يحبهم وأن لا يسخطهم، وسيأتي زيادة بيانٍ لذلك.
فلذلك فرّق أهل الحديث والأثر وأتباع السنن بين الإرادة والمشيئة، وبين المحبة والرضا، وقرَّروا النصوص في عموم نفوذ المشيئة والإرادة، وخصوص تعلُّق المحبة والرضا وهو الصواب كما يتضحُ إن شاء الله تعالى، ويتضح أن هذا كلمة إجماع بين أهل البيت عليهم السلام في القرون الثلاثة التي هي خيرُ القرون مع إجماع أهل السنة عليه من أهل البيت وغيرهم إلى الآن، ولا يزالون على ذلك إلى يوم القيامة، كما ورد في البُشرى (8) النبوية الصادقة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
(1) في (أ) " فإنه.
(2)
مكان قوله: " وقال تعالى بعد ذكر " بياض في (أ).
(3)
في (ش): واتفقت.
(4)
في (ش): من.
(5)
في (أ): صحيحة.
(6)
في (ش): فالمتخير.
(7)
في هامش (ش): ممن.
(8)
يشير إلى الحديث: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " لفظ مسلم (1920) من حديث ثوبان.
وهذه جملةٌ صالحةٌ من النصوص المشار إليها، قال الله تعالى في نفوذ إرادته في هداية العُصاة وغيرها:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28، 29].
وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].
وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون} [التوبة: 55].
وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].
وقال تعالى: {ولو شاءَ الله لجمعَهُمْ على الهُدى} [الأنعام: 35].
وقال تعالى: {ولوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً} [يونس: 99].
وقال تعالى: {ولو شاء ربُّك لجعل الناسَ أمَّةً واحدةً} [هود: 118].
وقال تعالى: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149].
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].
وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم}
[الأنعام: 39].
وقال تعالى: {إنَّك لا تهدي من أحبتْتَ ولكِنَّ الله يهدي من يشاء} [القصص: 56].
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير} [الشورى: 8].
وقال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31].
وقال تعالى حاكياً عن موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} [الأعراف: 155].
وقال تعالى: {تُؤتي المُلكَ من تشاء} [آل عمران: 26].
وقال تعالى: {يُؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269].
وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100].
وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (1)[الأنعام: 125].
وقال تعالى: {إن ربَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} [هود: 107].
وقاله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41].
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَة} [آل عمران: 176].
(1) من قوله: " وقال تعالى حاكياً عن يوسف " إلى هنا ساقط من (ش).
وقال تعالى: {إنْ كان اللهُ يُرِيدُ أن يُغوِيكُم} [هود: 34].
وقال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].
وقال تعالى: {وما أصَابَكُم يوم التقى الجَمْعَانِ فبإذنِ الله} [آل عمران: 66].
وقال تعالى: {ومَا كان لِنَفْسٍ أن تُؤمِنَ إلَاّ بإذنِ اللهِ} [يونس: 100].
وجاء مثل هذه النصوص في نسبة الهدى والضلال إلى الله تعالى، وأنَّه لا يهدي من يُضِلُّ، وبَيَّن الله سبحانه ما أجمله من ذلك كقوله:{وما يُضِلُّ به إلا الفَاسِقينَ} [البقرة: 26]، وبقوله:{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10].
وجاءت السنة النبوية المتواترة بنحو هذه الآيات ولا سبيل إلى استقصاء ما ورد من السنة في ذلك، ولا حاجة إلى ذكره مع هذه الآيات الكريمة، فدلَّ جميع ذلك مع الدلائل العقلية على قدرة الله تعالى على هداية الخلق أجمعين، وأنه سبحانه إنما لم يَهْدِ الأشقياء لحكمةٍ بالغةٍ وإن لم تدركها العقول.
وسيأتي ذكر بعض الحكم التي دلَّّ عليها السمع في ذلك في المرتبة الثالثة في الدواعي، وفي المرتبة الرابعة في وجه تقدير الشرور، ويأتي في هذه المرتبة أيضاً شيء من ذلك. وخالفت المعتزلة في معنى الآيات، وزعمت إلَاّ القليل منهم أنه ليس في معلوم الله تعالى، ولا في مقدوره هداية عاصٍ في ذنب واحد على جهة الاختيار، وقالوا: إن المراد بالآيات أنه سبحانه لا يُكْرِهُ الخلق على الإيمان إكراهاً يبطُلُ معه التكليف، والذمُّ، والمدح، والأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، والابتلاء، وجعلوا هذا تفسير الهداية التي تمدح الله عز وجل بقدرته عليها، ورَكِبُوا كُلَّ صعبٍ وذَلُول في تأويل القرآن، وتعسَّفوا في وجوهٍ التأويل تعسُّفاً يرُدُّه البرهان كما نُبين ذلك إن شاء الله تعالى أوضح بيان، ولا بُدَّ من إيراد
أدلة (1) الطائفتين.
فأمَّا أهل السنة، فأدلتهم على ذلك كثيرةٌ، والذي حَضَرني منها ثلاثة:
الدليل الأول: أنه (2) لا بد لله تعالى من حكمةٍ في خلق من عَلِمَ أنه من أهل النار عند الجميع كما يأتي إن شاء الله تعالى، والذي عيَّنته المعتزلة وجهاً للحكمة في ذلك هو إرادة الحكيم إلى تحصيل ما علم أنه لا يكون، وذلك يستلزِمُ توجيه إرادة الحكيم إلى تحصيل ما يمنع علمه الحق بالغيوب من إرادة حصوله، وذلك خلاف المعقول والمنقول كما سنوضِّح ذلك إن شاء الله تعالى، ونوضِّح ما اعتذر به بعضهم من توجيه إرادته تعالى إلى مجرد التعريض إلى تحصيل ما عَلِمَ أنه لا يحصُلُ، ويأتي بُطلان هذا العذر، فلا بد من الرجوع إلى الإيمان (3) بأن لله تعالى حكمةً في ذلك، وإن لم تُدركها العقول، كما صرح بذلك حُذَّاقُهُم، منهم الزمخشري في " الكشاف " (4) في تفسير قوله تعالى:{إنِّي أعلَمُ ما لا تعلمُون} [البقرة: 30] فإنه قال ما لفظه: فإن قلت: هلَاّ بيَّن لهُم تلك المصالح؟ قلت: كفي العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمةٌ (5)، وإن خَفِيَ عليهم وجهُ الحُسْنِ والحكمة.
وأوضحُ من هذا وأصرحُ: ما ذكره الزمخشري (6) في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن: 2] فإنه قال فيه ما لفظه: فإن قلت: نعم إن العباد هم الفاعلون للكُفْرِ، ولكن قد سَبَقَ في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلَاّ الكفر، ولم يختاروا (7) غيره، فماذا دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم، وهل خلقُ القبيح وخَلْقُ فاعل القبيح إلَاّ واحدٌ؟! وهل مثله إلَاّ مثل منْ وَهَبَ سيفاً باتراً لمن شُهِرَ بقطع السُّبل وقتل النفس
(1) في (ش): نص.
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
في (أ): " الإتيان " وهو خطأ.
(4)
1/ 62.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
4/ 103 - 104.
(7)
في (ش): " ولم يجاوزوا " وهو خطأ.
المُحرَّمة، فقتل به مؤمناً، أما يُطْبِقُ العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدَّقِّ في فَرْوَتِه كما يذُمُّون القاتل، بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد.
قلت: قد علمنا أن الله حكيمٌ عالمٌ بقُبح القبيح، عالمٌ بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كُلَّها حسنةٌ، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسناً، وأن يكون له وجه حسن، وعَدَمُ عِلْمِنِا لا يقدح في حُسِنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلُنا بداعي الحكمة إلى (1) خلقها. انتهى بحروفه (2).
وفي قوله: ما دعا الحكيم (3) إلى خلقهم مع علمه بما (4) يكون منهم، إشارةٌ إلى قول أهل السنة: إن الإرادة لا يَصِحُّ توجُّهُها إلى تحصيل ما منع منه علم الغيب من حصوله.
فإن ادَّعت المعتزلة أن وجه الحكمة في خلق من سبق العلم بأنهم من أهل
(1) في (أ): " وخلقها "، وهو خطأ.
(2)
قال الإمام ناصر الدين أحمد بن المنير في " الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال " 4/ 113 معقباً عليه: لقد ركب عمياء، وخبط خبط عشواء، واقتحم وعراً، السالك فيه هالك، والعابرُ فيه عاثر، وإنما ينصب إلى مهاوي الأراك، ويحوم حول مراتع الأشراك، ويبحث، ولكن على حتفه بظلفه، ويتحذق وما هو إلَاّ يتشدَّق، ويتحقق وما هو إلا يتفسق، وهب أنه أعرض عن الأدلة العقلية والنصوص النقلية المتضافرة على أن الله تعالى خالق كل شيء، واطرد له في الشاهد ما ادعاه، ومن مذهبه قياس الغائب على الشاهد، قد التجأ إلى الاعتراف بأن الله خالق العبد الفاعل للقبيح، وأن خلق العبد الفاعل للقبيح بمثابة إعطاء السيف الباتر للرجل الفاجر، وأن هذا قبيح شاهداً، ولا يلزم أن يكون مثله قبيحاً في خلق الله تعالى، أفلا يجوز أن يكون منطوياً على حكمة استأثر الله تعالى بعلمها، فما يؤمنه من دعوى أن أفعال العبد وإن استقبحها العقلاء مخلوقة لله تعالى، وفي خلقها حكمة استأثر الله بعلمها، وهل الفرق إذا إلَاّ عين التحكم ونفس اتباع الهوى هذا ودون تمكنه من اتباع هده القواعد أن يمكن من القتاد اختراط، ومن الجمل أن يلج في سم الخياط.
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): ما.
الكُفر جليٌّ، ظهر عنادهم.
وإن تطلَّبوا له وجهاً خفياً لطيفاً كما يأتي أمكن مثلُه في الإرادة من غير تأويلٍ كما يأتي أيضاً. وإن خصُّوا ظواهر آيات المشيئة بالتقبيح مع تجويزهم مثل ما دلَّت عليه مما لا تقبله العقولُ من خلق من المعلوم من حال (1) أنه من أهل الكفر والفساد في الأرض، ومن أهل النار في الآخرة، وتمكينه من الكفر والفساد ليكون من أهل الصلاح عاجلاً، ومن أهل الجنة آجلاً (2) مع العلم عند قصد الإحسان إليهم بذلك أنه لا يحصُلُ منهم إلَاّ نقيضه، ولا يَقَعُون إلَاّ في ضِدِّه، ثم قبَّحنا (3) العفو عنهم مع قطعنا بأن الإحسان إليهم هو القصد الأول، وأن علم الغيب بما يقعُون (4) فيه من المضَارِّ بسبب هذا (5) والقصد (6) سابقٌ له ومقارن، كنا قد وقعنا من مخالفة قضايا العقول في مثل ما مَنَعْنَاه من ظواهر آيات المشيئة كما يأتي مقرراً أوضح من هذا وأبسط.
هذا الذي يؤمن به أهل السنة (7) في الابتداء والانتهاء، ويمتنع (8) منه أهل البدعة في الابتداء، ثم يرجعون إليه في الانتهاء، ولكن المبتدع لا يرجِعُ إلى الإيمان الجملي إلَاّ بعد الحكم بتقبيح أكثر الظواهر من الآيات والأخبار، والخبط في التأويل المتعسِّف بغير علم ولا موجبٍ صحيح، ثم يقعُ في مثل ما مَنَعَ، ويلتزم أرك مما أنكر في زعمه وأشنع، ويجعل (9) إيمانه الجملي فيما انتهى إليه رأيه، وحار فيه عقله، ووقفته عليه شيوخه.
والسُّنيُّ يؤمِنُ بآيات الله تعالى، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الأمر، ولا
(1)" من حال " ساقطة من (أ).
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
في (ب): مع تقبيحنا.
(4)
في (ش): يفعلون.
(5)
في (أ) مكان " هذا " بياض.
(6)
في (ش): " القصد " دون واو.
(7)
من قوله: " كما يأتي " إلى هنا ساقط من (ش).
(8)
في (ش): ويمنع.
(9)
في (ش): ويحصل.
يقفُو ما ليس لَهُ به علمٌ من التأويل، ويجعلُ إيمانه الجملي في مواقع (1) النصوص الشرعية، وموافقة الآيات القرآنية.
والسني (2) آمن بكلام الله وإن أنكر العقل ظاهره لعلمه بثبوت حكمة الله تعالى في تأويله الباطن، ونعني بالتأويل ها هنا الحكمة في الشيء مع بقائه على ظاهره كتأويل استخلاف آدم وذريته في الأرض، وتأويل ما أنكره موسى من الخَضِرِ عليهما السلام، ولم يَزَلْ ذلك سُنَّة المؤمنين، بل سنة المرسلين كما خرَّجه مسلمٌ في " الصحيح "، وأحمد في " المسند "، والترمذي من حديث ابن عبَّاس في تفسير قوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} (3)[البقرة: 284].
وسببُ نزول آخر السورة خرجه أحمد من حديث عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن حميد بن قيس الأعرج، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس (4) وهذا إسنادٌ على شرط الجماعة، وفي حُميدٍ الأعرج خلافٌ لا يضُرُّ (5) خصوصاً، وقد خرَّج مسلمٌ وأحمد من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة (6)
(1) في (ش): مواضع.
(2)
في (ش): فالسني.
(3)
أخرجه أحمد 1/ 233، ومسلم (126)، والترمذي (2992)، والنسائي في التفسير كما في " التحفة " 4/ 391، والطبري (6457) و (6537)، وابن حبان (5069)، والواحدي في " أسباب النزول " ص 60، والحاكم 2/ 286، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 210 - 211 من طرق عن وكيع، عن سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وسيذكر المؤلف نصه.
(4)
أخرجه أحمد 1/ 332. وأخرجه الطبري (6461) من طريق عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، بهذا الإسناد.
(5)
في (ش): قريب.
(6)
أخرجه أحمد 2/ 412، ومسلم (125)، وأبو عوانة 1/ 76 و77، والطبري (6456) و (6538)، وابن حبان (139) من طرق عن العلاء، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 127، وزاد نسبته إلى ابن أبي داود في " ناسخه "، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
نحو حديث ابن عباس.
ولفظ ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} [البقرة: 284] دخل في قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل في قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" قولوا سمعنا وأطعنا وسَلَّمنا "(1) قال: وألقى الله (2) الإيمان في قلوبهم (3)، فأنزل الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، فقال: قد فعلتُ {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال: قد فعلتُ.
أخرجه مسلم (4).
ولفظ حديث أبي هريرة: أنها لما نزلت أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَبِ، وقالوا: كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق
…
وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقُها، قال:" أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما اقترأها القوم وذلَّت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك، نسخها الله، فأنزل عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم (5){وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} قال: نعم.
(1) من قوله: " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
زيادة من مصادر التخريج.
(3)
مكان قوله: " وألقى
…
" بياض في (أ).
(4)
رقم (126).
(5)
قوله: " قال: نعم " ساقط من (ش).
وخرَّج الترمذي (1) بعضه مختصراً من حديث علي عليه السلام.
وخرجه البخاري (2) كذلك مختصراً من حديث بعض (3) أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والعَجَبُ من المعتزلة أن الذي حملهم على تأويل آيات المشيئة الفرار من الإيمان بالمتشابه في العقل إلى (4) المحكم فيه، ثم زعموا أن الله تعالى ما خلق أهل النار إلَاّ للأصلح لهم في الأخرة، وليُحسن إليهم بالخلود في الجنة على أبلغِ الوجوهِ أو للتعريض لذلك، والتمكين منه.
فالتعريض عندهم هو الغَرَضُ، والأصلح الذي هو ثمرته غرض الغرض كما سيأتي.
لكن لم يكن في مقدوره تبليغهم ذلك على تلك الصفة البليغة مع اعترافهم أنه قادر على إدخالهم الجنة على حالٍ دون تلك الحال البليغة بأن يلْطُف بهم لُطفاً يختارون معه فعل الخير على حدِّ اختيار الربِّ عز وجل، وذلك بأن يُعرِّفَهم قُبحَ القبائح، ولا يجعل لهم إليها داعياً، وأنه لو فعل هذا، لاستحق الثناء العظيم استحقاقاً واجباً على أبلغ الوجوه كما يستحقُّه الرب تعالى، ولَسَلِمُوا من استحقاق الذمِّ والعقاب، ولَصَلَحوا مع ذلك للتفضُّل عليهم بالخلود في الجنة، وما فاتهم إلَاّ كونُ هذا الخلود غيرَ مستَحَقٍّ لهم بأعمالهم على جهة الوجوب على الله تعالى.
(1) برقم (2990).
(2)
برقم (4545) و (4546) من طريق شعبة، عن خالد الحذاء، عن مروان الأصفر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحسبه ابن عمر (وفي الرواية الأخرى: وهو ابن عمر): (إن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه) قال: نسختها الآية التي بعدها.
(3)
من قوله: " علي " إلى هنا ساقط من (ش).
(4)
في (ش). ورده إلى.
وزعمت المعتزلة أن الأصلح لأهل النار من هذا كُلِّه خلقُ دواعٍ إلى القبائح بعلم الله تعالى علماً لا يقع خلافه ألبتة أنه (1) سبحانه متى (2) خلقها لهم وقعت القبائح دون الطاعات، واستحقَّ فاعلوها العقاب الشديد الدائم والذم وأعظم المضار، ووفعوا في ذلك، وخُلِّدُوا فيه أبداً، وأن الله تعالى إنما فعل دواعي الشر هذه مع علمه الغيب بما يكون من عاقبة أهلها في العذاب الدائم إرادةً منه سبحانه لدخول أهل النار الجنة، وقصداً لما هو الأصلحُ في آخرتهم.
بل قالت المعتزلة: إن الله تعالى قادرٌ على أن يبني الكفار والشياطين مثل بنية الملائكة والأنبياء، ولو فعل ذلك لآمنوا (3) كما يأتي، ويأتي (4) الدليل على صحته. ومع هذا قطعوا أن الله أراد بخلقهم على بِنيةٍ علم أن من خُلِقَ عليها يختارُ الكفر، ولا يقبل اللُّطف ألبتة أن يُؤمنوا ويَسْعَدُوا في الآخرة، ويكون ثوابهم في أعظم المراتب، أو لتعرضهم إلى ذلك بالتمكين (5) كما سيأتي أنه يؤول إلى معنى واحدٍ.
فيا عجباه إن أحكم الحاكمين، وأقدر القادرين أراد عندهم الإحسان إلى أهل النار بالجنة، أو ما يُصَيِّرُهم إليها على أتم الوجوه، فلم يَقْدِرْ على ذلك عندهم، ولا وَسِعَتْ قدرتُه وألطافُه أن تبلُغَ ذلك.
ثم يا عجباه أحين عُلِمَ أن ذلك لا يدخُلُ تحت مقدوره عند المعتزلة مع أنه غاية مقصوده الذي خلق العوالم كلَّها له، كيف لم يعدل عن تحصيله على أتم الوجوه إلى تحصيله على أنقص من الأتَمِّ، فيدخلهم الجنة على أحد صور.
إما بأن يخلقُهَم على بِنْيَةٍ مثل بنية المعصومين على قول من يقول منهم: إن الله قادر على ذلك، بل هو قولهم الجميع كما سيأتي.
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): حين.
(3)
في (ش): لاستووا.
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
ساقطة من (أ).
أو بأن لا يخلق لهم الدواعي إلى القبيح على ما تقدم. أو بمجرد (1) عفوه عن ظلمهم أنفسهم، فإنهم ما ظلموه عز وجل ولكن ظلموا أنفسهم (2) كما قال سبحانه، وقد علَّق الوعيد بشرط المشيئة في غير آية، وذلك يُخرجه عن الخُلْفِ والكذب.
ولو قدرنا أن (3) الوعيد قد ورد على صورةٍ يقبُحُ العفوُ منها (4). فعلم الغيب السابق أن وعيد العُصاة يكون سبباً لقُبح العفو عنهم كان يقتضي عدم الوعيد على هذه الصورة المانعة من العفو، فإن من له إرادةٌ في الإحسان إلى غيره بأمر من الأمور، إن علم أنه لا يتمكن من ذلك الأمر (5) على أبلغ الوجوه عَدَلَ إلى تحصيله بدون ذلك، وترك كُلَّ ما يعلم أنه سيكون سبباً في بطلان ما أراده، كما قيل:
إن الكريم على الإحسان يحتالُ
وكان ذلك (6) أولى من فوات جميع مقصوده بالضرورة وفي الأمثال: إن للشرِّ خياراً (7).
وقالوا:
حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ (8)
(1) في (ش): لمجرد.
(2)
من قوله: " فإنهم " إلى هنا ساقط من (ش).
(3)
في (ش): ولو قدر بأن.
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
ساقطة من (ش).
(7)
يضرب عند تفاوت ما بين الشرين حتى يكون الأدنى خيراً بالقياس إلى الأعلى. انظر " فصل المقال " للبكري ص 244، و" زهر الأكم في الأمثال والحكم " للحسن اليوسي 1/ 138.
(8)
عجز بيت لطرفة، صدره:
أبا مُنْذِرٍ أفنَيْتَ فاستَبْقِ بعضَنا
أنظر " ديوانه " ص 48، و" الكتاب " لسيبويه 1/ 348، و" المقتضب " للمبرد =
فأمَّا أنه أولى من حصول ضدِّ غاية مقصوده، ونقيض منتهى مراده فمما لا يختلف فيه، أفما كان علمه الغيب بما يصيرون إليه من عظيم المضارِّ الدائمة مع قصده زيادة الإحسان إليهم بخلق دواعي الشرور يكفيه صارفاً يقاوم داعي الإحسان إليهم بمجرد التعريض، ويعارضه حتى يَرُوحوا كَفَافاً لا لهم ولا عليهم. وما فائدة علم الغيب السابق إذا كان صاحبه يَقَعُ في نقيض مقصوده؟ تعالى الله عن ذلك.
وقد قال تعالى حاكياً (1) عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء} [الأعراف: 188]، وقال الله عز وجل:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] فاحتجَّ على انتفاء العجز بمجموع صفتي العلم والقدرة، لأن القادر متى كان جاهلاً، فقد يفوته مراده بسبب جهله، والعالم متى كان عاجزاً، فاته مراده بسبب عجزه، ومن جمع تمام العلم وتمام القدرة، استحال أن يفوته مراده قطعاً عقلاً وسمعاً.
فدلَّ القرآن والبرهان على أن عالم الغيب كما لا يَمَسُّه السوء، كذلك لا يمسُّ من أراد نجاته من السوء، وكيف لا ينجو من السُّوء (2) من أراد له عالم الغيب بلوغ أبلغ مراتب الفوز بالرضوان، والدوام في الجنان.
ويرد على اعتذارهم عن ذلك بوجوب العذاب لوجوب الصدق في الوعيد مع ما تقدم في ذلك من وجهٍ آخر جيدٍ جداً، وذلك أن الوعيد (3) لم يَصدُر حتى
= 3/ 224، و" معجم مقاييس اللغة " لابن فارس 2/ 25، و" دلائل الإعجاز " للجرجاني ص، و" اللسان "(حنن)، وابن يعيش 1/ 118، و" التصريح على التوضيح " 2/ 37، و" الهمع " 1/ 190، و" المستقصى في أمثال العرب " للزمخشري 2/ 10، و" زهر الأكم " 1/ 197.
(1)
ساقطة من (أ).
(2)
في (أ): أسوأ السوء.
(3)
من قوله: " مع ما تقدم " إلى هنا ساقط من (ش).
أراد الله عذاب العصاة، وأراد عدم العفو عنهم قبل الوعيد، وإرادته هذه على تقدير أنه مريدٌ بالتكليف لهم الإحسان إليهم يناقض ذلك، فإن العفو عنهم من غير تقدُّم إرادة الإحسان إليهم أفضل وأرجح، فكيف مع إرادة (1) الإحسان وإرادة المرجوح مرجوحة، والمرجوح وإرادته لا يصح أن يقعا من الحكيم العالم بأنه مرجوحٌ، الغني عنه لولا أن لله تعالى حكمة (2) بالغة غير ما ذكروه، فتعيينهم لها في ذلك الوجه الضعيف جنايةٌ منهم على حكمة الله تعالى البالغة، وحجته الدامغة، وعلمه الغيوب، وحكمه الذي لا مُعَقِّب له سبحانه وتعالى، وأعظم من هذا (3) اعتقادُ المعتزلة لوجوب دوام تعذيب العباد على الرب الذي أوجبوا عليه في الابتداء إرادة الأصلح لهم في آخرتهم، فما أبعد ما أوجبوه في الابتداء من مناسبة ما أوجبوه في الانتهاء حتى قطعوا بتقبيح العفو من الرب الغنيِّ الحميد، وقَضَوْا باستحقاقه لو عفا عنهم - الذم واللائمة العظيمة.
ولقد عظُمت غفلتُهم حين أوجبوا في الابتداء ما (4) هو غيرُ مقصود لنفسه من التكليف بعد خلق العقول، بل مقصودٌ لتمام النعيم في الانتهاء، ثم أوجبوا بطلان المقصود لنفسه في الانتهاء، وهو تمام النعيم، بل أوجبوا ضده وهو العذاب الدائم.
وأبعد من هذا وأفسد قول البغدادية من المعتزلة بوجوب دوام العذاب مُعلِّلين لذلك بأنه الأصلحُ للعباد، وعدم وجوب شيء من الثواب مع أنه أصلح لأهل الجنة.
فإذا ضممت هذه الأقوال إلى ما عُلِمَ بالضرورة من العقلاء من أن المقصود في الأمور هو عواقبها لا سيما العواقب الدائمة، وأن الوسائل والمبادىء
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (أ): أن الله وهو خطأ.
(3)
من قوله: " وعلمه " إلى هنا ساقط من (ش).
(4)
في (ش): بما، وهو خطأ.
والمقدمات غيرُ مقصودة في أنفسها، وأن من علم عدم تمام أمرٍ لم يشرع في (1) مقدماته، ولا يشتغل بمبادئه وإن فعل ذلك مع علمه ببطلانِ مقصوده في العاقبة عُدَّ عابثاً، بل وجوب ذلك ممتنع عقلاً وشرعاً وإجماعاً عند (2) العقلاء كما يأتي في مسألة الدواعي بيانه، فكيف بمَنْ علم أن مقصوده في العاقبة منعكس عليه.
ويكفيك وضوحاً في بطلان قول المعتزلة في هذه المسألة أنه يستلزم أن الله تعالى عَمِلَ بغير علمه، بل عمل على ما يُضادُّ العمل بعلمه.
وقد أجمع أهل العلم والعقل على ذم العمل بغير العلم، وعلى أن ثمرة العلم وسبب شَرَفِه وفضله هو العمل به، ولا سيما العلمُ بالعواقب، وما يتمُّ من المراد منها، وما لا يتم.
وقد عبَّر الحكماء عن ذلك بقولهم: إن أول الفكرة آخرُ العمل، وبقولهم: إنَّ الخير هو المقصود الأول في فعل كل حكيم. وهذا هو المراد لنفسه، والشر لا يكون في فعل الحكيم إلَاّ وسيلةً إلى غيره كالحجامة وسيلة إلى العافية، والعافية هي المقصود الأول المراد لذاته، والحجامة وهي الشرُّ هي المقصود الثاني المراد لغيره، أي للخير، ولا يدخُلُ الشرُّ المحضُ في فعل الحكيم، ولا يريده لنفسه ألبتة.
فوضَحَ بهذا أن المعتزلة حافظوا على رعايةِ التحسين العقلي حين أخلُّوا بصفة القدرة الربانية، وتأوَّلوا آيات المشيئة القرآنية، وانعكس عليهم مقصودهم في رعاية التحسين العقلي بالكلية مع سوء ما ارتكبوا في التوصل إليه من توهين (3) القدرة والمشيئة.
فما أقبح ما توصَّلوا به، وما أفسد ما انتهوا إليه، وأقبح من هذا قول من نفي
(1) من قوله: " والمقدمات " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
في (ش): من.
(3)
تحرفت في (ش) إلى: تهوين.
حكمة الله تعالى ظاهراً وباطناً كما سيأتي بيانه مطوَّلاً مستقصىً.
وإنما حكمة الله تعالى في الدنيا ما نصَّ عليه تعالى في كتابه من إقامة حجته وعدله عند العقاب، وظهور رحمته وفضله قبل ذلك، وغير ذلك من تمييز الخبيث من الطيب، وبلوى خلقه أيُّهم أحسن عملاً، ونصر المؤمنين، والانتقام للمظلومين، وما (1) لا يعلمه إلا هو كما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
وقد عَلَّلَ الربُّ تعالى تركه بسط الرزق لكونه مفسدة لجميع المخلوقين عُموماً، فثبت أنه تعالى لا يفعل مفسدةً لهم، وأن أفعاله معلَّلَةٌ بالمصالح وإن خَفِيَتْ علينا كما سيأتي مبسوطاً.
وربما استقبحوا هذه العبارة، فقالوا: إنما خلقهم ليعرضهم لذلك لا سوى، لا ليدخلوا الجنة، فيلزمُهم مذهبُ أهل السنة في امتناع تعلُّق الإرادة بما (2) علم الله أنه لا يقع، إذ لا قُبْحَ في إرادة الإحسان إليهم بدخول الجنة، وإثابتهم بها عند استحقاقهم ذلك، واستجماع شرائط حسنةٍ كما يحسُنُ منه ذلك في خلق من عَلِمَ أنه يؤمن ويدخُلُها، ولا قُبْحَ في إرادة ذلك.
وإنما يمتنع ذلك (3) حيث يصادم العلم الإرادة، وقد غَلِطَ من ظَن (4) تقدُّم الإرادة لذلك من قبيل تعظيم من لا يستحق التعظيم، لأن إرادة المقدمات فرع إرادة ما هي وسيلة إليه.
ولذلك قيل: أول الفكرة آخر العمل، على أن التعريض لو سُلِّم أنه المراد، لما كان مُراداً لنفسه كما زعم المعتذر (5) بذلك منهم، وإلا لما وَجَبَ اللطفُ، ولا قَبُحَتِ المفسدة، ولا حَسُنَ العقاب خصوصاً حيث لا ثمرة له تعودُ عليهم بالصلاح، كعقاب الآخرة الدائم، إنَّ التعريض قد حَصَلَ، ولا يستحقُّ العقابُ عقلاً بتركه.
(1) في الأصلين: ولما.
(2)
في (ش): لما.
(3)
في (ش): من ذلك.
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
في (ش): " المعتزل "، وهو خطأ.
ولو سلمنا أن الانتفاع به حسنٌ لنفسه فذلك بشرط أن لا يعاقبه الله تعالى على عدم الانتفاع به، وأن لا يعلم فاعل التعريض وهو الله سبحانه أنه يكون سبباً في العذاب الأكبر.
فمتى عَلِمَ ذلك، كان تركه أرجح بالنسبة إلى النظر لمن قصد (1) الإحسان إليه بذلك التعريض.
وقد أحتجت المعتزلة على وجوب اللُّطف بأن تركه يدلُّ على مناقضة قصد تاركه لما دعاه إليه الداعي من الإحسان إلى الملطوف به، وكذلك يناقضه علمه بالعواقب المضادة لمراده.
وقد ضَعَّفَ الشيخ مختار في كتابه " المجتبى " كلام أصحابه المعتزلة في الاعتذار بالتعريض، وقال ما لفظه: قوله: لا نُسَلِّمُ بأن غرضه استحقاق الجنة.
قلنا: إنه غرضه أو غرض غرضه لأن الغرض من التمكين إنما هو الاستحقاق.
انتهى بحروفه من المسألة التاسعة عشرة في زيادة شهوةٍ تلازمها المعصية (2) في خاتمة أبواب العدل.
ويدلُّ على ذلك من السمع قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون} [الأنفال: 23] وهي حجة واضحة على أن مجرد التعريض الذي سبق في العلم أنه لا يُقبل مما لا يُتشاغل به.
وكذلك يدلُّ على حسن الإعراض عن طلب حصول ما سبق في العلم أنه لا يحصُلُ.
وأما قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] فليس فيه أن المقصود من إنذار من كان مُسْرِفاً هو التعريض، بل
(1) في (ش): قصده.
(2)
في (ش): العصمة.
الواجب (1) حملُه على ما صرَّح القرآن به من إقامة الحجة كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165] فتأمَّل ذلك.
وأيضاً فقد سَمَّى الله الرسل مُبَشِّرين ومنذرين، بل قَصَرَهُم على ذلك، ولم يُسَمِّهِم مُعَرِّضين، وذكر الابتلاء والإنذار والعُذْرَ، وعلَّل بها ولم يذكر التعريض ولا علَّل به، وهكذا المبتدعة يتركون المنصوص ويأتون بما يخالف العقل والسمع.
ويعضُدُ ذلك من السمع مثل قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 10 - 11] الآية، وقوله:{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُون} [يونس: 101] وما في هذا المعنى، وهو كثير، وهو واضحٌ في أن المراد إقامة الحجة عليهم لا وقوع المطلوب منهم، المعلوم أنه لا يَقَعُ.
ويُشبه ذلك منعهم من الإضلال، تأويلُه بالخِذْلان ولا فرق في المعنى.
وقد أخطأتِ المعتزلة في هذه المسألة وأمثالها في وجهين:
الأول: القطع بتقبيح ظواهر القرآن والسنة من غير موجِبٍ، وترجيحُ ما لا يَحْتَمِلُ التأويل على ما يحتملُه.
بيانه أنه دار الأمر بين عدم قدرة الرب سبحانه وتعالى عن ذلك- على هداية العُصاة، وبين إضلالهم، لكن أهل السنة رَأوْا قُبْحَ الإضلال يحتمل التأويل لخفاء وجه الحكمة، وكونه مُحتملاً عقلاً كما خَفِي على موسى تأويل الخَضِرِ، وهذا مجال مُتَّسِعٌ لأربابِ (2) النظر، كيف لعلام الغيوب الذي تَقِلُّ البحار أن تكون مِداداً لكلماته؟!
(1)" بل الواجب " ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): لأهل.
وأما نفي القدرة فإنه (1) صفة نقص لذاته، وليس يَحتمل أن يكون الله غير قادر لوجه حسن مثل ما يحتمل أن يكون (2) مضلاًّ لوجهٍ حسن كما نبَّه عليه القرآن في قوله تعالى:{وما يُضِلُّ به إلَاّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها.
وقد أجمعُوا على جواز المتشابه الذي يدخله التأويل دون صفات النقص المَحضَةِ التي لا يُمكنَ مثل ذلك فيها، على أنه سوف يقوم الدليل على قدرة الله تعالى على هداية العُصاة اختياراً على قواعد المعتزلة من جهة تغيير البِنْية وترك الأسباب المضلةِ الزائدة على أصل التكليف، وغير ذلك كما يأتي بيانه بعون الله.
وثانيهما: تكلُّف تعيين ما أراده الله من ذلك بغير حجةٍ وذلك خطأ عقلاً وسمعاً.
أما العقل، فلأن المتأوِّل إما أن يقطع على أن تأويله هو مراد الله (3)، وأنه لا يَصِحُّ تأويل سواه، فهذا خطأ، لأنه لا دليل على نفي ما عداه من التأويل.
وأقصى ما في الباب أنه طلب سواه فلم يَجِدْ، لكنَّ عدمَ وجدان الطالب لا يستلزم عدم المطلوب في نفس الأمر عند الله، وكم من طالبٍ لأمرٍ لا يجدُه المدة الطويلة، ثم يجدُه هو أو غيره، وإن لم يقطع على أن تأويله هو مراد الله، ولا على انتفاء غيره من التأويلات، فمجرد الاحتمال ليس بتفسير ولا معنى للظن في مسائل الاعتقاد الجازم لا سيما مع الموانع السمعية منه إلَاّ ما خصَّه الإجماع وغيره من العمل بالظن في غير مواضع القطع، ولأنهم تأوَّلوا آيات الإضلال والمشيئة بالتعجيز، وهو خطأ لوجهين:
أحدهما: أن التعجيز شرٌّ منه كما مضى تقريره.
وثانيهما: أنه لا يزول معه التقبيحُ العقلي، لأن العقل يستقبح طلب حصول ما
(1) في (ش): فهو.
(2)
من قوله: " الله غير قادر " إلى هنا ساقط من (أ).
(3)
في (ش): المراد لله.
المعلوم أنه لا يحصُلُ، وإن كان مقدوراً ويمنع من إمكان إرادته، فوَجَبَ الإيمان بحكمةٍ مجهولةٍ إلَاّ أن يدُلَّ السمعُ عليها.
وأما السمع فقوله تعالى: {ابتغاءَ الفِتنَةِ وابتغاءَ تأويلهِ} إلى قوله: {وما يعلَمُ تأويلَه إلَاّ الله} [آل عمران: 7] ويأتي تقريرها إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وفي ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من قال في القرآن بغيرِ علمٍ، فليتبوَّأ مقعَدَهُ من النَّار ".
وفي رواية: " من قال في القرآن برأيه، فليتبوَّأ مقعده من النار ". أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسنٌ، والنسائي (1).
قال المِزِّيُّ في " أطرافه "(2). رواه الترمذي في التفسير عن محمود بن غَيْلانَ، عن بِشْر بن السري، عن سفيان عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (3).
(1) إسناده ضعيف. أخرجه الترمذي (2950) و (2951)، والنسائي في " فضائل القرآن "(109) و (110). وهو في " سنن أبي داود " برواية أبي الحسن العبدي كما في " تحفة الأشراف " 4/ 23، وليس هو في رواية اللؤلؤي المطبوعة المتداولة.
وأخرجه أحمد 1/ 233 و269 و327، والطبري في " جامع البيان "(73) و (74) و (75). ومداره عند الجميع على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وابن سعد، والدارقطني، وقال ابن عدي: يحدث بأشياء لا يتابع عليها، وقال النسائي. ليس بالقوي، ويكتب حديثه، ومع ذلك فقد حسن الترمذي حديثه هذا، كما نقله المؤلف عنه.
(2)
4/ 423.
(3)
من قوله: " عن عبد الأعلى " إلى هنا ساقط من (أ).
وعن سفيان بن وكيع، عن سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة.
ورواه أبو داود في كتاب العلم عن مسددٍ عن (1) أبي عوانة (2)، عن عبد الأعلى به.
ورواه النسائي في " فضائل القرآن " عن عبد الحميد بن محمد، عن مخلد ابن يزيد.
وعن أحمد بن سليمان، عن أبي نعيم ومحمد بن بِشْر.
وعن بُندار، عن يحيى بن سعيد أربعتهم عن سفيان مثل الأول.
وعبد الأعلى ضعيفٌ، ولكن يتقوى بحديث جُندب، وعموم القرآن والنظر، وشرط الترمذي فيما قال (3): حسن، أن يأتيَ من غير وجهٍ (4).
وعن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في كتاب (5) الله برأيه فأصاب فقد أخطأ " أخرجه أبو داود والترمذي وقال: غريبٌ، والنسائي (6).
(1) في (أ): " و"، وهو خطأ.
(2)
من قوله: " عن أبي عوانة " إلى هنا ساقط من (ش).
(3)
في (ش): قاله.
(4)
نص كلامه في كتاب " العلل ": وما ذكرنا في هذا الكتاب: " حديث حسن " فإنما أردنا به حسن إسناده، عندنا كل حديث يُرى لا يكون في إسناده مُتَّهم بالكذب، ولا يكون حديثاً شاذاً ويُروى من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن.
(5)
في (أ): القرآن.
(6)
أبو داود (3652)، والترمذي (2952)، والنسائي (111).
وأخرجه الطبري (80). وفي سنده عندهم سهيل بن أبي حزم -واسمه مهران، ويقال: عبد الله- القطعي البصري. قال البخاري: لا يتابع في حديثه، يتكلمون فيه، وقال مرة: ليس بالقوي عندهم، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أحمد: روى أحاديث منكرة، وقال النسائي: ليس بالقوي.
قال المزي (1): رواه أبو داود في العلم عن عبد الله بن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إسحاق الحَضْرمي (2) المقرىء، عن سُهيل بن مِهْران -وهو ابن أبي حَزْم القُطَعي- عن عبد الملك بن حَبيب أبي (3) عمران الجَوْني البصري، عن جُندب.
ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حُميد، عن حَبَّان بن هلال، عن سُهيل به، وقال: غريبٌ. وقد تكلم بعض أهل العلم في سُهيل.
والنسائيُّ في فضائل القرآن عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن يعقوب به. انتهى.
قال ابن مَعينٍ في سُهيل: إنه صالح (4)، وصحح له الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك ".
وأما قول أبي بكر رضي الله عنه في " الكلالة ": أقولُ فيها برأيي (5)، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه قال فيها بمقتضى لُغتهم في " الكلالة " كما قد صحَّ ذلك الذي قاله في النقل عن أهل اللغة، وليس ذلك هو المفهوم من الرأي في الأعصار الأخيرة، وإنما سماه رأياً على عادتهم في الورع من تفسير القرآن بغير النصوص النبوية لما يدخُلُ التفسير باللغة من احتمال الاشتراك والتخصيص
(1)" تحفة الأشراف " 2/ 444.
(2)
تحرفت في (ش) إلى: الحضري.
(3)
في (ش): " ابن "، وهو خطأ.
(4)
قال هذا في رواية إسحاق بن منصور، وقال في رواية أحمد بن زهير: ضعيف. وقد تقدم تضعيفه عن غير واحد من الأئمة.
(5)
تقدم تخريجه في 3/ 352.
والمجاز ونحو ذلك. ولذلك كَرِهَ عمر رضي الله عنه السؤال (1) عن الأب (2) مع أنه بحثٌ لغويٌّ مَحْضٌ.
وكذلك تحرَّوْا في بعض الأخبار الآحاد، وطلبوا التوابع والشواهد حتى كاد عمر يستريبُ في حديث عمار في التيمُّم (3)، كل ذلك طلباً للظنِّ الأقوى، أو العلم اليقين إن أمكن.
وثانيهما: أن ذلك في العمليات، ولا نزاع فيها لمكان الضرورة.
قال بعضهم: تجويز إرادة القبيح لحكمةٍ لا يعلمها إلَاّ الله يستلزم تجويز الكذب، وبعثه الكذابين بالمعجزات لحكمةٍ لا يعلمها إلَاّ الله سبحانه، فيجب تعيينها.
قلنا: هذا ممنوعٌ من وجوهٍ:
أولها: أن تجويز إرادة القبيح ممنوعٌ عند أهل السنة والأشعرية، وقد نصَّ الشهرستاني على ذلك في " نهاية الإقدام " واحتجَّ عليه وجوَّد الكلام كما يأتي قريباً، وما يوجد من خلاف ذلك في كلامهم، فإنه مجازٌ، حقيقته إرادة أفعال الله الحسنة المتعلقة بأفعال العباد القبيحة، بل منعوا من تعلُّق إرادته تعالى
(1) ساقطة من (أ).
(2)
أخرجه ابن سعد 3/ 327، والطبري 30/ 59، والحاكم 2/ 514 من طرق عن أنس، ولفظه: قرأ عمر: (عبس وتولى) حتى أتى على هذه الآية: {وفاكهةً وأبّاً} قال: قد علمنا ما الفاكهة، فما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 8/ 421 و422 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردوية، والبيهقي في " شعب الإيمان " والخطيب، وابن الأنباري في " المصاحف ".
(3)
تقدم تخريجه 1/ 450.
بطاعات العباد إلَاّ على تلك الصفة كما يأتي نصُّهم على ذلك وحجتهم فيه.
وثانيها: أن ذلك إنما يجوز فيما تقبيحُ العقل له (1) ظاهرٌ ظنيٌّ، أو وهمٌ غَلَطي.
وأما ما عُلِمَ قُبْحُه بضرورة العقل، فلا يجوز ذلك فيه، ولا شكَّ أن اختيار الكذب وبعثة الكذابين بالمعجزات على الصدق، وبعثة الصادقين مرجوحٌ قبيح على كُلِّ تقدير.
أما إن لم يُجوَّزْ في ذلك خير ولا حكمة، فظاهر.
وأما إن يُجَّوز (2) فيه شيء من الخير النادر، فلا شك أن الصدق وبعثة الصادقين أكثر دفعاً للفساد والمفاسد وجلباً للصلاح والمصالح، وتجويز خلاف ذلك يؤدي إلى أن لا يوثَقَ لله تعالى بكلامٍ، ولا لأحدٍ من رسله الكرام لا في دينٍ، ولا في دنيا، ولا جِدٍّ، ولا هَزْلٍ، ولا وعدٍ، ولا وعيدٍ، ولا حلالٍ، ولا حرامٍ، ولا عهدٍ، ولا عَقْدٍ، ولا [يوجد] أعظم فساداً مما يؤدي إليه هذا بالضرورة.
ونحن لم نقل بتجويز جهل العقل والعقلاء لمثل هذه الأمور الضروريات الجليات، وإنما جوَّزنا جهله للحِكم الخفيات، ولا شك أن المملكة لا يصلُحُ أهلها مع كثرتهم، واختلاف طبائعهم إلَاّ بأن يكون الملك عزيزاً مهيباً كريماً حليماً تُخافُ وقائعُه، وتُرجى (3) صنائعه، له السطواتُ والبأسُ الشديد، والجُودُ العام لجميع الرعايا والعبيد، فهو مرجوٌّ مخوفٌ ودودٌ رؤوفٌ، فكيف يُنْكَرُ أن يكون لمالك الملوك والممالك، ورب العوالم من هذا الكمال أعظمه، ولن يكون كذلك إلا بالوعد والوعيد، والترغيب والتهديد، وجهل العبيد لخواتمهم، وتواضعهم لمكان علمهم بجهلهم وعجزهم.
(1) في (ش): فيه.
(2)
في (ش): جوز.
(3)
في (ش): كما ترجى.
وكيف يُجعَلُ وجود الشر والأشرار مع ذلك خليّاً عن الحكمة الخفية، والغايات الحميدة؟!
أو كيف يُنظم مثل ذلك في سلك (1) القبائح الضرورية، والمفاسد الجلية، وكم بين الحق والباطل، والظلمات والنور.
وإنما لو عَلِمَ الخلق بالحكمة في خلق الأشقياء على التفصيل، لفسدوا، كما أنه لو بسط الرزق، لفسدوا، أو رفعه هلكوا، ولو قنطُوا، أو قَطَعُوا بالأمان لفسدوا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وقد تشوَّفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رؤية جبريل على خِلْقَتِه، فرآه كذلك فخرَّ مغشيّاً عليه (2)، بل قال الله تعالى:{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18].
وصحَّ في الحديث " أن الكافر لو يعلم بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار "(3).
وقد اعترفت المعتزلة بأن التقبيح العقلي ينقسم إلى ضروري عقلي كتقبيح الكذب الضار، واستدلاليٍّ كتقبيح الكذب النافع، فهذا الاستدلاليُّ يقع فيه
(1) في (ش): تلك.
(2)
أخرجه ابن المبارك في " الزهد "(221) عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبرئيل أن يتراءى له في صورته، فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك، فقال:" إني أحب أن تفعل "، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته، فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه
…
وهذا مرسل عن ابن شهاب الزهري، ومرسلاته عند يحيى بن سعيد القطان شبه الريح.
(3)
أخرجه أحمد 2/ 334 و397 و484، والبخاري (6469)، ومسلم (2755)، والترمذي (3542)، وابن حبان (345) و (656)، والبغوي في " شرح السنة "(4180) من طريقين عن أبي هريرة.
الوهم والخطأ، والصحيح والسقيم، والخلاف بين العقلاء (1) كسائر الاستدلاليات، ولا شكَّ بأن المنفعة التي تُحسنُه عند بعض العقلاء هي المنفعة الراجحة الخالية عن المعارض الراجح.
وأما لو نَزُرَتِ المنفعة وعَظُمت المفسدة، كان من القسم الأول القبيح بالضرورة، مثالة: من يعرفُ أنه إذا كذب حصل له درهمٌ، وضُرِبَتْ عُنُقُهُ، أو (2) هُتِكَتْ حُرْمتُه.
وثالثهما: أن قُبْحَ ذلك ضروري إن لم يُتَوَسَّل به إلى غرضٍ راجح على ما فيه من المفاسد غير مقدور عليه إلَاّ بواسطة الكذب، وبعثة الكذابين.
وقد ثبت أن الله على كل شيء قدير عقلاً وسمعاً وإجماعاً، فكيف يجوز عليه أن يتوسَّل إلى مرادٍ له بما لم تُجَوِّز المعتزلة على أحد من العقلاء؟! فإنهم قطعوا على كل عاقل أنه يختار الصدق ويُرجحه إذا قيل له: إن صدقت فلك درهم، وإن كذبتَ فلك درهم، بل عَقَلَتِ العربُ ذلك في جاهليتها (3) وأنشد علماء المعاني فيما يدل على ذلك:
والعيشُ خيرٌ في ظِلا
…
لِ الجهلِ ممَّن عاشَ كَدّا
أي: مع العقل ليقع التعارض الخفي الذي يحسن الخير عنده (4) والاختبار، فأما تفضيل (5) العيش والعقل مجتمعين على الجهل والكَدِّ مجتمعين فلا يحسن الخبر به والاختبار، لأنه بمنزلة الخبر بأن الكل أكثر من البعض.
فاعرف ذلك.
ولا شكَّ (6) أن المُهَوِّنَ لقبح القبائح هو العجز وتحقق الضرورة أو مقارنتها،
(1) في (ش): العقلي.
(2)
في (ش): و.
(3)
في (ش): بل عقله العرب في جاهليتها.
(4)
ساقطة من (أ).
(5)
في (أ): تفضل.
(6)
في (أ) مكانها بياض.
ولهذا (1) كان أبغض الناس إلى الله ثلاثة:
أحدهم: الملك الكذَّاب كما ورد ذلك في الحديث الصحيح (2)، وذلك لاستغنائه بالقدرة عن الحيلة بالكذب، فكيف يجوز ذلك على ملك الملوك، ورب الأرباب الذي إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له: كن فيكون.
وخرج الطبراني في " أوسط معاجمه " من حديث الفضل بن عيسى الرَّقاشي، عن الحسن البصري، قال: خطبنا أبو هريرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليَعذِرَنَّ الله إلى آدم يوم القيامة ثلاث معاذير، يقول: يا آدم لولا أني لعنتُ الكذابين، وأبغضتُ الكذب والحَلِفَ وأوعدتُ عليه لرَحِمْتُ اليوم ولدك أجمعين "(3).
ورابعها: أن العلم بقصد تصديق (4) الرسول عَقِبَ (5) المعجز ضروري عند الأشعرية كما هو مقرَّرٌ في كتبهم، بل المعارف كلُّها ضرورية عند جماعة من شيوخ الاعتزال، وكثير من أهل السنة كما مرَّ تقرير ذلك، وذكر الأدلة عليه في الوهم الخامس عشر من هذا الكتاب.
(1) في (ش): " فلذا إن "، وهو خطأ.
(2)
قطعة من حديث، ولفظه:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذَّاب، وعائل مستكبر ". أخرجه مسلم (107)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 10/ 84، والبيهقي 8/ 161، والبغوي (3591) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه بلفظ: " الإمام الكذاب ": أحمد 2/ 433، والنسائي 5/ 86، وابن حبان (4413).
(3)
ضعيف. آفته الفضل بن عيسى الرقاشي، وقد اتفقوا على ضعفه.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 347 - 348 بأطوال مما هنا، ونسبه إلى الطبراني في " الأوسط "، وأعله بالفضل بن عيسى الرقاشي، فقال: هو كذاب. قلت: لم أجد أحداً اتهمه بالكذب.
(4)
في (ش): بفضل الرسول.
(5)
في (أ) عقيب.
وخامسها: أنه يلزَمُهم استحالة أن يكون الربُّ أعلم بالحكم، والمصالح، والمُرَجِّحات الخفية، وقد علم تفاضل علماء النظر في ذلك إلى شأوٍ بعيدٍ، فكيف بالملك الحميد المجيد؟! بل العالم يعلم اختلاف أحوال نفسه في ذلك، ومَنْ فوقه ومَنْ دونه.
وسادسها: أن قصة الخَضِرِ وموسى مانعةٌ ما (1) ذكروه منعاً قاطعاً، لأن موسى عليه السلام لم يعلم وجهاً مُحسناً لما فعله الخضِرُ لا جُملةً ولا تفصيلاً، ولذلك سماه أمراً نُكراً، وقد علم الله من وجوه الحكمة في ذلك ما لم يعلمه موسى عليه السلام، بل علم الخضر فيه (2) ما لم يعلم موسى عليهما السلام، بل قال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلَاّ كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر (3). بل قال الله تعالى: {فلا تَضْرِبُوا لله الأمثالَ إنَّ الله يعلمُ وأنتم لا تعلمون} [النحل: 74] وهي من أنفع آية في هذا المعنى.
وسابعها: قصة الملائكة حيث قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فهذا قاطع بأنهم ما عرفوا وجه الحكمة في ذلك على التفصيل، بل ولا أعلمهم الله في جوابه عليهم بالكلية حيث قال:{إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
فيا عجباً للمعتزلي كيف لم يقنع بما قنعتْ به الأنبياء والملائكة، ومن لم يقنع بما قنعوا كيف يقنع بكلام أئمة السنة، ويُنَاظِرُ مناظرة السلف الصالح، وهو جديرٌ بأن يلحق بالذين قالوا لجوارحهم يوم القيامة:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
وثامنها: أنهم لم يجدوا وجهاً تفصيلياً (4) صحيحاً مُرضياً في هذه المسألة كما مر بيانه.
(1) في (ش): مما.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
قصة الخضر مع موسى أخرجها بطولها البخاري (4725).
(4)
في (أ): تفصيلاً.
وقد صرح الزمخشري في " كشافه " بصحة العلم الجملي في هذا الباب، واضطر إلى ذلك، وهو من أئمة الاعتزال، ولم ينقِم ذلك عليه أحدٌ مع كثرة رجوعهم إلى تفسيره، وتعظيمهم له.
وكذلك الشيخ مختار المعتزلي العلامة اختار ذلك في " المجتبى " وأورد السؤال المقدم بتحريرٍ آخر، وجوّد الجواب عنه، فقال في السؤال:
فإن قيل على الوجه الإجمالي: لو كان هذا التكليف حكمة، فإما أن تكون (1) موافقةً للعقل، أو مخالفة للعقل.
فإن كانت مخالفة للعقل لا تكون حكمة، وتكون واجبة الرد.
ولو كانت موافقة للعقل، لعقلناه عند التأمل والتفكر كسائر العلوم العقلية.
وقال في الجواب بعد منع الحصر: لا نُسلِّمُ أنها إذا كانت موافقة للعقل عقلناها، وكم من أشياء توافق العقل ولا يعقلها العقلاء إلَاّ بعد التعريف، ألا ترى أن خرق الخضر السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار كانت موافقة للعقل، ولم يعقلها موسى عليه السلام إلَاّ بعد التعريف.
وكذا خلق الخليفة في الأرض كان مُوافقاً للعقل، ولم تعقله الملائكة عليهم السلام.
وكذا الأعمال الهندسية والحسابية، ودقائق أكثر الحِرَفِ، والصناعات وأفاعيل الأغذية والأدوية.
وكذلك خلقُ مَنِ المعلوم منه أنه يكفُرُ أو يفسق يشتمل على حكمةٍ توافق العقل لو علمها العقلاء بدلالة صدوره من الحكيم.
ثم أورد الشُّبه التي في الباب والجواب عنها، ثم عقَّب ذلك بقوله: ثم
(1) في الأصلين: كانت.
اعلموا أن هنا أصلاً جليلاً لو تحققه العاقل سَهُلَ عليه حل أمثال هذه الشبه، وهو أن من الأفعال والأحكام ما يَنْفِرُ (1) عنه الطبع وينكره العقل أشدَّ الإنكار في الظاهر، فإذا ظَفِرَ بالحكمة ووجه المصلحة، عاد إنكاره استحباباً، واستقباحه استحساناً.
ألا ترى أن كليم الله موسى مع كمال فطنته، ووفور علمه أنكر خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار أشد الإنكار، فلما علم الحكمة الخفية فيها استحسنها
…
إلى قوله: - فإذا جاز أمثال هذا في من استُهدِفَ للخطأ والنسيان ألا يجوز في أفعال أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين حِكَمٌ كامنة، ومصالح باطنة، وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى:{إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] جواباً لقول الملائكة: {أتجعلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ}
…
إلى قوله: - وايمُ الله إن هذه الشُّبَه كانت تُقلِقُني في شبابي، فلما تحقَّقتُ هذا الأصل الجليل، اطمأن قلبي، وأضحى في مواطن (2) الحكم ومجازاتها مكيناً رصيناً حتى لو كُشِفَ الغطاء ما ازددت يقيناً. انتهى بحروفه.
فدل على أنهم يعترفون بمذهب أهل السنة عند حاجتهم إليه.
وكذلك قال ابن الملاحمي في كتابه " الفائق ": إن الله خلق الكفار على بِنْيَةٍ يعلم أنه لا لُطف لمن خُلِقَ عليها، مع قدرته على أن يخلقهم على بِنيةٍ قابلةٍ للُّطفِ، بل على مثل بِنية الأنبياء والأولياء لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو، وهو من كبار شيوخ الاعتزال. وقد تقدم كلام الزمخشري منقولاً بلفظه، وسيأتي كلام ابن الملاحمي.
الدليل الثاني: وهو المعتمد أن كثرة هذه النصوص، وتَرْداد تلاوتها بين السلف (3)
(1) في (ش): ينبو.
(2)
في (ش): " مواقف ".
(3)
في (ش): بين السلف والخلف.
من غير سماع تأويلٍ لها، ولا تحذير جاهلٍ عن اعتقاد ظاهرها، ولا تنبيهٍ على ذلك حتى انقضى عصر النبوة والصحابة، يقضي بالضرورة العادية أنها غير متأولة، وإلى هذا الوجه أشار قوله تعالى:{ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الأحقاف: 4] ويا لها من حجة قاطعة للمبتدعة لمن تأملها في هذا الموضع، وفي الكلام في الصفات وفي أمثال ذلك، لأنه لا يجوز في العادة أن يمضي الدهر الطويل على إظهار ما يقتضي بظاهره نسبة القبيح إلى الله وسبَّه ونفي حكمته على زعم المعتزلة، وله تأويلٌ حسن، فلا يذكر تأويله ألبتة، وسواءٌ كان ذكره واجباً أو مباحاً، بل العادة تقتضي أنه لو كان حراماً (1) وإليه داعٍ لفعله بعض الناس كما يُعلم ضرورة أنه لا يكون في المستقبل عصرٌ لا يوجد فيه عاصٍ في دار التكليف والابتلاء ما دامت أحوال المكلفين على ما هي عليه، ولا سيما إذا كان الأمر المسكوت عن تأويله من المحارات مثل هذه المشكلة عند المخالف، فإنه يلزمه أن العادة تقضي بالخوض فيها ضرورة، ولذلك كثُر خوضهم في مسألة الأقدار التي مسألة المشيئة إحدى أركانها، وتواتر كثرة سؤالهم عن ذلك لعظم إشكاله، وتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزمهم العمل والإيمان بالقدر.
وقد ذكرت في هذا فيما يأتي أكثر من مئتي حديث مع ما ذكرت فيه من الآيات الكريمة، وفي جميع تلك الأحاديث لم يُذكر في ذلك تأويل ألبتة.
وقد ذكر الرازي بحثاً طويلاً في اللغات من كتاب " المحصول "(2) في المنع من إفادة السمع القطع بسبب ما يَعْرضُ في (3) الألفاظ المفردة ثم في تراكيبها من الاحتمالات التي وردت بها اللغة مثل الاشتراك والمجاز والحذف ونحوها، وذكر أنه لا دليل على عدمها إلَاّ عدم الوِجدان بعد الطلب وأنه دليل ظني، وذكر
(1) في (ش): جواباً.
(2)
1/ 1/363 و366 و547 و573 و575 - 576. وانظر بحثي الاشتراك والمجاز ص 359 فما بعدها.
(3)
في (ش): من.