الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجمة الخامسة [التلمساني]
قاضي الجماعة الأديب المتفنن أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مروان التلمساني.
ذكره التاج ابن حموية الدمشقي في رحلته المغربية وأخبر أنه من المرية أصلاً. وكان والده من الأجناد، تقدم وساد وولى مدينة وهران. وبها ولد أبو عبد الله، ونشأ بتلمسان مجدا في الفقه والأدب، ومال لعلم الظاهر، وأكثر من مطالعة كتب ابن حزم
فاشتهر بذلك، وصادف انحراف المنصور عن كتب الفروع وميله إلى مذهب أهل الحديث، فتقدم عنده إلى أن ولاه قضاء قضائه، فأبان عن صرامة وعفة ومروءة.
وكان ممن له مشاركة في صناعتي النظم والنثر.
وذكره والدي فيمن لقيه من أهل العلم وأطنب في الثناء عليه من جهة التعصب والسعي الجميل في حق من اعتمد عليه، مع خلق أندى من النسيم، وأدب أنق من الوجه الوسيم. قال: إلا أن حفظه وعمله بالأدب فوق شعره.
وأحسن ما أورده منه قوله في المنصور، وله فيه أمداح كثيرة، أورد منها ما رأيت الاقتناع ببعضه كافٍ:
أسيدنا يابن الإمامين أمركم
…
منوطٌ بأمر الله ما عنده معدل
نصرتم لأن الحق آن ظهوره
…
وناصر في الله ما كان يخذل
أزلتم على ما ينفع الناس جهلها
…
وعلمتم في الدين ما كان يجهل
وأوردتم السلسال من شفه الظما
…
أوان جرى ذاك الحديث المسلسل
قطعتم فروعاً قد أضرت بأصلها
…
ألا هكذا من كان بالعدل يشتمل
ملأتم بساط الأرض خيراً وما بقى
…
فأخباركم فيه تسير وتنقل
أقم إن تسر نحو الممالك راحلاً
…
فساكنها شوقاً لعدلك يرحل
ومن نادر الحكايات أنه كان قد لزم أبا جعفر بن مضاء قاضي القضاة مدة، وكان يثقل عليه بالطبع ويخف عليه بالتصنيع، ى فسأله في بعض الأوقات عن حاله، فارتجل هذه الأبيات:
يا من مضى وتسمى
…
ولم يخنه زمانه
سألتني كيف حالي
…
وقد كفاك عيانه
إن كان عندك خيرٌ
…
يرجى فهذا أوانه
فقال: يكون الخير إن شاء الله ولأسعين فيه جهدي. ثم جعل يستنيبه ويرشحه لما هو أهله. فقال له بعض أصدقائه: أراك تقدم هذا الرجل وتعينه على نفسك. فضحك ابن مضاء وقال: الرأي ما ظننته، أنه غير رأي، هذا الرجل لاحت لي فيه بوارق السعادة ولا بد أن يتقدم رضيت أم سخطت، والأولى أن أظهر أن تقديمه بترشيحي وسعي له، فان وفى اشتركنا في حمد الناس، وان لم يف انفرد باللائمة.
ثم إن ابن مضاء مرض في سفرة المنصور إلى إفريقيه سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاشتغل ابن مروان بالحكم بين الناس، فظهر منه من حسن الخلق والسياسة ما اشتهر به اسمه ونسي معه ابن مضاء، فما استقل ابن مضاء من مرضه إلا وقد حاك في قلب المنصور أن يجعله قاضي الجماعة فكان ذلك، وصار ابن مضاء إذا رآه والناس مقبلون عليه أنشد:
وما يستوي الثوبان به البلي
…
وثوبٌ بأيدي البائعين جديد
ولم يزل أبو عبد الله قاضياً للمنصور إلى أن كانت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فوقع بينه وبين أبي القاسم بن بقى كلام أظهر فيه ابن مروان الاقتدار عليه، فأنشد ابن بقي:
الدهر لا يبقى على حالة
…
لكنه يقبل أو يدبر
فان تلقاك بمكروه
…
فأصبر فان الدهر لا يصبر
واتفق أن سعى في إثر ذلك بابن مروان، ونسب له تقصير في صدقات خرجت على يده، فعزله المنصور وولى على قضاء الجماعة ابن بقى المذكور. فلقيه ابن مروان في إثر ذلك، وكان مفاكهاً حسن الخلق طيب النفس، فقال له: أفترى؟ لقد أقبل وأدبر ونحن نصبر كما صبرت! فاستحيا ابن بقى فلم يجاوبه بحرف.
ثم لما ولى الناصر رده إلى قضاء الجماعة، فلم يزل عليه إلى أن مات في سنة إحدى وستمائة.
ومما شنع عليه أعداؤه أنه نزل بتلمسان في دار يهودي، فاحتفل في إكرامه وأحضر له جميع ما قدر عليه، فخلا به وذاكره في دينه، ثم داعبه حتى أحضر له من طاهورتهم. فيقال إنه قال: يا إسرائيلي، دياركم نظيفة، وطعامكم طيب، وشرابكم رائق، ما أظنكم إلا على الحق.
قال والدي: ما تكاد تجد فقيهاً من طلبة الغرب إلا وهو يحفظ هذه الحكاية، وقد سارت بها الركبان، والله أعلم بالحقائق.
وأنشدني له ابنه الكاتب القاضي أبو زكريا شعراً يصف فيه دعوة صنعها بعض أصدقائه وأحتفل فيها، وكان هو المتصرف بين أيديهم بنفسه، فعلق بخاطري منه قوله:
يا حبذا دعوتك المرتضى
…
جميعها من كل فضلٍ عميم
كأننا الأغصان سكراً بها
…
وأنت فيما بيننا كالنسيم
وقوله، وهو في غاية الحسن، ولم أسمع في معناه مثله:
وجاءنا خبز رأينا به
…
في هالة الخير وجوه النعيم
وكان ابنه مثله في حفظ الأدب والتخصص، وولى قضاء المرية والكتابة عن الأمير أبي بحر، ابن مولانا المقدس، إلا أنه كان نهاية في سوء الخلق والبخل، رحمة الله وسامحه.
وهو شاعر تقف على ترجمته في سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
حضرت عنده في القاهرة مع جماعة من الأدباء، فأخرج لحما وخبزة
واحدة. ففرغت فأخرج أخرى، ثم فرغت فأتى بأخرى، وقد تغير وجهه. فقلت له: يا أبا زكريا، ما أظنك إلا حافظاً لو جوه النعيم، ما ترى أن تستذلها بالنظر فحجل واعتذر اعتذاراً بارداً، ولم يستدع أحداً منا بعد هذا.