الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: وأما
حديث كعب بن عجْرَةَ
، ققال محمد بن حميد، حدثنا إبراهيم ابن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن كعب بن عُجرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: الزيادة (1) النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (2).
فصل: وأما
حديث فضالة بن عبيد
، فقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا محمد بن المهاجر، عن ابن حلبس، عن أبي الدرداء (3)، أن فضالة -يعني ابن عُبيدٍ- كان يقول: اللهم أني أسألك الرضا بعد القضاء، وبَرْدَ العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرةٍ ولا فتنةٍ مضلَّةٍ (4).
فصل: وأما
حديث عبادة بن الصامت:
ففي " مسند " أحمد من حديث بقية: حدثنا بحير (5) بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عمرو بن الأسود، عن جُنادة بن أبي (6) أمية، عن عُبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد (7)
= وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 357، وزاد نسبته إلى الطبري، وابن أبي حاتم، والدارقطني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب " الرؤية ".
(1)
ساقطة من (ب) و (ش).
(2)
تقدم تخريجه ص 72.
(3)
كذا في الأصول و" حادي الأرواح " ص 230، وفي مصادر الحديث: عن أم الدرداء.
(4)
إسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة "(427)، والطبراني في " الكبير " 18/ (825)، و" الأوسط "، واللالكائي في " أصول الاعتقاد "(847) من طريق عمرو بن عثمان (هو الحمصي)، حدثنا أبي عن محمد بن المهاجر، عن ابن حلبس (وهو يونس بن ميسرة بن حلبس) عن أم الدرداء، عن فضالة بن عبيد وفيه عندهم زيادة، وهي: وزعم أنها دعوات كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 177، ونسبه للطبراني في " الكبير " و" الأوسط "، وقال: رجاله ثقات.
(5)
تحرف في الأصول إلى: يحيى.
(6)
ساقطة من (ش).
(7)
ساقطة من (ج).
حدثتكم عن الدَّجَّال حتى (1) خشيتُ ألا تَعقِلوا، إن مسيحَ الدجال رجلٌ قصير، أفحجُ، جعدٌ، أعورٌ، مطموس العين، ليس بناتئةٍ ولا حَجْراء، فإن التبس عليكم [قال يزيد: ربكم] فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربَّكم حتى تموتوا" (2).
وأما حديثُ الرَّجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصغاني: حدثنا روح بن عُبادة، حدثنا عباد بن منصور، قال: سمعت عديَّ بن أرطاة يخطب على المنبر بالمدائن، فجعل يَعِظُ (3) حتى بكى وأبكانا (4)، ثم قال: كونُوا كرجل قال لابنه وهو يعظه: يا بُني، أوصيك أن لا تُصَلَّي صلاة إلَاّ ظننت أنك لا تصلي بعدها غيرها حتى تموت، وتعال يا بني (5) نعمل عمل رجلين كأنهما قد وقفا على النار، ثم سألا الكرَّة، ولقد سمعت فلاناً نَسِيَ (6) عبَّادٌ اسمه - ما بيني وبين رسول الله غيره، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة ترعُدُ فرائصهم من مخافته، ما منهم مَلكٌ تقطُرُ دمعةٌ من عينه إلَاّ وقعت مَلَكاً يسبح الله، قال: وملائكة سجود منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافِّهم ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان
(1) ساقطة من (ش)
(2)
إسناده حسن، رجاله ثقات، وبقية قد صرح بالتحديث، وفيه كلام ينزله عن رتبة الصحيح وهو في " مسند أحمد " 5/ 324.
وأخرجه أيضاً من طريق بقية بن الوليد: أبو داود (4320)، وابن أبي عاصم (428)، والآجري ص 375، والدارمي في " الرد على بشر المريسي " ص 301، واللالكائي (848).
وقوله: " حجراء " قال الهروي: إن كانت هذه اللفظة محفوظة، فمعناها: أنها ليست بصلبة متحجرة.
(3)
في (ش): يعظ الناس.
(4)
في (د) و (ش): وأبكي.
(5)
في الأصول: " ويقال بني "، والتصحيح من " حادي الأرواح ".
(6)
في (ش): ينسى.
يوم القيامة وتجلَّى لهم ربهم، فينظروا (1) إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك" (2).
فصل: وهاكَ بعض ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وأئمة الإسلام من بعدهم.
قول أبي بكر الصديق: قال أبو إسحاق، عن عامر بن سعدٍ، قرأ أبو بكر الصديق:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فقالوا: ما الزيادة يا خليفة رسول الله؟ قال: النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى (3).
قول علي بن أبي طالب عليه السلام قال عبد الرحمن بن أبي حاتمٍ، حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة الهمداني، حدثنا صالح بن أبي خالدٍ العنبري، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عمارة بن عبد (4)، قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى الله
(1) في (ج) و (ش): فنظروا.
(2)
إسناده ضعيف. عباد بن منصور: ضعيف.
وأخرجه الخطيب البغدادي في " تاريخه " 12/ 306 - 307 من طريق الصغاني بهذا الإسناد.
وأخرجه أبو الشيخ في " العظمة "(515)، ومحمد بن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(260) من طريق النضر بن شميل، عن عباد بن منصور، به.
وأورده الحافظ ابن كثير من طريق المروزي وقال: وهذا إسناد لا بأس به.
(3)
هذا سند رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن رواية عامر بن سعد عن أبي بكر مرسلة، وقد تبينت الواسطة -وهو سعيد بن نُمران- في رواية الطبري (17611). قال الذهبي في " الميزان " 2/ 161: مجهول. وذكره ابن أبي حاتم، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأخرجه الطبري (17610)، واللالكائي (784)، وابن أبي عاصم (473) والآجري في " الشريعة " ص 257، وعبد الله بن أحمد في " السنة "(283) و (284) من طريق أبي إسحاق، به.
(4)
تحرفت في الأصول إلى: عبيد.
تبارك وتعالى في جنته (1).
وتقدم في الدليل الخامس من أدلة القرآن عنه رضي الله عنه: أن المزيد: النظر إلى وجه الله عز وجل. رواه الطبراني موقوفاً عليه (2).
وتقدم في الأحاديث روايته كرَّم الله وجهه مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه عنه يعقوب بن سفيان من طريق أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه (3)، عن جده عليهم السلام.
قول حذيفة بن اليمان: وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق (4)، عن مسلم بن يزيد، عن حذيفة بن اليمان: الزيادة: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى (5).
قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس: ذكر أبو عوانه عن هلالٍ، عن (6) عبد الله بن عُكَيمٍ، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذا المسجد، مسجد الكوفة يبدأ باليمين قبل أن يحدثنا، فقال، والله ما منكم من إنسانٍ إلَاّ أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدُكم بالقمر ليلة البدر. قال: فيقول: ما غرَّك بي يا ابن آدم -ثلاث مرات - ماذا أجبت المرسلين -ثلاثاً-؟ كيف عَمِلتَ فيما عَلِمْتَ؟ (7).
(1) علي بن ميسرة: قال أبو حاتم: صدوق، وصالح بن أبي خالد: لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلاً. أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي، وأبو إسحاق: هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وعمارة بن عبد: قال الحافظ: مقبول.
وأخرجه اللالكائي (859) من طريق عبد الرحمن بن أبي حاتم، بهذا الإسناد.
(2)
تقدم في هذا الجزء.
(3)
ساقطة من (ب).
(4)
" عن أبي إسحاق " ساقطة من (ج).
(5)
تقدم تخريجه ص 459.
(6)
تحرفت في الأصول إلى: ابن.
(7)
إسناده صحيح. أبو عوانة: اسمه وضاح اليشكري، وهلال: هو ابن أبي حميد. =
وقال ابن أبي داود، حدثنا أحمد بن الأزهر، حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثنا أبي، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: كل من دخل الجنة يرى الله عز وجل؟ قال: نعم (1).
قال أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ وأبي صالح، عن ابن عبَّاسٍ
…
وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود: الزيادة: النظر إلى وجه الله (2).
قول معاذ بن جبل: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخرَّاز (3)، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون أبي حمزة (4)، قال: كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال
= وأخرجه الطبراني في " الكبير "(8899)، واللالكائي (860) من طريق أبي عوانة.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة "(288) و (289)، والطبراني (8900) من طريق شريك -وهو ابن عبد الله النخعي- عن هلال، به وشريك متابع.
(1)
إسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن الحكم، وأبوه -وهو الحكم بن أبان- له أوهام.
وأخرجه الآجري في " الشريعة " ص 257 عن ابن أبي داود، بإسناده.
(2)
أورده اللالكائي (787) عن ابن أبي حاتم، أخبرنا ابن أبي داود السجستاني، حدثنا الحسين بن علي بن مهران الفسوي، حدثنا عامر بن الفرات، عن أسباط بن نصر، به.
الحسين بن علي: ذكره ابن أبي حاتم 3/ 56، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً، وعامر بن الفرات: أورده ابن حبان في " الثقات " 8/ 501، وأبو مالك: هو غزوان الغفاري، وأبو صالح: هو باذام -ويقال: باذان- مولى أم هانىء، ضعيف، وقد تابعه أبو مالك، وهو ثقة. وأثر ابن مسعود هو أيضاً عند اللالكائي (788) بإسناد الذي قبله، ومرة الهمداني: هو ابن شراحيل.
(3)
بالخاء المعجمة، ثم راء مهملة، فألف فزاي، ذكره ابن حجر في " تبصير المنتبه " 1/ 332، وقد تصحف في الأصول إلى:" الجزار ".
(4)
في الأصول و" حادي الأرواح ": " ابن أبي حمزة "، وهو خطأ، وفي (ش): ميمون بن حمزة، وهو خطأ أيضاً.
له: أبو عُفيف، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عُفيف، ألا تُحدِّثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يُحشرُ (1) الناس يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ، فينادى: أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرحمن لا يحتجب الله منهم (2) ولا يستتِر. قلت: مِنِ المتقون؟. قال: قومٌ اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله تعالى بالعبادة، فيمرون إلى الجنة (3).
قول أبي هريرة: قال ابن وهب: أخبرني ابن لَهِيعَة، عن أبي النضر أن أبا هريرة كان يقول: لن تَرَوْا ربكم حتى تذوقوا الموت (4).
قول عبد الله بن عمر: قال حُسين الجُعفي، عن عبد الملك بن أبْجر، عن ثوير (5)، عن ابن عمر، قال: إن أدني أهل الجنة منزلة من ينظُرُ إلى مُلكه ألفي عام يرى أدناه كما يرى أقصاه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كلِّ يوم مرتين (6).
(1) عند اللالكائي: يحبس.
(2)
في (ش): عنهم.
(3)
إسناده ضعيف لضعف ميمون أبي حمزة. وأبو العُفيف: ذكره ابن سعد في " الطبقات " 7/ 439 في تابعي أهل الشام، وقال: قال: شهدت أبا بكر الصديق وهو يبايع الناس.
وضبطه ابن ماكولا 6/ 225، والذهبي في " المشتبه " 2/ 465 بضم العين المهملة وفتح الفاء، وقالا: ابن العفيف. وسماه ابن معين في " كتاب التابعين ": يزيد بن العُفيف في تابعي أهل الجزيرة. والأثر أورده اللالكائي (864) عن عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده.
(4)
ابن وهب: هو عبد الله، وابن لهيعة: اسمه عبد الله، ورواية ابن وهب عنه صحيحة.
وأبو النضر: هو سالم بن أبي أمية، ثقة وكان يرسل.
وأخرجه اللالكائي (865) عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن يحيى بن إسماعيل المصري، أخبرنا ابن وهب، به.
(5)
في (ب): ثور.
(6)
أخرجه اللالكائي (866) من طريق حسين الجعفي، به. وقد تقدم مرفوعاً.
قول فضالة بن عُبيد: ذكر الدارمي عن محمد بن مهاجر، عن ابن حلبس، عن أبي، الدرداء أن فضالة بن عبيدٍ كان يقول: اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك. وقد تقدم (1).
قول أبي موسى الأشعري: قال وكيع عن أبي بكر الهُذلي، عن أبي تميمة، عن أبي موسى، قال: الزيادة: النظر إلى وجه الله (2).
وروى يزيد بن هارون وابن أبي عدي، عن التيمي، عن أسلم العِجلي عن أبي مُرَاية، عن أبي موسى الأشعري، أنه كان يحدث الناس فشَخَصوا (3) بأبصارهم، فقال: ما صرف أبصاركم عني؟ قالوا: الهلال. قال: فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة (4).
قول أنس بن مالك: قال ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا شريك عن أبي اليقظان، عن أنس بن مالك في قول الله عز وجل:{ولدينا مزيد} [ق: 35] قال: يظهر لهم الربُّ تبارك وتعالى يوم القيامة (5).
قول جابر بن عبد الله: قال مروان بن معاوية، عن الحكم بن أبي خالد، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأُدِيمَ عليهم بالكرامة، جاءتهم خيولٌ من ياقوتٍ أحمر لا تبولُ ولا تروثُ، لها أجنحةٌ فيقعُدُون (6) عليها، ثم يأتون الجبار عز وجل، فإذا تجلى لهم، خرُّوا له سُجَّداً، فيقول: ارفعوا رؤوسكم فقد رضيت عنكم رضاً لا سخط بعده (7).
(1) تقدم ص 114.
(2)
تقدم.
(3)
في غير (ب): فيشخصوا.
(4)
أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 264، وعبد الله في " السنة "(278)، واللالكلائي (862).
(5)
تقدم ص 103.
(6)
في (ش): فيقعدوا.
(7)
إسناده ضعيف جداً. الحكم بن أبي خالد: هو الحكم بن ظهير، ترك حديثه البخاري =
قال الطبراني: فتحصَّل في الباب ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة حديث الرؤية ثلاثةٌ وعشرون نفساً، منهم: علي، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وجرير، وأبو موسى، وصهيب، وجابر، وابن عباس، وأنسٌ، وعمَّار بن ياسر، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعُبادة بن الصامت، وعَدي بن حاتم، وأبو رزين العُقيلي، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وبُريدة بن الحُصيب، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الدارقطني: أخبرنا محمد بن عبد الله، حدثنا جعفر بن محمد بن الأزهر، حدثنا مفضل بن غسان، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عندي (1) سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صِحاحٌ.
وقال البيهقي: روينا في إثباث الرؤية عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبي موسى وغيرهم، ولم يُرْوَ عن أحدٍ منهم نفيُها، ولو كانوا فيها مختلفين، لنُقِلَ اختلافهم إلينا، كما أنهم [لمَّا] اختلفوا في الحلال والحرام والشرائع والأحكام، نُقِلَ اختلافهم في ذلك إلينا، وكما أنهم لما اختلفوا في (2) رؤية الله بالأبصار في الدنيا، نقل اختلافهم في ذلك إلينا، فلما نقلت رؤية الله سبحانه بالأبصار في الآخرة عنهم، ولم يُنقل
= وأبو حاتم والنسائي وأبو زرعة، ورماه غيرهم بالوضع. ومروان بن معاوية: هو الفزاري، ثقة من رجال الجماعة، إلَاّ أنه كان يدلس أسماء الشيوخ، قال ابن معين، كان مروان بن معاوية يغير الأسماء، يعمي على الناس، كان يقول: حدثنا الحكم بن أبي خالد، وإنما هو الحكم بن ظهير. والحسن: هو البصري، وهو مدلس وقد عنعن.
وأخرجه الآجري في " الشريعة " ص 267 - 268 من طريق الحسين بن الحسن المروزي، قال: حدثنا مروان بن معاوية، بهذا الإسناد.
وأخرجه أيضاً ص 267 من طريق سويد بن سعيد، عن مروان بن معاوية. قلت: سويد بن سعيد: قال فيه الحافظ: عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه.
(1)
ساقطة من (أ).
(2)
من قوله: " الحلال والحرام " إلى هنا ساقط من (ب).
عنهم في ذلك اختلافٌ كما نُقِل عنهم فيها اختلاف في الدنيا، علمنا أنهم كانوا على القول برؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة متفقين مُجمعين (1).
وقد أشار البيهقي باختلافهم في الرؤية في الدُّنيا إلى ما تقصاه القاضي عياض في " الشِّفاء "(2) وغيره. ومعظم ذلك حديث عائشة الذي رواه عامرٌ الشعبي عن مسروق عنها. وخرَّجه أكثر الجماعة من هذه الطريق، وأكثر الروايات أن عائشة قالت في تفسير آية النجم:" إنه جبريل " موقوفاً عليها. وكذا رواه البُخاري عن ابن عون (3) عن القاسم عنها موقوفاً (4)، يحتمل أنه تأويلٌ منها، كما رُوي نحو ذلك عن ابن مسعود موقوفاً (5).
وأما رواية الرفع عن عائشة فانفرد (6) بها داود بن أبي هند، عن الشعبي وخالفه إسماعيل بن أبي خالد ومجالدٌ (7) عن الشعبيِّ بالحديث سنداً ومتناً (8)، وليس فيه تصريح عائشة برفع ذلك، ولعلَّ البخاري إنما تجنَّب حديث داود بن أبي هند لمثل ذلك والله أعلم. ولعل هذه علة الحديث، وإلاّ لما ساغ لابن عباس مخالفته. فإن صحَّ مرفوعاً، لم يَحِل لأحدٍ مخالفته، وإذا (9) لم يصح، وجب الوقف أو كان أرجح لاحتمال صحته والله أعلم.
(1) في (ش): مجتمعين.
(2)
1/ 195.
(3)
تحرف في الأصول إلى: عوف.
(4)
هو في " صحيح البخاري " رقم (3234).
(5)
أخرجه البخاري (3232) و (4856) و (4857) عن زر بن حبيش في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: حدثنا ابن مسعود أنه -أي: جبريل- له ست مئة جناح.
(6)
في (د) و (ش): فإنه تفرد.
(7)
في (ب): " خالد "، وهو تحريف.
(8)
في الأصول: " مسنداً ومبيناً "، والمثبت من (ش).
(9)
في (ب) و (ش) و (ج). وإن.
فصل: وأما التابعون، ويَزَكُ الإسلام، وعصابة الإيمان منهم أئمة (1) الحديث والفقه والتفسير وأئمة التَّصوُّف، فأقوالهم (2) أكثرُ من أن يُحيط بها إلَاّ الله عز وجل.
قال سعيد بن المسيب: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه مالك عن يحيى عنه (3).
وقال الحسن: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه ابن أبي حاتم عنه (4).
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه حماد ابن زيد، عن ثابت، عنه (5).
وقاله عامر بن سعد البجلي، ذكره سفيان عن أبي إسحاق عنه (6).
وقاله عبد الرحمن بن سابط. رواه جرير، عن ليث، عنه (7).
وقاله عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وكعب (8).
(1) في (ش): أهل.
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
أخرجه اللالكائي (789) من طريق مالك، به.
(4)
أخرجه الطبري (17624)، واللالكائي (790) و (791).
(5)
أخرجه الطبري (17619) و (17622)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 182، وعبد الله في " السنة "(255)، واللالكائي (792) من طرق عن حماد بن زيد، به.
(6)
أخرجه اللالكائي (792)(793)، وابن خزيمة ص 183 من طريقين عن سفيان، به.
وأخرجه الطبري (17613)، وعبد الله بن أحمد في " السنة "(285) و (286) من طريقين عن أبي إسحاق، به. وقد تحرف " سعد " في الأصول إلى:" سعيد " و" عن أبي إسحاق " إلى: " ابن أبي إسحاق ".
(7)
أخرجه اللالكائي (795)، والطبري (17632) من طريق جرير، به.
وأخرجه عبد الله في " السنة "(292) عن هشيم، عن فطر بن خليفة، عن ابن سابط.
(8)
قول عكرمة أخرجه اللالكائي (796) و (803) و (804)، وعبد الله (295)، والآجري =
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: أما بعد، فإني أُوصيك بتقوى الله، ولزوم طاعته، والتَّمسُّك بأمره، والمُعاهدة على ما حمَّلك الله من دينه، واستحفظك مني كتابه. فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها وافقوا أنبياءه، وبها نُضِّرت وجوههم، ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمةٌ في الدنيا من الفتن، ومن كُرَب (1) يوم القيامة (2).
وقال الحسن: لو يعلم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابَتْ أنفُسُهم في الدنيا (3).
وقال الأعمش وسعيد بن جبير: إن أشرف أهل الجنة لمن ينظر إلى الله تبارك وتعالى غُدوة وعشية (4).
وقال كعبٌ: ما نظر الله عز وجل إلى الجنة قط إلَاّ قال: طيبي لأهلك، فزادت ضعفاً على ما كانت حتى يأتيها أهلها، وما من يوم كان لهم عيداً في الدنيا إلَاّ يخرجون في مقداره في رياض الجنة، فيبرُزُ لهم الرب تبارك وتعالى، فينظرون إليه، وتسعى عليهم الرِّيح المِسْكُ، ولا يسألون الرب تعالى شيئاً إلا أعطاهم حتى يرجعوا وقد ازدادوا على ما كانوا من الحسن والجمال سبعين ضعفاً
= ص 256 - 257.
وقول مجاهد أخرجه اللالكائي (797) و (801) و (802)، وعبد الله (294).
وقول قتادة أخرجه الطبري (17629) و (17630)، واللالكائي (798)، وابن خزيمة ص 184.
وقول السدي عزاه السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 359 للداقطني في " الرؤية ".
وقول الضحاك عزاه السيوطي للدارقطني.
(1)
تحرفت في الأصول إلى: " كتب "، والمثبت من " حادي الأرواح ".
(2)
أخرجه الدارمي في " الرد علي بشر المريسي " ص 305.
(3)
أخرجه اللالكائي (869)، وعبد الله (300)، والآجري في " الشريعة " ص 253.
(4)
في (ش): غدواً وعشياً.
ثم يرجعون إلى أزواجهم وقد ازدَدْنَ مثل ذلك (1).
وقال هشام بن حسان: إنَّ الله سبحانه يتجلَّى لأهل الجنة، فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة (2).
وقال طاووس: أصحاب المراء والمقاييس لا يزال بهم المِراء والمقاييس حتَّى يجحدوا الرؤية، ويُخالفوا السنة (3).
وقال شريك عن أبي إسحاق السبيعي (4): الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى (5).
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه تلا هذه الآية:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، أُعطوا فيها ما شاؤوا، فيقول الله عز وجل لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعطَوهُ، فيتجلَّى لهم ربَّهم، فلا يكون ما أُعطوا عند ذلك بشيءٍ، فالحسنى الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه ربهم عز وجل. {ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهمُ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]: بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى (6).
وقال علي بن المديني: سألت عبد الله بن المبارك، عن قوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، قال عبد الله، من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل عملاً صالحاً، ولا يخبر به أحداً (7).
(1) أخرجه الآجري على 253، والدارمي ص 305.
(2)
وأخرجه بهذا اللفظ: الآجري ص 253 عن هشام بن حسان، عن الحسن قوله.
(3)
أخرجه اللالكائي (868).
(4)
تحرفت في (ش) إلى: الشعبي.
(5)
أخرجه الطبري (17615)، واللالكائي (794).
(6)
أحرجه الطبري (17622). وقد تقدم ص 418 من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب مرفوعاً.
(7)
أخرجه اللالكائي (895).
قال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: ما حجب الله عز وجل أحداً عنه إلَاّ عذبه. ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون} [المطففين: 15 - 17] قال بالرؤية. ذكره ابن أبي الدنيا عن يعقوب بن إسحاق (1) عن نُعيم (2).
وقال عبَّاد بن العوَّام: قدم علينا شريك بن عبد الله منذ خمسين سنة، فقلت له (3): يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث:" إن الله ينزل إلى سماء الدنيا "، و" إن أهل الجنة يرون ربهم "، فحدثني بنحو عشرة أحاديث في هذا، وقال: أما نحن، فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوا؟ (4).
وقال عُقبة بن قبيصة (5): أتينا أبا نعيم يوماً، فنزل إلينا من الدرجة التي في داره، فجلس وسطها (6) كأنه مُغضبٌ، فقال: حدثنا سفيان بن سعيد، ومنذرٌ الثوري وزهير بن معاوية، وحدثنا حسن بن صالح بن حي، وحدثنا شريك بن عبد الله النخعي وهؤلاء أبناء المهاجرين يُحدثوننا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة حتَّى جاء ابن يهودي صبَّاغ يزعم أن الله لا يُرى يعني بشراً المريسي.
فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة، ونُظرائهم، وشيوخهم، وأتباعهم على طريقهم ومنهاجهم.
(1) في (ش): عن سفيان.
(2)
أخرجه اللالكائي (894).
(3)
ساقطة من (ج).
(4)
أخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة "(326)، واللالكلائي (879).
(5)
تحرف في الأصول إلى: قبيصة بن عقبة، والتصحيح من " حادي الأرواح " وكتب الرجال، واللالكائي (887).
(6)
في (ج): في وسطها.
ذكر قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس: قال أحمد بن صالح المصري، حدثنا عبد الله بن وهب، قال: قال مالك بن أنس: الناس ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة (1) بأعينهم.
وقال الحارث بن مسكين، حدثنا أشهب، قال: سئل مالك عن قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] أتنظر إلى الله عز وجل؟ قال: نعم. فقلت: إن أقواماً يقولون: تنتظر ما عنده. قال: بل تنظر إليه نظراً، وقد قال موسى:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} (2)، [المطففين: 15].
وذكر الطبري (3) وغيره أنه قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يُرى، فقال مالك: السَّيفَ السَّيفَ (4).
ذكر قول ابن الماجَِشون: قال أبو حاتم الرازي: قال أبو صالح كاتب الليث أملى علي عبد العزيز بن أبي سلمة الماجَِشُون، وسألته عما تحدث (5) الجهمية، فقال: لم يزل يُملي لهم الشيطان حتى جحدوا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فقالوا: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحدوا والله أفضل كرامة الله التي كرَّم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونضرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فوربِّ السماء والأرض، ليجعلن رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثواباً لينضِّرَ بها وجوههم دون المجرمين، ويُفلج بها حجَّتهم على الجاحدين، وهم عن ربهم يومئذٍ محجوبون، لا يرونه كما زعموا
(1)" يوم القيامة " ساقطة من (ب).
(2)
أخرجه اللالكائي (871)، والآجري ص 254.
(3)
تحرفت في (ش) إلى الطبراني.
(4)
أخرجه اللالكائي (808) و (872).
(5)
في (ب) و (ش): " جحدت "، وعند اللالكائي: فيما أحدثت.
أنه لا يُرى، ولا يُكلِّمهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذابٌ أليم (1).
ذكر قول الأوزاعي: ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: إني لأرجو أن يَحجُبَ الله عز وجل جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فجحد جهم (2) وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه (3).
ذكر قول الليث بن سعدٍ: قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا الهيثم بن خارجة، قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: سألتُ الأوزاعي وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية، فقالوا: تُمَرُّ بلا كيفٍ (4).
قول سفيان بن عيينة: ذكر الطبري وغيره عنه أنه قال: من لم يقل: إن القرآن كلام الله، وإن الله يُرى في الجنة، فهو جهمي (5).
وذكر عنه ابن أبي حاتم أنه قال: لا يُصلِّى خلف الجهمي، والجهمي: الذي يقول: لا يرى ربه يوم القيامة (6).
قول جرير بن عبد الحميد: ذكر ابن أبي حاتم عنه أنه ذكر له حديث (7) ابن أسباط في الزيادة أنها النظر إلى وجه الله تعالى، فأنكره رجلٌ، فصاح به، فأخرجه من مجلسه (8).
(1) أخرجه اللالكائي (873).
(2)
في (ش): فجحد هو.
(3)
أخرجه اللالكائي (873).
(4)
أخرجه اللالكائي (875).
(5)
أخرجه اللالكائي (876).
(6)
أخرجه اللالكائي (878).
(7)
من قوله: " لا يرى ربه " إلى هنا ساقط من (ب).
(8)
أخرجه اللالكائي (880).
قول عبد الله بن المبارك: ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم عنه أن رجلاً من الجهمية قال له: يا أبا عبد الرحمن، خدارابآن جهان جون بينند ومعناه: كيف نرى الله يوم القيامة؟ فقال: بالعين (1).
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني يعقوب بن إسحاق، قال: سمعت نعيم بن حماد يقول (2): سمعت ابن المبارك يقول: ما حجب الله عز وجل عنه أحداً إلا عذَّبه، ثم قرأ:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 - 17]. وقال ابن المبارك، بالرؤية (3).
قول وكيع بن الجَّراح: ذكر ابن أبي حاتم أنه (4) قال: يراه المؤمنون في الجنة ولا يراه إلَاّ المؤمنون (5).
قول قتيبة بن سعيدٍ: ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: قول الأئمة المأخوذ به في الإسلام والسنة: الإيمان (6) بالرؤية، والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية (7).
قول أبي عبيدٍ القاسم بن سلام: ذكر ابن بطة وغيره عنه أنه ذُكرَتْ عنده هذه الأحاديث التي في الرؤية، فقال: هي عندنا حق. رواها الثقات عن الثقات إلى أن صارت إلينا، إلَاّ أنا (8)، إذا قيل لنا: فسِّروها، قلنا: لا نفسر منها شيئاً، ولكن
(1) أخرجه اللالكائي (881).
(2)
قوله: " سمعت حماد بن حماد يقول " ساقط من (ب).
(3)
أخرجه اللالكائي (894)، وقد تقدم ص 467.
(4)
في (ب): عنه أنه.
(5)
أخرجه اللالكائي (882).
(6)
في الأصول: والإيمان.
(7)
أخرجه اللالكائي (886).
(8)
ساقطة من (ب).
نمضيها كما جاءت (1).
قول أسود بن سالم شيخ الإمام أحمد: قال المروالروذي (2)، حدثنا عبد الوهاب الوراق، قال: سألت أسود بن سالم عن أحاديث الرؤية، فقال: أحلف عليها بالطلاق وبالنبي (3) أنها حق (4).
قول محمد بن إدريس الشافعي: قد تقدم رواية الربيع عنه أنه قال في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} لما حُجِبَ هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل أن أولياءه يرونه في الرضا. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال: نعم وبه أدين الله لو لم يُوقِنْ محمد بن إدريس أنه يرى ربه ما عبده (5).
وقال ابن بطة: حدثنا ابن الأنباري، حدثنا أبو القاسم الأنماطيُّ صاحب المزني، قال: قال الشافعي: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} على أن أولياءه يرونه يوم القيامة بأبصار وجوههم.
قول إمام السنة أحمد بن حنبل: قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: ربنا تبارك وتعالى، يراه أهل الجنة أليس (6) تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح.
قال ابن منصور: وقال إسحاق بن راهويه: صحيح، ولا يدعهُ إلَاّ مبتدع، أو ضعيفُ الرأي.
(1) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 255.
(2)
في (ج) و (ش): " المروزي "، وفي (ب):" المروذي ".
(3)
في " الشريعة " و" حادي الأرواح ": وبالمشي.
(4)
أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 254.
(5)
أخرجه اللالكائي (883).
(6)
في (ش): ألست.
وقال الفضل بن زياد: سمعتُ أبا عبد الله يقول له: أتقول بالرؤية؟ فقال: مَنْ لم يقل بالرؤية فهو جهمي.
وقال: وسمعت أبا عبد الله -وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله لا يُرى في الآخرة- فغضِبَ غضباً شديداً، ثم قال (1): من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فقد كفر، عليه لعنةُ الله وغضبه من كان من الناس، أليس يقول الله عز وجل:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؟ وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (2).
وقال أبو داود: سمعت أحمد وذُكِرَ له عن رجل شيءٌ في الرؤية فغضب، وقال: من قال: إن الله لا يُرى فهو كافرٌ (3).
قال أبو داود: وسمعت أحمد - وقيل له في رجل يحدِّث بحديثٍ عن رجلٍ عن أبي العطوف (4) أن الله لا يُرى في الآخرة. فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال: أخزى الله هذا.
وقال أبو بكر المروزي: قيل لأبي عبد الله تعرف عن يزيد بن هارون، عن أبي العطوف عن أبي الزبير، عن جابرٍ: إن استقر الجبل فسوف تراني، وإن لم يستقر، فلا تراني، لا في الدنيا، ولا في الآخرة؟ فغضب أبو عبد الله غضباً شديداً، حتى تبين في وجهه، وكان قاعداً والناس حوله، فأخذ نعله وانتعل، وقال: أخزى الله هذا، لا ينبغي أن يكتب، ودفع أن يكون يزيد بن هارون رواه أو حدَّث به، وقال: هذا جهميٌّ كافرٌ، خالف قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
(1) في (ش): فقال.
(2)
أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 254.
(3)
أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 255.
(4)
هو الجراح بن منهال الجزري، قال أحمد: كان صاحب غفلة، وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه، وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث، وقال النسائي والدارقطني: متروك. " ميزان الاعتدال " 1/ 390.
نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقال:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أخزى الله هذا
…
الحديث.
وقال أبو طالب: قال أبو عبد الله: قوله عز وجل: {هل ينظرون إلَاّ أن يأتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ من الغمام والملائكة} [البقرة: 210]، {وجاء ربُّك والمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر: 22] فمن قال: الله (1) لا يُرى، فقد كفر.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء: سمعت أبا عبد الله يقول: من لم يؤمن بالرؤية، فهو جهمي، والجهميُّ كافرٌ (2).
وقال يوسف بن موسى القَطَّان: قيل لأبي عبد الله: أهل الجنة ينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى، ويُكلِمونه ويكلِّمهم؟ قال: نعم ينظر (3) إليهم وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه (4) كيف شاؤوا إذا شاؤوا.
قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: القوم يرجعون إلى التعطيل في أقوالهم، يُنكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننت أنهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم.
قال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يُرى، فقد ردَّ على الله وعلى الرَّسول، ومن زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، فقد كفر، وردَّ على الله قوله.
قال أبو عبد الله: فنحن نؤمن بهذه الأحاديث، ونُقِرُّ بها، ونُمرُّها كما جاءت (5).
(1) في (ب) و (ش): إن الله.
(2)
أورده في " مسائل الإمام أحمد " 2/ 152 (1850)، وانظر (1878).
(3)
في (ج): ينظر الله إليهم.
(4)
من قوله: " ويكلمهم " إلى هنا ساقط من (ج).
(5)
أخرجه اللالكائي (889).
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: فأمَّا من قال: إن الله (1) لا يُرى في الآخرة، فهو جهميٌّ. قال أبو عبد الله: وإنما تكلَّم من تكلم في رؤية الدنيا.
وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرُّؤية مَنْ كذَّب بها، فهو زنديقٌ.
وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: أدركنا الناس وما يُنكرون مِنْ هذه الأحاديث شيئاً -أحاديث الرؤية- وكانوا يُحدثون بها على الجملة يُمِرُّونَها على حالِها غير منكرين لذلك، ولا مرتابين.
وقال أبو عبد الله: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فكلَّم الله موسى من وراء حجاب، فقال:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأخبر الله عز وجل أن موسى يراه في الآخرة، وقال:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، ولا يكون حجابٌ (2) إلَاّ لرؤية أخبر الله سبحانه أن من شاء الله ومن أراد يراه والكفَّار لا يرونه.
قال حنبل: وسمعتُ أبا عبد الله يقول: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، والأحاديث التي تُروى في النظر إلى وجه الله تعالى: حديث جرير بن عبد الله وغيره: " تنظُرُون إلى ربِّكم " .. أحاديث صحاح. وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النظر إلى وجه الله تعالى، قال أبو عبد الله: نؤمن بها ونعلم أنها حق أحاديث الرؤية، ونؤمن أن الله يُرى، نرى ربنا (3) يوم القيامة، لا نشك فيه ولا نرتاب.
(1) في (ج): إنه.
(2)
في (ش): الحجاب.
(3)
" نرى ربنا " ساقطة من (ب).
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يُرى في الآخرة، فقد كفر بالله، وكذَّب بالقرآن، ورد على الله أمره. يُستتابُ، فإن تاب، وإلا قُتِلَ.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله في أحاديث الرؤية. فقال: هذه صحاح، نؤمن بها، ونُقِرُّ بها، وكل ما (1) رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناده جيِّدٌ أقررنا به.
قال أبو عبد الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي ودفعناه، رددنا على الله أمره، قال الله تعالى:{وما آتاكُمُ الرسولُ فخُذُوهُ وما نهاكُمْ عنه فانتَهُوا} [الحشر: 7].
قول إسحاق بن راهويه: ذكر الحاكم وشيخ الإسلام وغيرهما عنه أن عبد الله بن طاهر أمير خراسان سأله، فقال: يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي تروونها في النُّزول والرؤية ما هي (2)؟ فقال: رواها من روى الطهارة والغسل (3) والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا في هذه عُدولاً، وإلَاّ فقد ارتفعت، وبطل الشرع. فقال: شفاك الله كما شفيتني. أو كما قال.
قول جميع أهل الإيمان: قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه: إن المؤمنين لم يختلفوا أن جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك، فليس بمؤمنٍ عند المؤمنين.
قول المزني: ذكر الطبري في " السنة " عن إبراهيم بن أبي (4) داود المصري، قال كنا عند نعيم بن حمَّادٍ جلوساً، فقال نعيم، للمزني: ما تقول في القرآن؟ قال: أقول: إنه كلام الله. فقال: غير مخلوقٍ؟ فقال: غير مخلوقٍ.
قال: وتقول: إن الله يرى يوم القيامة؟ قال: نعم. فلما افترق الناس، قام إليه المُزنيُّ، فقال: يا أبا عبد الله، شهَّرتني على رؤوس الناس (5). فقال: إن الناس
(1) في (ب): وكلّها.
(2)
في (ب) و (ج) و" حادي الأرواح ": هن.
(3)
" الطهارة والغسل " ساقط من (ج).
(4)
ساقطة من (ب).
(5)
في (ب): الخلائق.
قد أكثروا فيك فأردت أن أُبرِّئك (1).
قول جميع أهل اللغة. قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد صاحب اللغة يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] أجمع أهل اللغة أن اللقاء ها هنا لا يكون إلَاّ معاينةً ونظراً بالأبصار، وحسبُك بهذا الإسناد صحة (2).
واللقاء ثابتٌ بنصِّ القرآن كما تقدَّم، وبالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلُّ أحاديث اللقاء صحيحة.
فحديث أنسٍ في قصة بئر معونة: أنا قد لقينا ربَّنا، فرضيَ عنَّا وأرضانا (3).
وحديث عبادة وعائشة وأبي هريرة وابن مسعودٍ: " من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه "(4).
(1) أخرجه اللالكائي (891).
(2)
في (ش): حجة.
(3)
أخرجه البخاري (4090) و (4091)، ومسلم (677)، وأبو يعلى (3160).
(4)
أخرجه من حديث عبادة: أحمد 5/ 316 و321، والبخاري (6507) ومسلم (2683)، والترمذي (1066)، والنسائي 4/ 10.
وأخرجه من حديث عائشة: أحمد 6/ 44 و55 و207 و236، ومسلم (2684)، والترمذي (1067)، والنسائي 4/ 9 و10، وابن ماجه (4264)، والقضاعي في " مسند الشهاب "(430)، وعلقه البخاري (6507).
وأخرجه من حديث أبي موسى الأشعري: البخاري (6508)، ومسلم (2686)، والقضاعي (431)، والترمذي عقب حديث عبادة.
وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 107، والبزار (780)، وأبو يعلى (3877).
وأخرجه أحمد عن رجل من الصحابة 4/ 259، وأورده كذلك الهيثمي 2/ 321.
وأخرجه من حديث معاوية: الطبراني في " الكبير " كما في " المجمع " 2/ 321. =
وحديث أنس: " إنكم ستلقون بعدي أثَرَةً، فاصبروا حتَّى تلقوا الله ورسوله "(1).
وحديث أبي ذرٍّ: " لو لقيتني بقِرابِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرِكُ به شيئاً (2) لقيتك بقرابها مغفرة ".
وحديث أبي موسى. " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة "(3).
وغير ذلك من أحاديث اللقاء التي اطَّرَدَتْ كلها بلفظٍ واحدٍ.
انتهى كلام هذه الطائفة منقولاً بحروفه من كتاب الشيخ ابن قيم الجوزية، والمقصود بنقله على طُولهِ بيان أنهم من أهل التأويل والتديُّن، وقبول أخبار ثقاتهم، كما هو مذهب أهل البيت والمنصوص في كتبهم المشهورة، حتى نجمت هذه البدعة البديعة، والعصبية الشنيعة في القول بأنهم مكذبون لله ورسوله (4) على سبيل التَّعمُّد وقصد إضلال الخلق عما يعلمونه من الحق.
فصل: ومن العدل بعد حكاية أدلتهم بعباراتهم أن نحكيَ أدلة المعتزلة
= وأخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: أحمد والطبراني كما في " المجمع " بلفظ: " إن الله عز وجل يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي، فيقولون: نعم يا ربنا، فيقول: لم، فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي ".
وأخرجه بهذا اللفظ: أحمد 5/ 238 من حديث معاذ.
(1)
أخرجه أحمد 3/ 166 و244، والبخاري (3793) و (7052)، ومسلم (1845)، والترمذي (2190)، والبغوي (3974).
(2)
أخرجه مسلم (2687)، والبغوي (1254)، وابن منده في " الإيمان "(78) و (79)، والطيالسي (464).
(3)
صح هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة بهذا اللفظ. أما حديث أبي موسى، فقد رواه أحمد 4/ 402 و411، والطبراني في " الكبير " كما في " المجمع " 1/ 16 بلفظ:" أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن لا إله إلَاّ الله صادقاً بها دخل الجنة ".
(4)
في (ج): ولرسوله.
ومتأخِّري الشيعة بعباراتهم أيضاً لوجهين:
أحدهما: لكيلا يتوهَّم فينا (1) أنا قصدنا الحَيْفَ على (2) المعتزلة بترك عباراتهم المختارة لنُصرة مذهبهم، وعدم الاستيعاب لما في كُتبهم.
وثانيهما: ليظهر من (3) تصرُّفاتهم العلم بمقصدنا الأول الذي هو الباعث على هذا التأليف، وهو أن المعتزلة خاضوا مع القوم في الاستدلال عليهم، والجواب عن أدلتهم، كما هو شأنُ المتأولين، ولم يقولوا: إنهم أنكروا الضرورة في مذاهبهم وأن عنادهم معلومٌ ببدائه العقول، مستغنٍ عن البيان كما ذكروا ذلك في السُّوفسطائية.
فنقول: قال السيد العلامة المتكلِّمُ أحمد بن أبي هاشم الحسيني في كتابه " شرح الأصول الخمسة "(4) لقاضي القضاة -رحمة الله عليهما- ما لفظه (5).
فصل في نفي الرُّؤية: ومما يجب نفيه عن الله تعالى: الرؤية، وهذه مسألة خلافٍ بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنما يتحقَّق بيننا وبين هؤلاء الأشعرية الذين لا (6) يكيِّفون الرؤية، فأمَّا المجسِّمة، فهم يُسَلِّمون لنا أنَّ
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): عن.
(3)
في (ب): أن من.
(4)
ص 232.
(5)
حذف هذا الفصل عمداً من نسخة (ش)، فقد قال الناسخ هنا ما نصه: نعم، وقد نقله مولانا السيد الإمام الرحالة الحافظ القدوة في الآل الأكرمين -قدس الله روحه بحق سيد المرسلين الأولين والآخرين- مستوفى، وقد حذفته من هذه النسخة رجاء في جمعه من كلام القوم جمعاً على طريقة كلام الشيخ ابن قيم الجوزية إن مَهَّل الله تعالى. نعم ذكر السيد -رحمة الله تعالى- ما لفظه بعد تمام كلام صاحب " شرح الأصول " ما هذا لفظه: انتهى كلام المعتزلة
…
(6)
ساقطة من (ج).
الله تعالى لو لم يكن جسماً، لما صح أن يُرى، ونحن نسلِّم لهم أنه تعالى لو كان جسماً، لصحَّ أن يُرى، فالكلام معهم في هذه المسألة لغوٌ، ويمكن أن يُستدل علم هذه المسألة بالعقل والسمع جميعاً، لأن صحة السمع لا تقِفُ عليها، وكلُّ مسألةٍ لا تقف صحة السمع عليها، فالاستدلال عليها بالسمع ممكن، ولهذا جوَّزنا الاستدلال بالسمع على كونه تعالى حيَّاً لما لم تقف صحة السمع عليها. يُبَيِّن ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعاً حكيماً، وإن لم يخطُر بباله أنه هل يُرى أم لا؟ ولهذا لم نكفِّر (1) من خالفنا في هذه المسألة، لما كان الجهل بأنه تعالى لا يُرى، لا يقتضي جهلاً بذاته ولا شيءٍ من صفاته، ولهذا جوَّزنا في قوله تعالى:{ربِّ أرني أنظُر إليك} أن يكون سؤال موسى عليه السلام، لأن المرئي ليس له (2) -بكونه مرئياً- حالٌ وصفة، وعلى هذا لم نجهِّلْ شيخنا أبا عليِّ بالأكوان، حيث قال: إنها مُدرَكَةٌ بالبصر.
إذا ثبتت هذه الجملة، فاعلم أنه رحمه الله بدأ في الاستدلال على هذه المسألة بقوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الأنعام: 103]، ووجه الدلالة من الآية هو ما قد ثبت أن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلَاّ الرؤية، وثبت (3) أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، وتمدَّح بذلك تمدُّحاً راجعاً إلى ذاته، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان (4) إثباته نقصاً، والنقائص (5) غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلَاّ الرؤية؟ (6).
قلنا: لأن الرائي ليس له بكونه رائياً حالةٌ زائدةٌ على كونه مدركاً، لأنه لو كان أمراً زائداً عليه، لصحَّ انفصال أحدهما عن الآخر على كونه مدركاً (7)، إذ
(1) في (د): يكفر.
(2)
ساقطة من (ج).
(3)
في (ج): ولو ثبت.
(4)
عبارة " إلى ذاته كان " ساقطة من (ب).
(5)
في (ب): وإثبات النقائص.
(6)
في غير (ج) و (د): بالرؤية.
(7)
قوله: " على كونه مدركاً " ورد فقط في (أ)، وليس هو في " شرح الأصول الخمسة ".
لا علاقة بينهما من وجهٍ معقول، والمعقول (1) خلافه.
وبعد: فإن الإدراك إذا أُطلِقَ يحتمل معاني كثيرة. قد يُذكَرُ ويُراد به البلوغ، يقال: أدرك الغلام: إذا بلغ الحُلمَ، وقد يُذكر ويراد به النُّضج والإيناع، يقال (2): أدرك الثَّمر: إذا أينع، فأمَّا إذا قُيِّدَ بالبصر، فإنه لا يحتمل إلَاّ الرؤية على ما ذكرناه، وصار الحال فيه كالحال في السُّكون، فإنه إذا قُرنَ بالنفس لا يحتمل إلَاّ العلم، وإن احتمل، بإطلاقه شيئاً آخر، تبين ما ذكرناه أنه لا فرق بين قولهم: أدركتُ ببصري هذا الشخص، وبين قولهم (4): آنستُ (5) ببصري هذا الشخص، ورأيت (6) ببصري هذا الشخص، أو أبصرت ببصري هذا الشخص (7)، حتى لو قال: أدركتُ ببصري وما رأيتُ، أو آنست وما أدركت، لعُدَّ مناقضاً.
ومن علامة اتفاق اللفظين في الفائدة أن يُثْبَتا (8) في الاستعمال معاً ويزولا معاً، حتى لو أثبت بأحدهما، ونفي بالآخر لتناقض الكلام. وبهذه الطريقة يُعلَمُ اتفاق الجلوس والقعودِ في الفائدة وغيرها من الأسامي.
فإن قيل: كيف يصحُّ قولكم: إن من علامة اتفاق اللفظين في الفائدة أن يثبتا في الاستعمال معاً، ويزولا معاً؟ ومعلوم أن الإرادة والمحبة واحدٌ (9)، ثم (10)
(1) في (د) و (ج): والمعلوم.
(2)
من قوله: " أدرك الغلام " إلى هنا ساقط من (ج).
(4)
ساقطة من (ج).
(5)
في " شرح الأصول الخمسة ": رأيت.
(6)
في الأصول: " أو رأيت "، والمثبت من " شرح الأصول الخمسة ".
(7)
زيادة من " شرح الأصول الخمسة " لم ترد في الأصول.
(8)
في (ب): ثبت.
(9)
في " شرح الأصول الخمسة ": واحدة.
(10)
في (أ): " لم "، وهو تحريف.
يستعمل أحدُهما حيث لا يستعمل الآخر (1)، فيقال: أُحِبُّ جاريتي، ولا يقال: أريدُها؟
قلنا: كلامنا فيما إذا استُعملا حقيقةً، وهذا فقد استعمل مجازاً، وحقيقته " أُحِبُ " (2): الاستمتاع بها، فلا جرم، يجوز أن نقول: أريد الاستمتاع بها، وصار الحال فيما ذكروه كالحال في الغائط، فإنه المكان المطمئن في الأصل، ثم يُتجوَّز به في الكناية عن قضاء الحاجة، ولا يُستعمل بدله (3) المكان المطمئنُّ في الكناية عن قضاء تلك الحاجة لما كان ذلك الاستعمال على سبيل التَّوسُّع والمجاز، لا على وجه الحقيقة، كذلك ها هنا.
فإن قيل: أليس أنهم يقولون: أدركتُ ببصري حرارة الميل، فكيف يصحُّ قولهم: إن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلَاّ الرؤية؟
قلنا: هذا ليس من اللغة في شيءٍ، وإنما اخترعه ابن أبي بشرٍ الأشعري ليصح (4) مذهبه به، إذ لم يَرِدْ في كلامهم: لا المنظوم ولا المنثور، يبين ما ذكرناه، ويوضحه: أن هذه " الباء " إذا دخلت على الأسامي أفادت أنها آلةٌ فيما دخلت فيه كقولهم: مشيتُ برجلي، وكتبت بقلمي. والبصرُ ليس بآلةٍ في إدراك الحرارة، إذ الخيشوم يُشاركه في ذلك، فلو كان آلة فيه، لم يَجُزْ ذلك، ألا ترى أن البصر لما كان آلة في الرُّؤية، لم يُشاركه فيها آلة السمع وغيره من الحواس؟ كذلك كان يجب مثله في مسألتنا، على أنا لم نقل: إنَّ الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر، وقُيِّدَ بالحرارة، فإنه لا يُفيدُ إلَاّ الرؤية، فمتى (5) يكون هذا نقضاً لكلامنا؟ وإنما قلنا: إنه إذا قُرِنَ بالبصر، لم يحتمل إلَاّ الرُّؤية، فلا يتوجه هذا على ما قلناه.
(1) في (ب): " الأخرى "، وفي (أ): بالآخر.
(2)
في (ب): لسبب.
(3)
في (ب): به.
(4)
في " شرح الأصول الخمسة " ليصحح.
(5)
في " شرح الأصول الخمسة ": حتى.
فإن قيل: ولم قلتم: إنَّ هذه الآية وردت مورد التمدُّح؟
قلنا: لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها، لأن جميعه في مدائح الله سبحانه، وغير جائزٍ من الحكيم أن يأتي بجملةٍ مشتملةٍ على المدح، ثم يخلِطُ بها ما ليس بمدح ألبتَّة. ألا ترى أنه لا يَحْسنُ أن نقول: فلانٌ وَرِعٌ، تقيٌّ، نقيُّ الجيب، مرضيُّ الطريقة، أسودُ، يأكل الخبز، يُصلِّي بالليل ويصوم بالنَّهار، لما لم يكن لكونه أسودَ، وأكله (1) الخبز تأثيرٌ في المدح؟ يبيِّنُ ذلك أنه تعالى لما بيَّن تميُّزه عمَّا عداه من سائر الأحياء (2) بنفي الصاحبة والولد، بين أنه يتميز عن غيره من الذوات بأنه لا يُرى ويرى (3).
وبعد، فإن الأمة اتفقوا على أن الآية واردةٌ مورد المدح، وأنه لا (4) كلام في ذلك، وإنما الكلام في جهة التَّمدح، فمنهم من قال: إن التمدح هو بأن القديم -تعالى- لا يُرى، لا في الدنيا، ولا في الآخرة على ما يقوله، ومنهم من قال: إن التَّمدُّح هو أنه لا يرى في دار الدنيا، ومنهم من قال: إن التمدُّح في أنه لا يُرى بهذه الحواسِّ، وإن جاز أن يُرى بحاسَّةٍ أُخرى، فصحَّ أن الآية وردت مورد التمدح على ما ذكرناه، ولا تمدُّح إلَاّ من الجهة التي نقولها.
فإن قيل: وأيُّ مدحٍ في أن لا يُرى القديمُ تعالى، وقد شاركه فيه المعدومات وكثيرٌ من الموجودات؟
قلنا: لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائياً، ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحاً، وعلى هذا لا مدح في نفي
(1) في " شرح الأصول ": يأكل.
(2)
في " شرح الأصول ": من الأجناس.
(3)
عبارة " لا يرى ويرى " ساقطة من (ب)، وفي (أ) و (ج):" لا يرى ولا يرى "، والمثبت من (د) و" شرح الأصول الخمسة ".
(4)
قوله: " المدح وأنه لا " من (د)، وفي باقي الأصول بياض مكانها، وفي " شرح الأصول الخمسة ":" التمدح " وسقط بعده: " وأنه لا كلام في ذلك ".
الصاحبة والولد مجرداً، ثمَّ بانضمامه إلى شيءٍ آخرَ يصيرُ مدحاً، ثم إذا انضمَّ إليه كونه حيّاً لا آفة به، صار مدحاً. وهكذا لا مدح في أنه لا أوَّل له، فإن المعدومات تشاركُه في ذلك، ثم يصيرُ مدحاً بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادراً، عالماً، حياً، سميعاً، بصيراً، موجوداً، كذلك في مسألتنا. وحاصل هذه الجملة أن التَّمدُّح إنما يقع بما به تقعُ البينونة بينه وبين غيره من الذوات، والبينونة لا تقع إلَاّ بما يقوله، لأن الذوات على أقسامٍ منها ما يُرى ويَرى كالواحد منَّا. ومنها ما لا يَرَى ولا يُرى كالمعدومات. ومنها ما صحّ ولا يرى كالجمادات.
ومنها ما يَرَى ولا يُرى كالقديم تعالى، وعلى هذا صحَّ التَّمدُّح بقوله:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].
فإن قيل: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ، كيف يصيرُ مدحاً؟.
قيل له: لا مانع من ذلك، فمعلوم أن قوله عز وجل:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ليس (1) بمدحٍ، ثم صار مدحاً بانضمامه إلى قوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} وكذلك قولنا في الله عز وجل: إنه موجودٌ، ليس بمدحٍ، ثم إذا ضممنا إليه القول بأئه لا ابتداء له، صار مدحاً، ونظائر ذلك أكثرُ مِن أن تذكر، والمنكر له متجاهل.
فإن قيل: لو جاز فيما ليس بمدحٍ أن يصير مدحاً بانضمامه إلى غيره، لكان لا يمتنع أن يصير الجهل مدحاً بانضمامه إلى الشجاعة وقوة القلب، حتى يحسُنَ أن يُمدَحَ الغير (2) بأنه جاهلٌ، قويُّ القلب، شجاعٌ.
قيل له: إن ما وُضع للنقص من الأوصاف، نحو قولنا: جاهلٌ، عاجزٌ، وما شاكلها، لا تختلف فائدته، ولا يتغير حاله بالانضمام (3)، بل يقبل (4) النقصَ
(1) زيد قبلها في " شرح الأصول ": بمجرده.
(2)
في " شرح الأصول ": أن يمدح الواحد الغير.
(3)
في " شرح الأصول ": بالانضمام ولا عدم الانضمام.
(4)
في " شرح الأصول ": يفيد.
بكل حالٍ، سواء ضُمَّ إلى غيره أو لم يضم، وليس كذلك سبيل ما (1) ليس بمدحٍ ولا نقصٍ، فإن ذلك مما لا يمتنعُ أن يصير مدحاً بغيره على ما ذكرناه.
فإن قيل: فجوزوا أن يصير قولنا: " أسود " مدحاً بأن ينضم إليه قولنا: عالم، ومعلوم أن ذلك لا يصير مدحاً لما لم يكن مدحاً في نفسه، فإذا لم يَجُزْ أن يصير ذلك مدحاً، فكذلك لا يجوز في قوله:{لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ} أن يصير مدحاً بأن ينضمَّ إليه قوله: {وهو يُدْرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103].
قيل: إنا لم نقل: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ صار مدحاً بكل حالٍ، بل قلنا: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ، وحصل بمجموعهما (2) البينونةُ، صار مدحاً، ولا تحصُلُ البينونة بانضمام قولنا:" أسودُ " إلى قولنا " عالمٌ "، بخلاف مسألتنا، لأنه حصل ها هنا بينونةٌ على الوجه الذي ذكرناه.
فإن قيل: ما وجه البينونة؟
قلنا: وجهُ البينونة: هو أنه يرى ولا يُرى.
فإن قيل: هلَاّ جاز أن تكون جهةُ التمدُّح هو كونه قادراً على أن منعنا (3) من رؤيته؟
قلنا: هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسِّرين. وما هذا سبيله من التأويلات يكون (4) فاسداً.
(1) المثبت من (د)، وفي باقي الأصول بياض.
(2)
في (أ) و (ب): مجموعهما.
(3)
في " شرح الأصول ": يمنعنا.
(4)
في (أ): " لكونه "، وهو تحريف.
وبعد: فإن هذا حملٌ لخطاب الله تعالى على غير (1) ما تقتضيه حقيقة اللُّغة ومجازها، فلا يجوز.
يُبيِّنُ ذلك أن أحدنا إذا قال: فلان لا يرى، فإنه لا يقتضي كونه قادراً على أن يمنع من رويته، لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها، فكيف يصحُّ ما ذكرته؟
فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن هذا التمدُّح راجعٌ إلى الذات؟
قلنا: لأن المدح على ضربين:
أحدهما: يرجع إلى الذات. والثاني: يرجعُ إلى الفعل.
وما يرجع إلى الذات قسمان: أحدهما يرجع إلى الإثبات (2)، نحو قولنا: قادرٌ، عالمٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ.
والثاني: يرجع إلى النَّفي، وذلك نحو قولنا: لا يحتاج، ولا يتحرَّك ولا يسكن.
وأما ما يرجع إلى الفعل، فعلى ضربين أيضاً (3):
أحدهما: يرجع إلى الإثبات، نحو قولنا: رازقٌ، ومحسنٌ، ومتفضِّلٌ.
والثاني: يرجِعُ إلى النفي، وذلك نحو قولنا: لا يَظْلِمُ، ولا يكذِبُ.
إذا ثبت هذا، فالواجبُ أن ننظر في قوله تعالى:{لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} من أيِّ القبيلين هو؟ لا يجوز أن يكون من قبيل ما يرجع إلى الفعل، لأنه تعالى لم يفعل فعلاً حتى لا يُرى، وليس يجب في الشيء إذا لم ير أن يحصل منه فعل حتى لا يُرى، فإن كثيراً من الأشياء لا تُرى، وإن لم تفعل أمراً من الأمور كالمعدومات، وكثيرٍ من الأعراض، والشيء إذا لم يُرَ، فإنما لم يُرَ لما هو عليه
(1) في الأصول: " قدر "، والمثبت من " شرح الأصول ".
(2)
في (ب): إثبات.
(3)
ساقطة من (ب).
في ذاته، لا لأنه يفعل أمراً من الأمور. وإذا كان الأمر كذلك، صح أن هذا الأمر يرجع إلى الذات على ما نقوله.
فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن ما كان نفيهُ مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً.
قيل له: لأنه لو لم يكن إثباته نقصاً، لم يكن نفيه مدحاً (1)، ألا ترى أن نفي السِّنَةِ والنوم لمَّا كان مدحاً، كان إثباته نقصاً؟ (2) حتَّى لو قال أحدٌ: إنه تعالى ينام، كان هذا نقصاً.
وبعد: فإنه تعالى إذا لم يُرَ إنما (3) لم يُرَ لما هو عليه في ذاته (4)، فلو رُئِيَ، لوجب أن يكون قد خرج عما هو عليه في ذاته، فكان نقصاً.
فإن قيل: وأيُّ نقصٍ في أن يُرى القديم؟ وما وجه النقص؟
قلنا: لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلاً، بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى تمدَّح بنفي الرؤية عن نفسه مدحاً راجعاً إلى ذاته، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى الذات، كان إثباته نقصاً، كفى، وإذا أردت التفصيل، فلأن فيه انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته.
فإن قيل: ما أنكرتم أن المراد بقوله تعالى: {لا تُدرِكُه الأبصارُ} ، أي لا تحيط به الأبصار، ونحن هكذا نقول.
قلنا: الإحاطة ليس هي بمعنى الإدراك، لا في حقيقة اللُّغة، ولا في مجازها، ألا ترى أنهم يقولون: السُّورُ أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها، ولا أدرك بها، وكذلك يقولون: عين الميت أحاطت بالكافور، ولا يقولون: أدركته.
(1) في " شرح الأصول ": التمدح.
(2)
في (أ): " لم يكن نقصاً ".
(3)
في (أ): بما.
(4)
في الأصول: " ذلك "، والمثبت من " شرح الأصول الخمسة ".
وبعد: فإن هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسرين، فلا يقبل على أنه كما لا تحيط به الأبصار، فكذلك لا يحيط هو (1) بالأبصار، لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحدٌ، فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه.
فإن قيل: لا تَعَلُّق لكم بالظاهر، لأن الذي يقتضيه الظاهر أن الأبصار لا تراه، ونحن كذلك نقول.
قيل له: إن الله تعالى تمدَّح بنفي الرؤية عن نفسه، فلا بُدَّ أن يحمل على وجهٍ تقعُ فيه البينونة (2) بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التَّمدُّح، ولا تقع البينونة بينه وبين غيره من الذوات (3)، بهذا الذي ذكرتموه لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره.
وبعد، فإن المراد بالأبصار: المبصرون، إلَاّ أنه تعالى علَّق (4) الإدراك بما هو آلةٌ فيه وعنى به الجملة.
ألا ترى أنهم يقولون: مشتْ رجلي، وكتبتْ يدي، وسمعت أُذني، ويريدون الجملة، وعلى هذا المثل السائر: يداك أو كتا وفُوك نَفَخَ (5). ثم إن لتعليق الشيء بما هو آلة فيه فائدةٌ ظاهرةٌ، لا تحصل تلك الفائدة إذا علقت بالجملة.
(1) في (د): هو لا يحيط.
(2)
في (د): " به البينونة "، وفي (ج):" البينونة به ".
(3)
من قوله: " حتى يدخل " إلى هنا ساقط من (أ) و (د).
(4)
في (أ) و (ج): إلى ذاته تعالى على.
(5)
في " فصل المقال " ص 458، و" المستقصى " 2/ 410، و" مجمع الأمثال " ص 414: أصله أن رجلاً كان في جزيرة من جزائر البحر، فأراد أن يَعْبُرَ على زِقٍّ نفخ فيه، فلم يُحسن إحكامه، حتى إذا توسَّط البحر خرجت منه الريح، فغرق، فلما غشيه الموت استغاث برجل، فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ.
وثمت سبب آخر لهذا المثل أورده البكري، فانظره فيه.
بيان ذلك أن أحدنا إذا قال: كتبتُ (1)، يحتمل أن يكون قد كتبه بنفسه، ويحتمل أن يكون استكتب غيره، وليس كذلك إذا قال: كتبت يدي، ومشت رجلي، فإنه لا يحتمل ذلك.
وبعد: فإن هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسرين، فإن المفسرين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا على أن المراد بالأبصار: المبصرون، إلَاّ أنهم اختلفوا، فمن قائل: لا يُدرِكُهُ المبصرون في دار الدُّنيا، ومِنْ قائل: لا يدركه المبصرون في حال من الأحوال، وكل تأويل يكون بخلاف تأويل المفسرين كفتوى (2) تكون بخلاف فتوى المفتين.
فإن قيل: لو كان المراد بقوله: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} المبصرون، لوجب مثله في قوله:{وهو يُدرِكُ الأبصارَ} أن يكون المبصرين، ليكون النفي مطابقاً للإثبات، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه، لأنه من المبصرين، وكل من قال: إنه تعالى يرى نفسه، قال: يراه غيره.
قيل له: إنه تعالى -وإن كان مبصراً- فإنما يرى ما كان يدرك (3) وتصِحُّ رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى لما قدمناه أنه تمدح بنفي الرؤية تمدُّحاً راجعاً إلى ذاته، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً، والنقص لا يجوز على الله تعالى.
وبعد: فإن المراد بقوله: {لا تدركه الأبصارُ} المبصرون بالأبصار، فكذلك في قوله:{وهو يُدرك الأبصَار} ، يجب أن يكون هذا هو المراد، ليكون النفي مطابقاً للإثبات، والله تعالى ليس من المُبْصِرين بالأبصار. فلا يلزم ما ذكرتموه.
(1) في (أ): " إنه يحتمل "، وفي (ج): ويحتمل.
(2)
في " شرح الأصول ": فهو كفتوى.
(3)
" كان يدرك " ساقط من " شرح الأصول ".
وبعدُ: فلا يجوز مِنَ الله تعالى أن يُجمَعَ بينه وبين غيره في الخطاب، بل يجب أن يُفرَدَ بالذكر تأديباً لنا، وتعليماً للتعظيم، وعلى هذا فإن أمير المؤمنين عليه السلام لمَّا سمعَ خطيباً يقول:" مَنْ أطاع (1) الله ورسوله فقد رَشَدَ، ومن يَعْصِهما فقد غوى " فنهى عن الجمع بينَ الله ورسوله في الذِّكر إعظاماً وإجلالاً لله جلّ ذكره (2).
فإن قيل: قوله تعالى: {لا تُدرِكُهُ الأبصَارُ وهو يُدرِكُ الأبصار} عامٌ في الدَّار (3) الدنيا ودارِ الآخرة. وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] خالصٌّ في دار الآخرة، ومن حقِّ العامِّ أن يُبنى (4) على الخاص، كما أن من حق المُطلق أن يُبنى على المقيَّد.
ورُبما يستدلِّون بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يُرى في دار الآخرة.
وجوابنا أن العام إنما يُبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص، لأنه تعالى تمدَّح بنفي الرؤية تمدُّحاً يرجع إلى ذاته (5)، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً، والنَّقصُ لا يجوز على الله تعالى (6).
وبعد: فإن هذه الآية إنما تخصِّصُ تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يُرى (7)
(1) في (د): يطع.
(2)
هذا النهي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أحمد 4/ 256، ومسلم (870)، والنسائي 6/ 90، وأبو داود (1099) و (4981) من حديث عدي بن حاتم قال: تشهَّد رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: من يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله ". وانظر " صحيح ابن حبان "(2798). وقد تقدم تخريجه 1/ 231.
(3)
في (د): دار.
(4)
في " شرح الأصول ": يحمل.
(5)
في (ج) تمدحا لرؤيته.
(6)
في " شرح الأصول " زيادة: على وجه.
(7)
في (ج): يرونه.
في حالٍ من الأحوال، وليس في الآية ما يقتضي ذلك، لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية. هذا هو الجواب عنه إذا تعلقوا به على هذا الوجه.
فأمَّا إذا استدلُّوا به ابتداءً، فالجواب عليه أن يقال لهم: ما وجه الاستدلال بهذه الآية؟
فإن قالوا: إنه تعالى بيَّن أن الوجوه يوم القيامة تنظر إليه والنظر هو معنى الرؤية.
قلنا: لا نسلِّم أن النظر بمعنى الرؤية، فما دليلُكم على ذلك؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً. ثم يقال لهم: كيف يصح أن يكون النظر بمعنى الرؤية؟ ومعلومٌ أنهم يقولون: نظرت إلى الهلال، فلم أره، فلو كان أحدهما هو الآخر، لتناقض الكلام، وتنزَّل منزلة قول القائل: رأيتُ الهلال، وما رأيتُ، وذلك متناقضٌ (1) فاسدٌ.
وبعد: فإنَّهم يجعلون الرُّؤية غايةً للنظر، فيقولون: نظرتُ حتى رأيت. فلو كان أحدهما هو الآخر، لكان بمنزلة أن يُجعَلَ الشيء غايةً لنفسه، وذلك لا يجوز، ولذلك لا يجوز أن يُقال: رأيت حتى رأيت.
وبعد: فإنهم يُعْقِبُونَ النظر بالرؤية، فيقولون: نظرت فرأيت، فلو كان أحدهما هو الآخر، لكان في ذلك تعقيبُ الشيء بنفسه، ويُنزل (2) منزلة قولك: رأيت فرأيت، وهذا لا يستقيم.
وبعد: فإنهم يُنَوِّعُون النظر، فيقولون. نظرتُ نَظَرَ (3) راضٍ، ونظرت نظر غضبان، ونظرت نظر شزْرٍ. وعلى هذا قول (4) الشاعر:
نظروا إليكَ بأعيُنٍ مُزْورَّةٍ
…
نَظَرَ التُّيوسِ إلى شِفَارٍ الجَازِرِ
(1) في (ج) و" شرح الأصول ": مناقض.
(2)
في (ب): تنزل.
(3)
في (د): نظرة.
(4)
في (ب) و (ج) و (د): قال.
خُزْرَ (1) الحواجِبِ ناكسي أذقانِهم (2)
…
نَظَرَ الذَّليلِ إلى العَزيزِ القَاهِرِ
وقال آخر (3):
تُخَبِّرُني العَيْنَانِ ما الصَّدْرُ كَاتِمٌ
…
وما جَنٌّ بالبغضاءِ والنَّظرِ الشَّزْر
وأيضاً فإنهم يقولون في تفسير الأقبل -وهو الأحول- هو الذي إذا نظر إليك كأنه ينظر إلى غيرك، فلو كان النظر هو الرؤية، لكان تقديره هو الذي إذا رآك كأنه يرى غيرك، وهذا لا يستقيم.
وبعد، فإنا نعلم ضرورة كون الجماعة ناظرين إلى الهلال، ولا نعلم كونهم رائين له ضرورة، ولهذا يَصِحُّ أن يسأل عن ذلك. فلو كان أحدهما هو الآخر، لم يَجُزْ ذلك. ويدلُّ على ذلك أيضاً قوله تعالى:{وتراهُم ينظُرُون إليك وَهُم لا يُبْصِرُون} [الأعراف: 198]، أثبث النظر، ونفي الرؤية. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر، لتناقض الكلام، وتنزَّل منزلة قول القائل، يَرَوْنَك ولا يَرَوْنَكَ. وذلك خُلْفٌ من الكلام.
فإن قيل: إن ذلك مجازٌ، لأنه ورد في شأن الأصنام.
قلنا: إنه -وإن كان كذلك- إلَاّ أن المجاز كالحقيقة في أنه لا يصح التناقض.
وحاصل هذه الجملة: أن النظر من الرؤية بمنزلة الإصغاء من السماع، والذوق من إدراك الطَّعم، والشَّمِّ من إدراك الرَّائحة.
فإن قيل: النظر إذا أُطلِقَ يحتملُ معاني كثيرةً كما ذكرتموه، فأما إذا عُلِّق بالوجه، فلا يحتمل إلَاّ الرؤية، كما إذا عُلِّق بالقلب لا يحتمل إلَاّ الفكر، وربما
(1) في (أ): غرر.
(2)
في (ب): أبصارهم.
(3)
ذكر عجزه في " اللسان "(جنن)، ونسبه إلى الهذلي.
يقولون: إن النظر إذا غُلِّق بالوجه وعُدِّي بـ " إلى "، لم يحتمل إلَاّ الرؤية.
قلنا: ما ذكرتموه أولاً فممَّا لا نسلمه، فما دليلكم عليه؟.
فإن قالوا: الدليل عليه هو أن الآلة التي يرى بها الشيء في الوجه، فيجب في النظر إذا عُلِّق به أن لا يحتمل إلَاّ الرؤية، لأنه لو لم يكن كذلك، لكان لا تثبت لتعليقه (1) به فائدة.
قلنا: لو وجب صحة ما ذكرتموه من حيث إن الآلة التي يرى بها في الوجه، لوجب صحة أن يقول (2) القائل: ذُقتُ بوجهي، ويريد به: أدركت الطعم، لأن آلة الذوق في الوجه. وهكذا في قوله: شممتُ بوجهي. وقد عُرِفَ خلافه.
وأما ما قالوه من أن النظر إذا عُلق بالوجه، وعدي بـ " إلى " لم يحتمل إلا الرؤية، فسنتكلَّم عليه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: النظر المذكور في الآية إذا لم يُفِدِ الرؤية، فما تأويل الآية؟
قيل له: قد قيل: إنَّ النظر المذكور ها هنا بمعنى الانتظار، فكأنه تعالى قال: وجوهٌ يومئذ ناضرة لثواب ربِّها منتظرة، والنظر بمعنى الانتظار قد ورد، قال تعالى:{فَنَظِرَةٌ إلى ميسَرَةٍ} [البقرة: 280] أي: انتظار، وقال عز وجل حاكياً عن بلقيس:{فناظِرَةٌ بِمَ يرجِعُ المُرسَلُونَ} [النمل: 35]، أي منتظرة. وقال الشاعر:
فإن يكُ صدرُ هذا اليوم وَلَّى
…
فإنَّ غداً لِنَاظِرِهِ قريبُ (3)
(1) في (د): لتعلُّقه.
(2)
في (د): قول.
(3)
مكان بيت الشعر بياض في (ب)، وهذا البيت من قصيدة لهدبة بن خشرم أوردها القالي في " أماليه " 1/ 72 يقول فيها:
يؤرقني اكتئابُ أبي نُميرٍ
…
فقلبي من كآبتِه كَئِيبُ =
وقال آخر:
وإنَّ امرءاً يرجو السبيل إلى الغِنَى
…
بغيرك عن حَدِّ الغِنَى جدُّ حَائر
يراهُ (1) على قُربٍ وإن بَعُدَ المَدَى
…
بأعيُنِ آمالٍ إليك نواظِرِ
وقال آخر:
وُجُوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ
…
إلى الرحمن يأتي بالخلاص (2)
وقال الخليل: تقول العرب: إنما أنظر إلى الله تعالى وإلى فلان من بين الخلائق، أي: أنتظر خيره، ثم خير فلان.
فإن قيل: النظر إذا عُدِّي بـ " إلى " كيف يجوز أن يكون بمعنى الانتظار؟
قلنا: كما قال عز وجل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . ذكر النظر، وعدَّاه بـ " إلى " وأراد به الانتظار، كما تقول العرب على ما قال الخليل.
وقال الشاعر:
= فقلتُ له هداك الله مهلاً
…
وخيرُ القول ذو اللب المُصِيبُ
عسى الكربُ الذي أمسيت فيه
…
يكونُ وراءه فرجٌ قريبُ
فَيَأمَنُ خائفٌ ويُفَكُّ عانٍ
…
ويأتي أهلَه الرجلُ الغريبُ
وانظر " الحماسة البصرية " 1/ 44.
(1)
في " شرح الأصول ": تراه.
(2)
أنشده الرازي في " تفسيره الكبير " 29/ 229 بلفظ:
وجوه ناظرات يومَ بدرٍ
…
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
وقال: هذا الشعر موضوع، والرواية الصحيحة:
وجوه ناظرات يوم بكرٍ
…
إلى الرحمن تنتظرُ الخلاصا
والمراد من هذا الرحمن: مسيلمة الكذاب، لأنهم كانوا يسمونه رحمن اليمامة، فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه التخلص من الأعداء.
إنِّي إليك لما وَعَدْتَ لَنَاظِرٌ
…
نَظَرَ الفقيرِ إلى الغَنِيِّ المُوسِرِ (1)
فإن قيل: إن النظر إذا عُلِّق بالوجه، وعدي بـ " إلى "، كيف يراد به الانتظار؟
قلنا: إن ذلك غير ممتنعٍ، وعلى هذا قول الشاعر:
وجوه يوم بدر ناظرات
…
إلى الرحمن يأتي بالخلاص
على أن " إلى " في الآية -على ما قيل- ليس بحرف جرٍّ ولا حرف التعدية، وإنما، هو واحد الآلاء التي هي النعم، فكأنه تعالى قال: وجوهٌ يومئذٍ ناضرة، نعمة (2) ربها ناظرة أي منتظرة، ونِعمَه مترقِّبة.
وقد أجاب شيخنا أبو عبد الله البصري بأن النظر إذا كان بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة تعدَّى بـ " إلى " وكذلك إذا كان بمعنى الانتظار، ولا يمتنعُ أن يُعدّى بـ " إلى "، لأن المجازات يُسلك بها مسلك الحقائق، وهذه إشارةٌ إلى أن النظر بمعنى الانتظار مجازٌ، وحقيقته (3): تقليب الحَدَقَة الصحيحة، وليس كذلك، لأن النظر لفظةٌ مشتركةٌ بين معانٍ كثيرةٍ على ما مرّ.
وبعد: فإذا جاز تعليق (4) النظر بالعين، ويراد به الانتظار، جاز أن يُعلَّق بالوجه أيضاً، ويُراد به الانتظار. ومعلوم أنهم يعلقون (5) النظر بالعين، ويُعدُّونه بـ " إلى "، ويريدون به (6) الانتظار. وعلى هذا قال (7) الشاعر:
يَراه على قُرْبِ وإن بَعُدَ المدى
…
بأعيُنِ آمالٍ إليك نَوَاظِرِ
على أن الوجه ها هنا ليس بمقصودٍ، وأن المقصود صاحب الوجه، كما قال
(1) أنشده القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " 19/ 109، ولم ينسبه لأحد.
(2)
في " شرح الأصول ": آلاء.
(3)
في (ب): وحقيقة.
(4)
في (ج) و (د): تعلق.
(5)
في الأصول: " لا يعلقون "، والمثبت من " شرح الأصول ".
(6)
ساقطة من (ب).
(7)
في (ج): قول.
الله عز وجل: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24، 25].
ومعلومٌ أن الوجوه لا تظُنُّ، وإنما أصحاب الوجوه يظنون، وهذا هو التَّأويلُ الأول، والكلام عليه.
وأما التأويل الثاني، فهو أن النظر بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة، فكأنه قال تعالى: وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ثواب ربها ناظرة. ذكر نفسه، وأراد غيره، كما قال في موضعٍ آخر:{واسألِ القريَةَ} [يوسف: 82] يعني: أهل القرية.
وقال: {إني ذَاهبٌ إلى رَبِّي} [الصافات: 99] أي: إلى حيث أمرني ربي، وقال تعالى:{وجاء ربُّك} [الفجر: 22] أي: أمر ربك. وقال الشاعر (1):
هلَاّ سألتِ الخيلَ يا ابنة (2) مالكٍ
…
إن كُنْتِ جاهلة بما لم تعلمي (3)
أي: أرباب الخيل، وقال جميل:
سَلِ الرَّبْعَ أنَّى يَمَّمَتْ أمُّ مالكٍ
…
وهل عادةٌ للربع أن يَتَكَلَّما (4)
فكِلا التأويلين مرويَّان عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعن عبد الله بن العباس، وجماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم.
قالوا على التأويل الأول: هذه الآية وردت في شأن أهل الجنة، فكيف يجوز أن تكون بمعنى الانتظار؟! لأن الانتظار (5) يورِثُ الغمَّ والمشقَّة، ويؤدي إلى التَّنغيص (6) والتكدير، حتَّى يقال في المثل: الانتظارُ يُورِثُ الاصفرار،
(1) في " شرح الأصول ": عنترة.
(2)
تحرفت في الأصول إلى: " بالله " والمثبت من (ب) و" شرح الأصول ".
(3)
البيت لعنترة بن شداد العبسي من جاهليته السائرة، ومطلعها:
هل غادر الشعراءُ من متردم
…
أم هل عرفتَ الدارَ بعدم توهُّمِ
انظر " شرح القصائد العشر " للتبريزي ص 236.
(4)
ديوانه ص.
(5)
ساقطة من (ج).
(6)
تصحفت في (أ) و (ج) إلى: التبعيض.
والانتظار الموت الأحمر، وهذه الحالة غير جائزةٍ على أهل الجنة.
وجوابنا أن الانتظار لا يقتضي تنغيص العيش على كل حال، وإنما يوجب ذلك متى كان المنتظر لا يتيقَّن حصول ما ينتظره إليه، أو يكون في حبسٍ، ولا يدري متى يتخلص من ذلك، وهل يتخلص، أم لا؟ فإنه -والحال هذه- يكون في غمٍّ وحسرةٍ. فأمَّا إذا تيقَّن وصوله إليه، فلا يكون في غمٍّ وحسرةٍ، خاصة إذا كان حال انتظاره في أرغد عيشٍ وأهناه.
ألا ترى أنَّ من كان على مائدة قومٍ، وعليها ألوان الأطعمة اللذيذة، يأكل منها ويلتذُّ بها، وينتظر لوناً آخر، ويتيقن وصوله، فإنه لا يكون في تنغيصٍ وتكدير، بل يكون في سرورٍ متضاعفٍ، حتى لو قُدِّم إليه الأطعمة كلها دفعة واحدة لتبرَّم بها، كذلك حال أهل الجنة لا يكونون في غمٍّ وتنغيص إذا كانوا يتيقنون وصولهم إلى ما ينتظرون على كل حال.
وللقوم شُبَهُ في هذا الباب: من جملتها: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قالوا: بين الله تعالى (1) أن الوجوه يوم القيامة تنظر إليه، وهذا يدل على كونه مرئيّاً على ما نقوله. والأصل في الكلام عليهم أن نمنعهم من الاستدلال بالسمع، لأن (2) الاستدلال بالسمع ينبني على أنه تعالى عَدْلٌ، حكيم، لا يُظهر المُعْجِز على الكذابين، والقوم لا يقولون بهذا، فلا يمكنهم الاستدلال بالسمع أصلاً على شيءٍ، وعلى (3) أنا قد بينا أن النظر ليس هو الرؤية. وتكلمنا عليه، فلا وجه لإعادته.
ومما يتعلقون به: قوله تعالى: {ربِّ أرني أنظُرْ إليكَ} [الأعراف: 143]. قالوا: فهذا سؤالٌ، وقد سأل موسى الله الرؤية، فدلَّ على أنها جائزة على الله تعالى، فلو استحال ذلك، لم يجُزْ أن يسأله، والذي يدلُّ على أن
(1) قوله: " قالوا بين الله تعالى " بياض في غير (د).
(2)
في (ب) و" شرح الأصول ": بالسمع أصلاً لأنَّ.
(3)
تحرفت في (أ) إلى: الناس.
السؤال سؤال موسى عليه السلام: وجهان: أحدهما أنه أضاف السؤال إلى نفسه. والثاني: أنه تاب، والتوبة لا تصحُّ إلَاّ من فعل النفس.
وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا بأن الرؤية ها هنا بمعنى العلم، ولا اعتماد عليه، لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجرَّدت، فأمَّا إذا قارنها النظر، فلا تكون بمعنى العلم. فالأولى ما ذكره غيره من مشايخنا، وهو أن السؤال لم يكن سؤال موسى عليه السلام، وإنما كان سؤالاً عن قومه، والذي يدلُّ عليه قوله تعالى لمحمَّد صلى الله عليه وسلم:{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقوله عز وجل:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، فصرَّح الله تعالى بأن القوم الذين حملوه على هذا السؤال.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى حاكياً عن موسى عليه الكلام: {أتُهلِكُنَا بما فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، فبين أن السوال سؤالٌ عن قومه، وأن الذنب ذنبهم.
فإن قيل: لولا أن الرؤية غير مستحيلةٍ على الله تعالى، وإلَاّ لما جاز أن يسأله (1) لا عن نفسه ولا عن قومه، كما لا يجوز أن يسأل الله الصاحبة والولد لما كان مستحيلاً عليه.
قلنا: فرق بينهما، لأن مسألة الرؤية يمكن معرفتها بالسمع، فجاز أن يطلب فيها دلالة سمعية بخلاف مسألة الصاحبة والولد. وقد قيل: إنه علم أن الرؤية مستحيلة على الله جل وعز، ولكنه سأله عن ذلك، لأن الأمة لم يكن نَفَعَهُم (2) جوابه، فسأل الله سبحانه لِيَردَ من جهته جوابٌ (3) يُقْنِعُهُم. فأمَّا ما ذكروه
(1) في " شرح الأصول ": يسأله ذلك.
(2)
في (ب) و (د) و" شرح الأصول ": يقنعهم.
(3)
في " شرح الأصول ": جواباً.
في الصاحبة والولد، فلا يصح، لأنه إنما لم يسأل، لا لأن الصاحبة والولد مستحيلٌ على الله تعالى، والرؤية غير مستحيلةٍ، بل لأنهم لا يطلبون منه ذلك، حتى لو قدَّرنا أنهم طلبوا منه ذلك، وعَلِمَ أنه لا يُقنعهم، لجاز أن يسأل الله تعالى ذلك، وقد قيل: إن بين الموضعين فرقاً، لأن إحدى المسألتين لا يمكن أن يُستدلَّ عليها بالسمع والأخرى يُمكن ذلك فيها، ففارق أحدُهما الآخر.
وأما ما ذكروه من أن السؤال سؤال موسى عليه التسلام، لأنه أضاف الرؤية (1) إلى نفسه بقوله:{ربِّ أرني أنظُر إليك} ، فلا يصح، لأنه غير ممتنع أن يكون السؤال سؤال قومه، ثم إنه يضيفه إلى نفسه، وهذا ظاهرٌ في الشاهد. ألا ترى أن الكبير منَّا إذا شَفَعَ لغيره في حاجةٍ، ربما يقول: اقضِ حاجتي، وأنْجِح طَلِبَتِي (2)، وما جرى هذا المجرى، فيُضِيفُه إلى نفسه، وإن كانت الحاجة حاجة غيره.
وأما ما قالوه من أن السؤال سؤال موسى، لأنه تاب من ذلك، والتوبة لا تصح إلَاّ من فعل نفسه، فلا تصح أيضاً، لأن توبته هو، لأنه سأل الله تعالى بحضرة القوم بغير إذنٍ، ولا يجوز من (3) الأنبياء أن يسألوا الله تعالى بحضرة الأمة من غير إذنٍ سمعيّ، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في أن لا يُجابوا، فيكون ذلك تنفيراً عن قبول قوله.
وأما الصاعقة، فلم يكن ذلك عقوبةً، وإنما كان امتحاناً وابتلاءً، كما امتحن الله غيره من الأنبياء، وهده الآية حجة لنا عليهم من وجهين:
أحدهما هو أنه تعالى قال مُجيباً لسؤاله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} ، و" لن " موضوعةٌ للتأبيد، فقد نفي أن يكون مرئياً ألبتة، وهذا يدل على استحالة الرؤية عليه.
(1) في " شرح الأصول ": سؤال الرؤية.
(2)
في (د): طلبي.
(3)
في (د): على.
فإن قالوا: أليس أنه قال تعالى حاكياً عن اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي: لا يتمنَّون الموت، ثم قال حاكياً عليهم:{يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، فكيف يقال: إن " لن " موضوعٌ للتأبيد؟
قلنا: إن " لن " موضوعةٌ للتأبيد، ثم ليس يجب أن لا يصح استعماله إلَاّ حقيقة، بل لا يمتنعُ أن يستعمل مجازاً، وصار الحال فيه كالحال في قولهم: أسدٌ، وخنزيرٌ، وحمارٌ، فكما أن موضوعها (1) وحقيقتها لحيوانات مخصوصةٍ، ثم يُستعمل في غيرها على سبيل التوسع والمجاز، واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها، كذلك ها هنا.
والوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية: هو أنه تعالى قال: {لن تراني ولكن انظُر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} علَّق الرؤية باستقرار الجبل، فلا يخلو: إما أن يكون علَّق الرؤية باستقراره بعد تحرُّكه وتَدَكْدُكِهِ، أو علَّقها به حال تحرُّكه، لا يجوز أن تكون الرؤية قد علقها باستقرار الجبل بعد تحركه، لأن الجبل قد استقر، ولم ير موسى ربَّه، فيجب أن يكون قد علق الرؤية باستقرار الجبل حال تحركه، دالاً بذلك على أن الرؤية مستحيلة عليه، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه. ويكون هذا بمنزلة قوله:{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، وأشباهه.
ومما يتعلقون به: قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يومَ يَلْقَوْنَهُ سلامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، إلى غير ذلك من الآيات التي فيها ذِكْرُ اللقاء، والأصل في الجواب (2) عن ذلك أن اللقاء ليس (3) هو بمعنى الرؤية، ولهذا استُعمل (4) أحدهما حيث
(1) في (أ): موضوعه.
(2)
شطح قلم الناسخ في (ب)، فكتبها: اللقاء.
(3)
ساقطة من (ب).
(4)
في (ب) و (ج): يستعمل.
لا يُستعمل الآخر. وعلى هذا، فإن الأعمى يقول: لقيت فلاناً، وجلست بين يديه، وقرأت عليه، ولا يقول: رأيته. وكذلك يسأل أحدهم غيره: هل لقيت (1) المَلِكَ؟ فيقول: لا، ولكني رأيته على القصر، فلو كان أحدهما بمعنى الآخر، لم يَجُزْ ذلك، فثبت أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية، وأنهم إنما يستعملونه فيها مجازاً. وإذا ثبت ذلك، فيجب أن تُحْمَلَ هذه الآية على وجهٍ (2) يُوافِقُ دلالة العقل، فنقول: المراد بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} [الأحزاب: 44]، أي: يوم يلقون ملائكته، كما قال في موضع آخر:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24] وأما قوله جل وعز: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: ثواب ربه، ذكر نفسه وأراد غيره. كما قال في موضع آخر (3):{وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 42]، أي: إلى طاعة العزيز الغفار (4). وقال تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] أي (5): إلى حيث أمرني ربي. وقوله تعالى: {وجَاءَ ربُّكَ} [الفجر: 22] أي: وجاء أمر ربك. {واسألِ القرية} [يوسف: 82] أي: أهل القرية. ونظائر هذا أكثر من أن تحصر.
وبعد: فلو كانت هذه الآية دالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى، لوجب في قوله تعالى:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] أن (6) يدل على أن المنافقين يرونه وهم لا يقولون (7) بذلك، فليس إلَاّ أن الرؤية مستحيلةٌ على الله تعالى في كل حالٍ وأن لقاءه بهذه الآية محمولٌ على عقابه، كما في تلك الآية محمولٌ على لقاء ثوابه (8) أو لقاء ملائكته، وفي الحكاية أن
(1) من قوله: " فلاناً " إلى هنا ساقط من (ب).
(2)
في (ب): وجوه.
(3)
من قوله: " وأما قوله " إلى هنا ساقط من (ج).
(4)
قوله: " أي: إلى طاعة العزيز الغفار " ساقط من (ب).
(5)
ساقط من (ب).
(6)
في (ب): أي.
(7)
جملة " وهم لا يقولون " ساقطة من (أ).
(8)
تحرفت في (أ) إلى: لتأتوا به.
قاضياً من القضاة استدلَّ بقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] على أنه تعالى مرئيٌّ، فاعترض عليه ملَاّح فقال: إنه ليس اللقاء بمعنى الرؤية، لأن أحدهما يُستعمل حيث لا يستعمل الآخر، بل يثبت أحدهما وينفي الآخر، ولا يتناقض الكلام، وقال: فلو كان اللقاء بمعنى الرؤية، لم يختلف الحال فيه بالمؤمنين والمنافقين، وقد قال الله عز وجل:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، فيجب أن يدل على أن المنافقين يرونه.
فقال له القاضي: من أين لك هذا؟ فقال: من رجلٍ بالبصرة يقال له أبو علي بن عبد الوهاب الجُبَّائي. فقال: لعن الله ذلك الرجل، فقد بثَّ الاعتزال في الدنيا، حتى سلَّط الملَاّحين على القضاة.
ومما يتعلَّقون به: قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قالوا: بيَّن الله تعالى أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله تعالى، وهذا يدل على أن المؤمنين لا يُحجبون، وفي ذلك ما يقوله.
والأصل في الجواب عن ذلك: أن هذا استدلالٌ بدليل الخطاب، وذلك لا يُعتمدُ في فروع الفقه، فكيف في أصول الدين؟
وبعد: فليس في ظاهر الآية ما يدلُّ علي أن الكفار يوم القيامة يحجبون عن رؤية الله تعالى، لأنه تعالى (1) قال:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، ولم يقل: عن رؤية (2) ربهم. ومتى قالوا: المرادُ بقوله: عن ربهم: عن رؤية ربهم، قلنا: ليس كذلك، بل المراد: عن ثواب ربهم. لأنكم إذا عدلتم عن الظاهر، فلستم بالتأويل أولى منا فنحمله على وجه يُوافِقُ دلالة العقل.
ومما يتعلقون به: إجماع الصحابة. قالوا: أتَّفقت الصحابة على أنه تعالى يُرى، وإجماعهم حجة، فيجب القضاء بأنه تعالى مرئيٌّ.
(1) قوله: " لأنه تعالى " لم يرد في (ب).
(2)
من قوله: " الله تعالى " إلى هنا لم يرد في (ج).
قلنا: لا يمكن ادّعاء إجماع الصحابة على ذلك، فقد رُوِي عن عائشة لما سمِعَتْ قائلاً يقول: إن محمداً رأي ربه، فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت ثلاثاً من زعم أن محمداً رأي ربه، فقد أعظم الفِرْيَةَ على الله ثم تلت قوله تعالى (1):{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (2).
وبعد، فمعلومٌ من حال أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأكابر الصحابة أنهم كانوا ينفون الرؤية عن الله تعالى، وأنت إذا نظرت (3) في خُطَب أمير المؤمنين، وجدتها مشحونةً بنفي الرؤية عن الله، فبطل ما قالوه، والحمد لله.
ومما يتعلقون به: أخبارٌ مرويَّةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها (4) يتضمَّن الجبر (5) والتشبيه، فيجب القطع بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقلهُ، وإن قال، فإنما قال حكايةً عن قومٍ، والراوي حذف الحكاية، ونقل الخبر من جملتها، وهو أسف (6) ما يتعلقون به ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر "(7).
قلنا (8): في الجواب عن هذا طرق ثلاث:
أحدها: هو أن هذا الخبر يتضمن الجبر (9) والتشبيه، لأنا لا نرى القمر إلا عالياً مُدَوَّرَاً مُنَوراً، ومعلوم أنه لا يجوز أن يُرى القديم على هذا الحدِّ، فيجب أن يُقطع أنه كذبٌ على النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، وإن قال، فإنما قال حكايةً عن قومٍ
(1) قوله: " ثم تلت قوله تعالى " بياض في (أ)، وساقط من (ج).
(2)
صحيح وقد تقدم تخريجه.
(3)
من قوله: " من حال أمير المؤمنين " إلى هنا بياض في (أ) و (ج).
(4)
ساقطة من (و).
(5)
تصحفت في (ب) إلى الخبر.
(6)
في (ب) و (ج) و" شرح الأصول ": أشف.
(7)
تقدم تخريجه ص 436.
(8)
في (ج): " ولنا "، وفي (د): فلنا.
(9)
تصحفت في الأصول إلى: الخبر.
على ما ذكرناه.
والطريقة الثانية: هو أن هذا الخبر يُروى عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجليِّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيسٌ هذا مطعونٌ من وجهين:
أحدهما: أنه كان يرى (1) رأي الخوارج، يُروى أنه قال: منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة يقول: انفروا إلى بقية الأحزاب -يعني أهل النهروان- دخل بغضه قلبي، ومن دخل بغض أمير المؤمنين (2) قلبه، فأقلُّ أحواله ألَاّ يُعتمد على قوله، ولا يُحتجَّ بخبره (3).
والثاني: قيل: إنه خُولِطَ في عقله آخر عمره، والكتبة يكتبون عنه -على عادتهم (4) - في حال عدم التمييز، ولا ندري أن هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أم مختلط العقل (5)، يُحكى عنه أنه قال لبعض الناس: اعطني درهما أشتري به عصاً أضرب بها الكلاب، وهذا من أفعال المجانين. ويقال (6) أيضاً. إنه كان محبوساً في بيت، فكان يضرب بيده على الباب، فكلما طقطق، ضحك، فلا يمكن الاحتجاج (8) بقوله، لأنَّ هذا دلالة الجنون عليه (9).
والطريقة الثالثة: أن يقال: إن صحَّ هذا الخبر، وسَلِمَ، فأكثرُ ما فيه أن
(1) في (أ): يروى.
(2)
قوله: " أمير المؤمنين " لم يرد في (أ).
(3)
قلت: هذه الحكاية لم أجدها في كتب الرجال المعتمدة التي ترجمت لقيس بن أبي حازم، لكنهم ذكروا أنه كان يقدم عثمان على علي رضي الله عنه.
(4)
في (ب): كعادتهم.
(5)
روى الحديث عنه إسماعيل بن أبي خالد الثقة، وقد كان يقول عنه: حدثنا قيس بن أبي حازم هذه الأسطوانة على جهة المبالغة في تثبيته وتوثيقه.
(6)
في (ب): ويروى.
(7)
ساقطة من (ب).
(8)
في (ب): فلا يحتج.
(9)
انظر لزاماً ترجمة قيس بن أبي حازم في " سير أعلام النبلاء " 4/ 198 - 202، و" تهذيب التهذيب" 8/ 386.
يكون خبراً من أخبار الآحاد، وخبر الواحد لا يقتضي العلم، ومسألتنا طريقها القطع والثبات، وإذا صحت هذه الجملة، بطل ما يتعلقون به.
ثم إن هذا الخبر مُعَارَضٌ بأخبارٍ رُوِيَت، منها ما روى أبو قِلابة، عن أبي ذرِّ قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: " نورٌ هو؟ أنَّى أراه "(1)، أي: أنورٌ هو؟ كيف أراه، فحذف همزة الاستفهام جرياً على طريقتهم في الاختصار، وعلى هذا قول الشاعر:
فوالله ما أدري وإن كنتُ دارِياً
…
بسبعٍ رَمَيْنَ الجمر أمْ بِثَمانِ (2)
وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله أنه قال:" لن يرى الله أحدٌ، لا في الدنيا ولا في الآخرة "(3).
وقد قيل لعليٍّ عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال: ما كنت لأعبدَ شيئاً لم أره، فقيل: كيف رأيت؟ فقال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، موصوفٌ بالآيات، معروفٌ بالدلالات هو الله الذي لا إله إلَاّ هو الحي القيوم.
ثم نتأوله على وجهٍ يُوافقُ دلالة العقل، فنقول: المرادُ به: سترون ربكم يوم القيامة، أي: ستعلمون ربكم يوم القيامة كما تعلمون القمر ليلة البدر، وعلى هذا قال:" لا تضامون في رؤيته ": أي: لا تشكون فعقَّبه بالشكِّ. ولو كان
(1) أخرجه مسلم (178)، وأحمد 5/ 157 و171 و175، والترمذي (3282) وابن منده في " الإيمان "(770) و (771)، والطيالسي (474).
وأخرجه ابن منده (772) و (773) بلفظ: رأيت نوراً.
(2)
البيت من قصيدة لعمرو بن أبي ربيعة قالها في عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وهو في " ديوانه " ص 264، وأنشده سيبويه في " الكتاب " 3/ 175، والعيني في " شرح الشواهد " 4/ 142، والبغدادي في " خزانة الأدب " 11/ 122.
(3)
لا يصح هذا عن جابر، ولم نجده في شيء من كتب السنة.
بمعنى رؤية البصر، لم يَجُزْ ذلك، والرؤية بمعنى العلم مما نطق به القرآن، وورد به الشعر (1). قال تعالى:{ألمْ تَرَ إلى ربِّك كيفَ مَدَّ الظِّلّ} [الفرقان: 45]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] وفي الشِّعر:
رأيتُ الله إذ سمَّى نِزَارَا
…
وأسْكَنَكُمْ بِمَكَّةَ قَاطِنينَا
أي: علمت. وقال حاتم طيىء:
أماويُّ إن يُصبِحْ صَدَايَ بقَفرَةٍ (2)
…
مِنَ الأرضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ
تري أن ما أنفقتُ لم يكُ ضَرَّني
…
وأنَّ يَدِي مما بَخِلْتُ به صِفْرُ
أمَاوِيُّ ما يُغْنِي الثراءُ عن الفَتَى
…
إذا حَشْرَجَتْ يوماً، وضَاقَ بها الصَّدرُ (3)
[فإن] قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم أورد هذا الخبر مَوْرِدَ البشارة لأصحابه، وأيُّ بشارة في أن يعلموا الله تعالى في دار الآخرة؟ ومعلومٌ أنهم يعلمونه في دار الدنيا.
قلنا: إنما بشَّرنا بالعلم الضروري. والعلم الضروري لا يثبت إلَاّ في دار الآخرة.
فإن قال: أيُّ بشارة في أن يعلم الله تعالى ضرورة.
قلنا: لئلا يلزم مؤنة (4) النظر، وتعب الفكر.
فإن قال: فيجوز (5) على هذا أن يكون (6) المنافقون والمؤمنون سواء، لأنهم
(1) بياض في (ب).
(2)
تحرفت في (أ) إلى: بفقرة.
(3)
" ديوان حاتم " ص 43. وانظر " الكامل " للمبرد 1/ 484 طبع مؤسسة الرسالة، و" خزانة الأدب " 4/ 212 - 213.
والصدى: ما يبقى من الميت في قبره. والحشرجة: هي الغرغرة عند الموت وتردد النفس.
(4)
في (د): منه.
(5)
في (أ): فيحمل.
(6)
قوله: " على هذا أن يكون " ساقط من (ج).
يعرفون الله تعالى ضرورةً كالمؤمنين.
قلنا: إن المنافقين والكفار إذا علموا الله تعالى ضرورةً، فلا يكون حالهم وحال المؤمنين سواءً، لأن المؤمنين إذا عرفوا الله تعالى ضرورة، وعلموا دوام ثوابهم، ازدادوا سروراً وفرحاً، ويكون عيشهم أهنأ وأرغد، وليس كذلك حال المنافقين، لأنهم إذا عرفوا الله تعالى ضرورة، وعلموا دوام عقابهم، ازدادوا غَمَّاً وحسرةً، وكانوا في عُقوبةٍ وعذابٍ.
[فإن] قالوا: الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين، نحو: رأيتُ فلاناً فاضلاً، ولا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه إلَاّ إذا كانت بمعنى المشاهدة.
قلنا: لا يمتنع أن يكون الأصل ما ذكرتموه، ثم نقتصر على أحد مفعوليه توسُّعاً ومجازاً، كما أن همزة التعدية إدا دخلت على (1) الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين يقتضي تعدِّيه إلى ثلاثة مفعولين، ثم قد يدخل على الفعل الذي هذه حاله، ويقتصر على مفعولين، ولهذا قال الله تعالى:{أرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]، فأدخل الهمزة على الرؤية، واقتصر على مفعولين، على أن حال الرؤية إذا كان بمعنى العلم ليس بأكثر من حال العلم، ومعلوم أنهم يقتصرون في العلم على أحد مفعوليه، فيقولون ما أعلم ما (2) في نفسك، ولهذا قال الله تعالى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116].
فإن قال: إن العلم هناك بمعنى المعرفة، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد مفعولَيْهِ.
قلنا: فَارْضَ مِنَّا بمثل هذا الجواب. فنقول: إنَّ الرؤية بمعنى المعرفة في
(1) في (ب) و (د): في.
(2)
ساقطة من (أ).
الخبر، لأن المراد بقوله " سترون ربكم يوم القيامة "، أي ستعرفون ربكم يوم القيامة كما تعرفون القمر ليلة البدر، فلا يجبُ أن يتعدى إلى مفعولين (1).
انتهى كلام المعتزلة، فمن أراد معرفة الحق في هذه المسألة، وكان من أهل الذكاء والفهم للأدلة الدقيقة المتعارضة نظر في كلام المعتزلة (2) هذا وفي كلام أهل السنة السابق قبله، وجعل الفريقين كالخصمين، وكان كالحاكم بينهم بعد الجمع بين أطراف كلامهم والإنصاف في الحكم بينهم، ومن لم يكن كذلك، ولا كان أهلاً لذلك، فالإيمان بمراد الله تعالى على الجُملة يجزيه ويكفيه، والتَّعرُّض لما لا يُحسنُه يُطغيه ويُغويه، والله الهادي، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الوهم السابع عشر: قال أيده الله: وأما الإجبار، فهو ظاهرٌ من مذاهبهم (3) هذا محمد بن إسماعيل البخاري قال في " صحيحه " في تفسير قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ما لفظه: ما خلقت أهل السعادة إلَاّ ليُوحِّدوني، وليس فيه حجة لأهل القدر (4). انتهى.
(1) من بداية إيراد المصنف لآراء المعتزلة حول مسألة الرؤية إلى هنا حذف عمداً من (ش)، وتقدمت الإشارة إلى ذلك ص 474.
(2)
قوله: " كلام المعتزلة " ساقط من (أ).
(3)
في (ش): مذهبهم.
(4)
نص كلام البخاري في " صحيحه " 8/ 598 بشرح " الفتح ": (إلا ليعبدون): ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلَاّ ليوحدوني، وقال بعضهم: خلقهما ليفعلوا، ففعل بعض، وترك بعض، وليس فيه حجة لأهل القدر. قال الحافظ في " الفتح " 8/ 600 تعليقاً على قوله:" ما خلقت أهل السعادة إلَاّ ليوحدوني ": هو قول الفراء، ونصره ابن قتيبة في " مشكل القرآن " له، وسبب الحمل على التخصيص وجود من لا يعبده، فلو حمل على ظاهره لوقع التنافي ببن العلة والمعلول، وقال في التفسير الثاني: هو كلام الفراء أيضاً، وحاصل التأويلين أن الأول محمول على أن اللفظ العام مراد به الخصوص، وأن المراد أهل السعاده من الجن والإنس، والثاني باق على عمومه، لكن بمعنى الاستعداد، أي خلقهم معدين لذلك لكن منهم من أطاع، ومنهم من عصى.
أقول: توهم (1) السيد أنه يمكنه الاحتجاج على أن البخاري جبريٌّ مما في " صحيحه "، وهذا لا يمكن السيد، لأنه قد سدَّ الطريق إلى صحة ما في " صحيح البخاري " عن البخاري، وذلك في أحاديث الفروع التي يكفي الظن في قبولها (2)، فكيف بصحة ما (3) في " البخاري " عنه في محل التكفير والتفسيق الذي يجب فيه التواتر عند السيد (4)، فليرجع عن أحد المذهبين، فما يصح له الجمع بينهما.
الوهم الثامن عشر: وَهِمَ السيد أن كلام البخاري هذا يدلُّ على الجبر، والجبر يستلزم الكفر، وهذا يستلزم أمرين:
أحدهما (5): القدح في الحديث بكون البخاري من رواته، وهذا كما تقدم في الوهم الخامس عشر في قدحه في الحديث برواية الإمام أحمد. وقد تقدم الجواب هناك، فراجعه. وخلاصته أنه من جهل الضروريات (6) الذي لا دواء له إلَاّ سؤال أهل العلم وترك العناد، ونذكر هنا (7) سيرة البخاري، وكلام العلماء فيه، أو يؤمر طالب الهداية (8) بمطالعة ذلك، ومن مظانِّه كتاب " النبلاء "(9).
الأمر الثاني: رميُ المحدثين بالجبر، وهذا إغرابٌ عظيمٌ من مذهبهم، أو تحاملٌ شديدٌ عليهم، فإن أهل الحديث فرقةٌ غير الأشعرية، والأشعرية أربع فرقٍ، الجبرية منهم فرقةٌ واحدةٌ، والجبرية منهم أيضاً يقولون: بأن الاختيار إلى العبد أيضاً كما سيأتي بيانه في الوهم السابع والعشرين. وهذه الفرق الخمس
(1) في (ب): وهم.
(2)
ساقطة من (ج)، وفي (ب) و (ش):" ثبوتها "، وفي (د):" صحتها " وكتب فوقها: " ثبوتها ".
(3)
في (ب): يصح بما، وفي (د): يتمسك بما.
(4)
قوله: " عند السيد " ساقط من (ش).
(5)
ساقطة من (ب).
(6)
في (ش): الضرورات.
(7)
ساقطة من (ب).
(8)
في (ش): طالب العلم والهداية.
(9)
12/ 391 - 471.
مُجمعون على القول بصحة القدر، مع نفي أكثرهم للجبر، وتفسير أهل الجبر له بما يبقى معه الاختيار، فدل هذا على الفرق بين القدر والجبر عندهم وعند غيرهم. والفرقُ بينهما في غاية الوضوح لأهل العلم، وممن نصَّ على إثبات القَدَرِ ونفي الجبر: الخطَّابي في " معالم السنن " والنواوي في " شرح مسلم "، وأبو السَّعادات ابن الأثير في " جامع الأصول " وغيرهم. هذا في الكتب الموجودة في ديار الزيدية. وسيأتي في الوهم التاسع والعشرين ذكر أدلتهم على إبطال الجبر، بل ذكر دعواهم الضرورة في بُطلانه، بل تكفير جماعة منهم للقائل به.
وبيان الوهم في كلام السيد أنه إمَّا أن يأخذ الجبر من قول (1) البخاري، " وليس فيه حجة لأهل القدر " أو من تأويل الآية، إن كان الأول، فهو لا يدلُّ على ما ذكره، وذلك لأن القدرية الخُلَّصَ عند المحدثين هم (2) الذين يقولون: إن الله تعالي لا يعلمُ الغيب على ما ذكره النواوي في " شرح مسلم " والخطابي وغيرهما، لأنهم فسروا القدر بعلم الله السابق من غير إجبارٍ، وفسَّروا القدرية بمنكري ذلك (3)، فصرَّحوا بذلك كلِّه. فالبخاري ردَّ على هؤلاء الذين يقولون: إن الله لا يعلم الغيب، وسمَّاهم أهل القدر (4)، لأن الآية من أعظم شُبَهِهِم، لأنهم يقولون: لا يصحُّ من القديم (5) إرادة ما يعلم أنه لا يحصل. والآية عندهم تدل على أن الله أراد العبادة من الكُفَّار، والضرورة تدل على أن العبادة ما حصلت (6) منهم، فدلَّتِ الآية عندهم على أن الله ما علم أن الكفار يُصرُّون على الكفر، ويموتون عليه. ولما كانت طوائف الأشعرية الأربع، وأهل الحديث يُوافقون القدريَّة على أن الله لا يصحُّ أن يُريد ما يعلم أنه لا يقع، احتاجوا إلى تأويل الآية على معنى لا يلزم معه (7) ما توهمَّت القدرية، فمنهم من قال
(1) في (د): كلام.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
من قوله: " والخطابي " إلى هنا ساقط من (ب).
(4)
من قوله: " الذين يقولون " إلى هنا ساقط من (د).
(5)
قوله: " من القديم " ساقط من (ب).
(6)
في (ش): لم تحصل.
(7)
في (ش): منه.
بتخصيص الآية، ورجَّحوا التخصيص، لأنه لازمٌ على جميع المذاهب كما سيأتي بيانه، وهو الذي اختاره البخاريُّ. ومعنى التخصيص عند هذه الطائفة أن معنى الآية: ما خلقت أهل الإيمان من الجن والإنس إلَاّ لذلك، كما في قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] أي: يشرب بها المقرَّبون من عباد الله، وكما تخصُّ المعتزلة والقدرية من ذلك الأطفال والمجانين من الأعيان، وأحوال النوم، والنسيان، وما بعد الموت من الأزمان، فعلى هذا التأويل يقول البخاري: ليس لمن قال: إن الله لا يعلم الغيب حجة في نفس الآية الذي (1) لا يحتمل (2) التأويل، ويُنسب منكره إلى تكذيب السمع، والكفر بما قال، بل هي عمومٌ يجوزُ تخصيصه بالأدلة المنفصلة عنه من العقل والسمع، والقدرية ممن تُخصِّصُه (3) كما تقدم، فليس فيه حجة لهم على من وافقهم من أهل السنة على أن الله لا يريد ما يعلم أنه لا يقع.
ومن أهل السنة من اختار أن الآية على عمومها، ولكن التقدير فيها لطلب أن " يعبدون ". فإن الله طلب العبادة من الكفار، وأمرهم بها إجماعاً، وليس التقدير لإرادة أن " يعبدون ". ورجحوا هذا بوجهين:
الأول: أنه لا يخرج الآية إلى التجويز (4) بخلاف التخصيص، فإن إطلاق العامِّ على الخاصِّ مجازٌ.
الثاني: أن حمل الآية على أمرٍ معلومٍ من الذين مُجْمَعٌ عليه عند فرق المسلمين (5) أولى من أمرٍ على خلاف ذلك، وليس في هذا إلَاّ استعمال (6) لام " كي " في موضع الطلب، وهو صحيحٌ لا مانع منه، لأنه يُستعمل في موضع الإرادة، والإرادة (7) تُستعمل في الأمر عند شيوخ المعتزلة البغدادية، كما سيأتي
(1) في (د): التي.
(2)
في (ب) و (د): تحتمل.
(3)
من قوله: " بالأدلة المنفصلة " إلى هنا ساقط من (ب).
(4)
في (ش) و (د): التجّوز.
(5)
في (ب): المؤمنين.
(6)
في (أ): " وليس في هذا الاستعمال لام " وفي (ب) و (ش): " .. استعمال .. ".
(7)
ساقطة من (أ).
تحقيقُه في مسألة الإرادة.
وأما إن كان السيد إنما فَهِمَ الجبر من البخاريِّ من مجرد تأويله للآية، فهذه غفلةٌ عظيمةٌ، فإن تأويل الآية لازمٌ عند جميع الفرق، بل تأويلها يلزم على أصول المعتزلة في مواضع أكثر مما يلزم على أصول أهل السنة:
الموضع الأول: التخصيص. كما تقدم بالنظر إلى الأطفال، والمجانين، والتقييد بالنظر إلى ما بعد الموت، وأوقات النوم والنسيان، بل المخصوص عند بعض المعتزلة لا يحتج به، لأنه قد علم أن ظاهره غير مرادٍ، فالتبس المراد منه.
الموضوع الثاني: إن المعتزلة لا يجيزون (1) خلق الخلق لأجل العبادة، إذ العبادة ليست الغاية المقصودة (2) التي ليس وراءها غايةٌ، بل العبادة من جملة الوسائل المقصود بها غيرها، قال الله تعالى:{لِمِثْلِ هذا فَليَعْمَلِ العَامِلُونَ} [الصافات: 61]، وإنما الغاية المقصودة: الثواب العظيم، والنعيم المقيم في دار البقاء، ومنزل أهل التُّقى (3). ودخولُ لام الغاية على العبادة التي هي وسيلة محضةٌ غيرُ مرادةٍ لنفسها مجازٌ، وهو من إقامة الشيء مقام ما يؤول إليه، مثل تسمية أموال اليتامى ناراً في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
الموضع الثالث: مما يوجب تأويل الآية عند المعتزلة. أنها تقتضي حصر وسائل السعادة، وقصرها على العبادة بمجردها، وهي غير منحصرةٍ في ذلك، فإن معرفة الرب جل جلاله ومعرفة صفاته وكماله، واستقرار ذلك في القلب بالبراهين واليقين التَّام أعظم وسائل السعادة الدائمة، وقد ورد التعليل بذلك في كتاب الله تعالى قال: سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
(1) في (د) يجوزون.
(2)
في (د) و (ش): القصوى.
(3)
تحرفت في (أ) إلى: البقاء.
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وخلقُ الجماد لأجل العلم يستلزم بالضرورة خلق العقلاء لأجل ذلك، فثبت أن الله خلقهم لأجل ذلك، فهذا في حقِّ المؤمنين، وفي خلق جميع المكلفين قوله تعالى في هود:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وكذلك قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وتال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
وكذلك رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: إن المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلَاّ ليعرفون، وجعل المعرفة رأس العبادة ومعظمها (1).
وسيأتي تحقيق ذلك وما تحتمله الآية من الوجوه المتفق عليها والمختلف فيها في تفسير هذه الآية في مسألة الإرادة إن شاء الله تعالى.
وأما متكلِّمو الأشعرية، فتُصادِمُ الآية مذهبهم بقوة مفهومها لا نصِّها، فإنهم إن حاولوا تأويلها بلام العاقبة، كقوله تعالى:{لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وكقول القائل:
لِدُوا للموت وابنُوا للخرابِ (2)
(1) الثابت عن ابن عباس خلاف هذا، فقد روى الطبري 27/ 12 عنه في قوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} : إلَاّ ليقروا بالعبودية طوعاً وكرهاً. وكره السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 624 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، أما التفسير الذي نقله المصنف هنا فقد نسبه البغوي في " تفسيره " 4/ 235، وابن كثير 7/ 401 إلى مجاهد.
(2)
صدره:
له مَلَكٌ ينادي كل يوم
وهو منسوب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في " خزانة البغدادي " 9/ 530.
لم يأخذ حظَّه من القوة والبلاغة لأنا متى مَحَوْنَا من الآية أثر التعليل، وأردنا بيان مجرد عاقبة الخلق أجمعين، لم تكن هي (1) العبادة لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل عاقبة الخلق هي دار الآخرة التي هي دارُ القرار.
وأما الدنيا (2) التي شبَّهها الله تعالى بعشيَّةٍ أو ضحاها، وسمَّاها لَعِبَاً ولهواً، فليست وما كان فيها عاقبة الخلق حقيقةً (3) ولا مجازاً، أما الحقيقة، فظاهر، وأما المجاز، فلأن العبادة التي كانت فيها من أهل السعادة والكفر من أهل الشقاوة ليسا عند الأشعرية سبب الثواب والعقاب في دار الآخرة، فلا يصحُّ إقامة الأعمال مقام جزائها، ودخول لام العاقبة عليها على أصلهم، وذلك لأن مذهبهم أن أفعال الله كلها (4) غيرُ معلَّلة بعلَّةٍ، ولا واقعة لغرضٍ، ولا لها سببٌ ولا داعٍ، ولا عليها حاملٌ ولا باعثٌ. وسوف يأتي بيان ركاكة هذا في العقل والسمع في الوهم الثامن والعشرين إن شاء الله تعالى.
الوهم التاسع عشر: قال: وأما الإرجاء، فهو أنواعٌ: منه ما يقتضي الكفر.
إن كان السيد قصد بها حكاية المذهب، فقد وَهِمَ في ذلك (5)، والذي في كتب الزيدية غير ما ذكر.
ففي " التذكرة "(6) للقاضي شرف الدين حسن بن محمد النَّحوي التي هي
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): هذه.
(3)
في (د): لا حقيقة.
(4)
ساقطة من (د).
(5)
قوله: " في ذلك " ساقط من (ش).
(6)
هي " التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة ". قال إبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله في " طبقات الزيدية " في ترجمة مؤلفه: له تصانيف أجلها كتاب " التذكرة " ألفها في سنة بضع وتسعين وسبع مئة من كتب عديدة، وكانت عمدته كتاب " اللمع "، فلهذا قال بعض أئمتنا في ذكر " الأزهار ": أمُّه " التذكرة "، وجدته " اللمع "، وكانت " التذكرة " العمدة في التدريس حتى ظهر " الأزهار "، ومن الكتاب عدة نسخ في مكتبة " الجامع الكبير " بصنعاء. انظر " فهرس المخطوطات " ص 240 - 241. وانظر أيضاً في ترجمة النحوي " مطلع البدور " 409/ 2.
مَدْرَسُ الزيدية الآن: إن الاختلاف في الإرجاء لا يقتضي كفراً ولا فسقاً ولا جرحاً، وجعله كالاختلاف في الأعواض، وكذلك قال (1) القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدوَّاري في كتاب " الدِّيباج النضير "(2) وهما أرسخُ قدماً في معرفة المذهب منه أيده الله، فإن كان يتحقَّقُ غَلَطُهُمَا فيما نقلاه (3) فليبيِّن وجه ذلك بذكر إسناده في نقله، وترجيحه على إسنادهما بطرق الترجيح المعروفة، ووجه القطع ببطلان نقلهما (4). وإن كان السيد يريد أن ذلك مذهبٌ له اختاره، فقد وَهِمَ أن في إيراده بغير حُجَّةٍ فائدة في هذا الموضع، وليس له فيه فائدة ألبته، لأن أقصى ما في الباب أن نكون مقلِّدين للسيد، لكن هذه المسألة ليست من مسائل التقليد، فإن التكفير عند السيد يحتاج إلى دليلٍ قاطع، ولا يحلُّ العمل بالظَّنِّ فيه لمتبوع ولا تابع، فما باله يدُلُّ (5) بالدعوى من غير دليلٍ ويُعَوِّلُ في دفع الخصم على ما ليس عليه تعويل.
الوهم الموفي عشرين: حُكِيَ عن الرازي أنه قال: فإن قلت: فما تقول فيمن عَرَفَ الله بقلبه فقط، وما قال: لا إله إلَاّ الله أبداً لغيرِ عُذرٍ، ولا (6) فعل شيئاً من الواجبات، ولا ترك شيئاً من المحظورات إلَاّ ارتكبه؟ قلت: أجيب بما أجاب به الغزاليُّ أنه مؤمنٌ، ويُدْخِلهُ الله الجنة إن شاء الله. انتهى بلفظه أو ما يقرب من لفظه إلى آخر كلام السيد.
قال: وعلى أصلهم: إيمانُ هذا كإيمان أفضل المسلمين، وتجويزُ دخوله الجنة كتجويز دخول أفضل الصَّالحين.
(1) ساقطة من (ش).
(2)
هو" الديباج النضير على لمع الأمير "، وهو شرح وتعليق على كتاب " اللمع " لعلي بن الحسين، وصل فيه إلى كتاب الرضاع. انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء " ص 256.
(3)
في (د): ادعياه.
(4)
من قوله: " فليبين وجه ذلك " إلى هنا ساقط من (ج).
(5)
في (ش): بدأ.
(6)
في (د): وما.
أقول: ما مرادُك بالإيمان الذي يُسوُّون فيه بين المؤمنين؟ هل التصديق والاعتقاد الذي في القلب من جنس العلم الاستدلالي؟ فإذا إجماعٌ، فإن اعتقاد الفاسق أن الله ربه مثل اعتقاد الصالح عند النظر في الأدلة، وإنما الخلاف في تسمية اعتقاد الفاسق إيماناً مع الكبائر على تسميته إيماناً (1) مع الصلاح والاستقامة، قال الله تعالى:{إلَاّ من أُكْرِهَ وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ} [النحل: 106].
أو تريد أن من مذهبهم أنَّ من آمن بقلبه، وعصى بجوارحه، فمنزلته عند الله مثل منزلة من آمن بقلبه وأطاع بجوارحه، فهذا وهمٌ فاحشٌ، فإنهم لا يسوُّون بين المؤمنين في الإيمان. وقد بوَّب البخاريُّ باباً في " صحيحه " على زيادة الإيمان ونقصانه، واحتجَّ على ذلك بحُججٍ كثيرةٍ من القرآن (2) والسنة (3).
وليس الفاسق يسمَّى عند أهل السنة مؤمناً على الإطلاق، وإنما يُسمّى مؤمناً بقلبه.
قال ابن بطَّال (4) في " شرح البخاري " ما لفظه: وكذلك لو أقرَّ بالله ورسوله، ولم يعمل الفرائض، لا يُسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب قد يجوزُ أن يُسمى مؤمناً بالتصديق، فغير مستحقٍّ لذلك في حكم الله تعالى لقول الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، فأخبر تعالى أن المومنين -على الحقيقة- من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل، وضيَّع ما أمر به (5) وفرط. انتهى.
(1) قوله: " على تسميته إيماناً " ساقط من (ب).
(2)
في (ب) و (د) و (ش): الكتاب.
(3)
انظر " صحيح البخاري " كتاب الإيمان رقم الباب (33).
(4)
تقدمت ترجمته 3/ 272.
(5)
في (ب): أمر الله به.
وذكر القاضي: أبو بكر بن العربي المالكي (1) في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " اختلاف الناس في المسلم والمؤمن، وفي اشتقاق اسميهما، واختار أن المسلم من أسلم نفسه من عذاب الله، والمؤمن من أمَّنَ نفسه منه.
وهذا يدلُّ على أن الفاسق لا يُسمَّى مؤمناً على الإطلاق عندهما، سلمنا أنه يسمى بهذا الاسم مؤمناً عندهم مطلقاً أو عند بعضهم، فإن من تُسمِّيه بذلك لا يعني أنه صالحٌ عَدْلٌ، ولا نُسَوِّي (2) بينه وبين أهل العدالة والصِّيانة، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يجرِّحُون الفاسق المصرِّح في الشهادة والرواية، وأنهم يفضِّلُون بعض المؤمنين على بعضٍ (3) مثل تفضيلهم للخلفاء الراشدين على مَنْ بعدَهم.
وبالجملة (4): فلا حاجة إلى التطويل بذكر ما يدلُّ على مذهبهم في ذلك.
فهو معلومٌ بالضرورة والتواتر، ومُنكرهُ لا يزيد على النداء الصريح على نفسه بأنه من جملة الخرَّاصين، وأفحش الكذابين، لأن أهل الكذب خَذَلهُمُ الله تعالى إنما يكذبون في المواضع الخفية التي تمضي فيها أقوالهم الفريَّة.
وقد تقدَّم الجواب على مثل هذا في مسألة المتأوِّلين مستوفى، فخذه من هناك، فإني لم أقتصر على هذا القدر إلَاّ لأنِّي استوفيتُ الجواب هناك.
الوهم الحادي والعشرون: قال: ومن سوَّى بين هذا الكافر وبين أفاضل المسلمين، أو قال: بأنه يدخل الجنة، فقد ردَّ ما هو معلومٌ ضروةً من الدين.
أقول: أما التسوية بينهما، فالقوم قد صرحوا بأنهم ما سوَّوا بينهما، وذلك
(1) هو الإمام العلامة الحافظ القاضي صاحب التصانيف أبو بكر محمد بن عبد الله الإشبيلي كان ثاقب الذهن، عذب المنطق، كريم الشمائل، ولي قضاء إشبيلية، فحُمدت سياسته. ارتحل إلى مصر ودمشق وبيت المقدس وبغداد. وتوفي سنة 543 هـ. انظر ترجمته في " السير " 20/ 197.
(2)
في (ب): سواء.
(3)
في (ش): بعضهم.
(4)
ساقطة من (ب).
واضحٌ عنهم (1)، ولكنَّا نُورد نصَّ الغزالي الذي روى المعترض عنه من كتابٍ (2) هو نسخةٌ للمعترض حتى يشهد بكذب النفس (3) عليه شاهد حاضر لديه، فنقول: قال الغزالي في كتابه المعروف " بالتفرقة " في أواخره ما لفظه:
واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبقُ الرحمة وشمولها بأسبابٍ ومكاشفاتٍ سوى ما سمعوه من الأخبار والآثار، ولكن ذِكْرُ ذلك يطول، فأبشر برحمة الله تعالى، وبالنجاة المطلقة إن جَمَعْتَ بين الإيمان وبين العمل الصالح، وبالهلاك المطلق إن خلوتَ عنهما جميعاً، وإن كنتَ صاحب يقينٍ في أصل التصديق، وصاحب خطأ في بعض التأويلات، أو صاحب شكٍّ فيها، أو صاحب خَلْطٍ في الأعمال، فلا تطمع في النجاة المطلقة، واعلم أنك بين أن تُعذَّبَ مرة ثم تُخلَّى، وبين أن يشفع فيك من تيقَّنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره. انتهى كلام الغزالي في كتاب " التفرقة بين أهل الإسلام والزندقة "(4).
واعلم أنهم يقطعون بدخول المطيع الجنة وسلامته من العذاب.
ومستندهم في القطع ثلاث حُججٍ:
الأولى: وعدُ الله تعالى الصادق، فالكذب عليه -سبحانه- عندهم لا يجوز.
وثانيها (5): علمه سبحانه السابق بأنهم من أهل الجنة، فالتغيير عندهم في معلومه لا يقع.
وثالثها: إرادتُه سبحانه لهم ذلك وخلقُهم له، فمرادُه سبحانه عندهم لا يتخلَّف.
(1) في (د): عندهم.
(2)
في (ش): كتابه.
(3)
في (د): " يشهد بكذبه "، وفي (س): بكذبه النقل.
(4)
من قوله: مرة ثم تخلى إلى هنا بياض في الأصول، ومثبت في (ش) بخط مغاير، وكتب فوقه بنفس خط الأصل، بياض في " الأم ".
(5)
في (ب) و (د): وثانيهما.
وأما الفاسق، فيجوِّزون فيه الأمرين، ويكِلُون علمَه إلى عالم الغيب، لأنه سبحانه أجمل ذلك في قوله عز وجل:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
ثم إنهم لا يُسَوُّون بين أهل الجنة في مراتبهم، ولا بين أهل النار في دركاتهم، وكذلك جميع أهل الملة الإسلامية بل جميع الملل الإسلامية (1) والكفريَّه لا يساوون بين أهل الفضائل، ولا يُماثِلُون بهم أهل الرَّذائل، وما أحسن قول القائل:
وَلَمْ أرَ أمثال الرِّجال تفاوُتاً
…
لدى المَجْدِ حتَّى عُدَّ ألفٌ بواحدِ (2)
وقال ابن دريد:
والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ
…
وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عنى (3)
وأما القول بأنَّ من آمن بقلبه، وعصى بجوارحه، فهو من أهل النار ضرورة من الدين، فهذا يقتضي أنه كافرٌ ضرورة من الدِّين، لكن لا دليل على ذلك، ولعل الصواب أن كفره معلومٌ بالضرورة من مذهب بعض أهل الكلام. ومن بنى (4) التكفير على غير قاعدةٍ قطعيةٍ ولو كان كفره معلوماً بالضرورة، لاشترك (5) العلماء في ذلك، ولوجب أن تكون طريقة معرفته النقل لا العقل، والطريق النقلية المفيدة للضرورة لها شروطٌ:
أحدها: أن يُنقل نصٌّ جليٌّ لله تعالى، أو لرسوله صلى الله عليه وسلم غير محتملٍ للتأويل في هذا المعنى مثل قوله: من آمن بقلبه ولم يُطِع، فهو كافرٌ، حكمةُ حكم
(1) قوله: " بل جميع الملل الإسلامية " ساقط من (ب).
(2)
هو للزمخشري. وقد تقدم 1/ 245.
(3)
تقدم 1/ 245.
(4)
بياض في (ب)، وساقطة من (ش)، وفي (د): يبني.
(5)
في (أ) و (ب): لاشتراك.
المشركين بالله، وإيمانُه باطلٌ، فإن كان هذا لا يحتمل التأويل كفي، وإلَاّ وجب أن ينضمَّ إليه من القرائن ما يُوجب إرادة الظاهر، ويمنع التأويل قطعاً.
الشرط الثاني: أن يُنقل هذا اللفظ أو ما (1) يقوم مقامه نقلاً متواتراً في الوسط والطرفين.
الشرط الثالث: العلم القطعيُّ بعدم المعارضة وعدم النسخ.
فإذا عرفت هذا، فمن المعلوم أنه ما حصل واحدٌ من الشروط، بل ما نُقِلَ في هذا لفظ صريحٌ ظنِّيٌّ آحادي. وأما القرآن فهو برىءٌ من النصِّ في هذه المسألة، ولهذا قال علماء الوعيدية: إن المخالف فيها لا يُكفر ولا يُفسق.
الوهم الثاني والعشرون: قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلَاّ الله، فإذا قالوها، عَصَمُوا منِّي دماءهم وأموالهم إلَاّ بحقِّها "(2)، فإن كان هذا الذي ذكراه مؤمناً، فكيف يُقاتله الرسول على الإيمان؟
أقول: غفلة السيد في هذا الكتاب ما وقفت على حدِّ، وكلامه في هذا
(1) في (و): وما.
(2)
أخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (1399) و (1457) و (6924) و (7284)، ومسلم (20) و (21)، وأحمد 2/ 345 و377 و423 و475 و502 و527 و528، والترمذي (2606) و (2607)، والنسائي 7/ 79، وأبو داود (2640)، والحاكم 1/ 287.
وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 199 و224 - 225 والبخاري (392)، والترمذي (2608)، وأبو داود (2641)، والنسائي 7/ 75 - 76 و8/ 109، والحاكم 1/ 386 - 387.
وأخرجه من حديث ابن عمر: البخاري (25)، ومسلم (22)، والترمذي عقب حديث أبي هريرة.
وأخرجه من حديث أوس بن حذيفة: أحمد 4/ 8 - 9، والنسائي 7/ 80 - 81.
وأخرجه من حديث جابر: أحمد 3/ 300 و332 و339، والحاكم 2/ 522.
الموضع مما كنت أظنه أرفع مكاناً من (1) أن يخفى عليه مثله هو ما عرف أن الرجلين لم يقولا: إن الإيمان هو ترك الشهادتين، حتى إذا قاتل النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كان قد قاتل على الإيمان، إنما قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب، وعلى المؤمن بقلبه واجباتٌ أُخَرُ يستحق تاركها القتال بتركها، وإن كان مؤمناً، وهو النطق بالشهادتين وسائر أركان الإسلام الأربعة، وغيرها (2) مما ورد الشرع بقتال تاركه، أو قتال مرتكبه، وليس يخالف في هذه الجملة أحد من أهل الإسلام، فكيف غفل السيد عن هذا؟ وكيف ظن أن الغزالي والرازي -مع تبحُّرهما في العلوم، وتوغُّلهما في الدقائق- يذهبان إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل من آمن بقلبه، ولم يَنْطِقْ بالإيمان على ما أضمر في قلبه من الإيمان بالله سبحانه، هو ما درى أن النطق بالشهادتين (3) عندهما واجبٌ كالصلاة، والزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان، هو ما عرف أنه يجوزُ عند جميع أهل الإسلام للرسول بل للإمام أن يقاتل من ترك أحد أركان الإسلام، وإن لم يكفر التارك لأحدها، أليس قد صرح الرازي في كلامه الذي حكى عنه السيد أن للدين واجباتٍ، وفيه محرمات، حتى تكلم في من آمن بقلبه، وترك جميع الواجبات، وارتكب جميع المحرمات؟ فهو يقول: النبي صلى الله عليه وسلم قاتل تارك الشهادتين على ترك واجب من واجبات الإسلام التي، يكفر تاركها، لا على أنه آمن بقلبه، وكيف يكون القتال على ذلك؟ وهل يمكن أن يكون المطلوب بالقتال على الإيمان بالقلب إلَاّ اعتقاد الكفر بالقلب؟ وكيف ظن بهما هذا؟ وأي كلام لهما يقتضي هذا، والرسول (4) صلى الله عليه وسلم لم يُقاتل على ما في القلوب من الكفر، بل وَكَلَ الناس إلى ظواهرهم؟ فكيف يقاتل على ما في القلوب من الإيمان؟
الوهم الثالث والعشرون: ظن السيد أن الاحتجاج بالحديث يصح في آخر كتابه، ويمتنع في أوله، فإنه منع في أوله (5) من الاحتجاج بالحديث النبوي لعدم
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ب): وغيرهما.
(3)
في (ش): أن الشهادتين.
(4)
في (د): والنبي.
(5)
قوله: " فإنه منع في أوله " ساقط من (ب).
صحته في إسناده، وعدم معرفة معناه لغةً، وعدم العلم بفقد المعارض والناسخ والمخصَّص، وشدّد في ذلك، وشرع في آخر كتابه يحتجُّ بالأحاديث، فإما أن يكون ظن أن بين أول كتابه وآخره فرقاً واضحاً، أو ظن أنه صالحٌ لذلك، وليس غيره صالحاً، أو حَسِبَ أن خصمه لا يجمع بين أطراف كلامه، ولا يدري بمناقضاته وأوهامه، أو (1) السيد لا يدري ما يخرج من رأسه، ولا يفرِّق بين أقواله وأنفاسه.
ومَنْ جَهِلَتْ نفسُهُ قَدْرَه
…
رأى غيرُه منه ما لا يَرَى (2)
الوهم الرابع والعشرون: قال: وأيضاً قوله: " فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم ". يقتضي (3) أنها لا تكون معصومةً حتى يقولوها.
أقول: قد توهَّم (4) أن مذهبهما أن من آمن بقلبه، فقد عصم دمه وماله، ولم يقولا بما يقتضي ذلك بمنطوقٍ، ولا مفهومٍ، ولا قال بذلك أحدٌ، وإنما قال: إن هذه الأفعال الخمسة من أفعال الجوارح، والإيمان من أفعال القلوب، لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} [النحل: 106] وقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقوله عليه السلام في الحديث الصحيح وقد سئل عن الإسلام، فذكر الشهادتين وسائر الأركان الخمسة، وسئل عن الإيمان فقال:" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ".
خرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (5) - ونظير ذلك من
(1) في (ب): و.
(2)
البيت من قصيدة للمتنبي يصف فيها خروجه من مصر، ويهجو كافوراً الإخشيدي. انظر " الديوان " 1/ 44.
(3)
ساقطة من (ب).
(4)
في (ش): توهم السيد.
(5)
برقم (8). وأخرجه أبو داود (4695)، واين ماجه (63)، والنسائي 8/ 97 و101، والطيالسي ص 5، وأبو يعلى (242)، وأحمد 1/ 28 و51 و52، وابن حبان (168)، والترمذي (2610)، والبغوي (2)، والآجري في " الشريعة " ص 188 - 189، وابن منده =
عمومات السمع كثير (1)، وهو يوجد حتَّى في كلام الوعيدية.
قال الحاكم المُحسِّن بن كرَّامة المعتزلي في تفسيره " التهذيب " في قوله تعالى: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] من المصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم ودينه.
وأما الدم والمال، فإنما (2) يعصِمان بإقامة أركان الإسلام الظاهرة، وعليها يقعُ القتال دون ما حجبته الضمائر. ولهذا فإن المنافق الذي لم يؤمن بقلبه يعصم دمه وماله متى قام بأركان الإسلام الظاهرة، فهو كافرٌ في علم الله، وهو معصوم الدم والمال، وكذلك العكس، فقد يكون مؤمناً بقلبه في علم الله، وهو مباحُ الدم والمال، مستحق للعذاب بما ترك من الواجبات الظاهرة، وارتكب من المحرمات المعلومة.
الوهم الخامس والعشرون: وهم السيد أن قولهما هذا من الإرجاء، بل قالي: هو من الإرجاء وأشنعه، وليس كما وَهِمَ، فإن الإرجاء يخالف مذهبهما من وجهين:
أحدهما: أن المرجئة يقولون: الإرجاء قولٌ بلا عمل، ومنهم من يقول: ولا اعتقاد، وهما قالا: إنه اعتقادٌ من غير قولٍ ولا عملٍ، فأخرج (3) القول من الإيمان الذي أجمعت المرجئة على (4) أنه أساس الإيمان، ولهم (5) على ذلك أدلَّةٌ كان يلزم المعترض ذكرها. والجواب عنها، أو (6) الصَّمت عن ذلك كله.
منها: أن الله تعالى وصف مؤمن آل فرعون بأنه يكتم إيمانه، ولم يبطل إيمانه بذلك، فيجب بيان دليلٍ قاطعٍ على أن شرط الإيمان المكتوم أن يكون منطوقاً.
= في " الأيمان "(1) و (2) و (3) و (4) و (5) و (6) و (7) و (8) و (9) و (10) و (11) و (12) و (13) و (14).
(1)
في (ب). الكثير.
(2)
في (د) و (ش): فإنهما.
(3)
في (ب) و (ج) و (د): فأخرجا.
(4)
ساقط من (ب).
(5)
في (ب) و (ج) و (د): ولهما.
(6)
في (أ): و.
ومنها حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلَاّ الله دخل الجنة ". رواه مسلم والنسائي (1)، وفي " تلخيص "(2) ابن حجر أنه من " المستدرك " رواه البخاري ومسلم.
وفي " مسند " أحمد (3) من حديثٍ عنه صلى الله عليه وسلم " الإسلامُ علانيةٌ، والإيمان في القلب ".
ومثله حديث عمر الذي في " صحيح " مسلم في تفسير الإسلام والإيمان والإحسان (4)، فيجب ذكر ما يُعَارِضُ هذه، وبيان مناقضة ذلك المعارض، والقطع بتعذر الجمع بدليلٍ قاطع.
وثانيهما: أن المرجئة يقولون: إن المؤمن العاصي لا يُعذَّب قطعاً، وهما يُجوِّزان أن يعذَّب، وأن يُعفى عنه، ورواية السيد عنهما تقتضي (5) ذلك، وقد روى " الرَّصاص "(6) في " خلاصته " -وهي (7) مَدْرَسُكُم- حديثاً نصّاً أن الإرجاء هو القول بأن الإيمان قولٌ بلا عملٍ، وكذا نصَّ على ذلك محمد بن نشوان،
(1) أخرجه مسلم (26)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(1114) و (1115) وابن حبان في " صحيحه " بتحقيقنا (202)، وابن منده (33)، والحاكم 1/ 72.
(2)
2/ 103 وقد نسبه الحاكم في " المستدرك " 1/ 72 إلى البخاري ومسلم، وقد غلط في ذلك، فإن البخاري لم يخرجه.
(3)
3/ 134 - 135 من حديث أنس. وأخرجه البزار (20)، وأبو يعلى (2923). وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة أحد رواته.
(4)
تقدم تخريجه قريباً.
(5)
في (ب): والسيد روى عنهما ما يقتضي.
(6)
هو أحمد بن محمد الرصاص، تقدمت ترجمته 1/ 287، وكتابه الذي يشير إليه المصنف هو " الخلاصة النافعة بالأدلة القاطعة في فوائد التابعة " رتبه على أربعة أبواب: الأول في وجوب النظر وما يتعلق به، والثاني في التوحيد وقسمه، ومسائله، والثالث في العدل، والرابع في الوعد والوعيد وما يتبعهما. انظر " فهرس مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء " ص 158 و159.
(7)
في (ب): في.
وأبوه نشوان بن سعيد، ذكره في " الضياء "، وهما من المعتمدين في الُّلغة، وكأن السيد ما فرق بين الرَّجاء والإرجاء، والفرق بينهما معلوم عند أهل اللغة.
قال الجوهري في " صحاحه "(1): أرجيت الأمر: أخَّرته. يُهمز ولا يُهمز، وقرىء:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} (2)[التوبة: 106] و {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (3)[الأعراف: 11]، فإذا وصفت الرجل به، قلت: رجلٌ مُرْجٍ، وقوم مُرجية، والرجاء: الأمل، يقال: رجوت فلاناً رجواً ورجاءً ورَجَاوَةً،: يقال ما أتيتك إلا رَجَاوَةَ الخير، قال بشر يخاطب ابنته:
فَرَجّي الخير وانتظري إيابي
…
إذا ما القَارِظُ العَنَزِيُّ آبا (4)
انتهى (5).
وقد ورد في الحديث الحثُّ على الرجاء، والنهي عن الإرجاء، ففي
(1) 6/ 2352.
(2)
هي قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص، وقرأ الباقون بالهمز. انظر " حجة القراءات " ص 323.
(3)
هذه قراءة عاصم وحمزة، وقرأ ابن كثير وهشام عن ابن عامر " أرْجئهْ " بهمزة وواو بعد الهاء في اللفظ، وقرأ أبو عمرو بضم الهاء من غير إشباع، وقرأ نافع والكسائي:" أرجهي " بإشباع الياء، وفي قراءة الحلواني عن نافع:" أرجهِ " بكسر الهاء من غير إشباع، وقرأ ابن عامر:" أرجئْهِ " بهمزة وكسر الهاء. انظر " حجة القراءات " ص 289 - 291.
(4)
البيت في " الصحاح " و" اللسان " و" طبقات ابن سلام " 1/ 180 و185، و" مختارات الشجري " 2/ 32 من قصيدة جيدة قالها بشر بن أبي حازم، وهو يجود بنفسه.
وقوله: " إذا ما القارظ العنزي آبا " هو من أمثال العرب في الغائب لا يُرجى إيابه، والقارظ: هو الذي يجتني القَرَظَ، وهو ورق السَّلَم يُدْبغ به. وقد خرج هذا العنزي ليجتنيه، فَفُقد وصار مثلاً للمفقود الذي يُؤْيس منه. وانظر " فصل المقال " ص 473، و " مجمع الأمثال " 2/ 212، و" المستقصى " 1/ 127 - 128.
(5)
ساقطة من (أ).