الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[قَاعِدَةٌ فِيمَا يَشْتَرِطُ النَّاسُ فِي الْوَقْفِ]
فَإِنَّ فِيهَا مَا فِيهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا تَشْدِيدٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ الْأَعْمَالُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِثْلُ الْوَقْفِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: عَمَلٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ الْمُسْتَحَبَّاتُ الَّتِي رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا، وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا فَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَقِفُ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةِ حُصُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَالثَّانِي: عَمَلٌ نَهَى النَّبِيُّ عَنْهُ، نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، فَاشْتِرَاطُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِمَا قَدْ اسْتَفَاضَ، عَنْ النَّبِيِّ. أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَقَالَ:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» .
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ خَرَجَ بِسَبَبِ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ مُسْتَلْزِمًا وُجُودَ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، لَكِنْ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّرْطِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْأُمَّةِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُشْتَرَطُ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مُنَافٍ
لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَمِثَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ الرِّبَاطِ مُلَازَمَتَهُ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ فِي الشَّرِيعَةِ مِمَّا أَحْدَثَهُ النَّاسُ، أَوْ يَشْتَرِطُ عَلَى الْفُقَهَاءِ اعْتِقَادَ بَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ بَعْضِ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ الْمُؤَذِّنِ تَرْكَ بَعْضِ سُنَنِ الصَّلَاةِ أَوْ الْأَذَانِ، أَوْ فِعْلُ بَعْضِ بِدَعِهِمَا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْفَجْرِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، أَوْ أَنْ يَصِلَ الْأَذَانَ بِذِكْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، أَوْ أَنْ يُقِيمَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَدْرَسَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ مَعَ إقَامَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ
، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا، وَمِمَّا يَلْحَقُ بِهَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُسْتَلْزِمًا تَرْكَ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّارِعُ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْلِ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا فَرْضَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا دُعَاءٌ إلَى تَرْكِ الْفَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مِثْلِ هَذَا. بَلْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْأَفْضَلُ، بَلْ الْوَاجِبُ هَدْمُ مَسَاجِدِ الضَّرَائِرِ، مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اشْتِرَاطُ الْإِيقَادِ عَلَى الْقُبُورِ، إيقَادُ الشَّمْعِ أَوْ الدُّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ أَوْ إسْرَاجُ الْمَصَابِيحِ عَلَى الْقُبُورِ مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ يَطُولُ جِدًّا وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَاهُنَا جِمَاعَ الشُّرُوطِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: عَمَلٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ. بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ. فَهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ بَاطِلٌ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْرِطَ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ إلَّا لِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، فَمَا دَامَ الْإِنْسَانُ حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الْمُبَاحَةِ، لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَنْتَفِعُ مِنْ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ إلَّا بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدْ أَمَرَ بِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ أَهْدَى إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي لَيْسَتْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمَيِّتُ بِحَالٍ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُوصِي أَوْ الْوَاقِفُ عَمَلًا أَوْ صِفَةً لَا ثَوَابَ فِيهَا كَانَ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهَا سَعْيًا فِيمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي آخِرَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا إنَّمَا مَقْصِدُهُ بِالْوَقْفِ التَّقَرُّبُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.