المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قول المعتزلة: إن ظاهر هذه الآيات قبيح، جناية عظيمة على كتاب الله تعالى - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٥

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌الإشكال السادس: أنَّ الأمة مجمعةٌ على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم

- ‌ حديث أبي بكر الصديق

- ‌ حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ

- ‌ حديث عبد الله بن مسعودٍ

- ‌ حديث علي بن أبي طالب

- ‌ حديث عديِّ بن حاتم

- ‌ حديث أنس بن مالك

- ‌ حديث بريدة بن الحصيب

- ‌ حديث أبي رزين العُقيلي

- ‌ حديث جابر بن عبد الله:

- ‌ حديث أبي أمامة

- ‌ حديث عمار بن ياسر

- ‌ حديث عائشة

- ‌ حديث عبد الله بن عمر

- ‌ حديث عمارة بن رُويبة

- ‌ حديث سلمان الفارسي

- ‌ حديث حذيفة بن اليمان

- ‌ حديث ابن عباس

- ‌ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

- ‌ حديث أُبيِّ بن كعبٍ:

- ‌ حديث كعب بن عجْرَةَ

- ‌ حديث فضالة بن عبيد

- ‌ حديث عبادة بن الصامت:

- ‌الوهم السادس والعشرون: وهم أنهم كفار تصريحٍ

- ‌الوهم السابع والعشرون: وهم أنهم أنكروا القدر الضروري في شكر المنعم

- ‌قول المعتزلة: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ عظيمةٌ على كتاب الله تعالى

- ‌حاصل مذهب أهل السنة على التقريب

- ‌ تصريح أئمة الأشعرية بأن إرادة الله تعالى لأفعال العباد حيث يطلق مجازٌ

الفصل: ‌قول المعتزلة: إن ظاهر هذه الآيات قبيح، جناية عظيمة على كتاب الله تعالى

كثرة الاختلاف في المحذوف من (1)" بسم الله الرحمن الرحيم "، ثم أجاب بما محصوله أن المعَوَّل عليه في مواضع (2) القطع في الكتاب والسنة هو القرائن التي يضطر إلى قصد المتكلم مع تواتر معاني الألفاظ في المواضع القطعية.

وكلامه هذا يدلُّ على مثل (3) ما ذكرت في معنى آيات المشيئة، ولولا ذلك لتمكنت الملاحدة، وأعداء الإسلام من التشويش على المسلمين أجمعين في كثير من عقائدهم السمعية القطعية.

ويؤيد هذا قول بعض المعتزلة (4) المحققين: إن كل قطعي سمعي ضروري (5)، وله وجهٌ جيد، ليس هذا موضع ذكره.

و‌

‌قول المعتزلة: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ عظيمةٌ على كتاب الله تعالى

، فإنه لا يشكُّ منصفٌ أنه جاء في كتاب الله تعالى على جهة التمدح من الله تعالى بكمال قُدرته، ونفوذ مشيئته، فجاءت المعتزلة بالداهية العُظمى، فجعلوا ما تمدح الرب به سبحانه يقتضي بظاهره غاية الذم والسب، ونفي الحكمة، فتعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.

وليس يرضى بمثل هذا عاقل أن يكثر التمدح مما ظاهره النقصُ لنفسه، والقدح في عرضه، كيف الملك الحميد الذي صح عن أعلم الخلق به أنه لا أحد أحب إليه المدح منه (6) سبحانه؟ من أجل ذلك مدح نفسه.

فكيف يكون أظهر المعاني من كلامه، وكلام رسله (7) الذي المقصود منه هو التمدُّح يقتضي نقيض المقصود مع أنه أبلغ الكلام، والبلاغة تقتضي بلوغ المتكلم لمراده (8) على أبلغ الوجوه؟!

(1) في (ش): في.

(2)

في (أ): المواضع.

(3)

في (ش): معنى.

(4)

ليست في (أ).

(5)

في (ش): فهو ضروري.

(6)

تقدم تخريجه في ص 58.

(7)

في (ش): رسوله.

(8)

في (ش): المراد.

ص: 304

فكيف يستكثرُ من لا أحد أحبُّ إليه المدح منه مما ظاهره الذم ويكون ما ذلك (1) ظاهره متلوّاً في الصلوات الخمس (2) ومحافل الجماعات؟!

وقولهم: إن الداعي إلى ذلك ما زعموه من تعريض المكلفين إلى درك الثواب العظيم بالنظر في تأويله، مردودٌ بوجوهٍ:

أولها: ما تقدم من أن ذلك لو كان هو المقصود لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان هم السابقين إلى تأويله كما سبقوا إلى كل خير، وسكوتهم جميعاً عن (3) التأويل في المُدَدِ (4) الطويلة يقضي عادة باعتقاد الظواهر.

وثانيها: أن هذا الداعي الذي زعموه لا يصح تقريره فيما مورده إظهار المحامد، وبيان الممادح، لأنه يُغيِّر وجوه محاسنها، ويُكَدِّر ورود مشارعها، وإنما يكون مثل ذلك في موضع الابتلاء مثل: آيات الأوامر والتكاليف، كأمر بني إسرائيل بذبح بقرة حين سألوا (5) عن تعيين قاتل صاحبهم، ونحو ذلك.

وثالثها: أنه لو كان المقصود ما ذكروه، لورد السمع بما ظهره القبح الضروري المجمع عليه من نسبة الظلم، والولد، والشريك وسائر النقائص في الظاهر، ولها معانٍ حسنة يُثاب أهل النظر بتأملها، فإنه يُمكن تكلف التجوز والعلائق المجازية في هذه الأشياء مثل ما تكلفوه في تلك كما زعم الزمخشري (6) أن ظاهر قوله تعالى:{أمرنا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فيها} [الإسراء: 16] الأمر بالفسق، وجَعَلَهُ من المجاز، وغَلِطَ في ذلك كما سيأتي.

فإن قيل: وجود المعارض يغني عن الخوض في التأويل، وهو موجود كما يأتي في شبه المعتزلة، فالجواب من وجهين:

(1) من قوله: " مما " إلى هنا ساقط من (أ).

(2)

ليست في (أ).

(3)

في الأصلين: من.

(4)

في (ش): المدة.

(5)

في (ش): سألوه.

(6)

2/ 442.

ص: 305

أحدهما: أنه غير موجود كما يأتي في الجواب عن شبههم.

وثانيهما: أن وجوده لو سُلِّم، لا يغني عن الخوض في ذلك خاصة من عامتهم بل يزيد الدواعي قوةً إلى البحث، والخوض الكثير كما هو معلومٌ بالضرورة من عادات العقلاء، فعدم خوضهم في ذلك أدلُّ على عدم التعارض عندهم، وعند من بعدهم إلى أوان البدع، ولو سلَّم الجميع، فلا معارض بالضرورة في عموم قدرة الله وأنه على كل شيءٍ قدير. ومذهبُ المعتزلة يستلزم أن لذلك معارضاً ويقتضي أنه تعالى غير قادر على هداية العصاة تعالى عن ذلك، وسيأتي تقرير ذلك، ونقض شُبَهِهِم فيه.

فإن قيل: فهل القرآن كله محكمه ومتشابهه عندكم على ظاهره ما لم يُنقَل تأويله بنصٍّ صحيح أو إجماع.

قلنا: إن عنيتم بظاهره ما فَهِمَ السلف وأهل السنة من تنزيل ذلك على ما يقتضي المدح والثناء والكمال، وعلى قوله:{ليس كمثله شيءٌ} [الشورى: 11] فهو كله على ظاهره إلَاّ ما خصَّه نصٌّ صحيحٌ أو إجماع.

وإن عنيتم بظاهره ما ظننتم من أن ظاهره قبيحٌ، وسبٌّ لله تعالى وكفر به، فليس على ظاهره، لكنا نمنع من كون ذلك ظاهره، وقد مر ذلك مُحقَّقاً في الصفات ولله الحمد.

فإن قيل: فما الفرق بين المحكم والمتشابه؟

قلنا: إن المحكم ما لا تأويل له محجوبٌ عن العقول، والمتشابه ما له تأويل لا يعلمه إلا الله، وإنما نقول ما حكاه الله عن الراسخين:{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب} [آل عمران: 7 - 8].

فهذه قرائن نضطر إلى أن المراد منها ما ظهر وفَهِمَه السلف والخلف، ومن لم يُغَيِّر فطرته التي فطره الله عليها.

ص: 306

ولذلك كان اعتقاد جميع المسلمين حتَّى المعتزلة والشيعة إلَاّ مَنْ تَلَقَّن الكلام، ومَرِضَ قلبه بدائه أن مشيئة الله نافذة، وأنه سبحانه لا يشاء أمراً من هداية عاص أو غيرها إلَاّ وقع مراده على ما أراده، ومن شك في هذا فليختبر، وليُجَرِّب، وليسأل كل مسلم لم يعرف علم الكلام عن ذلك، وهذا دليل بثبوت ذلك متواتراً ينقله (1) الخلف عن السلف، وفي كلام أهل البيت عليهم السلام لتقرير ذلك نصوصٌ خاصة لا يمكن تأويلها وعمومات ظاهرة.

أما النصوص، ففي موضعين: الموضع الأول في تراجم قدمائهم في كتب الرجال، والثاني: في تصانيف سائر علمائهم المخالفين لأهل الاعتزال.

أما الموضع الأول فكثير ممن روى ذلك عنهم الإمام العلامة جمال الدين المِزِّي في كتاب " تهذيب الكمال في معرفة الرجال "(2)، ولو تتبع ذلك لطال، ولنقتصر مما في كتب الرجال على المنقول عن الإمام المقَلَّد المقتدى به منهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فقد روى عنه المزي المذكور، والذهبي في " تذهيب التهذيب "(3) كلاهما من طريق مُطَّلِب بن زياد الكوفي، وقد وثَّقه أحمد بن حنبل، وأبو داود (4)، وابن معين، قال: جاء رجلٌ إلى زيد بن علي، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله تعالى أراد أن يُعْصَى؟ فقال زيد بن علي: أفَيُعْصى عُنْوةً؟!

(1) في (ش): ثبوت ذلك متواتر بجملة.

(2)

وهو من منشورات مؤسسة الرسالة، وقد تم طبع ما يقرب من ثلثيه في عشرين مجلداً، والباقي قيد الطبع.

(3)

لم يرد هذا النص عند المزي في " تهذيب الكمال " كما توهم المؤلف، وإنما هو مما زاده الإمام الذهبي في " تذهيب التهذيب ". انظر المجلد الأول الورقة 254/ب منه.

(4)

في " تهذيب التهذيب " وغيره: قال أبو داود: هو عندي صالح، ووثقه أيضاً العجلي وعثمان بن أبي شيبة، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وكذا ابن شاهين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وعن أبي داود قال: رأيت عيسى بن شاذان يضعفه، وقال: عنده مناكير، وضعفه ابن سعد جداً، وقال ابن عدي له أحاديث حسان وغرائب، ولم أر له منكراً، وأرجو أنه لا بأس به.

ص: 307

فهذا صريح مذهب (1) أهل السنة، وكلامه هذا وإن كانت المعتزلة والزيدية المتأخرون (2) يتأولونه، ولا يمكنهم تأويله، فإنه لا تُساعدهم قرينة الحال، فإنه أورده جواباً على من أنكر صريح مذهب أهل السنة.

وليس يستطيع من يدعي أنه على مذهبه من متأخري الزيدية أن ينقل عنه ما يعارض هذا النقل، بل منتهى حاصلهم الاشتغال بتكذيب النقل الثابت من غير موجبٍ، بل ولا مسوِّغٍ. فقد صحَّ النهي عن تكذيب اليهود فيما نقلوه من المحتملات أو التأويل لذلك من غير موجب أيضاً (3)، فإنه إن كان صواباً فتأويله حرام وِفاقاً، وإن كان خطأ، فهو كذلك على الصحيح، إذ لو جاز تأويل كلام من أخطأ من المختلفين لم يصح نقل المقالات عن أهلها، ولم تكن الزيدية بتأويل نصوص أئمة أهل البيت عليهم السلام على ما يوافقهم أولى من غيرهم.

فتأمل ذلك.

وأما ما نقله محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر المعروف بالشهرستاني في كتابه " الملل والنحل "(4) من كون زيد بن علي عليه السلام قلَّد واصل بن عطاء،

(1) في (ش): كلام.

(2)

في الأصل: " المتأخرين "، وهو خطأ.

(3)

أخرجه من حديث أبي نملة الأنصاري: عبد الرزاق (20059)، وأحمد 4/ 136، وأبو داود (3644)، وابن حبان (6257)، والفسوي في " المعرفة والتاريخ " 1/ 380، والطبراني 22/ (874) و (875) و (876) و (877) و (878) و (879)، والبيهقي 2/ 10، وابن الأثير في " أسد الغابة " 6/ 315 والمزي في " تهذيب الكمال " في ترجمة أبي نملة، ولفظه أنه بينا هو جالس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود ومُر بجنازة، فقال: يا محمد، هل تكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الله أعلم "، فقال اليهودي: إنها تكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله

وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تُصَدِّقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه ".

وأخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (4485) و (7362) و (7542).

(4)

1/ 155.

ص: 308

وأخذ عنه مذهب الاعتزال تقليداً، وكانت بينه وبين أخيه الباقر عليهما السلام مناظراتٌ في ذلك، فهذا من الأباطيل بغير شكٍّ، ولعله من أكاذيب (1) الروافض، ولم يورد له الشهرستاني سنداً ولا شاهداً من رواية الزيدية القدماء، ولا من رواية علماء التاريخ، ولا الشهرستاني ممن يُوثَقُ به في النقل، وكم قد روى في كتابه هذا من الأباطيل المعلوم بطلانها عند أئمة هذا الشأن؟ وكيف يُقَلِّده زيد مع أن زيداً أكبر منه قدراً وسناً، فإن واصلاً وُلِدَ سنة ثمانين، وزيد عليه السلام تُوفي سنة مئة؟! ولو كان الشهرستاني كامل الصرفة والإنصاف لذكر مع ما ذكره ما هو أشهر منه في كتب الرجال، وتواريخ العلماء، وأئمة السنة، وفي " الجامع الكافي " ثم ذكر الراجح من النقلين، وقواه بوجوه الترجيح.

والظاهر أنه اقتصر على نقل كلام بعض الروافض ولم يشعر بغيره. والله أعلم.

ومما يدل على عدم تحقيقه في معرفة الرجال أنه عدَّ زيد بن علي من أتباع المعتزلة، ثم ذكر بعد ذكر الإمامية جماعةً جِلَّة من أئمة السنة ورواة الصحاح (2)، وعدَّهم من أتباع زيد بن علي، وسمَّاهم زيدية، بل عدَّهم من مصنفي كتب الزيدية منهم: شعبة (3)، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومنصور بن الأسود، وهارون بن سعد (4) العِجْلي، وعُبيد الله (5) بن موسى، والفضل بن دُكَين، وعلي بن صالح، ويزيد (6) بن هارون، والعلاء بن راشد، وهُشَيْمُ بن بَشير (7)، والعَوَّام بن حَوْشَب، ومُسْتَلِم بن سعيد، وجعلهم كلهم مثل أبي خالد الواسطي في الدعاء إلى مذهب الزيدية، والتأليف فيه (8).

(1) في (ش): أباطيل أكاذيب.

(2)

في (ش): الصحيح.

(3)

ليس في المطبوع من " الملل والنحل ".

(4)

في الأصلين: " إسماعيل "، وهو خطأ، والتصويب من " الملل ".

(5)

تحرفت في الأصلين إلى: " عبد الله "، والتصويب من " الملل ".

(6)

تحرفت في (ش) إلى: وزيد.

(7)

تحرفت في الأصلين إلى: " سكين "، والتصويب من " الملل ". وزيد بعده في الأصلين:" وهارون بن إسماعيل "، وهو خطأ، وقد تقدم على الصواب.

(8)

انظر " الملل والنحل " 1/ 190.

ص: 309

فكيف يصح مع هذا أن يكون مذهب زيد والزيدية هو مذهب المعتزلة، وفي هؤلاء رؤوس خصوم المعتزلة لولا عدم معرفته وتحقيقه في أحوال الرجال؟

وقد شرط الذهبي على نفسه (1) أن يذكر في " الميزان " من قُدِحَ عليه (2) بحقٍّ أو باطل، فذكر واصل بن عطاء، ولم يذكر فيه زيد بن علي عليه السلام لبراءة ساحته من ذلك (3).

ويدل على ما ذكرتُه من بطلان ذلك أنه ذكره الشهرستاني على وجهٍ يستلزم الانتقاص لزيد عليه السلام حتى جعله مُقَلِّداً لواصل، لا مُوافِقاً بالنظر والاستدلال، وحتى أشار إلى أن الذي حمله على ذلك إرادة الصلاحية للخلافة وحبُّ الرئاسة، وحتى عاب عليه تقليد واصل مع قدحِ واصل في جدِّه علي بن أبي طالب عليه السلام.

وأما الموضع الثاني: فكثيرٌ أيضاً، وفي كلام القاسم عليه السلام في الجواب على الملحد ما يدل على اعتقاده لنفوذ مشيئة الله تعالى ولله الحمد.

وقد ذكر السيد الشريف الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني العلوي في كتابه " الجامع الكافي "(4) في مذهب الزيدية عن قُدماء أهل البيت عليهم السلام ما يدل على إجماع قدماء أهل البيت عليهم السلام في المئة الأولى والثانية وأكثر الثالثة، وهي القرن الثالث على صريح مذهب أهل السنة والحمد لله على وجود ذلك في كتب الزيدية، وخزائن أئمتهم، ورواية ثقاتهم.

وقد نقلت ذلك من نسخة الإمامين اللذَيْن عاصرتهما: الناصر محمد بن علي، والمنصور علي بن محمد عليهما السلام، وهي النسخة التي أخرجها السيد الشريف العالم أحمد بن أمير الجيلاني إلى اليمن، وعليها خطه

(1) ساقطة من (أ).

(2)

ليست في (ش).

(3)

في (ش): جميع القوادح.

(4)

تقدم ذكره 2/ 106.

ص: 310

المعروف وقفها (1) للهِ تعالى، وعليها صفات السماع، والتصحيح الكثير على عادة حفاظ الحديث المتقنين، والإجازات من كثير من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وهي في الخزانة الإمامية إلى (2) الآن، حرسها الله تعالى.

وقد ذكر الإمام المؤيد بالله عليه السلام هذا الكتاب المسمى " بالجامع " باسمه، ذكره في كتابه " الإفادة " في أواخره، فلله الحمد والمنة، في ذكر: حي على خير العمل، فإنه روى الحديث في ذلك، وقال: رواه محمد بن منصور الكوفي في كتاب " الجامع " بسنده، وقد عدت تصانيف محمد بن منصور ثلاثين مصنفاً في أول هذا الكتاب، وليس فيها ما يسمى الجامع فيشتبه بهذا والله أعلم.

قال مصنفه رحمه الله في المجلد السادس منه في كتاب " الزيادات "(3) باب القدر والمشيئة والإرادة، قال محمد، يعني ابن منصور في كتاب أحمد: قلت لأبي عبد الله أحمد بن عيسى (4): هل (5) المعاصي بقضاء وقدر، قال: نعم، حكم الله أن سيكون ما سبق في علمه من أفعال العباد، وكان أحمد يثبت القدر خيره وشره، ويقول: الإيمان من منة الله تعالى على أوليائه وتوفيق وعصمة لتصديق علمه السابق الذي لا يبطل بعد الحجة بصحة العقل، وبما مثله تفهم المخاطبة، فإن لم يفهم، فهو مقطوع العذر لكمال خلقته وسلامتها من الآفات المانعة.

قال محمد: قلت لأحمد بن عيسى: إن قوماً يزعمون أن علم الله لا يضر ولا ينفع، فقال: بلى والله، إن علم الله السابق ليضر وينفع، وذكر فيه كلاماً، وشرحاً لم أحفظه، وذكر فيه آيات من القرآن {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] وذكر النبي صلى الله عليه وسلم واختيار الله إياه.

(1) في (ش): وقفه.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

تقدم التعريف به 1/ 211.

(4)

تقدمت ترجمته 3/ 458.

(5)

في (ش): فعل.

ص: 311

وقال أحمد فيما حدثنا علي، عن أبي هارون، عن سعدان، عن محمد، قال: سألت أحمد بن عيسى عن القدر الذي نُهِيَ عنه ما هو؟ فقال: من زعم أن المشيئةَ إليه.

وقد سُئِلَ علي عن ذلك، فقال: من زعم أن الله شاء (1) لعباده الطاعة فلم تنفذ مشيئة الله، وشاء لهم إبليس المعصية فنفذت مشيئةُ إبليس، فقد وهَّنَ الله في مُلكه، وجوَّره في حكمه، وبَرِئْنا إلى الله منه يوم القيامة.

وقرأت في كتاب إبراهيم ومحمد ابني فرات وسماعهما من محمد بن منصور، قال: كان أحمد بن عيسى يُثْبت القدر خيره وشرَّه، ويقول: لا يقال: شاء للعباد فيكون شِبْهَ اختيار، ولكن شاء أن يَعْصُوه.

وقال الحسن بن يحيى: أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أحسن، فلله عليه المِنَّة، ومن أساء، فلله عليه الحجة في إساءته، وغير معذور في معصيته، ولن يخرج الخلق من قدرة الله وتدبيره وملكه.

وقال الحسن ومحمد: إن الله سبحانه خلق العباد، وعَلِمَ ما هم عاملون قبل أن يعملوا، وعرَّفهم طاعته، وأمرهم بها، وأعانهم عليها، وعرَّفهم معصيته، ونهاهم عنها، وأغناهم عنها.

قال الحسن: فليس أحدٌ يصير إلى طاعة الله إلَاّ بنعمة الله وفضله ورحمته، وليس أحدٌ يصير إلى المعصية إلَاّ بنعمة الله، والحجة لله على المطيع وعلى العاصي.

وقال محمد في موضعٍ آخر: إن الله خلق العباد جميعاً لعبادته، وأمرهم بطاعته، وأعانهم عليها، ومدحهم عليها، ونهاهم عن معصيته، وأغناهم عنها، وذمَّهم على فعلها، وجعل لهم السمع، والأبصار، والأفئدة، والجوارح السليمة

(1) في (ش): يشاء.

ص: 312

من الآفات، وأقام عليهم الحجة، وندبهم إلى المَحَجَّة بما أنزل في القرآن، وجعل فيه من البيان، وركَّب فيهم من الجوارح التي بها يعملون، وبها يحاسبون ويُسألون، ثم أخذ بجميع نواصي العباد فلم يدع شيئاً من مشيئتهم وإرادتهم إلا بمشيئته وإرادته استدلالاً على الربوبية، وتعبُّداً للخلائق بالقدرة، فإذا نوى عبد من عبيده خيراً اختار عليه في نيته، فإن شاء أمضاه له بعدله وتوفيقه، وإن شاء حال بينه وبينه ببعض بلائه، وما دعا الله إليه، فقد جعل له سبيلاً، وما نهى عنه، فقد جَعَلَ منه بُدَّاً، فمن تم منه الإقرار، وأحسن في الأعمال كان في أهل الجنة، ومن تم منه الإقرار، وأساء في الأعمال، حَكَمَ عليه الدَّيَّان في أفعاله، إن غفر له فبفضله، وإن عذبه فبذنبه، وما الله بظلَاّمٍ للعبيد.

قال محمد: فمن عَلِمَ الله منه الطاعة، وقبول أمره، والإنابة إليه، فله من الله الهداية والمنُّ والتوفيق.

وقال محمد في موضعٍ آخر: فمن قبل أمر الله، وآثر طاعته، وعَلِمَ اللهُ منه صدق النية في ذلك كله، كان له من الله العون، والمنُّ الزائد، والتوفيق الزائد، وبذلك سعد، ومن علم الله منه المعصية، وركوب ما نهاه عنه، وإيثار هواه على طاعة الله، استوجب من الله الخذلان والترك، وبذلك شَقِيَ، ولم يكن له على الله هدايةٌ ولا منٌّ ولا توفيق.

قال: ولله أن يَمُنَّ على من يشاء من عباده، ويتفضل عليه بتوفيقه ويهديه، قال الله عز وجل:{ولو عَلِمَ الله فيهم خيراً لأسمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وقال:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، وقال:{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء} [آل عمران: 74]، وقال:{ولولا فَضْلُ الله عليكم ورحمتُه لكنتم من الخاسرين} [البقره 640]، وقال:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاء} [النور: 21]، وقال الله عز وجل:{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7 - 8]،

ص: 313

وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقال:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [الإسراء: 21]، وقال:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [الأنعام: 165]، وقال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فأخبر لا شريك له أنه خلق العباد جميعاً لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وقد تقدم الكلام في مثل هذا.

قال الحسن ومحمد في كتاب " الجملة ": فليس أحد ينال طاعة الله إلا يبدي امتنانه وفضله ورحمته، وليس أحدٌ أعلى عند الله منزلةً من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا أملِكُ لنفسي نَفْعاً ولا ضَرَّاً إلَاّ ما شَاءَ الله} [الأعراف: 188]، وقال:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23 - 24]، وقال شُعيبٌ:{وما توفيقي إلَاّ بالله} [هود: 88]، وقال نوحٌ:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقال يوسف:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، وقال مؤمن آل فرعون:{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، وقالت الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وقال أهل الجنة:{وما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هَدَانا الله} [الأعراف: 43].

قال الحسن بن يحيى: وقال أهل النار: {ربَّنا غَلَبتْ علينا شِقْوَتُنا} [المؤمنون: 106]، وقالوا:{لو هدانا الله لَهَدَيْنَاكُم} [إبراهيم: 21]، وقال إبليس:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [الحجر: 39، 40]، وقال الله تعالى لإبليس:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} [الحجر: 42].

وقال محمد: وقد نَسَبَ الله الأعمال إلى العباد، فقال:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وقد أقدرهم عليها بالآلة والأداة، وتسليم الجوارح.

ص: 314

وقال الحسن ومحمد: وللعباد أفعالٌ وإرادات نسبها الله إليهم، وعِلْمُ الله وإرادته ومشيئته محيطٌ بإرادتهم، ومشيئتهم، فلا يكون منهم إلَاّ ما أراد وعلم أنه كائنٌ منهم، وقد أراد خلقهم، وخَلَقَهم بعد علمه بما هو كائنٌ منهم، وأنه لا يكون منهم إلَاّ الذي كان، وقد سبق في علمه أنه يكون منهم مؤمن وكافر، ومُطيع وعاصٍ، وشقيٌّ وسعيد، وفريق في الجنة، وفريق في السعير، وقد أراد أن يتم كون ما علم أنه كائن، وقد أراد تبارك وتعالى أن تكون الدنيا دار بلوى واختبار.

قال محمد: وقد شاء الله أن يَسْعَدَ أهلُ طاعته، ويشقى أهلُ معصيته، قال الله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] وليس ما سبق في علم الله بعذرٍ لأحد في ترك ما أمر به، وركوب ما نهى عنه.

قال الحسن ومحمد: فمِنَ العباد من أوجب الله له الجنة والنار بسبب البلوى والاختبار، ومنهم من أراد أن يدخله الجنة بسابق علمه فيهم بلا بلوى ولا اختبار كمَنْ لم يلزمه من الله حجة نحو المعاتيه والبُلْهِ والأطفال.

قال الحسن: وكذلك حورُ العين منّاً منه وفضلاً ورحمة، فمن منَّ الله عليه بالعقل، والسمع، والبصر، والسلامة، والفهم، لما جاءت به الرسل، فقد وَجَبَت عليه الحجة، واتباع ما جاءت به الرسل.

قال محمد: ومن ألزمه الله عز وجل بالعقل، والفهم والسمع، والبصر، والقوة، والسلامة من الآفات المانعة لقبول ما جاءت به الرسل، فذلك المحجوب لا عُذْرَ له في إضاعة شيءٍ مما كَلَّفه الله، قال الله عز وجل:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم} إلى قوله: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهم (1)

(1) بالألف وكسر التاء على الجمع، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو، وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي:" ذُرِّيَّتَهُم " على التوحيد " حجة القراءات " ص 301 - 302،

و" زاد المسير " لابن الجوزي 3/ 284.

ص: 315

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} إلى قوله: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} [الأعراف: 172]، وقال:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [القصص: 68].

وقال الحسن: وقد أدخل الله النار ولدان المشركين الذين سبق في علمه أنهم لا يؤمنون (1)، فقال لنوحٍ:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَن} [هود:

(1) المذهب الصحيح المختار عند المحققين من أهل العلم أن أطفال المشركين الذين يموتون قبل الحنث هم من أهل الجنة.

وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، فإذا كان لا يُعذب العاقل بكونه لم تبلغه الدعوة، فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى.

وبما أخرجه البخاري في " صحيحه "(7047) من حديث سمرة، وفيه:" وأما الرجل الطويلُ الذي في الروضة، فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطره، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين ".

وبما أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رفعه:" كل مولود يولد على الفطرة (والفطرة هنا الإسلام) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ".

وفي مستخرجات البرقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كل مولود يولد على الفطرة " فقال الناسُ: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال:" وأولاد المشركين ".

وأخرج ابن أبي حاتم فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 8/ 357، عن أبي عبد الله الطهراني -وهو محمد بن حماد- حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار ففد كذب، يقول الله عز وجل:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَت} قال: هي المدفونة.

وأخرج أحمد 5/ 58 من طريق حسناء بنت معاوية بن صريم، عن عمها قال: قلت: يا رسول الله؟ مَنْ في الجنة؟ قال: " النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والمؤودة في الجنة ". وحسن الحافظ إسناده في " الفتح " 3/ 246. =

ص: 316

36]، فقال نوح:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27].

وأهلك الولدان في زمان عاد بالصيحة، ولا ذنب لهم ولم يبلُغوا الحُلُم والاختيار.

وقتل الخَضِرُ الغلام ولم يبلُغُ الحُلُم، فبلغنا في الحديث أنه وُجِدَ في كَتِفِه: كافرٌ خِلْقَةٌ (1)، ولله أن يُضِلَّ من شاء من عباده، ولا يظلمهم لأنهم عبيده، وملكه، يفعل فيهم ما يشاء بسبب البلوى والاختبار، وبغير سبب البلوى والاختبار كما يشاء، ثم لا يكون ذلك ظلماً منه لعبده، بل له أن يفعل ما يشاء، وليس لأحدٍ أن يدخل على الله في علمه، ولا يسأله عما يفعل وهم يُسألون.

وقال محمد في كتابه " الجملة ": والعباد عباد الله جميعاً في مَلَكَتِه ومشيئته وقدرته وسلطانه يُفضل بعضهم على بعض كما يشاء، وكيف يشاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقال لا شريك له:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات} [الزخرف: 32]، وقال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]، وقالت الرسل: {إنْ نحنُ إلَاّ بَشَرٌ مثلكُم ولكنَّ الله

= وأخرج ابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير في " تفسيره " عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة قال: سمعت الحسن يقول: قيل: يا رسول الله من في الجنة؟ قال: الموؤدة في الجنة " قال ابن كثير: هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن، ومنهم من قبله. وانظر " طريق الهجرتين وباب السعادتين " ص 512 - 516، وانظر أيضاً الجزء السادس من هذا الكتاب.

(1)

لم أجده بهذا اللفظ، وإنما أخرج مسلم (2380)(172) و (2661)، وأبو داود (4705) و (4706)، والترمذي (3150)، وأحمد 5/ 119 و121، والطبري 16/ 3، وصححه ابن حبان (6221) من حديث أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الغلام الذى قتله الخضر طُبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً ".

ص: 317

يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون} [إبراهيم: 11]، وقال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] أي: يجعل فيه نوراً يقبل به الإسلام، ويُحَبِّبُه إليه {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]، فمن لم يكن له من الله نورٌ فما له من نورٍ، وقال:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام: 110] يقال في التفسير: نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم على الكفر عقوبة كما لم يؤمنوا به أوَّل مرة.

وقال محمد في المسائل: إن الله خلق الخلق بقدرته، وجعل بينهم التفاضل بعلمه، وجعل منهم عباداً اختارهم لنفسه ليحتجَّ بهم على خلقه، قال الله:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقال:{ولقدِ اختَرنَاهُم على عِلْمٍ على العَالَمِينَ} [الدخان: 32] وقال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، وقال {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقال:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} [الأحزاب: 7] وكان فضل الله عليهم ورحمته قبل طاعتِهم إيَّاه.

وقال الحسن ومحمد في وقتٍ آخر: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فيُحَبِّب إليه الإيمان، ويجعل في قلبه نوراً يقبل به الإسلام، ويُخْطِرْ على قلبه الخير، ويُزَيِّن في قلبه التقوى مَنَّاً منه على عباده ورحمةً وفضلاً، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّد في السماء فمن لم يكن له من الله نورٌ فما له من نُور، قال الله عز وجل:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام: 110].

قال الحسن: وقال سبحانه: {ولو أنَّنا نَزَّلنا إليهم الملائكةَ وكلَّمهم الموتى

ص: 318

وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُون} [الأنعام: 111].

وقال الحسن في موضعٍ آخر: فإذا أراد الله بعبدٍ إرادةً في الامتنان والتوفيق، ألهمه التقوى، وحبَّب إليه الإيمان، وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ووفَّقَه للعمل الصالح منَّاً من الله ورحمة يختص بها من يشاء من عباده، ويُفَضِّلُ بعضهم على بعض كيف يشاء من غير استحقاق، وأعطى الأنبياء من خزائن رحمته وتفضُّله ومَنِّه وتوفيقه، وخصَّهم برسالته، ورفعهم على خلقه منَّاً منه ورحمةً وفضلاً، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولله ملك السماوت والأرض وما فيهما، فهم في ملكَتِه، والقدرة محيطة بهم، يفعل في عبيده ما يشاء، ويملك حياتهم، وموتهم، وأرزاقهم، وحركتهم، ومنطقهم، وشهوتهم، وقلوبهم، وأسماعهم، وأبصارهم، فليس يتحرك متحركٌ، ولا يطرِفُ طارفٌ ولا ينطِقُ ناطقٌ إلَاّ وهو في ملكته والقدرة محيطة بهم، وعلم الله وتقديره ومشيئته سابقة فيهم قبل خلقهم، قال الله تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] فالحجة من الله على المطيع والعاصي، وما يتفَضَّل به على العباد من العفو أكثرُ من العقوبة، قال الله:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة} [فاطر: 45]، وقال:{ويَعْفُو عن كثيرٍ} [الشورى: 34].

وليس للعباد على الله سبحانه أن يخلقهم، ولا لهم عليه أن يَهْدِيَهم، فكُلُّ خيرٍ ناله العباد من الله، فإنما هو بمنِّ الله وفضله، وإنما خلق الله العباد عبيداً مماليك يملِكُهم، ويملِكُ جميع ما حولهم، وبالخلق إلى الله الحاجة في كل وقت، والله الغني عنهم وهم الفقراء إليه، وقال:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، وقال:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23 - 24] وقال: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} [الأنبياء: 23].

ص: 319

وسُئل الحسنُ عن السعيد والشقي متى يكون سعيداً وشقياً؟ فقال: السعيد في علم الغيب عند الله سعيد قبل أن يُخلق، ولا يكون من فعل العبد، وما يُختم له به إلَاّ بعمل السعادة حتى يجعله الله سعيداً بعمله برحمةِ الله له، ويكون فعله موافقاً لما سبق في علم الغيب فيه.

والشقيُّ في علم الله شقيٌّ قبل أن يُخلق، ولا يكون من فعله وخاتمة عمله إلا عمل الأشقياء حتى يكون عمله وما يختم له به موافقاً لما سبق في علم الله أنه شقي. نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بالسعادة ولا يجعلنا من الأشقياء برحمته، فإنه ولي ذلك، والقادر عليه، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وقال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [يونس: 99]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم} [هود: 118 - 119] أي: للرحمة، وقال:{ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْس} [الأعراف: 179]، وقال:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، وقال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وقال:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، وقال:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، وقال:{وما كُنَّا مُعَذِّبين حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] فأخبر الله سبحانه أنه لم يُعَذِّبْ من عصاه إلَاّ بعد البيان والحجة، والإعذار إليهم، فكان عذابه لهم عقوبةً إذْ عصوه.

وقال محمد في المسائل: وسألتَ عمَّن يقول: إن الله لم يخلق شقيّاً ولا سعيداً. فإنا نقول: قد خلق الله الشقيَّ والسعيد، فلن يزول عن الشقي أن يكون شقيّاً، ولا عن السعيد أن يكون سعيداً، وهو الذي سبق في علم الله أن يُسْعِدَ

ص: 320

أولياءه، ويُشقي أعداءه. قال الله عز وجل:{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105 - 108].

قال الحسن فيما رواه ابن صباح عنه، وهو قول محمد في المسائل وسُئلا عن القدر، ومن قال: وإن الله خلق شقياً وسعيداً، وإن القضاء قد سبق؟ فإنا نقول في ذلك بجمل من الكتاب، وآثارٍ بَلَغَتْنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوزُ ذلك إلى غيره: إن الله خلق العباد وعلم أعمالهم قبل أن يعملوها، وعلم ما هم صائرون إليه، وقد عرَّفهم الطاعة وأمرهم بها، وعرَّفهم المعصية ونهاهم عنها بعد علمه بما يعملون من ذلك ويختارون، فما كان للعباد من طاعة فلله فيها المِنَّة، وما كان منهم من معصيةٍ، فلله فيها الحجة، فهذا ما أجمع عليه المختلفون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مؤدٍّ إلى الله عز وجل.

وقد أمر الله بالألفة والاجتماع، ومدح أهلها عليها، ونهى عن الفُرقة والاختلاف وذم أهلها عليها، قال الله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

وقال الحسن ومحمد: ومن قال: إن الله لم يُقَدِّر في خيرٍ ولا شرٍّ فإن قوله هذا جُرأة على الله وبدعة وجهل ومن قال بالإجبار وحمل ذنوبه على الله وما تنزَّه الله عنه، وذمه في الكتاب، فإنه جريء جاهل، ولا يقول بواحدة من المقالتين، يعني: الجبر ونفي القدر.

قال محمد: ومن قال: إن الله لم يُقَدِّر في خير ولا شر فإنا ننسبه إلى الغلو في القدر الذي نهى عنه، ونقول: إن الله قد قدَّر الخير والشر على ما أراد، فجعل الخير خيراً، وجعل الشرَّ شراً، ومشيئة الله محيطة بمشيئة العباد.

قال الحسن ومحمد في كتاب " الجملة ": وبلغنا عن علي صلى الله عليه،

ص: 321

أن رجلاً سأله عن القدر؟ فقال: طريقٌ مظلم فلا تسلُكْه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: بحرٌ عميق فلا تَلِجْهُ، قال: فسكت الرجل ساعة، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: سِرُّ الله فلا تُفْشِه.

قال الحسن بن يحيى: ثم إن أمير المؤمنين صلى الله عليه قام فأحدث طهوراً، ثم قال: أين السائل عن القدر؟ فقال الرجل: أنا يا أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين: أخبرني عنك، أخلقك الله كما شاء أن يخلقك أو كما شئت؟ قال: كما شاء، قال: فأخبرني عما تأتي به يوم القيامة من عملٍ بما شاء الله أو بما شئت؟ قال: بما شاء الله، قال: فأخبرني عما تصير إليه يوم القيامة إلى ما شاء الله أو إلى ما شئت؟ قال: إلى ما شاء، قال: فهل ترى لأحدٍ شيئاً من المشيئة؟!

وروى محمد بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعمال العباد كلُّها على مشيئة الله وإرادته "(1).

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته: " إنَّ الله حَدَّ حُدوداً فلا تعتدُوها، وفرض أشياء، فلا تُضيعوها، وحرَّم محارم فلا تَنْتَهِكُوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نِسياناً، فلا تكلفُوها رحمةً من الله فاقبلُوا "(2).

(1) لم أجده بهذا اللفظ، ولكن ورد من حديث عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النار؟ قال:" نعم "، قيل: فما يعمل العاملون؟ قال: " كلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له ". أخرجه أحمد 4/ 431، والبخاري (6596) و (7551)، وفي " خلق أفعال العباد " ص 53، ومسلم (2649)، وأبو داود (4709)، وعبد الله بن أحمد في " السنة "(691)، والآجري ص 174، والطبراني 18/ (266) و (267) و (268) و (269) و (270) و (272) و (273) و (274)، وابن حبان (333)، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 94 و95.

وفي الباب عن علي، وجابر، وعبد الرحمن بن قتادة السلمي. انظر تخريجها في " صحيح ابن حبان "(334) و (335) و (336) و (337) و (338) بتحقيقنا.

(2)

حديث حسن قد تقدم تخريجه 1/ 453 - 454 و2/ 143 - 144.

ص: 322

قال الحسن ومحمد: " ومن كان له جارٌ قدريٌّ، أومن ينادي بذلك ويمتحن عليه الناس، ويُعادى على ذلك فلا حقَّ له كحرمة المسلم، وإن كان إنما يومىءُ إليه بذلك ولا ينادي به، فله ما للمسلمين في الجملة.

قال محمد: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (1)، قال: حدثنا عمر أبو حفص القَزَّاز، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن أبائه عليهم السلام، عن عليٍّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (2): " سبق العلم، وجفَّ القلم، ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل، وما العباد عاملون، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى، وبالشقاء من الله لمن كذَّب وكَفَر، وبالولاية من الله للمؤمنين، وبالبراءة من المشركين ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أروي حديثي عن الله سبحانه، قال الله تبارك وتعالى: و (3) بمشيئتي كنتَ أنتَ (3) الذي تشاء لنفسك ما تشاء (4) وبإرادتي كنتَ أنت الذي تُريدُ لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي قَوِيتَ على معصيتي، وبعصمتي وبعافيتي وبقوتي أدَّيْتَ إليّ فرائضي، أنا أولى بإحسانك منك، وأنت أولى بذنبك مني، لأن الخير بما أوليتُك مني بدّاً (5)، والشرَّ مني بما جَنَيْتَ حدّاً، وبكثير من تسليطي انطويت على طاعتي، وبسوء ظنِّك بي قنطْتَ من رحمتي، لي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، يا ابن آدم لم أدَعْ تحذيرك، ولم آخُذْك عند غِرَّتِك، ولم أُكَلِّفْكَ فوق طاقتك، ولم أُحَمِّلْكَ من

(1) ذكره الحافظ ابن حجر في " اللسان " 2/ 218 - 219 وقال: يروى عن وكيع وأبي نعيم، وعنه الحسن بن سفيان. قال ابن حبان في " الثقات ": مستقيم الحديث إذا لم يكن في إسناد خبره ضعيف. قلت: وقال أبو زرعة: صدوق.

(2)

من قوله: " وجوره في حكمه وبرئنا إلى الله منه يوم القيامة " ص 53 إلى هنا ساقط من (ش).

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

" ما تشاء " ليست في (أ).

(5)

في (ش): أبداً.

ص: 323

الأمانة إلَاّ ما أقررتَ على نفسك، ورضايَ لنفسي منك ما رضيتَ لنفسك مني" (1).

وروى الحسن بن يحيى بعض هذا الحديث بلا إسنادٍ، وقال: قال أميرُ المؤمنين: ألا إن أبغض خلق الله إلى الله عبدٌ وَكَلَهُ الله إلى نفسه (2).

وروى محمد، عن علي بن الحسين أنه لما حضرته الوفاة بكى، فقال له ابنه أبو جعفر عليهم السلام: يا أبتاه تبكي وقد طلبت الله طلباً (3) ما طلبه أحد؟ قال: يا بُني إنه ليس أحدٌ يشهَدُ القيامة إلَاّ وله زَلَّةٌ لله فيه المشيئة إن شاء رَحِمَه، وإنْ شاء عَذَّبَه.

وسُئل محمد عمن يقول: كل شيءٍ بمشيئة الله، فلولا مشيئة الله ما قَدِرَ أحدٌ أن يفعل شيئاً؟ يقول:(4) بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله سبحانه: " يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء " وذكر الحديث.

مسألة: قال محمد في المسائل: سألت القاسم بن إبراهيم (5) يعني. عمَّنْ يقول: من قُتِلَ مات بلا أجلٍ ولو لم يُقتل ما مات، وذكرتُ له قول من يقول: إنه لما قتله، قَطَعَ أجله؟ فعاب القاسم هذا القول، وأقدم على من يقول به المكروه (6).

وسألته عمن يقول به؟ فقال: هالكٌ.

(1) هذا خبر لا يصح، وليس هو في شيء من دواوين السنة المعتبرة. وعمر أبو حفص القزاز لم أجد له ترجمة، وإذا كان المراد من قوله في السند: عن آبائه علي بن الحسين، فإنه لم يسمع من جده علي، فهو منقطع.

(2)

من قوله: " قال أمير المؤمنين " إلى هنا ساقط من (ش).

(3)

ساقطة من (أ).

(4)

من قوله: " كل شيء " إلى هنا ساقط من (ش).

(5)

في (ش): " أبا القاسم " وهو خطأ.

(6)

في (ش): بالمكروه.

ص: 324

وقال الحسن: وأما ما سألت عنه من قولهم: إنَّ من قتل إنساناً فلا يكون ملكُ (1) الموت قابضاً لروحه، فقد ردُّوا قول الله تبارك وتعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّلَ بكم} [السجدة: 11]، {كُلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموتِ} [آل عمران: 185]، وقال:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت} [الزمر: 42].

فقد أخبرنا الله أنه يتوفي الأنفس حين موتها، وأن ملك الموت يتوفَّى عن أمره، وقال: قال الله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

وقد قال في يحيى بن زكريا: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15] وإنما قُتل يحيى بن زكريا قتلاً.

وقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] وإنما كان الموت بالقتل.

وسألت عمَّن يقول: إن الذئب إذا وثَبَ على الشاة فأخذها إنه هو الذي رزق نفسه، وليس خالقه الذي رزقه؟ فهذا القول ردّ حكم [آيات] الكتاب البينة المنصوصة، قال الله:{وما مِنْ دابةٍ في الأرضِ إلَاّ على اللهِ رِزْقُها} [هود: 6] وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40]، وقال:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [العنكبوت: 60]، وقال:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} [فاطر: 3]، وقال:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات} [الزخرف: 32] فجعل بعضهم أقوى من بعض، وبعضهم يُحسن صناعة لا يُحسنها غيره، حتى

(1) ساقطة من (ش).

ص: 325

إن الكنَّاس -وهو أدناهم منزلةً في الدنيا- ليأخُذُ رزقه من أعلاهم منزلةً في الدنيا، لأن الله سبحانه جعل ذلك سبباً من أسباب أرزاقهم لا يمتنعون منه، ولو كان اكتسابُ الرزق إلى العباد، لكان الشديدُ البطش، الكاملُ العقل، البارعُ البيان والحجة أكثرَ رزقاً من الأحمق الضعيف، ولكن الله سبحانه احتج على عباده أنه المُنَزِّلُ لأرزاقهم، المالك لخلقهم وأمورهم، فقال:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54].

وقال محمد في المسائل: وسألت عمن يقول: من قُتِلَ مات بلا أجلٍ، ولو لم يُقتل ما مات؟

وهذا قول سوءٍ سيِّءٌ رديءٌ، ولكنه وافق أجله وقت القتل، ولو لم يقتله مات في ذلك الوقت (1) وقد سُئل الحسن البصري عن ذلك، فقال: يا لُكَع (2) فمن يأكُلُ رِزْقَه!

وسألت عمن يقول: لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يؤمن بالخير والشر، فمعناه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكُن لِيُخطِئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

وسألت عمن يقول: إن الله قد خلق الأشياء، وفرغ من جميع خلقه وأحكمه؟

فإن كان يريد بقوله: إن الله خلق الأشياء، وأحكم خلقها، يريد علمها، وأتقن علمها (3)، فهو كما قال.

وأما قوله: " خلق " فإن الله قد خلق ما أراد خلقه، وهو خالقٌ ما يريد خلقه.

(1) قوله: " في ذلك الوقت " ساقط من (ش).

(2)

قال ابن الأثير: يريد يا صغيراً في العلم، وقال الأصمعي: هو العَيِيُّ الذي لا يتجه لمنطق ولا غيره.

(3)

" واتقن علمها " ساقطة من (ش).

ص: 326

وسألت عمن يقول: إن الله شاء لخلقه (1) أن يكونوا عالمين بأمر الله، ولكن تركوا ذلك بقول: لو شاء الله أن يجعلهم مجبولين على ذلك لفعل، ولم يخرجوا عن (2) ذلك، ولكن شاء جلّ وعزَّ أن يأمرَهُم بعد البيان، واتخاذ الحجة أن يكونوا عالمين عاملين بأمر الله، والمنُّ والتوفيق من الله لمن قَبِلَ أمره، قال الله عز وجل:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

وقال لا شريك له: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] فقد شاء أن يكونوا قوَّامين بالقسط شهداء (3).

قلت: يعني: بمشيئة الأمر كما يدل عليه أول كلماته (4) وآخرها، وكما مرَّ في قوله تعالى:{وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلَاّ ليَعْبُدونِ} [الذاريات: 56].

وقال عليه السلام: وقد قال سبحانه: {ولو شِئنا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} [السجدة: 13]، وقال سبحانه:{لو يشاءُ الله لهَدَى الناسَ جميعاً} [الرعد: 31]، وقال:{وَلَوْ شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كلُّهم جميعاً} [يونس: 99]، وقال:{ولَوْ شاءَ الله لَجَمَعَهُم على الهُدى} [الأنعام: 35] وهو كما قال عز وجل، ولكن الله شاء أن يأمُرَهُم وينهاهم بعد البيان ليتخذ عليهم الحجة.

وقال: {وما كُنَّا مُعذِّبينَ حتَّى نبعثَ رسولاً} [الإسراء: 15] شاء الله أن يُكرم أهلَ طاعته، ويُهينَ أهلَ معصيته.

وسُئل عن قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِه} [فاطر: 2]، فقال: ذلك المطر يُغاثُ به العباد، فهو من رحمة الله تعالى لا مُرْسِلَ له غيره، وإن يُمْسِك، فلا مرسل له غيره. وكذلك كل ما أنعم الله به على خلقه، فعلى هذا السبيل.

(1) في (ش): إن يشأ لخلقه.

(2)

في (أ): من.

(3)

ساقطة من (أ).

(4)

في (أ): كلاماته.

ص: 327

وسُئل عن قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِه} [يونس: 107]، فقال: هو حسب (1) ما أجبت به في المسألة التي قبلها.

وسُئل عن قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] يعني يقول: خلقنا لها كثيراً من الجن والإنس، وهم أهل الكفر (2) والضلال.

وسألت عن قوله تعالى: {وما تَشاؤون إلَاّ أنْ يشاءَ الله} [التكوير: 29] بلغنا أنها (3) لما نزلت {إنَّ هذه تذكرةٌ فمنْ شاءَ اتَّخَذَ إلى ربِّه سبيلاً} [الإنسان: 29]، قال أبو جهل: قد جعل الله المشيئة إلينا، فنزلت {وما تشاؤون إلَاّ أنْ يشاءَ الله} [الإنسان: 30].

وسُئِلَ عن قوله تعالى: {وإذا أرادَ اللهُ بقَوْمٍ سُوءاً} [الرعد: 11] في الدنيا مِن نكالٍ أو قتلٍ أو عقوبات، فلا رادَّ لأمر الله، وكذلك في الآخرة إذا أراد الله بأعدائه العذاب والعقاب فلا رادَّ لأمر الله.

وسألت عن قوله: {وتُعِزُّ مَنْ تشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} [آل عمران: 26] شاء الله أن يُعِزَّ أهل طاعته، ويُذِلَّ أهل معصيته.

وسألت عن قوله: {تُؤتي المُلكَ مَنْ تَشاءُ} [آل عمران: 26] هذا كما قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك} [البقرة: 258] هذا على الإقدار والتمكين.

قال محمد: وسُئِلَ عن حَدِّ الخير والشرِّ؟ فقال: حدُّ الخير: كلُّ ما قرَّبَ إلى الله، وحدُّ الشر: كل ما باعد من الله، والحق: كل ما أمر الله به ونَدَبَ إليه، والباطل: كل ما نهى عنه وذم عليه. انتهى ما نقلته بحروفه من " الجامع الكافي "

(1) في (ش): هو على حسب.

(2)

في (أ): " الجن "، وهو خطأ.

(3)

في (ش): أنه.

ص: 328

في هذه المسألة العظمى، وقد مَرَّ في مسألة القرآن في آخر الكلام في الصفات في الوهم الخامس عشر مثلُ هذا في موافقة السلف وأهل علم الأثر، والحث على الجمل، والنهي عن الخوض في علم الكلام (1).

وصنَّف محمد بن منصور رحمه الله في ذلك كتاب " الجملة والأُلفة " وسيأتي في مسألة الأفعال في المرتبة الخامسة من جواب هذا الوهم طرفٌ منه، وكذلك في مسألة الأطفال.

وذكر السيد المرتضى (2) في كتابه " الغُرَر " مثل كلام هؤلاء الأئمة في تقرير المشيئة والقدر على ما وَرَدَ به السمع عن أبي القاسم البَلْخي، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وسيأتي ذكره بلفظه في القدر.

وخالف المعتزلة في أيجاب كل لطفٍ عَلِمَه الله غير من ذكرنا من أهل البيت، ودانوا بقدرته سبحانه على هداية من يشاء اختياراً منهم: الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة (3)، ذكره في " التمهيد " في أوائل الباب السابع في النبوات،

(1) انظر 3/ 332 فما بعد.

(2)

هو أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل، الإمام الكبير المصنف في جميع العلوم، وُلد في ذِمار سنة 775، قرأ في علم العربية والكلام والفقه وغيرها، وصنف التصانيف، ولما اشتهرت فضائله، وكثرت مناقبه، بايعه الناس بالإمامة بعد موت الناصر سنة 793، ولقب المهدي لدين الله، وبويع في اليوم نفسه للمنصور علي بن صلاح الدين، فنشبت فتنة انتهت بأسر المهدي وحبسه في قصر صنعاء، ثم خرج منه خلسة، فعكف على التصنيف حتى توفاه الله سنة 840 بالطاعون الكبير الذي مات منه أكثر الأعيان.

ومؤلفه هذا اسمه: " غرر الفوائد شرح نكت الفرائد في علم الملك المبدىء العائد " وعند الشوكاني: " .. في معرفة الملك الواحد " منه نسختان في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء برقم (علم الكلام 71 و72). انظر " الفهرس " ص 196، و" البدر الطالع " 1/ 122 - 126.

(3)

تقدم التعريف به في 1/ 287 و4/ 119.

ص: 329

واحتبئ عليه وأطال وأجاد، وسيأتي كلامه بحروفه.

ومنهم: الإمام الناصر (1) عليه السلام ذكر ما يدل عليه في كتابه الذي جمعه في شرح التوابع، وموضعه منه شرح قول الزمخشري: لم يبق في الناس وَدَكٌ شرٌّ من الضحاك ووَدَك (2).

(1) قلت: هو الإمام الناصر محمد بن علي بن محمد بن علي المشهور بصلاح الدين، ولد سنة 739، واشتغل بالعلم حتى تأهل للإمامة وبرز في فنون، وقيل: بلغ فوق رتبة الاجتهاد. بايع له علماء الزيدية بعد موت أبيه، وملك غالب اليمن، وعظمت دولته. توفي سنة 793 في قصر صنعاء. انظر " البدر الطالع " 2/ 225 - 226.

(2)

قال الطبري في " تاريخه " وهو يؤرخ للفرس 1/ 194: ذكر بيو راسب وهو الأزدهاق: والعرب تسميه الضحاك، فتجعل الحرف الذي بين السين والزاي في الفارسية ضاداً، والهاء حاء، والقاف كافاً، وإياه عنى حبيب بن أوس بقوله:

ما نالَ ما قَدْ نالَ فرعونٌ ولا

هامانُ في الدنيا ولا قارونُ

بل كان كالضَّحَّاكِ في سَطَواتِه

بالعالمين وأنت أفْريدُونُ

وهو الذي افتخر بادعائه أنه منهم الحسن بن هانىء في قوله:

وكان مِنَّا الضحاك يعبدُه الـ

ـخابلُ والجن في مَسَارِبها

قال: واليمن تدَّعيه.

حدثت عن هشام بن محمد بن السائب -فيما ذكر من أمر الضحاك هذا- قال: والعجم تدَّعي الضحاك، وتزعم أن جما كان زوَّج أخته من بعض أشراف أهل بيته، وملَّكه على اليمن، فولدت له الضحاك.

قال: واليمن تدَّعيه وتزعم أنه من أنفسها، وأنه الضحاك بن علوان بن عبيد بن عويج، وأنه ملَّك على مصر أخاه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج، وهو أول الفراعنة، وأنه كان ملك مصر حين قدمها إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.

أما الفرس فإنها تنسب الأزدهاق هذا غير النسبة التي ذكر هشام عن أهل اليمن، وتذكر أنه بيوارسب بن أرونداسب بن زينكاو بن ويرَوْشك بن تاز بن فرواك بن سيامك بن مشا ابن جيومَرْت.

ومنهم من ينسبه هذه النسبة غير أنه يخالف النطق بأسماء آبائه، فيقول: هو الضحاك =

ص: 330

ومنهم: الإمام المنصور بالله (1) عليه السلام سمعتُه منه غير مرةٍ، فهذا ما عرفته مع قلة معرفتي من نصوص أئمة أهل البيت الخاصة.

وأما ما يوجدُ من كلام أهل البيت عليهم السلام من العمومات الدالة بظواهرها على موافقة ظواهر القرآن والسنة، ومذهب السلف وأهل الأثر، وربما كانت قاطعة بتعليلها وقرينة الحال فيها، فذلك مثل ما أجمعوا عليه من الاحتجاج على فضلهم بقوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] لولا نفوذ إرادته قطعاً لم يكن ذلك حجة، فعند المعتزلة أن الله إنما يريد مثل ذلك من جميع العصاة، لكن العُصاة امتنعوا من فعل ما أراد الله سبحانه.

فإن قيل: إنما صح الاحتجاج بها، لأن إخباره بذلك يدل على أنه عَلِمَ أنهم يقبلون هدايته لهم، ولطفه بهم في الهداية.

قلنا: لا يصح ذلك لوجهين.

أحدهما: أنه لا ملازمة بين خبر الله عن مراده، وبين علمه بوقوع مراده على أصولهم، ولا بين الإخبار بإرادته والإخبار بعلمه على أصول الجميع، لأن خبره

= بن أندرماسب بن زنجدار بن وندريسج بن تاج بن فرياك بن ساهمك بن تاذي بن جيومرت.

والمجوس تزعم أن تاج هذا هو أبو العرب، ويزعمون أن أم الضحاك كانت ودك بنت ويونجهان، وأنه قتل أباه تقرُّباً بقتله إلى الشياطين، وأنه كان كثير المقام ببابل، وكان له ابنان يقال لأحدهما: سرهوار، وللآخر: نفوار. وانظر بقية خبره في " تاريخ الطبري ".

(1)

هو الإمام المنصور علي بن محمد الناصر صلاح الدين بن علي المهدي (775 - 840) صاحب صنعاء، دفع أهل الظلم، وأحسن إلى العلماء، وقمع رؤوس البغي، واشتغل بالمعارف العلمية في خلافته حتى فاق في كثير منها. ولقد أثنى عليه المؤلف (ابن الوزير) ثناءً طائلاً في مصنف سماه " الحسام المشهور في الذب عن دولة الإمام المنصور ". انظر " البدر الطالع " 1/ 487.

ص: 331

عن إرادته لذلك لا يستلزم وقوعه عند المعتزلة، كما في قوله تعالى:{وما خلقتُ الجِنَّ والإنسَ إلَاّ ليعبُدونِ} [الذاريات: 56]. فإنها عندهم مثلها، ولا يستلزم وقوع ذلك عندهم، فحجَّتُهُم على التأويل هي غير مذهبهم المدعى، وتأويلهم يحاول صرف الآية عن معناها، وذلك أنها واردةٌ في تخصيصهم بالإرادة المتعلقة بتطهيرهم (1) المنسوب إلى الله عز وجل، وهم يريدون أن يكون معناها الخبر عن علم الغيب بما يكون منهم في المستقبل منسوباً إليهم.

وهذان أمران متباعدان يزيده بياناً أنهم إما أن يلتزموا أن الإرادة من الله تعالى لا (2) تَعَلَّقُ بخلاف معلومه أو لا؟

الأول: هو مذهب أهل السنة الذي فرُّوا منه، وهو الذى يتمشى عليه تأويلُهم على رِكَّتِه على كل مذهب.

والثاني: يرفع السؤال.

وثانيهما: أنه يؤدي إلى أنه لا أثَرَ لإرادة الله تعالى في تطهيرهم، ولو كان كذلك لم يكن لتعليق إرادة الله بتطهيرهم (3) معنىً، لأنَّ الإرادة لا تَعَلَّقُ إلا (4) بفعل المريد، كما يأتي بيانه بخلاف المحبة.

ولو كانوا كما قالوا لنُسِب التطهير إليهم لا إليه، ولما كان لهم مَزيَّةٌ على سائر المتقين، والقطع بقبح ظاهر هذه الآية، وتعيين مراد الله في الخبر (5) عما عَلِمَ أنه يكون منهم، والقطع على أهل البيت أنهم أرادوا ذلك بالاحتجاج بها قَطْعٌ بغير تقدير، وجنايةٌ على الكتاب المنير، على أنه لا عُذرَ لهم على أصولهم في تأويل احتجاج آحاد الأئمة، فإن أصولهم تقضي بتحريم تأويل كلام الآحاد من الأئمة، لا سيما والقرينةُ قائمةٌ على ذلك.

(1) في (ش): بتطهير.

(2)

ليست في (ش).

(3)

في (ش): في تطهيرهم.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

تصحفت في (ش) إلى: الخير.

ص: 332

فإن الأئمة عليهم السلام لو استشعروا أن الآية بظاهرها تخالف مذهبهم في أُصول الدين، وأن احتجاجهم بها يلزمهم في الظاهر نقضُ أصولهم، لأشاروا إلى ذلك ولم تَقْصُرْ عنه أفهامهم ولا عباراتهم، ولكنَّ المتأخرين من كل فرقة يُغلُون غُلُوَّاً لا يناسب مقالاتِ أوائلهم كما ذكره الخطابي عن المعتزلة، وكما يعلمُه من قرأ كتب أئمة أهل البيت عليهم السلام القدماء مثل:" علوم آل محمد صلى الله عليه وسلم " المعروف بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو تأليف محمد بن منصور الكوفي المُرادي الشيعي.

وأبسط منه وأجمع وأنفع منه وأمتع كتاب " الجامع الكافي على مذهب الزيدية "(1) تأليف السيد العلامة أبي عبد الله الحسني رحمه الله.

وبهذا يُعرف أنه قد كَثُرَ من المبتدعة محاولة جَحْدِ المعلومات، ورفع الضرورات والمتواترات عن سلف الأمة عموماً، وعن (2) أسلافهم خصوصاً.

وهذه المسألة، وهي نفوذ مراد الله تعالى من أشهر أصول دين الإسلام، بل هي مما اتَّفق عليه جميع الأديان.

قال الحافظ البيهقي في كتابه في " الأسماء والصفات (3) ": حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو حامد بن بلال، حدثنا محمد بن يزيد (4) السلمي، حدثنا المُؤمَّل (5) بن إسماعيل البصري، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو سنان، سمعت وهب بن مُنبه يقول: كنت أقول بالقدر (6)، حتى قرأت بضعاً وسبعين من

(1) هنا في (ش) زيادة " الأوائل ".

(2)

في (ش): على.

(3)

ص 172.

(4)

تحرفت في الأصلين إلى: " زيد "، والمثبت من " الأسماء والصفات ".

(5)

تحرفت في الأصلين إلى: المعتمر، والمثبت من " الأسماء ".

(6)

تحرفت في (ش): بالقدرة.

ص: 333

كُتُبِ الأنبياء في كلِّها: من جعل شيئاً من المشيئة إلى نفسه، فقد كفر، فتركتُ قولي.

وأخبرنا أبو محمد (1) بن يوسف الأصبهاني، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى الزهري القاضي، حدثنا أبو يحيى بن أبي مَيْسرة، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصَّنْعاني، حدثنا عبد الصَّمد بن مَعْقِلٍ، قال: سمعت وهب بن مُنَبِّه يقول: قرأت لله تعالى سبعين كتاباً، كلها نزل (2) من السماء، في كل كتاب منها: من أضاف إلى نفسه شيئاً من المشيئة، كفر.

وعن ابن عباس قال: لما بُعِثَ موسى عليه السلام وكلَّمه ربُّه، قال: اللهم إنك ربٌّ عظيم لو شئتَ أن تُطاع لأُطِعْتَ، ولو شئتَ أن لا تُعْصى ما عُصيتَ، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تُعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه:{لا يُسألُ عمَّا يَفْعَلُ وهُم يُسْألُونَ} فانتهى موسى. رواه البيهقي والطبراني (3)

(1) في الأصلين: " أبو حامد محمد " وهو تحريف. وهو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بامويه، الإمام المحدث الصالح أبو محمد الأردستاني المشهور بالأصبهاني نزيل نيسابور أكثر عنه البيهقي، وحدث عنه خلق. توفي سنة 409 هـ عن أربع وتسعين سنة. مترجم في " السير " 17/ 239.

(2)

في (أ): نزلت.

(3)

أخرجه الطبراني في " الكبير "(10606)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 171 عن أبي مسلم الكشي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا مصعب بن سوار عن أبي يحيى القتات، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس.

وهذا سند ضعيف، مصعب بن سوار: لا يُعرف، وأبو يحيى القتات مختلف في اسمه، ضعفه أحمد وابن معين في رواية، والنسائي، وابن سعد، وقال البزار، ويعقوب بن سفيان: لا بأس به، وقال ابن معين في رواية الدارمي: ثقة، وقال ابن حبان: فحش خطؤه وكثر وهمه حتى سلك غير مسلك العدول في الروايات، وقال الحافظ في " التقريب ": لين الحديث.

وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 199 - 200 وقال: رواه الطبراني وفيه أبو يحيى =

ص: 334

وزاد فيه زيادةً يأتي ذكرها عند ذكر أسانيده قريباً بهذه المسألة (1).

الدليل الثالث: ما يأتي من تعذُّر (2) تأويل كثير من آيات المشيئة مع مراعاة قرائن (3) القوانين العربية والنظرية حين نذكُرُ الدليل على قدرة الرب عز وجل على هداية من شاء من الخلق أجميعن إن شاء الله تعالى، على أن التأويل الممكن في هذه المسألة، وترك الظواهر حرامٌ قطعاً، إذ لا موجب له من السمع ولا مِنَ العقل، لأن العقل يمنع من تعلُّق الإرادة بخلاف المعلوم كما مرَّ وكما يأتي.

واعلم أنه لا شك في حُسن القول بنفوذ مشيئة الله تعالى بالنظر إلى التمدح لكمال القدرة وتمام العزة، وإنما حمل المعتزلة على المخالفة (4) في ذلك ظنهم أن ذلك يُناقضُ ما تقرر في العقل والسمع من قُبح إرادة الشر لنفسه، أي لكونه شرّاً لا حكمة (5) فيه.

قالوا: وكونُ العذاب هو مراد الله الأول بأهله يستلزم إرادة الشر لنفسه، وهذا ينفي قواعد معلومةً من ضرورة العقل والدين، أو من مجموعهما.

منها: كون الله (6) عز وجل أرحم الرحمين.

ومنها: كونه تعالى أحكم الحاكمين.

ومنها: كونه سبحانه أكرم الأكرمين.

= القتات، وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه في غيرها ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وسيرد عند المؤلف بإسناده 351.

(1)

من قوله: " عند ذكر " إلى هنا ساقط من (أ).

(2)

ساقطة من (أ).

(3)

ساقطة من (أ).

(4)

ساقطة من (أ).

(5)

في (ش): لا لحكمة.

(6)

في (ش): الرب.

ص: 335

وقد عظَّم حقَّ المساكين في كتابه الكريم، وقرَنَه بالإيمان به، فقال:{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} [الحاقة: 33 - 34] ومَدَح على إطعام الأسير وهو كافرٌ، وأمثال ذلك مما لا يُحصى.

ولقد تنزَّه الربُّ سبحانه غاية التنزه من العَبَث، ونصَّ على نزاهته منه في كتابه العزيز، والعبثُ: اسم لما لا نفع فيه ولا ضرر، بل قال تعالى فيمن جوَّز ذلك عليه:{ذلك ظَنُّ الذين كَفَروا} [ص: 27] فكيف بإرادة تعذيب أكثر الخلائق أبدَ الأبدين من غير حاجةٍ ولا حكمةٍِ فيه.

والجواب عليهم أن ما ذكروه من سَعَةِ رحمة الله، وبالغ حكمته، ونزاهته عن العبث وكل نقصٍ في الصفات والأسماء والأفعال حقٌّ لا ريب فيه ولا شكَّ، ولكنهم وهموا في أمرين جليَّين:

أحدهما: وهموا أن مذهبهم سالمٌ من المناقضة في ذلك.

وثانيهما: وهموا أن مذهب أهل السنة يستلزم نفي ذلك، وليس كما وهموا في الجانبين جميعاً (1)، ووهمُهم في ذلك يتبينُ بذكر أربعة وجوهٍ تشتمل على معارضةٍ جدلية، وموعظةٍ خطابية، وحجةٍ جُملية بُرهانية إجماعية، ونافلةٍ تفصيلية خلافية.

أما الوجه الأول. وهو المعارضة الجدلية فبأمرين:

أحدهما: أنهم لم ينفصلوا من الاعتراض الذي حسبُوه لازماً لأهل السنة إلا بالتزام (2) أشدَّ منه في البطلان كما مر تقريره.

وذلك أنهم زعموا أن المراد تحصيل ما عَلِمَ الله أنه لا يحصل، أو التعريض لذلك، وهذا لا يَصِحُّ عقلاً وسمعاً كما مرَّ بعضُه ويأتي بقيته، وإن

(1) في (ش): معاً.

(2)

" إلَاّ بالتزام " ساقطة من (أ).

ص: 336

صح، فلا يفيد شيئاً قطعاً، فالتشاغُل به هو من العبث الذى لا يجوز على الله تعالى، خصوصاً متى كان القصد بذلك هو الإحسان في العاقبة الدائمة إلى من علم أنه يخلُدُ في العذاب الدائم بسبب تعريضه (1) لذلك الإحسان، والقاطع بالعلم (2) بقبح هذا عقلاً أنه يعلم بالضرورة من كل عاقلٍ أنه لا يختار بنفسه، ولا لمن يُحبُّه، ولا لمن (3) يحب الإحسان إليه والرفق به.

وثانيهما: أن مذهبهم أن عذاب الآخرة من الله تعالى بمنزلة المباح منَّا، الذي ليس فعلُه أرجح من تركه، وهذا هو العبث الذي لا يجوز على الله تعالى، بل قال الفقيه حميد (4)، من متأخري متكلمي الزيدية: إنه من الله بمنزلة المكروه، لأن العفو أفضل، وهذا كله خطأ وقبيحٌ ممَّن قاله كما سيأتي وجهه (5) عند إبطال قول من ذهب إليه من غُلاة الأشعرية في الوهم الثلاثين، وقد مرَّ قريباً شيءٌ من بيان مناقضاتهم في ذلك.

الوجه الثاني: الموعظة الخطابية، وذلك أن منشأ هذه الإشكالات (6) هو مجموعٌ جهالاتٍ وضلالاتٍ.

منها: عُجْبُ أهل الكلام بعلومهم، وعقولهم، وآرائهم (7)، ولو أنصفوا، أو نظروا في نسبة ما علموا إلى ما جَهِلُوا لانحسمَتْ هذه المادة بالكلية، ولو أن

(1) في (ش): تعرضه.

(2)

في (ش): في العلم.

(3)

في (أ): من.

(4)

هو حميد بن أحمد بن محمد المحلي الهمداني الصنعاني الفقيه العلامة الشهيد، أنفق عمره في العلم والعمل، والرد، على المخالفين لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله المصنفات الفائقة، والمعلقات الرائقة، والرسائل التي هي بالحق ناطقة، منها " الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية ". توفي سنة 652 هـ. انظر " طبقات علماء الزيدية " ورقة 45 - 46 لإبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله. و" فهرس المكتبة الغربية بجامع صنعاء " ص 661.

(5)

تحرفت في (ش) إلى: وجهد.

(6)

في (ش): المشكلات.

(7)

في (ش): ورأيهم.

ص: 337

العبد علم نصف معلومات الله، لجُوز أن يكون حكمة الله في هذه الأشياء في النصف الأخير، كيف والله يقول:{وَمَا أُوتيتُم مِنَ العلم إلَاّ قليلاً} [الإسراء: 85]، والملائكة تقول:{لا عِلْمَ لنا إلَاّ ما عَلَّمْتَنا} [البقرة: 32].

وقد صح أن علم موسى والخضر عليهما السلام، وعلم جميع الخلائق في علم الله كما أخذه طائرٌ بمنقاره (1).

وما أحسن أدبَ البُوني حيث يقول: إن نسبة عِلمنا إلى علم الله كنسبة لا شيءَ إلى ما لا نهاية له.

ومنها: الشَّرَهُ في العلم، ومع أهل كُلِّ فنٍّ منه طَرَفٌ، ومعظمه وأضرُّه مع عُلماء الكلام، وذلك أن مِنْ طبع البشر حب العلم، وحب الممنوع، ولذلك يختلفون في دقائق صفات الرب سبحانه وغير ذلك اختلاف من لا يعلم، ويحتجُّ كل منهم بما لا يفيد العلم، ويقدح كلٌُّ منهم بما يُبطِلُ قول خصمه، ويُطَوِّلون في ذلك حيث لا حاجة إليه كتطويلهم في الروح ونحوه.

وقد نقل الرازي عن الفلاسفة الاعتراف بأن كلامهم في الإلهيات مُجرَّد ظنٍّ، لأنهم لم يروا الربَّ جل جلاله ولم يروا شبيهاً له، فيحكموا عليه بالقياس.

وإذا نظرت في كلِّ الفنون وجدت في كل منها علوماً جَلِيَّاتٍ (2) صحاحاً، ودعاوى خفيَّات ضِعافاً.

وأمارةُ ما ذكرته أن الجليات مواضعُ الإجماع، والخفيات مواضع الخلاف، وهذا موجودٌ حتى في كتب الحديث إذا لم يجدوا في الباب حديثاً في أرفع مراتب الصحة المُتَّفق عليها رووا فيه الموجود، وإنْ نَزَلَ عن شرطهم.

(1) أخرجه أحمد 5/ 119 - 121، والبخاري (3401) و (4726) و (4727) من حديث أُبي بن كعب الطويل في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام.

(2)

من قوله: " ولم يروا " إلى هنا ساقط من (ش).

ص: 338

وقد يُصَرِّحُ بعضهم بذلك حتى يتفاحش ضَعْفُ ما رَوَوْه، لكنهم أحسن الناس حالاً في ذلك لأنهم يُبينون (1) تلك الطريق الضعيفة، ولا يخفى ضعفها على صاحب البصيرة، ويفعلون ذلك للاحتياط في العمل الذي يُحتَاجُ إليه، لورود التكليف به، ولذلك كان السلف أقل الناس خوضاً في المشكلات لِكمالِ علمهم، لا لنقصانه كما ظنه بعض المتأخرين.

وما أحسن قول العلامة ابن عبد السلام في كتابه " القواعد ": إن العالم هو من يَعْرِفُ البَيِّنَ والشُّبْهَة، وليس في مقدوره أن يجعل الشُبْهَة من البينات، والبينات من المتشابهات.

ولا شكَّ أن تَطَلُّب علم ما لا يُعْلَمُ، والشَّرَهَ في ذلك وتحكيم بادىء الرأي فيه، وتقديمه على النصوص هو أساس كلِّ فسادٍ، ولذلك نسبه الله في القرآن إلى السُّفهاء، فقال تعالى:{سيقولُ السفهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَاّهُم عَنْ قِبلتِهمُ الَّتي كانُوا عَليْها} إلى قوله: {وإنْ كانتْ لكبيرةً إلَاّ على الذينَ هَدى الله} [البقرة: 142 - 143]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِين} [المائدة: 101 - 102] ونحوها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31].

(1) تصحفت في (ش) إلى: يثبتون.

ص: 339

وفي " الصحيحين " من طرقٍ كثيرة عن أنس (1) وأبي موسى (2) أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوْهُ، فصَعِدَ المِنْبَرَ، فقال:" لا تسألوني عن شيءٍ إلَاّ بَيَّنْتُه لكم " فلما سمعوا ذلك أرمُّوا ورَهِبُوا أن يكون ذلك بين يدي أمرٍ قد حَضرَ. قال أنس: فجعلتُ أنظر، فإذا كلُّ رجلٍ لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي.

وفي لفظ: فلما أكثروا عليه غَضِبَ، ثم قال:" سلوني عمَّا شِئْتُم ".

فثبت أن السؤال عن كثيرٍ من الأمور من بواعث غضب الله ورسوله، وموجبات العقوبة أو التشديد، ومن ثَمَّ قال الله:{لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] فلو كان بيان الجميع محتاجاً إليه ما أخَّر البيان عن وقت الحاجة، فذلك لا يجوز إجماعاً، فثبت أن المبتدعة يتعلمون ما يضرُّهم ولا ينفعُهم، ويتطلَّبُون ذلك أجارنا الله منه.

وعن ابن عباس مما خرجه الحاكم في " المستدرك "(3) في سبب نزول قوله

(1) أخرجه عبد الرزاق (20796)، وأحمد 3/ 107 و162، والبخاري (93) و (540) و (6362) و (7089) و (7090) و (7091) و (7294)، ومسلم (2359)، وأبو يعلى (3134) و (3135) و (3601)، وابن حبان (106) و (6429)، والبغوي في " شرح السنة "(3720).

وقوله: " أحفوه " أي: أكثروا في الإلحاح والمبالغة فيه، يقال: أحفى وألحف وألحَّ، بمعنى.

وقوله: " أرمُّوا " أي: سكتوا، وأصله من المَرَمَّة، وهي الشفة، أي: ضمُّوا شفاههم بعضها على بعض فلم يتكلموا، ومنه: رمت الشاةُ الحشيش: ضمته بشفتيها.

(2)

أخرجه البخاري (92) و (7291)، ومسلم (2360).

(3)

4/ 141 - 142. وأخرجه النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 440 وابن جرير الطبري في " جامع البيان " (12522)، والطبراني في " الكبير " (12459) والبيهقي 8/ 285 - 286 من طرق عن حجاج بن منهال، عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 158 - 159، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه. =

ص: 340

تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] قال ابن عباس: قال ناسٌ من المُتَكَلِّفين: هي رِجْسٌ، وهي في بطن فلانٍ قُتِلَ يوم بدر، وفلان قُتِلَ يوم أحد.

وخرَّج الحاكم (1) أيضاً عن ابن مسعود، أن الذين قالوا ذلك اليهود، وقال: صحيح الإسناد.

وفي هذا بيان المذمومين بابتغاء تأويل المتشابه الذي نص الله على ذمهم بذلك (2) بعينه في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].

فجعل ابتغاء تأويل المتشابه على العقول كابتغاء الفتنة، وسَمَّى الذي يُنقِّرون عنه سُفهاء. وفيه بيان أن الراسخين في العلم هم أهل الجُملِ الذين علموا مقادير عقولهم كما وصفهم بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما تقدم في الصفات.

= وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 18 وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

(1)

4/ 143 - 144. وأخرجه الطبراني في " الكبير " (10011). وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 172 - 173 وزاد نسبته إلى ابن مردويه. ولفظه: لما نزل تحريم الخمر قالت اليهود: أليس إخوانكم الذين ماتوا كانوا يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فقيل لي إنك منهم ".

وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 18 وقال: قلت: في الصحيح بعضه، رواه الطبراني ورجاله ثقات.

وأخرجه مسلم (2459)، والترمذي (3053)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 7/ 102، والطبري (12531) وذكره السيوطي في " الدر " 3/ 174 وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. ولفظه: لما نزلت هذه الآية

قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم.

(2)

في (ش): فذلك.

ص: 341

ولذلك قرأ ابن عباس: {ويقولُ الرَّاسِخُون في العلمِ آمَنَّا بهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} رواه الحاكم وصححه (1).

ورواه الزمخشري (2) عن أُبَيِّ بن كعبٍ سيد (3) القراء.

وروى الزمخشري (4) عن ابن مسعود نحو ذلك بغير لفظه، ولم يُضعِّفهما، بل رواهُما معاً بصيغة الجزم قراءتين لا من جهة التأويل.

وقد أوضحتُ الحجة في أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه في غير هذا الموضع، وكفي في ذلك حجة بأن موسى الكليم الوجيه المقرَّب عليه السلام ما علم تأويل المتشابه في علم الخضر، وكان سبب إنكاره لأفعال الخضر زيادة علم الخضر على علمه، فكيف بعلم الله وكلماته التي نصَّ على أن البِحار تَقِلُّ أن تكون مِداداً لها؟!

ويوضح ذلك ما عُلِمَ بالضرورة من أن الكفَّ عن الخوض في هذا هو حال خيار المؤمنين كما تقدم في تفسير {آمن الرسولُ بما أُنزِلَ إليه من ربِّهِ والمُؤمنونَ} [البقرة: 285] وما ورد في سبب نزولها.

بل هذا هو حالُ الأنبياء كما ذكرتُه في قصة موسى والخضر، وحال الملائكة كما حكى الله عنهم في سؤالهم عن الحكمة في خلق آدم وذريته.

(1) أخرجه الطبري في " جامع البيان "(6627)، والحاكم 1/ 112 من طريقين عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 150 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن الأنباري في كتاب " الأضداد ".

(2)

في " الكشاف " 1/ 413. وانظر " تفسير الطبري " 6/ 204.

(3)

تصحفت في (أ) إلى: بسند.

(4)

في " الكشاف " 1/ 413. وانظر " المصاحف " لابن أبي داود ص 69 والطبرى 6/ 204 ولفظ قراءته: " وإن حقيقة تأويله إلَاّ عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ".

ص: 342

وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتركُوني ما تركتُكُم، فإنما أهلَكَ من كان قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم "(1).

وفيهما من حديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: " فإذا رأيتم الذين يَتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله فاحذرُوهم "(2).

وقد بَسَطْتُ الأدلة على أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه في كتاب " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان " وجوَّدتُ القول بحمد الله، فليراجع من موضعه (3).

ومنها: الإعراض عن تدبُّر كتاب الله، والرجوع إليه، والاكتفاء بمجرد الخيالات الكلية، والتعادي والتكاذب، وقد نقم الله ذلك على من كان قبلنا في كتابنا فلم تعتبر به (4) المبتدعة، قال الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] فنبَّه بقوله: {وهُم يتْلُونَ الكتابَ} على ذمِّهم حيث لم يرجعوا إليه، وخوَّفهم حين تركوا ذلك بما وعد به من الحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

وقد تقدم في الصفات كيفيةُ جدال الأنبياء، ورجوعهم (5) إلى ما أنزل إليهم من ربهم عز وجل، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وما اختلفَ الَّذين أُوتوا

(1) تقدم تخريجه 1/ 219. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (18) و (19) و (20) و (21).

(2)

أخرجه الطيالسي (1432)، وأحمد 6/ 48 و256، والدارمي 1/ 55، والبخاري (4547)، ومسلم (2665)، وأبو داود (4598)، والترمذي (2993) و (2994)، وابن ماجه (47)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 3/ 207 و208، وابن حبان (73) و (76)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 545.

(3)

ص 121 فما بعدها.

(4)

ساقطة من (أ).

(5)

في (ش): برجوعهم.

ص: 343

الكتابَ إلَاّ مِنْ بعدِ ما جاءَهُم العلمُ بغْياً بيْنَهُم} [آل عمران: 19] وأراد بالعلم ما بيَّنه (1) لهم في الكتاب، ولذلك وصفَه بالمجيء.

ألا تراه قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} إلى قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 19 - 20].

وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات} [آل عمران: 105] ولذلك خصَّ الله الذين أُوتوا الكتاب بالاختلاف بعد العلم بأنهم اختلفوا بغياً بينهم بخلاف من لم يعرف كتاباً، فإن اختلافهم قبل العلم، وقبل البَيِّنات، يوضحه قوله تعالى:{وما كُنَّا مُعَذِّبينَ حتَّى نَبْعَثَ رسولاً} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165] وأمثال ذلك.

الوجه الثالث: الحجة الجملية البرهانية، وذلك أنه لم يَرِدْ في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع أهل السنة أنَّ عذاب أهل النار هو مراد الله الأول، ولا أنه مرادٌ لنفسه، وإنما الذي ورد في هذه الأصول أن العذاب مراد لله (2) متوقِّفٌ على مشيئته، وأنه تعالى غير مغلوبٍ عليه، ولا على أسبابه، وأن له فيه الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وأنه تعالى يعلم ما لا يعلم، وأنه لا يُطلعُنا على الغيب، ومن اعترف بحكمة الله تعالى في الجملة، كيف يلزمه نفيها إذا أقرَّ بقُصور علمه عن معرفة تعيُّنِها كما أقرَّت بذلك الملائكة حيث قالت:{لا عِلْمَ لَنا إلَاّ ما عَلَّمْتَنا} .

بل قال الله تعالى في المتشابه: {وما يَعْلَمُ تأويلَه إلَاّ اللهُ} فبطل وهم المعتزلة أن مذهب أهل السنة يؤدي إلى أن الله تعالى يريد الشر لنفسه، فلا مانع عندهم من أن العذاب مرادٌ لحكمةٍ بالغة خفيَّة هي تأويل المتشابه المحجوب عن الخلق، لا لكونه شرّاً، وتلك الحكمة هي المسماة بالمراد الأول

(1) في (ش): يبينه.

(2)

في (ش): الله.

ص: 344

عند أهل العقليات، والعذاب وسيلة إليها، فالعذاب مراد الله لأجل الحكمة، لا لكونه شراً محضاً، وهذه الأولية في الرتبة (1) دون الزمان على قول من يعتقد بِقِدَمِ الإرادة الإلهية.

وأما من يُجيز حدوثها فإنه يجيز أن تكون الأولية هنا في الزمان، ومعنى الأولية في الرتبة دون الزمان (2) مثل سبق الذات للصفات في الرتبة مع عدم حدوث الجميع، ومثل سبق حركة الأصبع لحركة الخاتم في الحوادث.

ولقد رَجَعَتِ المعتزلة إلى مثل هذا الإيمان الجملي بحكمة الله تعالى بعد الخبط في التأويل، وإنكار الآثار، ومخالفة السلف كما تقدم بيانه بياناً شافياً.

وتلخيص الجواب في هذا الوجه: أن الله خلق الكفار لحكمٍ كثيرة شاهدة له سبحانه بالنزاهة من الظلم والعَبَثِ، بل شاهدة له سبحانه بالحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والحجة الدامغة، فمن قال: إن الله خلق (3) الكُفَّار للعذاب دون غيره أو كانت عبارتُه تُوهِمُ ذلك، فما أصاب الحق، ومن أراد إصابة الحق على التفصيل تتبَّع متفرقات الحكم والنصوص وجمعها، والذي حضرني منها سبعة أمور خلق الله الكفار لها، منها: لفظية منصوصة، ومنها: معنوية معقولة، وإن رجَعَ المجموع إلى أقل من ذلك، فتأمل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواضحات (4) أدلة العقول التي لم تعارضها النصوص السمعية.

فأقول وبالله التوفيق: إن الله سبحانه خلق الكفار لعبادته بالنظر إلى أمره ومحبته كما أوضحتُه في الكتاب في تفسير قوله: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلَاّ ليَعْبُدونِ} [الذاريات: 56]، والابتلاء بالنظر إلى عدله وحجته كما أوضحتُه

(1) في (ش): هما الأولية في المرتبة.

(2)

من قوله: " فإنه يجيز " إلى هنا ساقط.

(3)

في (ش): " ما خلق " وهو خطأ.

(4)

تصحفت في (ش) إلى: وأصحابه.

ص: 345

أيضاً في (1) تفسير قوله تعالى: {ليبلُوَكُمْ أيُّكُم أحْسَنُ عملاً} [تبارك: 2]، ولما يوجب عليهم شكره على سابق (2) مواهبه بالنظر إلى تكليفهم بشكر نعمته، وللعذاب على كفر نعمته، وجحد حُجته بالنظر إلى علمه، وجبره، وقدره (3)، وكتابته، وللحكمة المرجِّحة فيهم لعقابه التي هي تأويل المتشابه بالنظر إلى حكمته ومشيئته وإرادته، ولما شاء مطلقاً بالنظر إلى ملكه وقدرته، ولما لا يحيط بجميعه إلَاّ هو سبحانه بالنظر إلى سعة علمه ورحمته.

فصل: وقد قيل على هذا الجواب الجملي: إنه يمكن أنَّ الله تعالى علم أن في تعذيب أهل النار مصالح، وغاياتٍ حميدةً إمكاناً لا يقطع به، ولا يقبح العذاب دونه كما سيأتي ذكره، وكما وَقَعَ في تأويل الخضر للشرور التي أنكر موسى عليه السلام ظاهرها الذي هو شرٌّ، ولم يعلم تأويلها الذي هو خيرٌ، حتى لو وقع أهلُ النار في تلك الآلام التي فيها بغير ذنوبٍ ألبتة، لكان ذلك حَسَناً، كما أجمع المسلمون على تحسين ذلك في آلام الأطفال والبهائم، ومَنْ يُبتلى من الأنبياء والأولياء من غير عقوبة.

كما صح مثله في البرزخ كضَمَّة اللحد الذي لا ينجو منها أحدٌ، فقد ضُمَّ سعد بن مُعاذ الذي صحَّ وتواتر أن العرش اهتزَّ لموته (4)، وصح أن الله أهبطَ

(1) من قوله: " وما خلقت " إلى هنا ساقط.

(2)

في (ش): سوابق.

(3)

في (ش): وقدرته.

(4)

أخرجه عبد الرزاق (6747)، وابن أبي شيبة 12/ 142، وسعيد بن منصور (2963)، وأحمد 3/ 296 و316 و349، والبخاري (3803)، ومسلم (2466)، والترمذي (3848)، وابن ماجه (158)، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/ 376، وابن سعد 3/ 433 - 434، وابن حبان (7029) و (7031)، والطبراني (5335) و (5336) و (5337) و (5338) و (5339)، والبغوي (3980) من حديث جابر.

وأخرجه أحمد 3/ 234، ومسلم (2467) من حديث أنس.

وأخرجه أحمد 3/ 24، وابن سعد 3/ 434، والنسائي في " فضائل الصحابة " =

ص: 346

لموته سبعين ألفاً من الملائكة (1)، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال:" لو نجا أحدٌ من ضَمَّةِ القبر لنجا منها هذا العبدُ الصالح "(2).

وسيأتي في مسألة الأطفال، وعذاب الميت ببكاء أهله عليه (3) ما ورد في الحديث من ذلك، وذكر إجماع أهل السنة أنه يجوز وقوع الامتحان في البرزخ كما يقع في الدنيا.

وقد جاء في الحديث: " أن رجلاً عبدَ الله في جزيرةٍ في البحر خمس مئة سنة، فإذا كان يومُ القيامة، قال الله تعالى: أدْخِلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقولُ العبد: بل بِعَمَلي، فيقول الله: حاسِبُوا بيني وبينَ عبدي فلا تَفِي عبادتُه بنعمة البَصَرِ، ويبقى (4) عليه شكرُ بقيةِ نعمه، فيقول الله تعالى: اذهَبُوا بعبدي إلى النار حتى يقول العبد: يا ربِّ أدْخِلْني الجنة برحمتك، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فنعم العبدُ كان ". أو كما ورد.

= (121)، والحاكم 3/ 206 من حديث أبي سعيد الخدري.

وأخرجه ابن سعد 3/ 433، والحاكم 3/ 206 من حديث ابن عمر.

وأخرجه أحمد 4/ 352، وابن أبي شيبة 12/ 142، وابن سعد 3/ 434، والطبراني (553) و (5332)، وابن حبان (7030) من حديث أسيد بن حضير.

(1)

أخرجه النسائي 4/ 100 - 101، وابن سعد 3/ 430، والطبراني (5333)، والبيهقي في " الدلائل " 4/ 28، وفي " إثبات عذاب القبر "(109) من طريق عبد الله بن إدريس، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ:" هذا الذي تحرك له العرش -يعني سعد بن معاذ- وفُتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُم ضمة، ثم فُرِّجَ عنه ". وهذا إسناد صحيح. وسقط من المطبوع من " إثبات عذاب القبر " في الإسناد: " عُبيد الله بن عمر، عن نافع ".

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد 6/ 55 و98، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (273) و (274) و (275) من حديث عائشة. وذكره الذهبي في " السير " 1/ 291 وقال: إسناده قوي. وانظر الاختلاف في إسناده في " شرح مشكل الآثار " 1/ 248 - 249.

وشاهده حديث ابن عمر السالف، وانظر أيضاً " صحيح ابن حبان "(7034).

(3)

صحيح وقد تقدم تخريجه في 1/ 428.

(4)

في (ش): وبقي.

ص: 347

وهذا مختصر من قصته وحديثه، وهو أطول من هذا، خرجه الحاكم في " المستدرك "(1) وصححه.

وهو يشهد لجواز ما ذكرته، إذ لم يذكر في الأمر بتعذيبه أنه على ذنبٍ غير التقصير في الشكر إلَاّ أن يكون ذنبه هو قوله:" بعملي يا رب "، وإلا فقد صحَّ أن كل أحد يَرِدُ القيامة وله ذنبٌ إن شاء الله عذَّبه عليه كما تقدم من غير وجه، وما شَهِدَ له من القرآن، والله سبحانه أعلم.

وبالجملة فالمسلمون مجمعون (2) على حسن ذلك من الرب بغير ذنب لحكمةٍ وإن خفيَتْ في كل ألمٍ منقطع في دار الإمتحان، بل العقلاء من المسلمين وغيرهم مُجمعون على حُسن تحمُّل كثير من الشرور لدفع أعظم منها، بل لجلب منافع في فواتها شرورٌ أعظم مما تحمَّلُوه، وما أعلم أن أحداً من العقلاء قبَّح النكاح عقلاً لما يؤول إليه من ألم الولادة وسوابقها وتوابعها لا في حق النساء لِعِظَم مضرَّتهن بذلك، ولا في حق الرجال لكونهم الوسيلة إليه، فيمكن في آلام أهل النار وعذابهم مثل ذلك.

ولكن الله عز وجل علم أن وقوع تلك الآلام على جهة العقوبة المستحقة بالمعاصي الاختيارية أكثر صلاحاً، فقدَّر مقادير تقع (3) معها تلك الاختيارات على وجهٍ يستحقُّ معه العقاب، وتقومُ معه الحجة، وينقطع معه عذر العبد

(1) 4/ 250 وفي سنده سليمان بن هَرِم، قال الأزدي: لا يصح حديثه وقال العقيلي: مجهول، وحديثه غير محفوظ. وقال الإمام الذهبي في " تلخيص المستدرك " متعقباً قول الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد: لا والله، وسليمان غير معتمد، وقال في " ميزان الاعتدال " 2/ 228 بعد أن أورده بطوله في ترجمة سليمان بن هرم: لم يصح هذا والله تعالى يقول: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولكن لا ينجي أحداً عملُه من عذاب الله كما صح، بلى أعمالنا الصالحة هي من فضل الله ومن نعمه لا بحول منا ولا بقوة، فله الحمد على الحمد له.

(2)

في (ش): مجتمعون.

(3)

في (ش): ترتفع.

ص: 348

العاصي، فلذلك سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزال الكتاب، وإرسال الرسل عُذْراً إلى الخلق، حيث قال في الحديث الصحيح:" لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل ". رواه مسلم من حديث ابن مسعود وأصله في " الصحيحين " معاً (1).

ولهما من حديث المُغيرة نحوه، ولفظه:" من أجل ذلك بعث الله المنذرين والمبشرين "(1).

وقال الله تعالى في مثل ذلك: {فالمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أو نُذْراً} [المرسلات: 5 - 6]، وقال:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76].

وحكى الله عن صالحي بني إسرائيل أنَّهم سَمَّوْا نهيهم لمن لا ينتهي معذرةً إلى ربِّهم، ألا تراهم ما سموها معذرةً إلَاّ حيث كانت غير نافعةٍ لهم، وذلك في نحو قوله تعالى:{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون} [يس: 10] وإنما أُنْذِرُوا عذراً إليهم وحجة عليهم، ولذلك قال:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر} [يس: 11] أي: الإنذار النافع المراد به النفع (2) لمن بلغه.

ومثل ذلك في المعنى وإن لم يَرِدْ بلفظ العذر قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} [البقرة: 150] وذلك أن اليهود كانوا فرحوا بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس في أول الأمر (3)، وهو قبلتهم

(1) تقدم تخريجهما في ص 58 من هذا الجزء.

(2)

تحرفت في (ش): ليقع.

(3)

أخرجه الطبري في " تفسيره "(1833) و (6160) و (2236)، والبيهقي 2/ 12 - 13 من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان أول ما نُسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم =

ص: 349

واحتجُّوا عليه بذلك، ومَوَّهوا به على جهلة المشركين، فجعل الله تعالى في نسخ ذلك باستقبال الكعبة قطع حجتهم مع ما كان فيه من امتحان الناس، وظهور نفاق المنافقين، فسمَّى ذلك حجة لكون اليهود احتجوا به، وليس بحجةٍ على الحقيقة.

فكذلك ما قطع الله يوم القيامة من حُجَج المُبطلين إنما هي أعذار منهم كما قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14 - 15]، وقال تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57].

وفي حديث الحسن عن أبي هريرة وأبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يُعرضُ الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأمَّا عرْضتان فجِدالٌ ومعاذيرُ "(1) رواه

= عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى:{قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله: {فولوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا:{ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} ، فأنزل الله عز وجل:{قل لله المشرق والمغرب} ، وقال:{أينما تولوا فثم وجه الله} . علي بن أبي طلحة أرسل عن ابن عباس ولم يره.

لكن له طريق أخرى يتقوى بها عند أبي عبيد في " الناسخ والمنسوخ " فيما ذكر ابن كثير في تفسيره 1/ 162، والحاكم 2/ 267 - 268، والبيهقي 2/ 12 من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس مختصراً.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وأخرج الطبري (2234) عن القاسم، عن الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا

فذكر نحوه.

(1)

تمامه: " وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ". أخرجه أحمد 4/ 414، وابن ماجه (4277) من طريق الحسن، عن أبي موسى، وأخرجه الترمذي (2425) من طريق الحسن، عن أبي هريرة. قال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قِبَلِ أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وأبي موسى.

ص: 350

الترمذي (1).

وقال أحمد في " المسند " حدثنا ابن نُميرٍ، قال حدثنا عبيد الله، عن عبد الله بن عبد الله (2) بن معمر الأنصاري، عن نَهارٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدَكم ليُسْألُ يوم القيامة حتى يكون فيما يُسألُ عنه أن يقال: ما مَنَعَكَ أن تُنْكِرَ المُنْكَرَ إذْ رأيتَه قال: فمن كفاه الله عز وجل حُجَّته، قال: ربِّ رَجَوْتُك وخِفْتُ الناس "(3).

ورواه العلامة القرطبي في " تذكرته "، وهو الحديث الثالث عشر من مسند أبي سعيد الخدري من " جامع المسانيد " لابن الجوزي، وفي " طبقات الذهبي " (4): نهار العبدي، عن أبي سعيد الخدري: ثقة، وفي " الميزان " (5): تابعي مدني صدوق، ولم أجد عبد الله بن عبد الله بن معمر الأنصاري (6) في " الميزان " ولا في رجال الكتب الستة، وخلوُّ الميزان منه أمارةُ صلاحه.

(1) تحرفت في (أ) إلى: النهدي.

(2)

كذا في (أ)، وهي ساقطة من (ش)، والصواب:" عبد الرحمن "، وهذا الخطأ وقع للمصنف، وليس هو من النساخ بدليل ما سيذكره بأنه بحث عن عبد الله بن عبد الله في " الميزان " وفي تراجم الكتب الستة فلم يظفر به.

(3)

حديث صحيح. ابن نمير: هو عبد الله، وعبيد الله: هو ابن عمر بن حفص العمري، ونهار: هو العبدي.

وأخرجه الحميدي (739)، وأحمد 3/ 27 و29 و77، وابن ماجه (4017). وأبو يعلى (1089) و (1344)، وابن حبان (7368)، والبيهقي 10/ 90. وصحح إسناده البوصيري في " مصباح الرجاجة " 3/ 344.

(4)

يعني " الكاشف " 3/ 185.

(5)

4/ 274.

(6)

ذكرت قبل قليل أن المصنف رحمه الله أخطأ في اسم أبيه، فقال: عبد الله، وأن الصواب: ابن عبد الرحمن، وعبد الله بن عبد الرحمن هذا مترجم في " التهذيب " وهو ثقة، روى له أصحاب الكتب الستة.

ص: 351

وروى الطبراني من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي في " أوسط معاجمه "(1) عن الحسن أيضاً قال: خطبنا أبو هريرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لَيَعْذِرَنَّ الله تعالى يوم القيامة إلى آدم ثلاث معاذير، يقول الله تعالى: يا آدم لولا أني لعنت الكاذبين، وأبغضت الكذب والخُلْف، وأوعدتُ عليه لرحِمْتُ اليوم ولدَكَ أجمعين من شِدَّة ما أعددت (2) لهم من العذاب، ولكن حق القول مني لِئِنْ كُذِّبَتْ رُسُلي، وعُصِيَ أمري لأملانَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ويقول الله عز وجل: يا آدم، لا أُدخِلُ النار أحداً، ولا أعَذِّب منهم أحداً إلَاّ من (3) علمت بعلمي أني لو رددته إلى الدنيا، لعاد إلى أشرِّ ما كان فيه، لم يرجع ولم يَعْتَبْ، ويقول الله تعالى عز وجل: يا آدم قد جعلتك حكماً بيني وبين ذُريتك، قُم عند الميزان فانظر ما يُرفعُ إليك من أعمالهم، فمن رَجَحَ منهم خيره شره مثقال ذرَّةٍ، فله الجنة حتى تعلم أني لا أُدخلُ النار منهم إلَاّ ظالماً ".

ويأتي حديث أنس وأبي هريرة في هذا المعنى، وكلاهما في الصحيح، فقد أعدَّ الله تعالى بعد علمه الحق بحكمته الراجحة في العذاب لهذه المعاذير الباطلة ما يُقابِلُها من أعذار الحق والحُجج الصحيحة، وذلك لحكمته البالغة، وكمال عَدْله في الباطن والظاهر، فالباطق بعلمه الحق، والظاهر بقدره الحق.

فقد ذَكَرَ أهل اللغة أن المُعتَذِرَ يكون مُحقاً وغير مُحقٍّ، ممن ذكره ابن الأثير في " نهايته "(4) فعلى هذا كل عذر من الله فهو حق، وكل عذر من الخلق، فقد يكون حَقّاً، وقد يكون باطلاً، فتلخَّص أن يكون لله تعالى في عذاب المستحقين حجتان، ويحتمل أن كُلَّ واحدةٍ (5) منهما محسنة للعذاب، ولكن الجمع بينهما أقوى في التحسين وأولى.

(1) ذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 347 - 348 وقال: وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو كذاب.

(2)

في (ش): ما أعتدت.

(3)

في (أ): لمن.

(4)

3/ 197.

(5)

في الأصلين: " واحد "، والجادة ما أثبت.

ص: 352

إحداهما: ما يناسب عقول البشر وعاداتهم من أعذار الحقِّ التي يعتقدون براءة المُعتذر بها من الملامة، وصحتها واضحة على أصول الجميع.

أما أهل السنة، فلورود السمع بذلك.

وأما المعتزلة فلوجوب إزاحة الأعذار عقلاً (1) عندُهم مع ورود السمع بذلك، ولا شكَّ أن ما لا يتمُّ الأمر (2) والمقصود إلَاّ به يكون له حكمُه في اللزوم، وهذه الحجة المجمع عليها لا تتمُّ إلَاّ بتقدير اختيار العباد لأعمالهم، وتقدير أسباب الاختيارات فلذلك كان القول بسبق القدر مقتضى العقل والسمع عند التحقيق، وهذه الحجةُ وقاعدتها هي ما قدره الله تعالى من اختيار العباد لأعمالهم التي مكنهم منها بإقداره لهم عليها غير مجبورين مع كثرة الأعذار، وتطاوُل الإمهال، والزيادة في البيان. وفي الحديث:" لقد أعذَرَ الله إلى من بلغ به في العمر ستين سنة " ذكره ابن الأثير في " نهايته "(3)، وقد أخرجه البخاري في " الصحيح " من حديث أبي هريرة مرفوعاً " أعذَرَ الله إلى رجلٍ أخَّرَ أجله حتى بلغ ستين سنة "(4).

وقال ابن الأثير: لم يُبْقِ له موضعاً للإعذار (5). وهذه (6) أعذارُ حَق وإن جاز أن يكون للهِ حكمةٌ باطنة أحقُّ منها.

(1) من قوله: " أما أهل السنة " إلى هنا ساقط من (ش).

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

3/ 196.

(4)

أخرجه أحمد 2/ 275 و320 و405، والبخاري (6419)، وابن حبان (2979)، والرامهرمزي في " الأمثال " ص 64، والقضاعي في " مسند الشهاب "(424)، والحاكم 2/ 427 - 428، والبيهقي 3/ 370، والخطيب في " تاريخه " 1/ 290، والبغوي (4032).

(5)

في النهاية: " للاعتذار " وقال الحافظ في " الفتح " 11/ 244: الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مد لي في الأجل، لفعلت ما أمرت به، يقال: أعذر إليه: إذا بلغه أقصى الغاية في العذر، ومكنه منه.

(6)

في (ش): وهذا.

ص: 353

مثال ذلك ما خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث فضيل، عن الشعبي، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال:" هل تدرون مما أضحك "؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:" من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا ربِّ ألم تُجرني من الظلم؟ يقول: بلى، فيقولُ: إني لا أُجيزُ اليوم على نفسي شاهداً إلَاّ مني، فيقول: كفي بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالملائكة الكرام عليك شهوداً، فيُختم على فيه، ويُقالُ لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لَكنَّ وسُحقاً فعَنْكُنَّ كنتُ أُناضلُ "(1).

فهذا عذرٌ حَقُّ من الله عز وجل يقابل العذر الباطل من العبد، وإلا فعلم العبد الضروري بأنه كاذبٌ أقوى حجة في باطن الأمر، وعلم الرب عز وجل أقوى من علم العبد الضروري.

وهذا الحديث وإن كان حديثاً واحداً، فالقرآن يشهد له حيث قال حاكياً عنهم:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصلت: 21] مع أن الحديث الظني في هذا المقام من أرفع ما يحتج به، لأن القصد في هذا المقام بيان مجرد احتمال الحكمة، وقطع قول من أحالها فيه، أو عيَّنها في وجهٍ باطل.

وقد وَرَدَ من الحديث الصحيح نحو هذا، وصُرِّح فيه بلفظ العذر عن أبي هريرة في بعض رواياته في حديث الرؤية، قال: " فيلقى العبد فيقول: أيْ فُلْ: ألم أُكرمك وأسوِّدْك؟ فيقول: بلى، فيقول: أظننتَ أنك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني

إلى قوله في المنافق: "فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرُسُلِك، وصُمْتُ، وتَصَدَّقتُ، ويُثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذاً، قال: فيقال: الآن نبعثُ شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من الذي يشهدُ عليَّ، فيُختَمُ على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمه

(1) أخرجه مسلم (2969)، وأبو يعلى (3975) و (3977)، وابن حبان (7358)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 217 - 218.

ص: 354

وعظامُه، وذلك ليُعْذِرَ من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه" لفظ مسلم عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة (1).

وثانيهما: ما يختص الرب سبحانه بعلمه في ثلاثة أشياء:

أولها: داعي الحكمة الأول الداعي إلى تقدير خلق الأشقياء وإقامة الحجة عليهم، وقطع أعذارهم.

وثانيها: الداعي إلى تكليف السعداء، والمن عليهم بالهداية والمغفرة، وبيان المِنَّة لهم باختصاصهم بذلك، وتقرير السنة عليهم بالعفو بعد الحساب على الصغيرة والكبير، وترجيح ذلك على الإحسان إليهم بذلك ابتداءً، وتعريفهم بالمنة من غير هذه الوسائط. وسيأتي في مرتبة الدواعي الإشارة إلى ما تفهمه العقول، وما أشارت إليه الآيات والأخبار في هذين الأمرين، ويأتي طرفٌ منه في ذكر الحكمة في تقدير الشرور في مرتبة (2) الأقدار.

وثالثها: تأويل ما اشتبه على العقول من تفاصيل الحكمة في ترجيح العقوبة على العفو في بعض الذنوب، والأشخاص، والأزمان دون بعض، ومن تأويل الاستثناء من دوام العذاب، فربما كان إعلامهم بذلك مفسدةً لهم أو لبعضهم، أو لم يكونوا يحتملونه أو بعضهم.

(1) أخرجه الحميدي (1178)، ومسلم (2968)، وأبو داود (4730)، وابن أبي عاصم في " السنة "(445)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 152 - 153 و154 و155 و156، وعبد الله بن أحمد في " السنة "(228) و (229) و (231)، والآجري في " التصديق بالنظر "(27)، وابن منده في " الإيمان "(809)، واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد "(823). وانظر " صحيح ابن حبان "(7445).

وقوله: " ليعذر " أي: ليُزيل الله عذره من قِبَل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر يتمسك به.

(2)

ساقطة من (ش).

ص: 355

وقد قال تعالى في تكثير القليل: {تَرَوْنَهُم (1) مِثْلَيْهم رأيَ العينِ} [آل عمران: 13] الخطاب فيهما لليهود. رواه أبو داود عن ابن عباس (2).

وقال تعالى في تقليل الكثير: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] فترك الله تعالى إراءَتَهم كثرة عدوِّهم (3) وكتَمَ ذلك عنهم (3)، وهو حقٌّ لما عَلِمَ فيه من المفسدة، وشبَّههم لهم قلةً، كما شبَّه لقتلة عيسى في زعمهم شِبْه عيسى حتى قتلوه، وكل ذلك في اليقظة كما نصَّ عليه القرآن، وسيأتي وجهه وبيانه في القدر، وبين قوله (4):{يتعلمون ما يضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهم} [البقرة: 102]، أن من العلوم ما

(1)(ترونهم) بالتاء، وهي قراءة نافع. وقرأ الباقون:" يرونهم " بالياء، قال الفراء في " معاني القرآن " 1/ 195: ومن قرأ: " ترونهم " ذهب إلى اليهود، لأنه خاطبهم، ومن قال:(يَرَوْنَهُمْ) فعلى ذلك، كما قال:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وإن شئت جعلت (يَرَوْنَهُمْ) للمسلمين دون اليهود.

وقال الطبري في " جامع البيان " 6/ 232: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأته قرأة أهل المدينة:(ترونهم) بالتاء بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرة، ترون المشركين مِثْلي المسلمين رأي العين، يريد بذلك عِظتهم، يقول: إن لكم عبرة أيُّها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين {يرونهم مثليهم} بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله، الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدْر، فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكر في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.

(2)

أخرجه ابن إسحاق في " السيرة " 3/ 50 - 51، ومن طريقه أبو داود (3001)، والطبري في " تفسيره "(6666)، والبيهقي في " الدلائل " 3/ 173 - 174 عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس. ومحمد بن أبي محمد هذا مجهول.

(3)

ساقطة من (أ).

(4)

في (ش): بقوله.

ص: 356

يضر البشر ولا ينفعهم.

ويوضح ذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134] ولم يقل: لظلمناهم.

ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] فقد تقدمت إرادته هلاكهم المستحق بعلمِه الحق قبل بعث الرسل المعبَّر عنه بقوله: {أمَرْنا مُتْرَفيها} ، وتقدَّمت فسقهم الواقع بعد الأمر المُوَجَّه عذابهم إليه دون الموجب للإرادة السابق لها في الحكم، سواء سبق في الزمان، كقول المعتزلة، أو لم يسبق فيه، كقول الأشعرية، فلا شكَّ في أنه سابق في الرتبة والحكم، كسبق حركة الأصبع لحركة الخاتم.

وأما ما تقدم الأمر من كفرهم، فالعقوبة غير مُوجَهَّة إليه لقوله تعالى في أول هذه الآية:{وما كُنَّا مُعَذِّبين حتَّى نَبْعَثَ رسولاً} [الإسراء: 15] فلو كان سبب الإرادة سابقاً لها على زعمِ المعتزلة، لكانت العقوبة قد وَقَعَتْ عليه قبل بعثة الرسل.

وقد ثبت أنهم غير معاقبين في تلك الحال لكمال فضل الله وعدله في الظاهر والباطن، ويشهدُ لذلك حديث أنس المُخرَّج في " صحيح مسلم " وفيه:" ألمْ تُجِرُني يا ربِّ من الظُّلْم " كما تقدم قريباً، فسمَّاه ظُلماً وأقر على ذلك، وأُقيمت عليه الحجة بشهادة أركانه عليه، وهذا شاهدٌ حسنٌ لهذا الوجه، ولله الحمد.

وأما قوله تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 209]، فليس فيه أن الظلم بترك الذكرى بالنصوصية (1)، ونظيرُها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُم

(1) في (ش): النصوصية.

ص: 357

وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [الروم: 9]، ولو سُلِّم، فالظلم غير متعيَّن في هذا المعنى الاصطلاحي، قال الله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33].

وفي " ضياء الحلوم "(1) أن أصله وضع الشيء في غير موضعه، يقال: أخذوا في الطريق، فما ظلموه يميناً ولا شمالاً، أي: لم يعدلوا عنه.

ويقال: من أشبه أباهُ فما ظلم.

ويقال: ظَلَمَ الوادي إذا بلغ سيلُه موضعاً لم يكن بلغه من قبلُ.

وظلم القوم إذا سقاهم اللبن قبل أن يروبَ.

وظلم الرجل سقاءه إذا سقى منه قبل أن يروبَ.

وقال:

وصاحب صدقٍ لم تَنْلني شكاتُه

ظلمتُ ولي في ظلْمِه عامداً أجرُ (2)

يريد سقاء سَقَى أصحابه منه قبل أن يَرُوب.

والأرض المظلومة التي لم تكُنْ حُفرتْ قطُّ فحُفرتْ.

وظلم البعير إذا نَحَرَه من غير داءٍ.

قال:

أبو الظلامة ظلَاّمون للجُزُرِ (3)

(1) تقدم التعريف به في 2/ 166.

(2)

في " اللسان "(ظلم): أنشد ثعلب:

وصاحب صدقٍ لم تَرِبني شكاتُه

ظلمتُ وفي ظلْمِه عامداً أجرُ

(3)

عجز بيت في " مقاييس اللغة "(ظلم)، و" اللسان "(هرت) و (درر) و (شقق) و (ظلم)، ونسبه صاحب " اللسان " إلى ابن مقبل، وروايته عندهما: =

ص: 358

انتهى بحروفه من " الضياء " وهو من كتب الخصوم في علم اللغة، وهذا معنى مشهور.

وقد ذكر ابن الأثير في " النهاية "(1) ما ورد فيه من الحديث والآثار. وليس الظلم بهذا المعنى من صفات النقص القبيحة عقلاً وشرعاً كالكذب، فيجوز أن تعذيب (2) من لا ذنبَ له لحكمةٍ خَفِيَتْ عليه مما يُسميه الجاهل بالحكمة ظُلماً، وتنزَّه الرب عز وجل عن ذلك، وإن لم يكن قبيحاً عقلاً كما يتزَّه من خلف الوعيد من غير تأويل لِشَبهِه بخُلف الوعد مع أنه في الوعيد يُسمَّى حسناً عقلاً، وانعقد الإجماع على استحبابه شرعاً فيمن حلف على (3) يمين، فرأي غيرها خيراً منها، وقد قرَّرت ذلك في غير هذا الموضع.

ولو سلم، فمفهوم (4) ممكن حمله على عوائدهم وتسميتهم ذلك ظلماً في أفعال أمثالهم ممن لم يتميَّز بعلم غيبٍ ولا زيادة حكمة، ألا تراه عز وجل لا يُسَمَّى ظالماً بإيلام من لا ذنب له من الصغار والبهائم، وله المثل الأعلى.

ويوضحه قوله: {وما كُنَّا مُهلِكي القُرى إلَاّ وأهْلُها ظالمون} [القصص: 59] وهذا في هلاكها في الدنيا والذي (5) يحسن من الله تعالى بغير ذنب بالإجماع.

فدلَّ على أن الله عز وجل يحبُّ زيادة الحجة والعذر في الأمر الحسن ليزيده حُسْناً في عُرف الخلق، ويقطع به أعذار الجاهلين.

وأوضح منها في هذا المعنى وأصرح قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْض

= عادَ الأذِلَّةُ في دارٍ وكان بها

هُرْتُ الشَّقاشقِ ظَلَاّمونَ للجُزرُ

ودار: اسم موضع.

(1)

3/ 161 - 162.

(2)

في (ش): يعذب.

(3)

في (4): عن.

(4)

في (أ): " فمفهوم "، وهو خطأ.

(5)

في (أ): الذي.

ص: 359

وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [العنكبوت: 40].

ألا ترى أن الصيحة تحسن من الله بغير ذنب عند الخصوم كالنفخ في الصور المُفزع، بل المهلك لأهل السماوات والأرض إلَاّ من شاء لله.

وكذلك الغَرَقُ في الماء قد (1) يقع فيه من لا ذنب له من الطير والبهائم، ومن هو مرضيٌّ عنه من عباد الله، ويمكن أنما سمَّاه ظلماً كما سمَّى استقبال بيت المقدس حجة في قوله تعالى:{لِئَلَاّ يكُونَ للنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]. كما مر تقريره والله أعلم.

ومثلها: {لئلَاّ يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل} [النساء: 165] يمكن أن المراد معاذير يجادلون بها جمعاً بين الأدلة والله أعلم.

ويوضح ما ذكرناه ما سيأتي في مسألة الأطفال من أنهم يُكَلَّفون يوم القيامة ويمتحنون بما يقطع به عذرهم (2) كما فعل الله مع البالغين في الدنيا.

وقد رد الله تعالى على المشركين قولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون} [السجدة: 12]، بحجتيه (3) معاً وبدأ بالحجة السابقة المشتملة على الحكمة الباطنة وهي قوله:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [السجدة: 13] ثم أردفها بالحجة الثانية (4) الظاهرة المناسبة لعقولهم، فقال:{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [السجدة: 14].

وإنما بدأ بالحجة السابقة والحكمة الباطنة لما في عباراتهم من الإشعار باعتراض الحجة الظاهرة حيث ظنوا أن المراد بخلقهم هدايتهم إلى العمل

(1) ليست في (ش).

(2)

في (ش): أعذارهم.

(3)

في (ش): بحجتين.

(4)

ساقطة من (ش).

ص: 360

الصالح، وهذا غرضٌ مستدرك، فأخبرهم عز وجل بما معناه أنه لم يَعْجَزْ عن هذا في الابتداء حتى يستدركه في الانتهاء، ولكنه حق منه القول في الابتداء بدخولهم النار لحكمةٍ راجحةٍ، ثم ضمَّ إليها الحجة بالعمل زيادة في العذر والعدل، كما كتب الأعمال، وأشهد الملائكة، ونصب الموازين، وعلمه الحق ثم علمهم مغنٍّ عن جميع ذلك.

وقد كرر الله حجته الباطنة، وأكدها في الابتداء كثيراً، وفي الانتهاء بنحو {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، وكذلك ما تقدم من الآيات التي في سورة الإسراء إذا تأمَّلتها من أولها وجدتها جامعةً للحجتين، حيث قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] أي: ما عَمِلَ من خيرٍ أو شرٍّ، وقيل: حظه المقضي له من خير أو شر، وهذا هو القدر، وهو الحجة الأولى السابقة، ووجه الاحتجاج به أنه فعل حُكمه (1)، ثم أتبعه بالحجة الظاهرة، فقال:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} إلى قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 - 15] ثم بين الحكمة في الرسل في حق من علم هلاكه، فعقَّب ذلك بقوله:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

ثم بيَّن بعد هذا (2) أن علمه بذنوب عباده أبلغ كافٍ لكنه زاد ذلك لقطع العُذر وزيادة الحجة، فقال:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17].

والجمع بين الحجتين كثيرٌ في كتاب الله تعالى لمن تأمله فلله الحمد والمشيئة والحكمة والحجة.

وقد كنت أظن أنه لم يسبقني أحدٌ إلى ذكر (3) هاتين الحجتين، لأني لم أزلْ

(1) في (أ): فعل حكيم.

(2)

في (ش): بعدها.

(3)

ليست في (أ).

ص: 361

أطلب ذلك في مقدار أربعين سنة، فما وقفتُ عليه مع طولِ الطلبِ حتى جاوزت الستين سنة، وراجعتُ شابّاً لم تَنْبُتْ لحيتُه من أهل حضرمَوْت في مسألة الأفعال، وجعلت أفهمه مذهب الأشعرية، والفرق بينه وبين مذهب الجبرية خوفاً عليه من اعتقاد الجبرية، وأنا أظنُّ فيه بُعد الفَهم، فجاءني بهذه اللطيفة، وقال: إنهم يذكرون أن لله تعالى حُجتين: حجة باطنة، وحجة ظاهرة، فالباطنة في الأقدار، والظاهرة في الأعمال. فعجبت من ذلك كثيراً وعَلِمتُ (1) أن الفضل بيد الله يُؤتيه من يشاء.

ومما يوضح ذلك ما ثبت من تقديره تعالى لمقادير وقع معها (2) خروج آدم من الجنة على جهة العقوبة بذنبه (3) الذي اختاره، ولا عُذْر له فيه، وإنما خرج لما (4) لله تعالى في خروجه بذنبه من الحِكمة، وإلا فذنوب الأنبياء صغائر مغفورة، وقد تاب آدم، وتاب الله عليه مع كون ذنبه صغيراً قبل التوبة مع أن الله تعالى قد كان قدَّر أن آدم خليفة في الأرض، وخلقه لذلك، كما أخبر به الملائكة في نص القرآن.

يوضحه أن الذنوب لا تصلُحُ على انفرادها في العقل [أن تكون] موجبة للعذاب في حق الرب سبحانه، وإن كان يصلح لذلك في حق غيره، كما هو مذهب البغدادية من المعتزلة، لأن حسن العذاب عليها من قبيل (5) الإباحة المستوية الطرفين، بل المرجوحة إذا خَلَتْ عن الحكمة، لأن العفو أفضل بضرورتي المعقول والمنقول، فلولا أن فيه حكمةً بالغة سابقة لتقدير الذنوب ما فعله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمجرد كونه مستحقاً مُباحاً مع تطابق شرائعه وأوامره على ترجيح العفو والصبر، وكظم الغيظ، وتلك الحكمة هي التأويل الذي لا يعلمه إلَاّ الله.

(1) ليست في (ش).

(2)

في (ش): " بعضها "، وهو خطأ.

(3)

في (ش): على الذنب.

(4)

في (ش): بما.

(5)

في (ش): قبل.

ص: 362

وأما غضبُه تعالى على الكافرين وعداوته لهم، فذلك أبعد من قواعد المعتزلة، ولا بُدَّ من تأويله عندهم، وفي الإجادة في ذلك ما ليس في غيرها، ومما في ذلك (1).

وجمهورهُم قد أوَّلُوه لأنه

أذىً مُؤلِمٌ والربُّ ليس بآلمِ

ولستُ أرى التأويل فيه بقائمٍ

ولا ألمَ المعبود فيه بلازمِ

ولكن له منه الكمالُ بلا أذى

وليس لأوصافِ الوَرَى بملائِمِ

كذا كُلُّ الأسماء نصُّها وخفيُّها

كمُحكمِها حتى قديرٍ وعالمِ

وهذا الجواب الحقُّ عن كلِّ محكمٍ

ومشتبهٍ في الله ربِّ العوالمِ

فمن قال فيه: مستوٍ كاستوائنا

كمَنْ قال فيه: عالمٌ مثل عالمِ

كذلك أفعالُ الإله نُصِحُّها

بلا حركاتٍ في الجهات لوازمِ

لذلك نزَّهناه في الذات ثم في

الصفات (2) وفي الأفعال ربِّ العوالمِ

ولم نجعل الفَعَّال في حقِّ ربنا

مجازاً كذا في سُخْطِهِ والمراحمِ

ومحتملٌ تقديرُ موجب سُخْطِه

ليحلمَ حُبّاً لاجتلاب المكارم

وتعجيزه عن أن يُقَدر موجباً

لذلك للتعظيم غيرُ ملائمٍ

ومن ثمرات السُّخط خوفُ جَلالِه

ونَعْتُ الجلال من أجل اللوازمِ

فسبحان من حاز الكمال ولم يُحِطْ

به حائزٌ في نعتِه المتقادمِ

وذكر ابن قيم الجوزية أن للناس في غضب الله قولين:

أحدهما: أنه فعلٌ له قائم به كسائر أفعاله.

وثانيهما: أنه مفعولٌ منفصل عنه، وفي هذا إشارةٌ إلى الإجماع على تأويله، وأنه ليس بصفةٍ له كالرحمة، والذي يدلُّ على ذلك أن ما كان صفة له كان ذاتياً دائما سابقاً قديماً، ولا قائل بقدم غضبه. والله سبحانه أعلم.

(1) في (ش): ومما فيها في ذلك.

(2)

في (أ) في الذات والصفات.

ص: 363

ولما ضعف ذلك المعنى في حق المؤمنين لاعترافهم بفضل الله وعدله وحكمتِه، صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في حقِّ جزاء أعمالهم، وأخبرهم أنهم لا يدخلون الجنة إلَاّ برحمة الله، وهي الحكمة السابقة، وقطع بنفي تأثير أعمالهم في ذلك في حقيقة الأمر، كما اتفق أهل علم الحديث على صحته، وشهد له من القرآن آياتٌ كثيرة، كما يأتي في آخر هذه المباحث في الوهم الثلاثين.

وبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى حتى صرح أنه عليه الصلاة والسلام لا يدخل الجنة بعمله إلَاّ أن يتغمَّدَه الله برحمته (1).

ومن ثم (2) جاءت أحاديث (3) كثيرة مصرحة بأن كل أحد يأتي يوم القيامة وله ذَنْبٌ، إن شاء الله عذبه، وإن شاء عَفي عنه. سيأتي ذكرها وطرقها قريباً.

ويشهد له ما في حديث الشفاعة في " الصحيحين " من غير وجهٍ أن كل نبي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر بذنبه، ويخاف على نفسه، ويقول: نفسي نفسي إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا ثبت من الغُفران المطلق له فيما تقدَّم وتأخر (4).

ويشهد لذلك حديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: " من حُوسِبَ عُذِّبَ " أخرجاه (5).

(1) تقدم تخريجه 1/ 256 بلفظ: " قاربوا وسددوا .. ".

(2)

في (ش): ثمت.

(3)

في (ش): الأحاديث.

(4)

أخرجه من حديث أنس: البخاري (4476) و (6565) و (7410) و (7510) و (7516)، ومسلم (193).

وأخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (3340) و (3361) و (4712) ومسلم (194).

وجاء أيضاً من حديث أبي بكر، وحذيفة، وابن مسعود. وانظر للتوسع في تخريجها " صحيح ابن حبان "(6464) و (6465) و (6476).

(5)

أخرجه أحمد 6/ 47 و48 و108 و127 و206، والبخاري (103) و (4939) و (6536) و (6537)، ومسلم (2876)، وأبو داود (3093)، والترمذي (7326) و (7370) و (7371) و (7372)، والقضاعي في " مسند الشهاب "(338)، والحاكم 1/ 57 و255 و4/ 249، والبغوي في " شرح السنة "(4319)، وفي " تفسيره " 4/ 464.

ص: 364

وكذلك ظاهر قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]، وقال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون} [النحل: 61].

وكذا قوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَه} [عبس: 23].

وكذلك حكايته لذنوب أشرف الأنبياء في القرآن، وإن خصَّتهم (1) فإنها تدل على موم البلوى بالذنوب عقلاً.

وفي هذا المقام سؤالٌ دقيقٌ مفيد، وسيأتي إن شاء الله تعالى مبسوطاً في مرتبة الدواعي في مسألة الأطفال، وهذه هي سر العمل مع القدر (2) كما ستأتي الإشارة إليه في فائدة مستقلة في القدر.

وقد جوَّد الغزالي الكلام في هذا المعنى، وقطع على أن الله تعالى لا يريد أن يريد الشر لنفسه، أي لكونه شراً فحسب، وعلى أنه لا يجوز أن يكون الشر هو مراد الله الأول، لأنه يستلزم أن يريد الشر لنفسه، واحتج بالحديث المتفق على صحته في سبق رحمة الله عز وجل لغضبه، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما (3)، وبما ثبت في القرآن الكريم من كون الرب سبحانه أرحم

(1) في (ش): بما خصهم.

(2)

من قوله: " وسيأتي " إلى هنا ساقط من (ش).

(3)

أخرجه من حديث أبي هريرة: همام في " صحيفته "(14)، وأحمد 2/ 242 و259 - 260 و313 و381 و397 و432 و466، والبخاري (3194) و (7404) و (7412) و (7453) و (7553) و (7554)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (4295)، والطبري في " تفسيره "(13096)، وابن حبان (6143) و (6144) و (6145)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 395 - 396 و416، والبغوي في " شرح السنة "(4177)، وفي " معالم التنزيل " 2/ 87.

ص: 365

الراحمين، ذكر معنى ذلك في شرح (الرحمن الرحيم) من كتاب " المقصد الأسْنى في شرح الأسماء الحسنى " (1) وذكر بعد ذلك أن تحته سراً لم يأذن الشرع بإفشائه. قلت: وفي كلامه هذا البحث نظر لم أذكره لعدم الحاجة إلى ذكره (2).

الوجه الرابع: وهو النافلة التفصيلية الخلافية بعد أنواع الأجوبة الثلاثة المعروفة عند أهل هذا الشأن، وذلك أن كثيراً من علماء الإسلام قد خاضوا هذه الغمرة، وذكروا في تفصيل الحكمة في العذاب ما هو داخلٌ في الإمكان على قدر عقول البشر وقُواهم، وتقريب ذلك لبيان (3) بطلان ظن من حسب أن وجود الحكمة في عذاب الآخرة في العقول من قبيل المحالات لا من قبيل المحارات (4).

وسيأتي ذكر ذلك مجملاً مختصراً، ومفصلاً ومطولاً في مجلد مفرد موضعه من هذا الكتاب في الفائدة الخامسة في آخر المرتبة الرابعة التي في ذكر القضاء والقدر، وبيانه ما ورد في السمع من حكمة الله تعالى في تقدير الشرور، ولا ينبغي إيراد القليل (5) من ذلك هنا لأجل الحاجة إليه، إنه لا يكفي، ولا يفي بالمقصود، ولا يشفي، فتأخيره إلى موضع البسط أولى، والله الموفق.

فتلخَّص أن المعتزلة فرُّوا في نفوذ (6) مشيئة الله تعالى مما ظاهره القُبح العقلي، وليس كذلك، وباطنه الحق الذي تأويله حسنٌ عقلاً على سبيل الإجمال على الصحيح، وشرعاً على سبيل التفصيل عند الله عز وجل فوقعُوا فيما ظاهره وباطنُه القبح عَقْلاً وشرعاً وهو أمران:

أحدهما: تعجيز الربِّ عن هداية عاصٍ واحد من جميع خلقه، والعجز صفة

(1) ص 62 - 63، نشر مكتبة القرآن بالقاهرة بتحقيق محمد عثمان الخُشْت.

(2)

في (ش): إليه.

(3)

في (ش): بيان.

(4)

قوله: " لا من قبيل المحارات " ساقط من (ش).

(5)

من قوله: " وبيانه " إلى هنا ساقط من (ش).

(6)

في (ش): تفرد.

ص: 366

نقصٍ لذاته، ولا يُمكنُ أن يحسُنَ العجز لوجه حكمةٍ خفي، وهذه رتبة يرتفع عنها أكثر الوُعَّاظ من العباد العجزة، كيف القادر على كل شيء الذي إذا أراد إيجاد أعظم المخلوقات، فإنما يقول له: كن فيكون، فكيف يعجز عن تقليب قلوب عباده؟! وقد صح أنه يقلِّبُها كيف شاء، حتى استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقليب قلبه الكريم، وكان يقول:" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "(1).

فيا عجباه كيف أمكن تقليب خير القلوب إلى الشر الذي هو ضِدُّ الفطرة التي فُطِرَ الناس عليها، ولا يمكن تقليبها إلى الفطرة، وأيُّ عقل أو سمع دل على هذا دلالة قاطعة، أو أشار إليها إشارةً خفية، فالله المستعان.

وما أشبه اعتذار المعتزلة للرب بتعجيزه تعالى عن ذلك باعتذار القدرية للرب بتجهيله عز وجل عما يقولون عُلُوَّاً كبيراً، وكان يلزم المعتزلة مثل مقال القدرية، نعوذ بالله من الخذلان.

وثانيهما: إيجاب إرادة حصول ما علم الله أنه لا يحصُلُ علماً قاطعاً، ومن جَوَّز هذا على الرب الحكيم لزمه أن يجوز عليه الأماني التي أجمع المسلمون على أنها لا تجوز على الله تعالى لأنها عبارةٌ عن إرادة ما يعلم أنه لا يكون. وقد أجمع العقلاء على ذمِّ التشاغُلِ بها، وسمَّوها بضائع الحمقى.

وقال الحكيم:

مَنْ كان مَرْعَى عَزْمِه وهُمُومِه

رَوْضَ الأماني لم يَزَلْ مَهْزُولا (2)

بل هذا أقبحُ من الأماني، لأن المتمني قد عصمه عقله من الطمع في حصول مُناه، فكيف إذا تضرَّر بسببه سواه؟! وحصل بسببه نقيض رجواه؟! وكان ذلك كله معلوماً له سبحانه وتعالى فأصبحوا كما قيل:

(1) تقدم تخريجه 2/ 271 - 272.

(2)

هو لأبي تمام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي. وهو في " ديوانه " و" زهر الأكم " لليوسي 3/ 193.

ص: 367

كالمستجير من الرَّمضاء بالنار (1).

لا بل كالمستبدل الظلماتِ بالنور، والمشتري الضلالةَ بالهُدى.

وتلَخص أيضاً أنهم حافظوا على تعيين وجه الحكمة في المتشابه، ولم يرد الشرعُ بالأمر بذلك، بل لم يأذن فيه، بل ذم متبعيه كما يأتي في آخر الأقدار.

وأهل السنة حافظوا على أمرٍ ورد الشرع بتعظيم المحافظة (2) عليه، وهو

(1) عجز بيت صدره:

المستجير بعمرو عند كربته

قال البكري في " فصل المقال " ص 377: أصل هذا المثل، وأول من نطق به التِّكلام الضبعي، وذلك أن جساس بن مرة لما طعن كليباً -وهو كليب بن وائل- استسقى عمرو بن الحارث ماء، فلم يسقه، وأجهز عليه، فقال التِّكلام في ذلك.

المستغيثُ بعمرٍو عند كربته

كالمستغيث من الرمضاء بالنار

وربما أنشدوه:

كالمستغيث من الدعصار بالنار

والدعصار: الأرض السهلة المستوية تصيبها الشمس فتحمى، فتكون رمضاؤها أشد حرّاً من غيرها.

قال الرمخشري في " المستقصى " 2/ 19 في شرح المثل: " تجاوزت الأحصّ وشبيثاً ": هما ماءان، وأصله أن جساس بن مرة لما ركب ليحق كليباً، أردف خلفه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان، فلما طعنه وبه رمق، قال له:

أغِثْني يا جساسُ منك بشربةٍ

تعود بها فضلاً عليَّ وأنعمِ

فقال له جساس: " تجاوزت الأحص وشبيثاً " أراد: إنك تباعدت عن موضع سقياك، ثم نزل عمرو، فحسب أنه يسقيه، فلما علم أن نزوله للإجهاز عليه، قال:

المستجير بعمرٍو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

قلت: يضرب هذا المثل لمن فر من خَلَّةٍ مكروهة، فوقع في أشد منها، ومثله قولهم: فر من المطر، فوقع تحت الميزاب.

(2)

في (ش): بالمحافظة.

ص: 368

الإيمان بعموم قدرة الرب عز وجل، ولا أعظم في الدلالة على ذلك من قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4].

كل هذه الآيات استدلالٌ على عظيم قدرته وعمومها ليدخُلَ في ذلك ما شك فيه المشركون من قدرته على الإعادة، كما احتجَّ بهذه الأشياء في آخر سورة يس على ذلك، فأمَّا حكمة الله في الجملة، فلم تَخْتَص المعتزلة بالمحافظة عليها.

فصل: ولما تواترت هذه النصوص الشرعية كما مر، وكما يأتي في مسألة الأقدار، افترق أهل الملة ثلاث فِرَقٍ.

الفرقة الأولى: الذين أقروا بالآيات والأخبار على ما وردت، ولم يتأوَّلُوا ما وصف الله به نفسه من المحبة والرضا، ولا من نفوذ الإرادة والمشيئة، وقضوا بأنه سبحانه يحب الطاعات كلها، محبة حكمةٍ لا شهوة، ولذلك لا يقع منها إلا ما دعتِ الحكمة إلى وقوعه، وأنه تعالى يكره المعاصي كلها كراهة حكمة بالنظر إلى الوجه الذي قَبُحتْ من جهته، لا كراهة عجزٍ بالنظر إلى الوجه الذي لو شاء لمنعها، ولطف بأهلها من جهته، ولذلك لم (1) يقع منها ما لم يُرِدْ سبحانه هداية فاعله الخاصة لما سيأتي ذكره من حكمه التي بين منها كثيراً، واختص منها (2) بعلم ما شاء.

(1)" لم " ساقطة من (أ).

(2)

من قوله: " سبحانه " إلى هنا ساقط من (ش)، وفيه: ما لم يرد وقوعه.

ص: 369

وقد تستعمل الإرادة في موضع المحبة والعكس، وقد يصح ذلك مجازاً فيحتاج إلى القرينة، أو حقيقة عرفية فلا يحتاج إلى القرينة، وقد لا يصح ذلك بحسب المتعلقات وسياق الكلام، بل قد تُعَلق المحبة والكراهة بالشيء الواحد فيكون محبوباً مكروهاً باعتبار الجهتين، كما أجمع الكل عليه في اليمين الغموس الكاذبة حين تَجِبُ على المنكر شرعاً، فيحسُنُ من صاحب الحق والقاضي إرادتها من حيث أنها حق للمدعي على المنكر، ويجب على المدعي من حيث يعلم أنها زور كراهتها من حيث هي معصية مع إرادته لها من حيث هي واجبة. وسيأتي ذلك مع نظائره.

وفي هذا المقام الدقيق تختلف عبارات أهل السنة وربما لزم من ظاهر بعضها ما لم يقصده قائله (1)، كما يكون ذلك في كلام كل فرقة.

فقد رأينا العلماء والبُلغاء متى أرادوا تحقيق أمرٍ واحد (2) وتمييزه عن غيره قَلَّ من يُصيب المقصود من ذلك على ما ينبغي، وكثُرتِ الإشكالات على مَنِ ادَّعى تجويد الحدِّ، وتحقيق التمييز.

هذا مع استشعارهم للحذر مِنَ (3) الغلط في ذلك، وبذل الجهد في ترك فَضَلاتِ الكلام، والتجوُّز في العبارات، لأن ذلك كله معيبٌ في الحدود.

ولقد اشتد خلاف الأذكياء في حدِّ العلم.

فقال بعضهم: لا يُحَدُّ لجلائه (4).

وقال بعضهم. لا يُحَدُّ لعسره.

وقالت طائفة: لا بد من تحديده. ثم اختلفوا في حدِّه أشد الاختلاف، فهذا مع أن العلم هو الذي تُعْرَفُ به الدقائق والجليات، وهو مُدْرَكٌ بالفطرة،

(1) في (ش): ما لم يقصدوا تأويله.

(2)

في (أ): وحده.

(3)

" للحذر من " ساقط من (ش).

(4)

في (ش): " بجلاله "، وهو خطأ.

ص: 370