الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجمة الثالثة [ابن مجاور]
الوزير الجواد المجيد نجم الدين بن مجاور يوسف بن الحسن.
بيت بني مجاور بدمشق مشهور إلى الآن. لزمهم هذا النسب من جدهم، رفض جنة الدنيا بدمشق ولزم المجاورة بمكة، فعرف بالمجاور. ونشا نجم الدين متغذياً بتلك الطريقة ملتزما قراءة القرآن وإقراءه، واتخذ مكتبا يعلم فيه الصبيان على باب جامع دمشق. وسمت همته إلى إقراء النحو والأدب، واستفاد من ذلك ما علم به أولاد الكبراء، إلى أن أحتاج السلطان صلاح الدين معلما لابنه العزيز، فدل عليه، ووصفت طريقته الحميدة فأخذت السعادة بيديه. وأنس به العزيز فساد بخدمته في بلده وغير بلده، ووكله في أول الحال، ثم استوزره في نيابته عن أبيه بمصر، ثم فوض له جميع أمور دولته لما مات أبوه واستبد بالسلطنة. وكان أهلا لذلك، لما جمع من الفضائل والآداب ومكارم الأخلاق.
وكان معرفا بتوطئة الأكتاف، ومعاونة الأدباء والشعراء، والأخذ معهم غير مميز عنهم، حتى كأنه إذا باحثهم واحد منهم، مع ارتقاء في الشعر إلى الدرجة التي تأخذ بمجامع القلوب والألباب،
وترفع عن طبقة العلماء والأدباء والكتاب. ومن أمعن الفكر فيما أورد له في هذا المجموع علم أن له فكرة غواصة، وان معاني الأغراب وألفاظ الإبداع ليست عليه بمعتاصة.
ومن الحكايات المستطرفة المتعلقة بترجمته أن ابن منذر البطلبوسي لما ورد من المغرب أعترضه وهو قاصد دار السلطان، فكلفه رفع بطاقة إليه في مرتب يستعين به على طلب العلم. فأعلمه أن الكلام في إجراء راتب مخترع لا يمكن. فقال: فإن لم يمكن هذا فاكتب إلى الفقيه فلان في أن ينزلني عنده في المدرسة ويجري لي من الوقف ما يكفيني. فقال: ليس هذا من شغلي وإنما من شغل متولي الاوقاف0 فاظهر انه لا ينفصل عنه إلا بالنظر في أمره، وجعل يورد عليه من أنواع التكليف ما يروغ الوزير عنه إلى أن أضجر. فأراد الانفصال عنه فقال: يا هذا، أعلم أنه من كلف ما لا يقدر عليه أتعب لسانه وسمع من يكلمه. فقال: أيها الوزير، أتعد إن أنا كلفتك ما تستطيع لم تعتذر لي عنه؟ قال: ما أعتذر لك عن شيء أستطيعه. قال: وأنا أيضاً فما أكلفك إلا أن ترجع إلى تعليم الصبيان في المكتب الذي كنت فيه، فتستريح أنت من كلف الناس ويستريح الناس من هذه الوزارة الخراء التي لا فائدة فيها، وقد شغلت مكانتها عن مستحقها ممن يفرح بقضاء حوائج الناس،، ويتكلف المشقات في تخليد شكرهم. فضحك الوزير ضحكاً لم يعهد منه مثله، وقال له:
أي وأنت على هذا المنزع، وفيك هذه الحلاوة، ولست من المغاربة الجفاء، ففيك مصطنع، ونبلغ إن شاء الله في شأنك فوق ما نقدر عليه. وحمله معه حتى ادخله على العزيز، فأعاد عليه ما جرى بينه وبين الوزير.
فضحك واستطاب القصة وصيره من خواصه وانتفع بخدمته غاية الانتفاع. حتى أشتهر ذكره وصار كالوكيل والأمين، وانتقل بعد ذلك إلى حلب فصار في خدمة أخيه الظاهر.
ومن الحكايات التي اخترتها لكتاب "روح الأدب" وشعرها من "كنوز المعاني" ما أخبرني به أبو بيان الإسرائيلي حكيم الديار المصرية وبقية المعمرين من أشياخها، الممازحين للملوك وأرباب الدول، قال: أهدي للملك العزيز بن صلاح الدين مملوك من القفجق، كما دب عذاره بشقره، لا يراه أحد فيقدر أن يثني عنه بصره. فقال:
الملك العزيز لجلسائه الأدباء: نجعل هذا المملوك الجديد ساقينا اليوم. فلما استقر مجلس الأنس- وفيه جعفر بن شمس الخلافة، والأسعد ابن مماتي، وهما حينئذ الغاية في طبقة الشعراء، وهناك من يشعر غيرهما- قال لهم، وقد أخذت الكأس منهم وأزلت حجاب الحياء عنهم: هذا مكان الأفكار وإجالتها، وأشار إلى المملوك. فأفكروا ساعةً فلم يحضر لهم ما يرضونه، فقالوا: يا مولانا، إن الوزير نجم الدين له شغف بالمعذرين وأوصافهم، بفكرة منقادة لتعلقه بهم، وما لهذا إلا خاطره. فقال: نسره بالمشاركة في هذا الشأن ولا نضيره بالاستدعاء للحضور على ما لا يريده. ثم أمر بالكتب له في ذلك. فوصل جوابه بهذه الأبيات التي لا نظير لها في حسنها، ولا عديل لقصدها في فنها:
غصن من الفضة قد أورقا
…
بالتبر من فاز به وفقا
رواه ساقي الحسن من مائة
…
فبان في أعلاه ما قد سقى
ومنتهى الأحرف من خطه
…
في جانبي صدغيه قد عرقا
يا حسنه نوناً بماءٍ جرى
…
ودار كالعقرب كي يتقى
فاغتنموا بدراً بدا كاملاً
…
في شفق من قبل أن يمحقا
لا أبصرته مقلة ذاوياً
…
ولا رأت زخرفه محرقا
فطرب الملك العزيز، ووالي الشرب وأمر المغني بالغناء فيها. قال للخازن: أحضر جميع ما أهدي إلينا مع هذا المملوك. فأحضر وقوم، فكانت قيمته عشرة آلاف دينار مصرية. فقال: لو أن نجم الدين كمل أبياته عشرة لفاز بجملتها، ولكن يأخذ منها ستة آلاف ويقتسمون الباقي. ثم أطال النظر في المملوك فقال له: كن أنت الرسول إليه بهذا، وأنت من جملة ما حبوناه به. قال أبو بيان: فلا ندري من أي شيء نعجب، فهل مما تضمنته هذه الحكاية من الأخلاق الملوكية؟ وهي على ما جمعته نقطة من بحار فضائله رحمة الله عليه، فما ملك مصر مثله. ومما استحسنه الملك العزيز، فأمر شعراءه بالقول فيه، قصة الجارية التي صورت في خدها بالمسك حية، وكان الذي قال في ذلك وزيره المذكور.
قد رقمت في خدها أرقما
…
بالمسك في مذهب ثوب طسيم
ما ذاق من قبله غفوةً
…
يا عجيبا من ساهر بالرقيم
مرسلة بالحسن قد أظهرت
…
في نار إبراهيم أيم الكليم
ووقفت على ترجمته في تاريخ حلب لابن العديم فوجدت هنالك أنه مات سنة إحدى وستمائة.
وقوله الطيار لخفته على الألسن وحسن منزعه:
ولما تولى الخد وإلى عذراه
…
رفعت إليه قصتي أتظلم
فوقع فيها خطه بصبابتي
…
وقال لي السلوان شيء محرم
أتلبس ثوب الخد إذ كان ساذجاً
…
وتخلعه لما بدا وهو معلم
ثم وجدت الشهاب القوصى قد أثنى عليه في كتاب "تاج
المعاجم" وأنشد له قوله، وهو من المحاسن التي لا يجب أن تغفل:
يا ثغره المحمى منه بنابل
…
من طرفه وبسائف من خده
وبمشرق من صدغه وبناظر
…
من خاله وبعامل من قده
ارفق بما اغتصب الغرام فقد أتى
…
خط العذار موقعاً في رده
وأنشد له ابن المستوفى في تاريخ إربل:
ليت رقيبي لم يكن أحولا
…
إذا لم يكن أعمى ولا أعور
لأن من يبصر من واحدٍ
…
شيئين أولى الناس أن يحذرا
وجرى ذكره يوما بحضرة الصاحب بهاء الدين زهير صاحب الأشعار الرقيقة الطائرة في أقطار الشرق والمغرب، فقال: وددت أن لي قوله بكثير من شعري، فما سمعت أظرف منه:
صديق قال لي لما رآني
…
وقد صليت زهداً ثم صمت
على يد شيخ تبت قل لي
…
فقلت على يد الإفلاس تبت