الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجمة الأولى [التلعفري]
الفيلسوف المتفنن الشاعر، الموفق مظفر بن محمد. من تلعفر من حصون سنجار. وكان الفضل التيفاشي يذكر لي هذا الرجل ويزعم أنه استفاد من تصانيفه في ضروب الفلسفة، ويمتعني بما وقع له من أخباره وأشعاره أيام رؤساء بني ندا، أعيان الجزيرة العمرية.
ثم لما صار سنجار ومررت بتلعفر وحللت بالموصل وجدت ذكره هناك نابهاً، وألفيت كل من يذكره من أهل بلاده بانتسابه تائهاً وقد لخصت كما لقيته من ذلك: رحل في أول أمره من بلاده إلى الموصل وبغداد، وقرأ فيها مدة، ثم عاد إلى تلعفر واستقر بسنجار عند صاحبها بني مودود، وحل
منهم محل مر الخمر في العنقود، واختص من بينهم بقطب الدين، وتصدر لإقراء النجو والحكمة وضروب الآداب. وكان معظم علومه الفلسفة، واشتهر بالتنجيم وقول الشعر والأدب.
فمن المتداول أنه وضع لقطب الدين في بعض السنين تقويماً وكتب عليه من شعره:
تضمن حسبان مجرى النجوم
…
وباح لديك بسر الفلك
فما كان شرا فالحاسدين
…
وما كان خيراً وبشرى فلك
وله في قطف الدين وغيره من ملوك بيته أمداح جليلة، منها قوله الذي يرتاح إليه، وتعقد الخناصر عليه:
غر بها ليل ساسوا الدهر واقتدروا
…
عليه من حيث ظل العدل ممدود
ماج الورى معهم في نعمة رحبت
…
أفياؤها وسقى أفنانها الجود
فبعضهم رائع في حال غفلته
…
وبعضهم بين ذاك الدوح غريد
لا يظهر العيد في أقطارهم أبداً
…
إذ كل أيامهم من حسنها عيد
المدح عندهم وقصدهم
…
يد لديهم وأفق الجود مقصود
ما أحسنوا أبداً بدءًا إلى أحد
…
إلا وقالت لهم أحسابهم عودوا
وقطبهم قطبهم في كل مكرمةٍ
…
على علاه استدار العترة الصيد
ثم اختلت أحواله بسنجار، فرحل في نهاية من الإسراع والهرب إلى الملك الأشرف بحران، فعندما اجتمع به، قال له: ما أخرجك عن سنجار؟ فقال: صاحبها الذي جار. قال: فما هذا السوق؟ قال: على قدر المحبة والشوق.
وقال في تغير صاحب سنجار عليه، مال يستغنى في هذا الباب عنه، ولا يتمثل في معناه بأحسن منه:
أيا لمعزٍ صحبة السلطان إن لها
…
صفواً يروق ولكن غبه كدر
مماثلي لازال الدهر ذا حذرٍ
…
منه وليس متى ما شاء يقتدر
فكيف من ينقد الأجيال قاطبة
…
مستصغراً وإذا يجفو جفا البشر
وكلما شاء حكماً فيك أنفذه
…
متى يشاء ومنه ليس تنتصر
إن الملوك متى تستقر نارهم
…
يحرقك قبل ابتغاءٍ للقرى الشرر
وحضر يوماً في بستان عند الملك الأشرف، فخدمه مملوك له جميل الصورة، فقال له الملك: يا موفق، هل توفق لشيء من النظم في الذي جمع لك الحسن والإحسان؟ فقال: يا سلطان، ما أضيع هبوب النسيم على الروض الهشيم، ثم أفكر ساعةً وقال:
أقول وقد أبصرت مرأى
…
يحاكى غرة القمر المنير
وأخلاقاً كما مزجت شمولٌ
…
تدار عليك بالعذب النمير
ولي حال ينافرها التصابي
…
وقد حالت بإلمام النذير
لقد أبديت لي حسناً وحسني
…
ولكن جئت في الزمن الأخير
فقال والله لقد جاوزت حد الإحسان! فلله درك! وبالله لا كتبه إلا بيدي. واستدعى الدواة وكتبها في دفتر اختياراته.
وقدم على سنجار رجل كثير الدعاوى والتثقيل يعرف بابن الجغاني
القطربلي، ويكتب نفسه: علي بن طاهر العلوي. وكان أبوه، على زعمهم، يضرب الجغانة، وهي من آلات الطرب. ثم نشأ هذا الشخص فتعلق بالأدباء والأعيان، وأخذ من كلامهم واصطلاحهم ما يدخل به بين
…
وسافر إلى الحجاز، فثار في خاطره أن يدعي الشرف، فرحل إلى الموصل وتزيا بزي الشرفاء وأرخى ذوائب شعره على جانبي وجهه. فضربه بالسياط نقيب العلويين هنالك وجرَّسه. والتجريس: أن يُنادي عليه: هذا خرا! ويشهر بين الناس.
فسار إلى سنجار. واتفق على رؤسائها بكثرة التثقيل، وصاروا يعمرون مجالسهم بالمطايبة معه، والحكايات عنه إذا غاب. وصار له بذلك إدلالٌ يجالس به العلماء ويبحث في مجالسهم. وكان الحظ الأوفر من البلية به للموفق التلعفري، فجعله نصب أفكاره ونوادر أشعاره. فاطرد له معه، مع اتصال الأيام إلا في الندوة، ما يزري بأشعار ابن سكرة في خمرته. فمن ذلك قوله:
ابن الجغاني غدا عندنا
…
بضد ما كان بقطر بل
صاعقةً أرسلها ربها
…
بأرض سنجار على من بلي
دلى ذؤاباتٍ وقال انظروا
…
سبط النبي المصطفى المرسل
حاشي السراة الغر من هاشم
…
أن يقربوا من مدع ممحل
يأنف من نسبته كل من
…
يرجع في الناس إلى أول
إن كان حقا ما ادعى قل له
…
يظهر ذاك الأمر في الموصل
السوط والتجريس قدامه
…
وان تمادى أمره يقتل
أرحنا منه الذي صاغه
…
من جبل الجودي كالجندل
خص جبل "الجودي" لأنه لا يفارقه الثلج. وكان هذا الرجل بارداً ثقيلاً يابس المفاصل.
وقوله:
هذا الجليس الذي بليت به
…
أقسم ألا يفارق الصلفا
في كل علمٍ يخوض مدعياً
…
وهو جهولٌ بكل ما عرفا
أوضع خلق الإله كلهم
…
ويدعي أنه من الشرفا
الموت منه ومن ثقالته
…
أمانة الله عاجلاً وكفى
وقوله:
هذا الدعى الذي غي
…
ر جهله لم يهنه
يروي الغريب وتروي
…
غرائب اللوم عنه
لطاهرٍ منتهاه
…
والكاتب أطهر منه
وقوله:
لنا جليسٌ باردٌ معجبٌ
…
أبعده الله وأمثاله
إذا أحتبي في مجلسٍ تائهاً
…
أخرج مثل الأرض أثقاله
ويدعي في نسب المصطفى
…
وفعله يكذب ما قاله
يا رب لا تقض اتصالي به
…
يوماً وقطع منه أوصاله
ولم يزل مع الملك الأشرف إلى أن حضر معه وقعة دنيسر، التي كانت له في سنة اثنتين وستمائة، على نور الدين، صاحب الموصل، فوقع وارتض جسده، فمات في إثرها.